الولاية اعتراف بوجوب طاعة الولي، وتمكين للوالي من أن يكوِّن مجتمعًا، فيخلق بيئة يعيش فيها الإنسان وينمو وهو منسجم مع نفسه، وإلا فلو كان للإنسان مجتمع غير مؤمن، مجتمع غير منسجم مع إيمانه، فنشاطه الاجتماعي ينمي مبدأً آخر ودافعًا ثانيًا يختلف عن مبدأه الأول الذي هو إيمانه بالله، فيعيش الإنسان في ازدواجية وتناقض ويتحطم ولا يُنتج.
الاجتهاد: في هذا اليوم (عيد الغدير) الذي كرّس ولاية “علي” نريد أن نبحث بعض الشيء في معنى الولاية، في معنى خلود رسالة “محمد” (ص)، في معنى ما نحتاج إليه في هذا اليوم، الولاية وردت في أكثر من آية، وفي الأحاديث المتواترة، والولاية ليست حبًا ومودة فحسب، يقول الحديث الشريف المتواتر: “بُني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام والولاية، وما نُودي بشيء مثلما نُودي بالولاية”،.
ما هي الولاية التي هي أهم من الصلاة والزكاة والحج والصيام؟ وما هو السبب في هذا الاهتمام؟ لأن الحديث يتابع فيقول: ولو أن أحدًا قام ليله وصام نهاره وحج دهره وتصدّق بجميع أمواله ولم يكن ذلك بدلالة ولي الله لن يقبل الله منه.
ما هي الولاية التي لها في الإسلام هذا الأثر العميق والدور العظيم؟
الولاية مضمون الآية الكريمة: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ [الأحزاب، 6]، أولوية رسول الله بأمته وأنفسهم معناها وجوب إطاعته، ووجوب إطاعة الرسول غير وجوب إطاعة الله وإن كان ذيلًا من ذيول إطاعة الله.
إطاعة الله ما معناها؟ الإنسان هل يتمكن من استماع أمر الله ونهيه بالطرق المباشرة؟ هل أحدنا سمع كلام الله بصورة صحيحة؟ طبعًا لا، هل أحد منا يسمع كلام الله بأذنه طبعًا، لا! فإذًا، نحن نسمع كلام الله عن طريق نبيّه، فإذا قال رسول الله: هذا واجب، وهذا حرام، إفعلوا، ولا تفعلوا، ونحن أطعنا هذا القول وطبّقنا هذا التعليم، فقد أطعنا الله، هذا ليس إطاعة الرسول، إطاعة الرسول التي تأتي بعد إطاعة الله في قوله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء، 59]، إطاعة تختلف عن إطاعة الله وتختلف عن تنفيذ الواجبات والمحرمات والأوامر والنواهي، فالأوامر والنواهي والواجبات والمحرمات هي في الحقيقة إطاعة الله، وليست إطاعة لرسول الله.
فإطاعة الرسول لها معنى آخر يختلف عن معنى إطاعة الله، ما هو معنى إطاعة الرسول؟ فيما عدا إطاعة الله، إطاعة الله يعني الإسلام لله، التسليم لأمر الله، تطبيق قوانين الله موجود في القرآن والأحاديث النبوية، الإسلام بأجمعه وبأكمله وقد اكتمل في هذا اليوم، ولكن إطاعة الرسول كوليّ للأمر كحاكم، إنما هي في تطبيق أوامره التنفيذية، يعني رسول الله بعدما بلّغ أمته الرسالة الإلهية جاء لكي يطبّق هذه التعاليم على الأمة، وتطبيق هذه التعاليم على الأمة عبارة عن تشريعات تطبيقية.
من باب المثل: عندنا قوانين في كل بلد تشرّعها القوّة الاشتراعية، التشريعية، المجلس، ثم هذه القوانين تسلَّم إلى الحكومة، فالحكومة تنفّذ هذه القوانين في مراسيم ومسودات وقرارات صادرة من مجلس الوزراء، ثم من السلطات المحلية الأنزل فالأنزل؛ فإذًا، تطبيق القوانين أيضًا، قوانين صغيرة في إطار القوانين الكبيرة، كيفية تطبيق الدين تشريع أيضًا، ولكن تشريع في إطار التشريع الكبير الذي هو من سنّة الله سبحانه وتعالى.
