نظرات-إسلامية-في-إعلان-حقوق-الإنسان الحرية

نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان… حرية نشر الأفكار

الاجتهاد: المادة الحادية عشر من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن: حرية نشر الأفكار. والأفكار أثمن حقوق الإنسان، فلكل مواطن أن يتكلم ويكتب بحرية، على أن يكون مسؤولاً عن إساءة إستعال هذه الحرية، في الأحوال التي يقررها القانون.

حق الحرية هو من أهم الحقوق التي أثبتها الفكر الحديث للإنسان الحديث، ومن هنا عبر عنه واضعو هذا الإعلان بأنه أثمن حقوق الإنسان، واكدوا علهي مراراً في إعلانهم.

وانما أكد الفكر الحديث على هذا الحق وإنما أكد هذا الإعلان عليه، بسبب ما مر عليه في عصوره المظلمة من جور وتعسف، وكم للأفواه، وتقييد للحريات، لئلا ينبس أحدهم ببنت شفه ضد النظم الإقطاعية والملكية الفاسدة، فيكونوا خطراً ضد هذه الأنظمة الظالمة. وكان يذوق كل مفكر يحاول أن يقول أو يعترض أنواع التنكيل والعذاب حتى الموت بصورة تقشعر من تصورهم الأبدان.

ومن جراء هذا الضغط حصل الإنفجار مروعاً شديداً، بحيث إعتقد ان حق الحرية أثمن من حق الحياة، وأثمن من النظام، وأثمن من الأخلاق لو تعارض معها، ومن ثم فقد ذهبوا بالحرية كل مذهب، ونكلوا بأولئك تنكيل، حيث كان مجموع ما قتل في تكل الفترة نحو عشرين ألف شخص(1).  وكان ذلك في سنة 1792 إلى سنة 1794.

وكذلك ما زلنا نرى أثر هذه الحرية التي حصل عليها الأوروبيون، من تحلل خلقي وإجتماعي وتفشي العقائد الإلحادية والدعوات المتضاربة المتناقضة في المجتمعات الأوربية وغير الأوربية، بل إن كل مفكر يبرز إلى الوجود يكون له رأي جديد ووجهة نظر جديدة، وتفسير جديد للكون والحياة مما يجعل الناس ف يحيرة من امرهم بعد ان تتبعثر عقائدهم ويضيع معهم يقينهم واطمئنانهم.

وكان من جملة تلك الدعوات الإلحادية، الدعوة الماركسية التي وجدت من الإنفجار الثوري الذي حصل في موسكو على أثر الضغط القيصري التعسفي على الشعب الروسي، مستنقعاً خصباً للتوالد والإنتشار.

ومما ينبغي الإشارة إليه أن البرجوازية التي أصدرت هذاالإعلان لم تكن تقصد بالحرية إلاّ مصالحخها الشخصية وما تضمن به الدعوة إلى افكارها ومذاهبها في الحياة. فإذا وصلت هذه النظرية إلى الحد الذي تطبق فيه على من سواهم من الشعب الفرنسي، وقفوا منها موقفاً صلباً متعنتاً، فلم يكونوا بأي حال يقبلون الإعتراض على أساليبهم وأفكارهم الضارة بمصالح العمال والفلاحين من قبل هذه الجماعات أنفسها.

ومن هنا نرى أن الحرية قد أصحبت بالنسبة إليهم أمراً يستغله البرجوازيون لمصالحهم الخاصة، ويحلم به الفلاحون والعمال كل لمصلحته الخاصة أيضاً.

وإثبات حق الحرية في كل دولة العالم أجمع، إنما هو بما لا ينافي مبادئها الأساسية وقوانينها الرئيسية، ثم هي تعطي الحرية لما سوى ذلك. ومن ثم فإننا نرى أن الدول المؤسسة على أساس مذهب معين ووجهة نظر خاصة، كالدول الشيوعية، تفتقد فيها الحرية بالنسبة إلى مناقشة وجهة النظر التي تتبناها الدولة.

ومن هنا نرى أن الدولة كلما قلت فيها المبادئ الأساسية ازدادت نسبة الحرية فيها، وصارت قوانينها عرضة للمناقشة والتغيير أكثر من غيرها. ولكن معنى ذلك في عين الوقت إلا تكون الدولة مهتمة بتطبيق القانون الحق، وإنما تطبق في بلادها كل قانون حصلت عليه إرادة أكثرية الشعب.

والواقع أن أطلاق العنان للحرية المطلقة في نشر الأفكار لا يعني إلا بلبلة الأذهان، وضياع الحق من الوسط الفكري، واختلاطه بأكوام نتنة من الباطل.

وجعل الرجل العادي متحيراً لا يدري إلى أين يتجه لكثره الأصوات والدعوات التي يراها تنطلق حوله، لذا نراه يتوجه نحو الصوت الأقوى والدعاية الأوسع، ولا تعني الحرية أيضاً إلا هذا الصراع الدائم الرهيب بين المذاهب والأفكار المتضاربة، ذلك الصراع الذي لا يقف على مدى الزمان، ولن يمكن الحد من غلوائه ما دامت الحرية نافذة المفعول في البلاد.

