الاجتهاد: تميز الإسلام عند ظهوره بالبساطة الشديدة والصرامة. ولقد انعكست هاتين الخاصتين على فن العمارة الإسلامية في هذا الوقت. وإذا نظرنا إلى مسجد قباء والمسجد ذو القبلتين والمسجد النبوي في صورته الأول، فإننا نجد أمثلة لذلك الأسلوب البسيط في العمارة {والطُرز}.
لقد بنى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسجد النبوي على شكل ساحة كبيرة مفتوحة، غطيت بعض أجزاء منها بأوراق النخيل الموضوعة على أفرع النخيل والتي تمتد على أعمدة من النخيل، غاية في البساطة والصرامة. حتى عند التجديد، ظلت هذه المساجد على نفس بساطتها بالمقارنة بالمساجد الأخرى.
ولقد ظهر تأثير بساطة أيام الإسلام الأولى في مساجد البدو وقبائل الصحراء في الصحراء العربية وشمال أفريقيا.
طُرُزُ العمارةِ الإسلامية:
الطِّرازُ الأمويُّ:
مِن الثابتِ أنّ الفنَّ العربي الإسلامي نما في ظلِّ الدولةِ الأموية في بلاد الشام، وقد اقتبسَ الفنُّ الأمويّ مقوِّماته الأُولى وخَصائِصَه الفنِّيَّةَ من البيئةِ التي وُلِدَ فيها، إلى جانبِ بعض التأثيراتِ التي شكَّلَتْ في مجموعِها السِّماتِ الفَنِّيَّةَ لِلطِّرازِ الأمويِّ.
وقد ازدهَر الفَنُّ الأمويُّ في القرنَينِ (الأوَّلِ والثاني) بعد الهِجرة، وكان طِرازًا فَخْماً انتشرَ في جميعِ الأقطارِ بما فيها الأندلسُ، وقد ساعدَ على انتشارِ الفنِّ الأمويِّ على هذا النَّحْوِ انتقالُ الخِلافة من الحجازِ إلى بلاد الشام؛ حيث عاش الخلفاءُ الأمويون.
فقد استقى أصولَه الأُولى من المدارسِ الفنِّيَّة التي كانت منتشرةً ومُزدهِرةً في بلادِ الشام قبلَ العصر الإسلاميِّ كالفنون (الهيلينستية والنصرانية الشرقية)، إلى جانبِ بعض (التأثيرات الفنِّيّةِ الساسانية) بِحُكْمِ الجِوار.
ومِن الجدير بالذِّكْرِ أنّ الأساليبَ الفنية في العصرِ الأمويّ بلغتْ غايةَ تطوُّرِها؛ وذلك بِفَضْلِ النظامِ الذي اتَّبعَهُ الخلفاءُ الأمويونَ، المتمثِّلُ في التزامِ أقاليم العالَم الإسلاميِّ بتقديمِ الصُّنَّاعِ وأصحابِ الفنِّ المعماريِّ ومواد الصناعة أو البناء إلى مركز الخلافة ؛ من أجْلِ القيام بالأعمال المعمارية والفنية الضخمة، وهذا النظامُ كان له فضلٌ كبير في جَعْلِ الخلفاء الأمويين يقومونَ ببناءِ وتجديدِ أعظم العمائر الدينية في ذلك الوقت، من بينها بناء (المسجد الأموي والمسجد الأقصى والمسجد النبوي الشريف وقُبَّةِ الصخرة وجامع الكوفة وجامع البصرة وجامع الزيتونة وجامع سيدي عُقبَة) بالقَيروان.