فإذًا، رسول الله حينما كُلِّف بتطبيق الإسلام، حينما كُلّف بتنفيذ تعاليم الله كان يأمر وينهى ويضع مراسيم وطرقًا، وكان يضع وسائل وأسبابًا لأجل تطبيق شريعة الله، وهذا معنى التشريع في الولاية، هنا يأتي معنى وجوب إطاعة الرسول في إطار ولايته. فإذًا، الولاية إطاعة رسول الله ومن بعده إطاعة “علي” وأولي الأمر، الإطاعة في حقل التطبيق.
قلت هذه المقدمة لكي أصل إلى هذه النقطة:
الولاية سلطة إلهية لتطبيق أحكام الله أُعطيت لرسول الله (ص)، والولاية وجوب إطاعة الأمة للرسول ولولي الأمر، هذا الوجوب إذا طُبق يعني إذا كل فرد من أفراد الأمة أطاع ووالى، طبّق ونفَّذ، فقد مكّن الأمة رسولها بتكوين مجتمع صالح؛ لأن المجتمع الصالح إذا أراد الرسول أن يكوّنه يجب عليه أن يتخذ تدابير، وهذه التدابير إذا طُبقت يتكون المجتمع كما كوّن رسول الله هذا المجتمع بعد الهجرة. استلم الحكم وكان يأمر وينهى ويجمع ويدافع ويحارب ويصنّف وينظّم في إطار الأوامر الإلهية.
فتمكّن من تكوين المجتمع الإسلامي لكي يهيىء بيئة صالحة لنمو الإنسان وتربية الإنسان، الإنسان يتأثر وينفعل ويسمو بصلاته، الصلاة معراج المؤمن، فالصلاة تؤثّر في كمال الإنسان ونمو الإنسان، وهكذا الصيام والحج والجهاد، ولكن أكثر العوامل تأثيرًا في تكوين الإنسان هو خلق المجتمع الصالح.
المجتمع الصالح، البيئة الصالحة إذا تكوّنت فسوف تؤثّر في نمو الإنسان وتربية الإنسان وكمال الإنسان أكثر من الصلاة والصيام، ونحن نشاهد هذا مشاهدة واضحة بأن الإنسان يتأثر ببيئته وبالمجتمع الذي يعيش فيه.
إذًا، نحن ربما نناقش ونبحث أن إطاعتي أنا بماذا تؤثر في تكوين ذلك المجتمع؟ ولكن المجتمع يتكون من تكوين وتخطيط ولي الأمر وتمكين الأمة له لكي يكوّن ويربّي. فإذًا، “ما نُودي بشيء مثلما نُودي بالولاية”،
وهنا أمر أساسي، – أرجو الإنتباه – نحن إذا كوّنّا المجتمع بموجب الولاية، يعني إذا أطعنا الله في شريعته، وأطعنا الرسول وأولي الأمر في تطبيق الشريعة، معنى هذا أن الصلات الاجتماعة التي توجد بين أبناء مجتمع واحد، هذه الصلات تنبثق من إطاعة الله، ما هو السبب في كيفية معاملة أخي المواطن أو أخي المسلم؟
لأي سبب أعامله هذه المعاملة؟ المجتمع، صلات الأفراد بعضها مع بعض؛ هذه الصلات التي هي مبادرات وأفعال وخطوات من الإنسان إذا انبثقت وصدرت بأمر من الله حينئذٍ الإنسان منسجم في إيمانه وفي أعماله، بينما إذا كان الإنسان كما يزعمون -هناك دعوة في العالم- بأن الدين والإيمان للإنسان وصلة الإنسان مع الله، فأنا أحتفظ بإيماني وبأخلاقي، ولكن في صِلاتي الاجتماعية أستوحي من مبدأ آخر من مبدأ سعادة الإنسان مثلًا، والإيمان بالإنسان مثلًا، محاولة لفصل الإيمان عن النشاطات والأعمال الخارجية.
هذه المحاولة مغالطة لأن الإنسان موجود واحد، هذا الموجود الواحد لا ينفصل ولا يتجزأ إلى موجودين، موجود يؤمن بالله، وموجود يؤمن بالإنسان، وينطلق بمن إيمانه بالإنسان في نشاطاته الاجتماعية. فإذا كان الإنسان يعيش في مجتمع غير مؤمن، المجتمع إذًا، مؤمن وغير مؤمن، مثل الإنسان؛ الفرد قد يكون مؤمنًا وقد يكون غير مؤمن، قد يؤمن الإنسان بالله، وقد لا يؤمن، المجتمع أيضًا قد يكون مؤمنًا وقد لا يكون مؤمنًا كيف؟
حتى ولو كان الأفراد مؤمنين، من الممكن أن يكون المجتمع علمانيًا غير مؤمن. تفسير هذه الكلمة أن الإنسان في حياته العادية يعني في اتصالاته مع الناس… هذا هو تكوين المجتمع، أوضح المقدمة حتى نصل إلى النتيجة.
المجتمع، حقيقة المجتمع، صلات الأفراد بعضهم مع بعض، لو افترضنا أن ألف إنسان عاش كل واحد منهم في غرفته، في كهفه لا يتصل بالإنسان الآخر، لا يأخذ ولا يعطي ولا يبيع ولا يشتري ولا يدفع ولا يمنع، هذا ليس مجتمعًا طبعًا، ألف شخص وحدهم…
متى يتكون المجتمع؟ حينما يكون بين الأفراد اتصالات، أخذ وعطاء، وإلا تصور أن ألف شخص وكل شخص في غرفة منفصلة عن الغرفة الأخرى ليس بينهم أي اتصال وأي تفاعل، هذا ليس بمجتمع، هذا ألف شخص، ليس مجتمعًا واحدًا. بينما لو وجدت عشرة أشخاص، كان بينهم تفاعل، فقد كوّنت مجتمعًا.
فإذًا، حقيقة المجتمع بالاتصالات بين الأفراد، والصلات بين الأفراد، والتفاعل بين الأفراد، هذه حقيقة المجتمع. فكما أن الإنسان قد يكون مؤمنًا، وقد لا يكون مؤمنًا، المجتمع أيضًا قد يكون مؤمنًا، وقد لا يكون مؤمنًا،
متى يكون المجتمع مؤمنًا؟ إذا انطلق ووضع أسس اتصالاته على أساس الإيمان بالله، المجتمع غير المؤمن إذا انطلق ووضع اتصالات الأفراد بعضهم مع بعض لا على أساس الإيمان بالله، هذا الفرق بين المجتمع المؤمن والمجتمع غير المؤمن. على هذا الأساس تكون الأعمال الاجتماعية، يعني بيع، شراء.. زرع.. إدارة.. كتابة.. تفاعل.. زيارات.. هذه الأعمال الاجتماعية إذا ما انبثقت من الإيمان بالله فقد أمارس أنا الفرد نوعين من العمل: نوع من العمل أقوم به كصلاتي، كعباداتي، كأخلاقي، أنطلق في هذا النوع من العمل من الإيمان بالله، هذه الأعمال تكرَّس في نفسي مبدأي الذي هو الإيمان بالله.
لكن النوع الثاني الذي هو الأعمال الاجتماعية حينما أمارسها لا بداعي الإيمان بالله، هذه الأعمال أيضًا تكرّس وتنمّي في قلبي إيماني بمبدأ ثانٍ، ولو كان الإيمان بالإنسان، لأن الإيمان بالإنسان على نوعين أيضًا، قد أؤمن بالإنسان انطلاقًا من إيماني بالله، وقد أؤمن بالإنسان إيمانًا مطلقًا محدودًا.
والإنسان عند المؤمن يختلف عن مفهوم الانسان عند غير المؤمن. فإذًا، حينما يكون الإنسان مؤمنًا ويقوم بنشاطاته الاجتماعية على أساس الإيمان بالله يحصل عنده انسجام وتجاوب بين إيمانه وبين نفسه وذاته.
فالولاية اعتراف بوجوب طاعة الولي، وتمكين للوالي من أن يكوِّن مجتمعًا، فيخلق بيئة يعيش فيها الإنسان وينمو وهو منسجم مع نفسه، وإلا فلو كان للإنسان مجتمع غير مؤمن، مجتمع غير منسجم مع إيمانه، فنشاطه الاجتماعي ينمي مبدأً آخر ودافعًا ثانيًا يختلف عن مبدأه الأول الذي هو إيمانه بالله، فيعيش الإنسان في ازدواجية وتناقض ويتحطم ولا يُنتج.
بينما لو كان مصدر نشاطات الإنسان في الحقل الاجتماعي إيمانه بالله، فالإنسان حينئذٍ في صلاته وفي أعماله الاجتماعية مؤمن ونشاطاته كلها تنمي إيمانه، فيقوى وينسجم ويحافظ على إيمانه.
فمن يدعي أنه يتمكن أن يكون إنسانًا مؤمنًا في مجتمع غير مؤمن يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، وهذا هو المستقبل الذي نعيش فيه.
الإنسان بإيمانه يمارس أعمالًا، هذه الأعمال تنمّي إيماني، ومن ناحية ثانية أعيش في مجتمع فأمارس أعمالًا أخرى، كل عمل يصدر من الإنسان ينمّي ويغذّي مبدأه. اليوم مثلًا أنت إذا خفت من شيء فاجتنبته، اجتنابك يغذي مبدأ الخوف عندك، وإذا باشرت مباشرتك تنمّي مبدأ الشجاعة عندك.
الإنسان ليس بموجودات منفصلة، كل عمل خارجي ينعكس على مبدأ نفسي، فإذًا، لا يمكن للإنسان أن يحافظ على إيمانه بالله ويعيش في مجتمع غير مؤمن إلا بصورة جهاد، بصورة حرب، بصورة دفاع، بصورة تناقض مستمر، والطريقة التي يعلّمها الدين في هذا السبيل تكوين المجتمعات الصغار: ﴿وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾ [العصر، 3].
فأولًا- مبدأ الولاية تمكين لتكوين مجتمع صالح تأثيره على تربية الإنسان أكثر من تأثير الصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيام، ولهذا قيل: “ما نُودي بشيء مثلما نُودي بالولاية”.
ثانيًا- انقياد الإنسان للولي، انقياد أفراد الأمة للولي الذي هو معنى الولاية، معناه تنسيق عمل الأمة وتجميع وتنظيم نشاطات الأفراد، وحينئذٍ تكون نشاطات الإنسان مضبوطة وهادفة في طريق واحد ولا تتحطم، ولا يُلقى بأسهم بينهم. والمجتمع إذا تمكن أن يكوّن تنسيقًا في جهود أفراده حينئذٍ تخلق المجتمعات الصغيرة طاقات هائلة، والتجارب التاريخية أقوى دليل على هذا. وأفضل طريقة على تنسيق طاقات المجتمعات مبدأ الولاية وانطلاق نشاطات الإنسان، أي إنسان بين أبناء مجتمع واحد ينبثق من الولاية.
فإذًا، الولاية تكوين مجتمع وتنسيق طاقات الجماعة، ثم قداسة الإطاعة، قد أؤمن أنا بالإنسان وأمارس عملي الاجتماعي بمبدأ الإيمان بالإنسان، وقد أؤمن بالنشاطات الاجتماعية المنبثقة من الإيمان بالإنسان الذي هو خَلقُ الله وخُلِق من الله ومبدأه الله ومنتهاه الله، يعني نشاطاتي إذا انطلقت من إيماني بالله، إطاعتي تكسب لون القداسة، يعني الإطاعة في المجتمع الديني واجب من الواجبات مقدس يُثاب الإنسان ويؤجَر عليه.
هذا اللون الخاص من الإطاعة يجنّد الطاقات المرئية وغير المرئية في حياة الإنسان، لأن الإنسان له طاقات كثيرة، قسم من طاقاته واضح يدخل تحت الحساب، تحت المراقبة، تحت الفرض، تحت التوجيه، ولكن الطاقات غير المرئية لا تتنظم ولا تدخل تحت التوجيه الظاهري إذا لم يكن هناك إيمان بالإطاعة وقداسة للانقياد.
فإذًا، الولاية تجنّد طاقات الفرد جميع طاقات الفرد، والولاية تجند طاقات الجماعة وتكوّن من المجتمع أكبر طاقة ممكنة، ثم تكوّن المجتمع الذي ينمو فيه الإنسان وينسجم معه في إيمانه وفي أخلاقه، في غير هذه الصورة.
ومع عدم تنظيم الصلات الاجتماعية عن طريق الإيمان بالله، الصلات الاجتماعية تنمّي في نفس الإنسان إلهًا آخر: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾ [الجاثية، 23]، ماذا يعني ﴿اتخذ إلهه هواه﴾؟ هل يُعقل أن الإنسان يعبد هواه؟ أهناك أحد يصلي لأجل نفسه؟ فإذًا، ما معنى ﴿اتخذ إلهه هواه﴾؟ يعني غاية الغايات وهدف الأهداف ومصدر النشاطات عنده هو هواه، هو أنانيته، هذا معنى عبادة النفس، وعبادة الأنانية.
على هذا الأساس، الولاية أساس كل هذه المميزات والنتائج، وعدم الولاية يؤدي إلى مجتمع يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر الذي نحن نعيشه اليوم، ولنعلم أنه لا أمل اطلاقًا، لا أمل اطلاقًا لسعادة الإنسان إذا ما انطلق في نشاطاته الاجتماعية من مبدأ الولاية وإطاعة الله، لا يمكن.. كلها ترقيع.
المجتمع المادي الحديث الذي بنى صِلاته وأسسه وقوانينه وأعماله على أساس مبدأ المادة، على أساس مبدأ المصلحة، لا يمكن أن يسعد وأن يصل إلى ما ينسجم مع إيمان الإنسان، وكل الترقيعات والأدوية والعلاجات والمحاولة من تخفيف الطغيان والتناقضات كلها محاولات فاشلة تؤثر بعض الوقت، ثم ينقلب السحر على الساحر، ولا أمل على الاطلاق من أن الحضارة المادية بأي شكل من الشكلين القائمين في هذا اليوم توصل الإنسان إلى نتيجة تنسجم مع إنسانيته ومع حياته الحقيقية المتكاملة، هذه الولاية.
ولأن الولاية كما قلت تشريعات تطبيقية في خلال التشريعات العامة يجب فيها رعاية المبدأ الذي نراعيه في تشريع الدين أصل الدين. وهنا تأتي حاجتنا إلى النص، التشريع الديني، لماذا قالوا يجب أن يكون سماويًا وإلهيًا؟ لأي سبب؟
البشر أعطاهم الله العقل، ويمكن أن يكتمل يومًا ما ويعرف كل شيء؟ وهو الآن في طريق الاكتمال ومعرفة كل شيء، لماذا نقول التشريع يجب أن يكون من الله؟ لأي سبب؟ لأن الإنسان العاقل العالم مهما كان محيطًا ومهما كان واسع الاطلاع يتأثر بالعوامل الأرضية، لأن الإنسان من الأرض يتأثر بمصالحه، بمنافعه الفردية العائلية الإقليمية العنصرية، الثقافات السابقة، الآمال، حدود التفكير، مهما حاولنا أن نجرّد الإنسان عن واقعه الذي يعيش فيه فهذا خطأ لا يمكن تلافيه، فأي شريعة وأي قانون يكون من صنع الفكر الإنساني متأثر ببعض ما يتأثر به الإنسان ولا يمكن أن يكون للإنسان، كل الإنسان، قد يكون للأكثرية، وقد يكون للأقلية الحاكمة، القانون دائمًا الذي ينطلق من التفكير البشري هو متأثر بزوايا ومصالح خاصة أو عامة أو على الأقل بطريقة التفكير.
هذا المبدأ يفرض علينا أن نقول نحن بحاجة إلى تشريع إلهي لا يتأثر بالإقليم ولا بالمنطقة ولا بالعائلة ولا بالعنصر ولا بالطقس ولا بالارتفاع والانخفاض، يكون لله رب الإنسان، لنفس السبب الذي يجعلنا نلتمس شريعة سماوية لا تتأثر ونقول أن النبي يجب أن يكون من قبل الله، نفس السبب، لأنّ الولاية تشريعات في إطار التشريعات العامة، ولأن الولاية تطبيق لهذه الشريعة وإعطاء من الذات البشرية المتأثرة بالعوامل والمصالح الفردية والإقليمية والعائلية العنصرية، أيضًا تلعب بالتشريعات الصغيرة، ولهذا قلنا وقالوا أن الولاية أيضًا تحتاج إلى نص.
ولهذا فالولاية مقام عظيم يجب أن يكون الولي أرفع أبناء أمته على الاطلاق حتى يسمو عن جميع النـزعات والمصالح الخاصة، يجب أن يكون لمن كان مع الحق وكان الحق معه يدور معه كيفما دار، يجب أن يكون الولي متعمق الإيمان في وجوده وجعل منه في لسانه وفي نظراته وفي أعماله وفي خواطره وفي حبّه وبغضه ميزانًا، وهذا معنى الإمام على ما يفسّر العلامة “العلايلي” في كتاب “المرجع”: الإمام ميزان من الخشب يستعمله البناؤون لأجل الاستقامة، استقامة البناء، فنحن اليوم ميزان زئبق نستعمل من باب المثل، الإمام هو ميزان في لسانه، في عمله، في شهادته، في تفكيره، حتى في خواطره، فهذا هو الشخص الوحيد الذي يعبّر عنه رسول الله، يقول: “أنا ميزان الأعمال وعلي لسانها”.
فالولاية لمن يتعمق في قلبه الإيمان فيجعل منه، من لسانه، وعمله، وقلبه، وفكره الميزان، يجب أن تُسلم إلى أسمى شخص، إلى من ليس له شخصية متناقضة، إلى من لا يسجد وما سجد لصنم قط، يجب أن تسلّم إلى “علي بن أبي طالب”.
والولاية بعدما وجدناها تطبيقًا وتشريعًا في الإطار العام بدأت من أول الدعوة، فنحن نجد أنه في أول يوم كُلِّف رسول الله (ص) بالإنذار بقوله تعالى: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ ]الشعراء، 214[، وبدأ بنشر الدعوة، الحديث الذي ينقله “أحمد ابن حنبل” و”الطبري” و”ابن الأثير” و”أبو الفداء” و”الملا علي المتقي” و”الحلبي”، يقول: حينما كُلّف، دعا آل “عبد المطلب” أول دعوة عامة، وتكلم رسول الله (ص)، فقال: يا بني عبد المطلب إني والله لا أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعًا، وقال “علي” وهو أحدثهم سنًا وأرمسهم عينًا وأحمشهم ساقًا: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم، فأخذ برقبته ثم قال: “إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا”.
ولعلنا نعرف أن الرسالة التي هي المسؤولية في حقل الولاية التي ممكن أن تتعدى إنسانًا، لأن النبوة لا يمكن أن تتعدى “محمدًا” (ص) خاتم الرسالة، الولاية التي كانت المنصب الثاني لرسول الله (ص)، منصب التطبيق، منصب الحكم، حينما نعرف أن الولاية هي المسؤولية فمن أول يوم الولاية يجب لرسول الله أن يكون له خليفة وولي حتى إذا سقط في طريق الجهاد يكون هناك من يؤدي الأمانة ويتابع الطريق.
ولهذا من أول يوم الرسالة تعيّنت هذه الولاية، والولاية بمعنى التشريع الجزئي في إطار التشريع الكلي. هذه الولاية لا شك أنها بحاجة إلى نص حتى تنمو الأمة وتتربى، وبهذا فقد جُعل دور الولاية دورًا محدودًا لا يتجاوز إثني عشر جيلًا كما هو وارد في نص الرسول الأكرم (ص) بنقل “البخاري” و”مسلم” و”أبو داوود” و”أحمد بن حنبل” و”الحاكم” و”أبو نعيم” و”ابن حجر” و”السيوطي” و”الملا علي المتقي”… ينقلون كلهم أن رسول الله (ص) قال أكثر من مرة أن له خلفاء إثنا عشر شخصًا، هذه الفترة فترة التربية، أو بالتعبير المعاصر فترة الثورة، هذه الفترة حتى تنمو الأمة وتصل إلى المقام الذي يتمكن من أن يسمو على الصغائر ويرتفع على الأهداف والمنافع الخاصة، هي فترة الولاية، حينئذٍ هذه الولاية تُقدّم إلى هذا الشخص الذي ذكرناه.