هذا الصراع الذي يترتب عليه كثير من المفاسد والأضرار الإجتماعية والنفسية والدينية والأخلاقية، والذي ربما سبب نشر مذهب باطل، واقتضى ظهور شرذمة فاسدة في حين يختفي الأناس الصالحون والمذهب الحق تحت الرماد.

ومن ثم فإننا نرى الحكومات الحديثة لم تستطع أن تحفظ الأمن والنظام وسيادة القانون في بلادها، ولم يمكنها الإحتفاظ بسيطرتها وهيبتها، إلا بعد أن جعلت على الحرية قيودا كثيرة مستمدة – في كل دولة- من قوانينها الرئيسية ومبادئها الأساسية.

وحتى هذا الإعلان نفسه قد اشترط على الحرية أن يكون صاحب الرأي مسؤولاً عن إساءة إستعمال الحرية في الأحوال التي يقررها القانون، ولم يكن يستطيع واضعو هذا الإعلان، ولم تكن تستطيع الحكومات إلا أن تفعل ذلك بعد أن علمت ما في الحرية المطلقة من فساد وإنحلال.

بعد كل ما مضى نعرف أن الدولة الإسلامية لم تقيد الحرية إلا بحسب وجهة نظرها الخاصة، وفي ضمن نطاق عقليتها العامة، وقوانينها الإلهية، التي تستهدف نشر العدل والسعادة بين ربوع المجتمع. والاسلام قد أدرك بثاقب نظره وبالغ حكمته تعذر الحياة مع الحرية المطلقة، وتعذر الوصول إلى الحق مع حرية نشر الآراء، في حين أن الحياة والوصول إلى الحق أثمن ما لدى الإنسان من أهداف، إذن فلا بد من تقييد الحرية بشكل من الأشكال.

وليس من المنطقي حينئذ أن تقيد الحرية بقوانين ظالمة لأنه يكون قد نشر من الجور أكثر مما قصده من العدل. فلا بد إذن من تنظيم القيود على الحرية بشكل عادل يضمن سعادة المجتمع ورفاهه..
وهكذا كان، وهكذا صدرت القوانين عن الله (عز وجل) العالم بحقائق المصالح الإنسانية والمطلع على سرائر البشر وغرائزهم. لتنشر العدل والسلام بين بني الإنسان.

وما دمنا قد عرفنا أن العدل لا بد أن يسود في البلاد، وأن العدل لا يمكن إلا أن يكون واحدا، لأن الإنسانية واحدة ولأن غرائزها وميولها وأمالها وآلامها واحدة، وإن هذا المذهب العادل الواحد لا يمكن أن تدركه إلا الحكمة الإلهية الانهائية، وإن الله (عز وجل) قد تفضل علينا فعرفنا بنفسه وبتعاليمه، وما دمنا قد علمنا أن الحرية تنافي العدل، وتنافي سيادة هذا المبدأ الواحد العادل في ربوع الإنسانية، لما تسببه من إضطراب وبلبة وتستت في الآراء والأهواء. إذن فلا بد من سيادة العدل بدل سيادة الحرية، وإنما تبقى الحرية سارية المفعول في ضمن هذا المذهب العادل.

وهكذا فعلل الإسلام، وهكذا فعلت الدول ضمن نطاق قوانينها التي تراها عادلة وفي صالح شعبها، وهكذا عملت الدول المذهبية كالدول الشيوعية في ضمن نطاق مذهبها المعين.

والإسلام بعد هذا، أي بعد سيادة العدل الذي هو عبارة عنسيادة الأخلاق الفاضلة، والمبادئ النبيلة، والتعاطف، والتراحم، والإحترام المتبادلبين الناس، والمسامحات، والإيثار، والضمان الإجتماعي، إلى غير هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام، بعد هذا كله يجيز الإسلام نشر الآراء والتكلم بحرية تامةضمن نطاق المناقشة البناءة المخلصة التي تهدف إلىمصلحة المجتمع والدين الإسلامي.

ومن ثم فقد ورد عن أبي الأئمة الهداة امير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال : (سل تفقها ولا تسأل تعنتا) أي سل لكي تفهم وجه الحق لا لأجل ان تهدم رأي غيرك وتحتقره وتظهر أنه باطل على كل حال.

بالإضافة إلى ما قد أسلفناه في مناقشة المادة الثالثة من هذا الإعلان من ترحيب الإسلام بالمناقشة المخلصة البناءة التي ترمى إلى شد أزر الرأي الشخصي، ونصح الفرد وإنتشاله من وهدة المشاكل، ولذلك قال سيدنا وملانا أمير المؤمنين ( عليه السلام) : (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)

 

(1) محاضرات في التأريخ الحديث

 

المصدر: كتاب نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان لآية الله السيد الشهيد محمد صادق الصدر.

 

تحميل الكتاب

نظرات_إسلامية_في_إعلان_حقوق_الإنسان_السيد_محمد_الصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky