خاص الاجتهاد: الدکتور الشیخ أحمد بدر الدین حسون مفتي سوريا: ما المانع أن یعبّر أيّ إنسان عن معتقده الفکري أو اجتهاده الفقهي بل إن هذا التعبیر هو الطریق السلیم للعیش المشترک بین أتباع المذاهب الإسلامیة والشرائع السماویة و نؤمن بأن الحق منتصر بقوة الحجة البیان لا بقوة السلطة و السنان.
في حوار مع موقع ” الاجتهاد” أجاب سماحة المفتي العام للجمهورية العربية السورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون، على الأسئلة التي وجهت لفضيلته حول أصول التعایش المذهبی و أساسيات العیش المشترک بین المذاهب والشرائع وما علمنا القرأن حول التعيير عن الرأي. و أكد سماحة الدكتور حسون على أن الوحدة الإنسانیة هی أساس یجمع کل البشر بل المؤمنین فی عیش مشترک فی وطن یجمعهم. و يعتقد أن لفظة التعایش فیها شیء من التکلّف لذا يفضل استخدام مصطلح التفاهم.
وفي ما يلي نص الحوار:
مقدمة:
یولد الانسان و کل بني آدم نظیر له فی الخلق و عندما یتدرج فی المعرفة الإیمانیة و السلوک الإسلامی یدرک أن له إخوة فی الدین و هذه المعرفة تدفعه إلی التعارف و التشارک.
و الأصل فی علاقة المسلم مع أخیه المسلم: العیش بتآخٍ و انسجام بعیداً عن التحزّبات المفرّقة و العصبیات المقیتة بسبب العرق أو اللون أو الجنس و من باب أولی من حیث المذهب الفکری أو الفقهی.
فالوحدة الإنسانیة هی أساس یجمع کل البشر بل المؤمنین فی عیش مشترک فی وطن یجمعهم. و نعتقد أن لفظة التعایش فیها شیء من التکلّف لذا نفضل استخدام مصطلح التفاهم و هذا التفاهم حاصل علی أرض الواقع و قد یصل إلی اتفاق کامل فی أزمنة و أماکن و قد تعتریه بعض الشوائب فی أزمنة و أمکنة أخری.
و هنا مکمن الخطر عندما یستشعر أعداء الأمة هذا الضعف فیستغلونه للتفریق بین أبناء الأمة الواحدة و المجتمع الواحد.
یدور مبدأ التعایش بین البشر تعارفاً و تعاوناً و اختلافاً و اجتهاداً علی مجموعة مفاهیم من مثل التنوع العرقی و الاختلاف الفکری و التعدد الثقافی و التباین الاثنی من جهة و من جهة أخری المشترک الإنسانی و الاعتراف بالآخر و الحوار المستمر و العمل المشترک و ثقافة المواطنة و حسن الجوار.
و من هنا نجد القرآن الکریم قد تحدّث عن هذه المفاهیم و وضع لها أسساً جامعة و ضوابط عاصمة لحسن سیر الإنسان فی الحیاة علی هدی و بصیرة فی ظلّ الاعتصام بحبل الله المتین و السیر علی نهج النبیّ الکریم صلّی الله علیه و آله و سلّم.
فما الأنسان إلا جزءاً من هذه المنظومة الکونیة و هی رغم کونها متعددة و متنوعة لکنها تسیر بانتظام و إحکام. فالمجرات فی الفضاء مختلفة فی الإضاءة و متنوعة فی الحجم و عالم النبات یحوي ألواناً زاهیة و أشکالاً مختلفة فی نتائجه و ثماره رغم أن الأرض و التربة واحدة و یسقی کل النبات علی اختلافه من ماء واحد قال تعالی:« وَ فىِ الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نخَِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيرُْ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلىَ بَعْضٍ فىِ الْأُكُلِ إِنَّ فىِ ذَالِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (الرعد:4)
و عالم الحیوان متنوع فدوابّ الأرض و طیور السماء أمم متنوعة و متعددة، یقول الله تعالی:« وَ مَا مِن دَابَّةٍ فىِ الْأَرْضِ وَ لَا طَئرٍِ يَطِيرُ بجَِنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فىِ الْكِتَابِ مِن شىَْءٍ ثُمَّ إِلىَ رَبهِِّمْ يحُْشرَُونَ» (الأنعام:38)
و قد حدّثنا القرآن الکریم عن التنوع الفردي بین البشر فی المواهب و المؤهلات و الاستعدادات و عن تعدد اللغات و اختلاف الألسن و الألوان و الأعراق و جعل ذلک من الآیات العظام علی وحدانیّته جلّ جلاله، قال تعالی:« وَ مِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكمُْ إِنَّ فىِ ذَالِكَ لاََيَاتٍ لِّلْعَلِمِينَ» (الروم:22) فمن أنکر التنوع و الاختلاف و التعدد فکأنما أنکر وحدانیة الله.
و یشیر النصّ النبویّ إلی وحدة الأصل الإنسانی حیث یقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم:« کلّکم لآدم و آدم من تراب» و فی هذا مقصد من مقاصد الشریعة فی المساواة بین الناس فی الحقوق و الواجبات رغم اختلافهم و الفروق فیما بینهم.
التعدد عین الثراء الفکري
و بالجمع بین النصوص القرآنیة و النبویة یدرک العقلاء أنّ التنوع سبب للتعارف و ثراء فکری للتعاون و موضع اهتمام لتکامل الأدوار و تکاتف الجهود لبناء الحضارة و لیس التنوع مطلباً فی حد ذاته فالمطلوب هو الانسجام و التفاهم و التکامل فی الحیاة فی ظلّ الاعتراف و الإقرار بالتعدد و التنوع.
فأهل العمق و الحجا و اللب و النهی لا تستخفنهم العصبیات و لا تستوقفنهم القومیات و لاتحجبنهم الانتماءات الضیقة بل یرونها عین الثراء الفکري و الخیر الحیاتي و القوة فی الاستمرار برقي البشریة.
فها هو کل شیء حولنا منتظم و دقیق و یسیر علی هدی و بصیرة و حکمة و إتقان ففي السماء نجوم و أفلاک مع ما فیها من تنوع و تعدد نلحظ التناغم و التساوق و التکامل و الانسجام، یقول الله تعالی:« لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لهََا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا الَّيْلُ سَابِقُ النهََّارِ وَ كلٌُّ فىِ فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (یس:40)
و إذا کان التأمل فی ملکوت السماوات و الأرض عبادة فالتعدد و التنوع البشري لیس فلسفة تأملیة مجردة بل هي سلوک و أخلاق و حیاة یومیة یعیشها کل بني الإنسان فلینظر الإنسان فی العوالم لیجد حکمة باریها انسجامات فی غیر المکلفین لتدلّ المکلفین کیف یسیرون علی هدی من التنظیم المحکم.
الناس في سوریة یعیشون في تناغم
فأبناء الإسلام و أتباع الشرائع السماویة یعیشون فی سوریة فی حوار الحیاة الیومیة یتبادلون المنافع فیما بینهم و یعیشون فی أمان و استقرار و تناغم و انسجام متفقون فی القضایا الکبری و المسائل العظیمة و یدافعون معاً عن کرامة الوطن و سیادته و حریة الإنسان و تأمین العیش الکریم له.
و الناس فی سوریة متفقون علی أن الجائع و العطشان و النازح و المشرد علینا أن نخدمه بغضّ النظر عن دینه أو مذهبه أو عرقه أو طائفته فعلی سبیل المثال: کنت أشرف علی بحلب علی إحدی عشرة نقطة طیبة ما بین مستشفی کبیر و مستوصف و فی أحیاء مختلفة و متنوعة فی الأعراق و الشرائع و المذاهب و کان عدد الزوار الیومي یقارب ألف مریض و لم نکن نسأل إلا عن حسن تقدیم الخدمة للمریض دون معرفة انتماء المریض حزبیاً أو دینیاً أو مذهبیاً.