وإلى الأمويينَ كذلك، يَرجِعُ الفضلُ في إدخالِ مُعظَمِ العناصر المعمارية الجديدة إلى عمائرِهم الدينية- سواءُ التي شيَّدُوها أو التي قامُوا بتجديدِها، ومِن هذه العناصِر:
المِئذَنةُ التي أُدخِلَتْ لأوَّلِ مرَّةٍ إلى المساجدِ في جامع (الكوفة والفسطاط ودمشق)، كذلك يرجعُ إليهِم الفضلُ في إدخالِ المقصُورة التي كانت تُؤمِّنُ الخليفةَ في صلاتِه؛ حيث كانت تجعلُه في مَعْزِلٍ عن صفوفِ المصلِّين، وكذلك أدخَلوا (المحرابَ المجوَّف) في المساجدِ والقِباب وغيرها من العناصرِ المعمارية.
وإلى جانبِ حركة بناء المساجد التي مثَّلَتِ العمائرَ الدينية في الطِّراز الأموي، أبدعَ الأمويونَ كذلك في بناءِ القُصور والحمَّاماتِ والاستراحات والدُّور، وهي تمثِّلُ الجانبَ المدنيَّ في العمائرِ الأموية، ومِن أعظَم ما تبقَّى من تلك العمائِر مجموعةُ القُصور الصحراوية التي شيَّدَها الأمويونَ خارجَ المدنِ في البادية بـ(الأردنَّ وسورية وفلسطين)، وتمتازُ تلك القُصورُ بِسِماتٍ عامَّةٍ من البيئةِ التي شُيِّدَتْ فيها.
تنبثِقُ معظمُ القصورِ الواقعة في بادية شرق الأردنَّ؛ مثلَ (قَصر عَمْرة وقصر الحلاّبات وحمَّام الصَّرح وقصر المَشْتَى وقصر الطوبة)، من نمطٍ مِعماريٍّ واحدٍ تقريبًا؛ إذ جاءت عمائرُ تلك القُصورِ على هيئةِ الحصون الصغيرة؛ حيث كان يُحيطُ بها أسوارٌ مرتفعة مدعَّمة بأبراجٍ ولها مدخلٌ واحد مزوَّد بحُجُراتٍ أو أبراجٍ للمُراقَبةِ.
أمَّا مِن الداخلِ فكان يتوسَّطُ تلك القصورَ صُحونٌ مكشوفة تحيطُ بها من الجوانبِ (ملاحقُ ووحداتٌ مِعمارية) بعضُها سكنيٌّ وبعضُها الآخَرُ يضمُّ (القاعاتِ والمجالِس والحمَّام)، إلى جانبِ (ملاحِق الخدمات)، كذلك تمتازُ عمائِرُ تلك القصورِ باستخدام مواد بناء مختلفةٍ منها (الحجر المنحوت، والحجر الغشيم، والآجرُّ، والجصّ).
أمّا من حيث العناصرُ المعمارية المتشابهة في عمائرِ تلك القصور؛ فإنَّنا نَجِدُ (العُقودَ نِصفَ الدائرية، والعقود المتجاورة، والأعتاب، والقِباب، والعقود المعمارية الطولية، والعقود المعمارية المتقاطعة، والأعمدة والتيجان الكورنثية) المستوحاةَ من العمائرِ الكلاسيكية.
ومن حيث العناصرُ الزخرفية المتشابهة أيضًا في تلك القصور؛ فإنَّنا نَجِدُ الفُسيفساءَ وقد استُخدِمت بكَثْرَةٍ في الموضوعاتِ الفنية وكذلك الفريسكو (التصويرَ الجصيّ)، وقد غلبَ على الموضوعاتِ الفنية (الطابَعَ الساسانيَّ) وبخاصَّة في النقوش والتماثيل، كذلك عُثِرَ على مجموعةٍ من القُصورِ الأمويَّة في سوريةَ؛ منها (قصرُ الحير الغربيّ، وقصرُ الحير الشرقي، وقصرُ هِشام في الرُّصافة)، أمّا في شَرقيِّ فِلسطين فيوجَدُ (قصرُ هِشام-خربة المفجر-) قُرْبَ أريحا، و(قصرُ الوليد) في خرْبة المنية عند طبرية.
