الاجتهاد: ضمن الإسهامات المتنوّعة لمجلّة “دراسات علميّة” في نشر تراث أهل البيت (عليهم السلام) صدر حديثاً عن منشورات هذه المجلة، كتاب ” نظرية الاحتمال والإثباتات الشرعية ” كلام حول الاستفادة من نظرية الاحتمال في الإثباتات الشرعية ، لمؤلفة فضيلة الشيخ علي سالم الناصري دام عزّه
مقدمة الكتاب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين
بين يدي القاری کتاب نادر في موضوعه، غضّ في فكرته حين لم تلمسها كثير من الأيدي بهذا النحو من الشمول، والتنوّع، والتتبّع مجتمعاً كله في مؤلَّف واحد.
ويمكن تلخيص موضوع هذا الكتاب في أنَّه شرح وإيضاح لمبادئ الوصول إلى حساب الاحتمال الكاشف عن نسبة توقّع حدث معيّن من تتبّع و تجمیع نسب احتمالات وقوعه في محورٍ واحد بطريقة رياضيّة مبنيّة على قوانين محكمة مبرهنة في مجالها، وإرجاع حجية بعض الأمارات الشرعية غير المفيدة للعلم بنفسها إلى وفائها – بنحو من الأنحاء – بشروط حصول الاطمئنان كتجميع القيم الاحتماليّة لمضمون ورد في عدّة أخبار، لتتصاعد نسبة الكشف فيها عن ذلك المضمون المحتمل حتّى يصل إلى نسبة مئوية عالية تساوق الاطمئنان بمؤدّاها.
ويبدو من تمهيد فضيلة المؤلِّف (الشيخ علي سالم الناصري دام عزّه) للكتاب أنّ الالتفات لدور تجميع الاحتمالات بصورة فنّية لحلّ بعض المشكلات في أدوات الاستنباط الشرعيّة – مثل حساب مقدار احتمال اتّصاف الراوي في بعض أسانيد الروايات المرسلة بالوثاقة وعدمها – هو من بواكير انعکاس نظرية حساب الاحتمال في التطبيقات ذات الأثر الشرعيّ، والذي ربّما حدث بصورة متزامنة من عَلَمين معروفين من علماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف قبل عقود من الآن.
وأبرز أثر لهذه الطريقة الحسابيّة في الكشف عن المجهولات ذات الأثر الشرعي هو استخراج نسبة مئوية بنحو من أنحاء توقّعها تفيد الاطمئنان، وتصلح للاعتماد عليها بحق المجهولين الذين يتخلّلون أسانيد الروايات ويقع الإرسال عنهم.
فإن حساب نسبة احتمال وقوع الراوي الثّقة أو غير الثقة في الموضع المجهول من السند يحقّق الغاية المطلوبة في الحكم على الرواية بالاعتبار أو عدمه بعد التحليل الفنّيّ الحسابيّ لعلاقة عدد شيوخ الراوي الثقات في طبقة معيّنة بنسبة احتمال وجود واحد منهم على الإجمال في الموضع المجهول من السند في رواية معيّنة ضمن نطاق عدد من الروايات.
ومن الواضح بصورة عامة وجود علاقة طرديّة بين ازدياد نسبة توقع عنوان الراوي الثقة وبين ارتفاع عدد الثقاة المعروفين في تلك الطبقة من السّند، في مقابل عدد غير الثقاة المعروفين أيضاً، بالإضافة لأهمّيّة عنصر التكرار المتمثّل في المجموع العددي الكلّي لما رواه الراوي من الروايات في التأثير بنسبة الاحتمال في مثل هذه الحوادث التكرارية الوقوع.
وبتطبيق معادلة معيّنة يتناولها المؤلف ضمن شرح المبادئ العلميّة الحسابيّة لنظرية الاحتمال في الفصل الأول من الكتاب يمكن تحديد الموقف الشرعيّ من اعتبار الرواية بناءً على النّسبة المئويّة للاحتمال فيما إذا تجاوزت الحدّ الذي يُطمأن فيه بان العقلاء لا يعتنون بَعده بالاحتمال المقابل، كبلوغ النسبة إلى ۹۷٪ أو أكثر بحسب البناءات الفقهيّة.
ولكن رغم كون الأثر المذكور آنفاً هو الأبرز من ثمار تطبيق نظريّة حساب الاحتمال في المجال الشرعيّ، لكونه واجداً لأهم بدیهیات النظرية وشروط التعريف النظري للاحتمال وهو (عدد الحالات الملائمة لوقوع الحدث مقسوماً على عدد الحالات الممكنة إذا افترضنا أنّ كلّ الحالات لها نفس الاحتمال في الوقوع) إذ بعد معرفة مجموع الروايات الكلّيّة، يمكن عدّ وجود الراوي الثّقة المجهول في رواية معينة، له قيمة احتماليّة محدّدة بنفس نسبة الوقوع في الروايات الأخری کما جاء في التعريف.
إلّا أن تلك الشروط غير قابلة للتحقّق في بعض الأمارات الأصولية المبتنية على ترجيح الاحتمال الواصل لدرجة الاطمئنان، إذ لا توجد فيها قيم احتماليّة محددة بنفس نسبة الوقوع في العدد الكلّي للعيّنات التي تستند إليها الأمارة، ومن أجل ذلك سلك المؤلِّف في أمارة مثل التواتر اللفظي أو المعنوي طريقةً ترتكز في جوهرها على حساب احتمال صدق مضمون الخبر المتواتر مع فرض غياب قيم محدّدة لاحتمال كذب الراوي خصوصاً مع غياب تكرار تجريبيّ استقرائيّ في الحوادث الممكنة للكذب في مجموع ما رواه الراوي.
وعوضاً عن ذلك تفترض نسبة احتماليّة لاتصاف خبر الراوي بالكذب في عيّنات أخباره العشوائيّة يتقبلها العقلاء في موارد إثباتاتهم واحتجاجاتهم، كافتراض قيمة احتمالية قصوى للكذب في أخبار أي راوي ضمن السند – کنسبة 50% – من أجل تحقيق أقل عدد من الروايات المقبولة لإنتاج نسبة احتمالية للصدق في مجموع ذلك العدد تصل إلى ٪۹۷ أو ۹۸٪ ترقى إلى المقبولية بالاطمئنان، بعد لحاظ النسبة الاحتماليّة المفروضة للكذب في كل راوٍ.
وهذه القيمة الاحتمالية لكذب الراوي غير مبتنية على قيمه محدّدة متساوية في فرص الوقوع، ولا على تكرار تجريبي في وقوع الحدث ضمن حالات ممكنة كما جاء في تعريف الاحتمال، فلا يتحقّق شرط التعريف بكشف قيمة الاحتمال عن نسب واقعية.
ومن هنا يرى المؤلّف أنّه لا مناص من ربط تحقيق التواتر في الخبر للاطمئنان بمؤدّاه من اقتراضات قبليّة للاحتمال تكون مقبولة على أساس عدم مزايدة الواقع على تلك النسبة المفروضة لو لم تكن أقلّ منها، وبالتالي وفائها بالمطلوب وإن كان على حساب زيادة عدد الروايات المطلوب لبلوغ النسبة المئويّة المطلوبة للوصول إلى الاطمئنان. وذلك كافٍ للقيام مقام القيم المحدّدة للاحتمال الواردة في تعريفه.
ومن ثمرات نظرية الاحتمال في المجال الشرعي في نظر المؤلف غير ما مرّ آنفاً ما ارتبط تحقّقه بأهمّيّة الكشف الاحتمالي للاحتمال نفسه تبعاً لبعض العلماء الذين يعتني المؤلّف بإسهاماتهم في هذا المجال.
وقد يرى القارئ توسّع المؤلّف في تطبيقات نظريّة حساب الاحتمال، فيجده يجعل الإجماعات والشهرات القائمة على بعض الأحكام الشرعية عناصر ترفد محوراً احتماليّاً واحداً في موضوعاتها الّتي تتناولها من الأحكام الشرعيّة، وبالتالي تتمتع بنسبة من الكشف عن الواقع يمكنه بتطبيق قوانین حساب الاحتمال من الوصول بها إلى نسب من الاحتمال تفيد الاطمئنان.
فصول الكتاب
وفي الكتاب محاولات لتصحيح بعض تطبيقات النّظريّة ومناقشات لبعضها الآخر، نترك للقارئ المهتم بهذه الموضوعات الاطلاع عليها آملين أن لا يكون الاصطلاح الخاص وإيجاز العبارة عائقاً أمام غير المختصّين في الاستفادة، بعد أن بذل المؤلّف جهداً كبيراً في تذليل هذه الصعوبات بالتمهيد إليها والتعريف بها، لتبدو المطالب آخذة برقاب بعضها، ويتضح ذلك من خلال تقسیمات فصول الكتاب و مطالبه، فقد وقع في فصول ثلاثة وخاتمة.
تناول الفصل الأوّل خمسة مباحث حول مبادئ نظريّة الاحتمال والتحليل الفنّيّ لعناصرها والبديهيات أو الأركان التي يشترط توفّرها ليحاكي حساب الاحتمال الواقع فعلاً،
وفي سياق ذلك اهتم المؤلف بالقوانين الرياضية المكتوبة تعبيراً عن صياغة بديهياتها في قالب يقبل التطبيق بدقة في الموارد المختلفة، وهذا وإن كان يبدو ثقيلاً على القارئ غير المأنوس بالمعادلات الرياضيّة، إلّا أنه جانب تطبيقي لا يضرّ – کما پری (دام عزه) – بالاستفادة من باقي مباحث الكتاب وتلاحم أفكاره والمنطق العام الذي يحكم بناء النظريّة.
يلي ذلك الفصل الثاني الّذي يهتمّ بتطبيقات النظرية بشكل كليّ على الموارد ذات الأثر الشرعيّ، ويقسّمها المؤلّف إلى قسمين، الأوّل تطبيقات تكون فيها عناصر الاحتمال ذات قيم احتماليّة غير محدّدة، ويندرج في ذلك التواتر اللفظيّ أو المعنويّ، والإجماعات الفقهية، والشهرات، والاطمئنانات غير المبنيّة على نسب محددة.
والقسم الثاني هي التطبيقات الّتي يمكن فيها تحديد القيم الاحتماليّة بحدّ معيّن من الاحتمال المبنيّة على مبدأ الأسلوب التكراريّ، أو مبنيّة على إحراز تساوي فرص الظهور للعنصر المحتمل بنسبة معيّنة.
أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فيعنى بالشبهات حول نظرية الاحتمال، والإجابة عنها.
وأخيراً يختتم الكتاب بتطبيقات شرعيّة – أغلبها في الأسانيد – تمّت على ضوء نظريّة الاحتمال.
آملين للقارئ الاستفادة القصوى من الكتاب، وللمؤلف التوفيق في تحقّق القبول، وفي الوصول إلى غايته، وأن يكون ذلك حافزاً له لإخراج نتاجات أخرى من قلمه، كما نأمل أن نكون في سعينا لنشر هذا الكتاب قد وضعنا عنوانا آخر يثري مكتبة العلوم الإسلاميّة وحبّرنا نقطة في نقاط دائرة المعارف الشيّعيّة ضمن الإسهامات المتنوّعة لمجلّة (دراسات علميّة) في نشر تراث أهل البيت (عليهم السلام) والعلوم المرتبطة بترويجه وتنقيحه وتقديمه في أصالة مبادئه ممزوجاً بروح العصر الّتي تتفاعل معه، وما توفيقنا إلاّ بالله تعالى.
20 محرم الحرام 1442هـ
الكتاب متوفّر الآن في :
انتشارات الامام الخوئي (رض): قم المشرّفة – شارع ارم – فرع ١٦ مقابل حسينية ارك
٠٢٥٣٧٨٣٨٢١٢
وقريباً في جميع مراكز مجلة الدراسات للنشر في العراق ولبنان والكويت والبحرين.