و لکن للأسف ضرب الإرهاب کل هذه الجهود الإنسانیة و یبقی الأمل الکبیر فی إعادة النشاط بعد تحریر حلب من الإرهابیین و عودة الحیاة الآمنة للمواطنین.
و نعتقد بأن التفرقة لا تأتي و لا یحصل التمییز إلا من جهة خارجیة ترید الإیقاع بین الإنسان و أخیه الإنسان. أو یکون ذلک بحسب الجهل الذی یسیطر علی ذهنیة بعض الأفراد الذین لا یعون مفهوم الإبداع فی الاختلاف و أن الاختلاف ثراء و عطاء و لیس تضادّ و عداء.
ففي بلادنا سوریة عاش الإنسان مع أخیه الإنسان منذ وجد الإنسان و تابع مسیرة الحضارة الإنسانیة بإغنائها بثقافته المتعددة.
فعلی أرض سوریة عاشت شعوب و تنامت أمم و تعارفت قبائل بینهم الأکادیون و الکنعانیون و الآرامیون و الکلدان و الآشوریون و العرب والأکراد و غیرهم من الأقوام وما زالوا متحابّین متعاونین یحتضنون بعضهم فی أماکن سکنهم حتی فی ظلّ الحرب القائمة نزح أهالی حلب وحماه و حمص إلی محافظات اللاذقیة و طرطوس و هناک لقوا ترحیباً و تواصلاً و أسّسوا أعمالاً مشترکة فیما بینهم.
علّمنا القرآن الکریم حریة التعبیر عن الرأي
و في العموم الناس کلهم و البشر بأجمعهم متفقون علی مبدأ حریة الکلمة و مع مناقشة الموضوعات المهمّة و الحوار الدائم المستمرّ و بأن ذلک هو الذی یؤسّس لحیاة أفضل لأنه لا ینبغي الاستعلاء البشري و لا الهیمنة السیاسیة بل تقدیم الخدمة للإنسان و المعلومة الصحیحة و الفکرة السلیمة بقالب مستحسن ثمّ یُترَک الحکم للمتابع و المستفید.
و لا ینکر فی الحیاة البشریة وجود عقائد باطلة و عبر التاریخ البشري ذکر القرآن عقائد أقوام سادت ثم بادت و إن کان للباطل جولة فللحق جولات و انتصارات، ثم لقد ذکر القرآن الکریم عقائد کانت باطلة في أمم و شعوب و یأتي الأنبیاء لتصحیحها و تنزل الکتب السماویة حاملة معها حوارات الحق مع الباطل لیزهقه.
ثم إن التعبیر عن تلک العقائد و لو کانت باطلة لا ینافي علمیة الحوار و موضوعیة النقاش فقد علّمنا القرآن الکریم آداب الحوار مهما کان الآخر متعنّتاً و متصلّباً برأیه أو سخیفاً بفکرته فلا یضیر القوي أن یسمع کلام الضعیف و لا یضرّنا أن نسمع حجة- إن صحّ تسمیتها حجة- مهما کانت و أیّاً کان.
فها هو القرآن یذکر الحوار مع إبلیس زعیم الفساد والشرّ و مع النمرود المتفلسف بکلامه بلا حجة منطقیة و مع فرعون المتسلّط بقوته علی الضعفاء و مع المنکر الجاحد لأصول الإیمان.
فما المانع أن یعبّر أيّ إنسان عن معتقده الفکري أو اجتهاده الفقهي بل إن هذا التعبیر هو الطریق السلیم للعیش المشترک بین أتباع المذاهب الإسلامیة و الشرائع السماویة و نؤمن بأن الحق منتصر بقوة الحجة البیان لا بقوة السلطة و السنان.
و فی التعبیر عن الرأي حریة للإنسان لیمیز الله الخبیث من الطیّب و لیکن الحساب بعد الاختیار فإنه بالإجبار یکون الحساب غیر عادل.
