الاجتهاد: يلاحظ المتتبع في مسلك عقيدة السلف أنهم في الوقت الذي يرفضون فيه التقليد، يؤسسون مذهبهم على تقليد أصحاب القرون الثلاثة، فقد تواتر أن الأئمة الثلاثة لمذاهب أهل السنة لا يجيزون تقلید من هم دون الصحابة، وبعضهم لا يقلد الصحابة إلا حينما يجمعون على حكم شرعي.
لكن الإمام أحمد صرح بأنه يتبع السلف بطبقاته الثلاث(۱)، وخالفه ابن تيمية وشدد على رفض التقليد نظرياً، ولكنه عمليا كان متمسكا بشدة بآراء الإمام أحمد بن حنبل(2) في الأخذ بآثار القرون الثلاثة.
أما منظّروا الحركة الوهّابيّة فهم يفصّلون الأمر أكثر، فما ورد فيه نصّ يأخذون حكمه من النصّ مباشرة دون الرجوع إلى اجتهاد المجتهدين، ومعلوم أنَّ المراد بالنص ” الآية القرآنية والحديث الصحيح”، على معايير خاصّة بهم، و يراد بالمجتهدين “الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد”.
وبذلك تهدر الجهود التاريخية للاستنباط. أمّا ما لم يرد فيه نصّ قرآني أو حدیثيّ، فقد زعموا أنهم يرجعون في ذلك إلى الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية (3).
ويلاحظ هنا الاضطراب في أسس تكوين المسلك العقديّ والمنهجيّ والفقهيّ للسلفيّة؛ ففي الوقت الذي يرفضون فيه التقليد جملة، فإنّهم في الواقع أتباع لابن تيمية، وهو تابع مقلّد للإمام أحمد بن حنبل، كما إنّهم يقرّون بأنّ ما ليس لديهم فيه نصّ يرجعون فيه إلى فقه أحمد، وكذلك في أسس استنباط الأحكام، فما كان فيه نصّ فقد جمدوا فيه على معانٍ فهموها، حتى وصفهم محمد عبده أنهم أضيق صدراً من المقلدين،
أما ما لم يكن فيه نصّ، فزعموا أنهم يقلّدون فيه الإمام أحمد، ومع ذلك كله فقد خالفوه في تكفير الناس(4) ، وخالفوا قوله بعدم البأس بزيارة الأولياء، والتبرك برمّانة منبر النبي، وخالفوه في حرمة الخروج على الحاكم الجائر.
فإذا جمعنا مع ما تقدّم من الإصرار على تبنّي فهم الصحابة والسلف للنصوص الدينية على ما يتميز به هذا الفهم من إمكانية الجمع بين الرأي ونقيضه، ثمّ أضفنا إليه مبدأ أنَّ حديث الآحاد لا يؤسس للعلم والعقائد، وهو محل اعتراض من أكثر أهل العلم، فإنّ جلّ اعتمادهم في موضوع السلف والسلفيّة حديث آحاد لا يؤسس رؤية عقديّة، ولا يصلح دليلاً على أمر يجب أن يكون قطعياً.
كل ذلك إلى جانب الالتزام بحرفية النصّ وتقديمه على العقل والمنطق، ومن مجموع ما تقدّم يتكوّن لدينا منهج عمل لكل الجماعات السلفية، على الرغم من كل اختلافاتهم التفصيلية.
الهوامش
(1) انظر: أبو زهرة، محمد: الإمام أحمد بن حنبل حياته وآرائه، القاهرة، دار الفكر العربي، ص ۷۷ .
(2) انظر: ابن تيمية، أحمد: الفتح المجيد، المدينة المنورة، جامعة محمد بن سعود الإسلامية، المدينة، 1405هـ ق، ص ۳۸۸.
(3) انظر : عبد الحميد، صائب: الوهابية في صورتها الحقيقية، ط ۲ ، بيروت، مركز الغدير للدراسات،1417 هـ ق/ ۱۹۹۷ م، ص ۳۳.
(34) انظر : ابن عبد الوهاب، محمد: كشف الشبهات، السعودية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1419هـ ق، ص7.