هذه الولاية تقدَّم إلى شخص لا يعتبر الولاية غُنمة، بل يعتبرها مسؤولية وواجب، ويقول: “أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون لهم أسوة لهم في جشوبة العيش”، ويقول لـ”عاصم بن زياد” الزاهد الذي ترك بيته وأهله ولبس الخشن وشكاه أخوه إلى “علي” (ع)، قال له: “يا عاصم، يا عُدَيّ – عُديّ يعني عدو صغير – نفسه، لقد استهام بك الخبيث -يعني الشيطان- أما رحِمتَ أهلك وولدك، أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك”، ثم وجّه “عاصم” الخطاب إلى “علي” وقال: يا علي أنت أكثر تقشفًا وأكثر تحملًا لجشوبة العيش مني، فلماذا أنت تقوم بهذا العمل الذي تنهاني عنه؟ فقال له: ويحك، إني لست كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كي لا يتبين بالفقير فقره… هو ما كان يشبع، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع.
الولاية تكون لمن يكون هكذا، ولمن يحس بمحن الأمة، لمن يشعر في محنه بما يقول ويعبّر عنه بعدما يشكو من الغارات التي شُنت على أقطار العالم الإسلامي في عصره، ويقول: إنهم دخلوا الأنبار واحتلوا المركز وأزالوا خيلكم عن مسارحها وقتلوا وليّكم، ثم يقول: ولقد بلغني- هذا شعور الحاكم، هذا شعور الولي- أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينـزع حجلها وقلبها وقلائدها وما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين.
يشرح هذه النقطة في زاوية من العالم الإسلامي، ثم يقول: ما نال رجلًا منهم كَلَم ولا أُريق لهم دم، فلو أن امرأً مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا ما كان به ملومًا بل كان به عندي جديرًا، فيا عجبًا!… هذا شعور القلب، هذا الشعور المرهف بآلام الأمة، وهو الذي يجعل من هذا الرجل يصلح أن يكون وليًا.
فإذًا، لماذا أخاف ما دمت أؤمن بأنهم على ضلال وبأني على حق، فكلكم بإمكانكم أن تقفوا منفردين أمام قلاع الأرض كلها، “وإني إلى لقاء الله لمشتاق وحسن ثوابه لمنتظر راجٍ، ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها، فيتخذوا مال الله دولًا وعباده خولًا والصالحين حربًا والفاسقين حزبًا، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام وجُلَِّد حدًا في الإسلام، وإن منهم من لم يسلم حتى رُضِخت له على الإسلام الرضائخ، فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم وتأنيبكم وجمعكم وتحريضكم، ولتركتكم إذا أبيتم وضنيتم،”- ثم ينادينا وينادينا في هذا اليوم- “ألا ترون إلى أطرافكم قد انتقصت، وإلى أمصاركم قد افتُتحت، وإلى ممالككم تزوى، وإلى بلادكم تغزى، انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوكم ولا تثاقلوا إلى الأرض فتِقُروا بالخسف ويكون نصيبكم الأخسّ”.
ثم يقول هذه الكلمة التي هي المثل في التاريخ: “وإن أخا الحرب الأرق” – الأرق الذي لا ينام هو أخو الحرب – “ومن نام لم يُنمْ عنه”.
الولي قلب الأمة، يخفق لهم ولمحنهم، نحن في هذا اليوم وبعدما ذكرنا هذه النبذة الصغيرة من حياة الإمام ومن معنى الولاية نستمع لكي نبايع “عليًا” بالولاية، ما معنى الولاية؟ ليس الحب والمودّة، معنى الولاية السير معه والسلوك في طريقه وإطاعة أمره.
السير معه هو هذه التعاليم التي يشرحها لنا ويبعثها لنا ويُسمعنا إياها. هو يقول الإنسان من خوف الموت في موت، الإنسان الذي يُغزى في عقر داره يصبح ذليلًا، الإنسان الذي يرتبط ويتمسك بحياته ولا يعتبر الحياة وسيلة لكرامته ولسمّوه لتأييد أهدافه لا يتمكن من أن ينجح، يصبح حارسًا لحياته. الإنسان إذا صار حارسًا لحياته يفقد كل شيء في سبيل المحافظة على حياته، ولكن إذا كانت الحياة وسيلة له يستعمل الحياة في سبيل بقاء كرامته وعزته؛ العمل والسير في خط “علي” بحاجة إلى جهاد وجهود، لا نقول ولا نترك المسؤولية على الآخرين.
المصدر: مقتطف من تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات، بتاريخ 18/03/1968.