و لکنها- أی الحریة- یجب أن تکون مسؤولة لا تصل إلی درجة الإهانة أو السبّ أو القذف أو التجریح فالحریة المسؤولة تعني أننا فی الحیاة نعیش في سفینة واحدة لا یتصرّف کل واحد علی هواه أو لتحقیق مصالحه الشخصیة فقط فیحدث فی السفینة ما یفسدها و یؤدي إلی غرق الجمیع.
و قد عبّر القرآن الکریم عن أهمیة التعبیر عن الرأی بعدة آیات من مثل قوله تعالی:« لَا إِكْرَاهَ فىِ الدِّين» (البقرة:256) و قوله:« لَكمُْ دِينُكُمْ وَ لىَِ دِينِ» (الکافرون:6) و قوله:« وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاََمَنَ مَن فىِ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَ فَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (یونس:99)
و فی الوقت ذاته شرع الإسلام أحکاماً للمحافظة علی المجتمع سلیماً من الفتن و الاضطرابات و بیّن أن من القیم الإنسانیة: الحریة التی ترفع عن الإنسان کل أنواع الضغط و القهر و الإکراه و الإذلال فکریاً و دینیاً و مذهبیاً.
و إذا کانت حریة التعبیر عن الرأی تشمل أصول الاعتقاد فهي من باب أولی تتضمن فروع الاجتهادات و ها هي کتب الفقه و الأصول ملیئة بتفاصیل الأحکام التی وقع فیها الاختلاف بین الأئمة و ما عاب أحد علی أحد اجتهاده و لا حجر علیه رأیه فجمیع الأئمة المجتهدین فی العصور الأولی کانوا تلامذة عن بعضهم بروایة المتأخر عن المتقدم و المتقدم عن المتأخر بدءاً بالإمام زید إلی الإمام جعفر إلی الإمام أبي حنیفة و الإمام مالک و الإمام الشافعي و الإمام أحمد و الإمام الأوزاعي و الإمام اللیث بن سعد حیث کان کل یأخذ من بحر الآخر و یضیف دون غضاضة أو حساسیة بل هو تکامل العلم و ارتقاء المعرفة.
مع اعتراف کل إمام بفضل الآخر علیه و علی الأمة و أنه منارة هدی و نبراس ضیاء للأمة فهذا الإمام أبو حنیفة یقول: لولا الستنان لهلک النعمان و یقصد بهما یوم کان تلمیذاً عند الإمام جعفر الصادق و هذا الإمام جعفر یأذن للإمام مالک بأن یفتي فیقول: أ أفتي و أنت حاضر یا إمام فیقول: نعم لأن تفتي و أصحح لک خیر من أن تفتي و لا یصحح أحد لک.
فحریة الرأي هی أساس فهم عمومیة الدین و صلاحیة الشریعة و إصلاحها للإنسان في کل زمان و مکان. و حریة الرأي هي أساس تحقیق مصالح العباد في اختیار ما یناسب أوضاعهم النفسیة و الجسدیة و الاجتماعیة و الاقتصادیة من المذاهب الفقهیة المستمدة من الأصول الربانیة و هي وحي السماء؛ قرآناً یتلی و سنة تُتَّبع خدمة للإنسان و عمارة للأرض و سیادة للأوطان.
أما ما کتب في التاریخ و السیاسة فی کل زمان فتجب قراءته بتأنٍّ و علی مهل قراءة علمیة موضوعیة دون تحیّز أو إلباس ثوب صراع مذهبيّ أو طائفيّ له. فالمؤرخون إنما یذکرون الأحداث و الوقائع فی أثواب سیاسیة في أکثر الأحیان و لم یذکروها في أثواب فکریة أو ثقافیة في بعض الأحیان الأخری.
إن هذه القراءة المتأملة هي التی تعید الحیاة لهذه الحوارات دون تفرق و تمزق بل تکون في إطار وحدت الصف و التآلف.
و الله ولي التوفیق