وفي الحقيقة فإنَّ تلك القصورَ تُعبِّرُ (عمارتُها) وكذلك (زخارفُها) عن الاستفادةِ الكبيرة التي حصلَ عليها العربُ الأوائلُ من فُنونِ الأقطار التي فتحُوها-وهي في الوقتِ نفسِه- شاهدٌ على عظمةِ فنِّ تلك الفترةِ.
العمارة الأموية المدنية:
ومِن أبْدَعِ العمائِر الأموية في بلاد الشامِ (قُبَّةُ الصخرةِ) في بيت المقدِس التي شيَّدها عام (72هـ، 691م) الخليفةُ عبدُ الملكِ بنُ مروانَ، وهي بناءٌ شُيِّدَ من الحجَرِ (مُثمَّنَ التخطيط) بِداخِله (مُثمَّنٌ آخرُ) أصغرُ حَجماً، ويتوسَّطُ الصخْرةَ المشرَّفةَ من الداخِل (كُرسيُّ القُبَّةِ) التي ترتكِزُ بِدَورِها على (عُقودٍ محمولةٍ على أكتافٍ وأعمدةٍ) من الرُّخام.
الطِّرازُ العبَّاسيُّ:
تميَّزَ طِرازُ العمائِر العباسية في أقطارِ العالَم الإسلامي بخصائِصَ فنِّيَّةٍ مُتعدِّدة كان مِن ورائِها (انتقالُ الخِلافة مِن الشام إلى العراق)، وما ترتَّبَ على ذلك مِن (ظهورِ تأثيراتٍ بيئية وفنية جديدة) كانت منتشرةً في العراق إبّانَ انتقالِ مركز الخلافة إليها؛ ومِن تلك التأثيراتِ (الفُنونُ الفارسية وفنونُ بلادِ الرافدَينِ) التي كانت شائعةً بمنطقةِ دِجْلَةَ والفُرات، كما ظهرَت ملامِحُ التأثيرِ القديم في العمائرِ العباسية من خلالِ استخدام المعمارِ العباسيِّ (اللَّبِنَ والآجُرَّ) في بناء مُنشآتِه المعمارية، كذلك انتشرَ في الطراز العباسي استخدامُ (الجصِّ) في إكساءِ واجهاتِ المباني.
أمّا أهمُّ العناصِر المعمارية التي كانت شائعةً في الطِّراز المعماريّ العباسيّ فَنَجِدُها في (الأكتافِ والدعائم) التي استخدَمها المعمارُ العباسيّ بكثرةٍ في عمائِره عِوضًا عن الأعمدة، كذلك شاع استخدامُ (التغطياتِ المقبَّبَةِ والمعقودة)، إلى جانبِ استخدام (السُّقوفِ المستوية المحمولة على الأكتافِ والدعامات المستطيلة)، كما شاعَ في الطرازِ العباسي استخدام (الأواوينِ والأبواب المعقودة والأسوار الضخمة المدعمة بأبراج، والعقود المتنوعة الأشكال)؛ منها (المدبَّبُ والمنكسر المعروف) بالفارسيِّ و(العِقدُ المفصَّصُ)، إلى جانبِ استخدام (المحاريبِ المسطَّحةِ والمجوَّفة).
كما تميَّزتِ المآذنُ العباسية بـ”أشكالها (المخروطيةِ)، وانفصالِها عن كُتلَةِ المسجدِ، والصُّعودِ إليها بِسُلَّمٍ يلتفُّ حولَ بِنائها من الخارج على شكلٍ حَلَزُونيٍّ”، وقد وصفَ المستشرِقونَ هذا الطرازَ من المآذن بأنَّه (مُقتبَسٌ من المعابدِ القديمة) في العراق والمعروفةِ باسْمِ (الزّقُوراتِ)، ومِن أشهَرِ مآذنِ المساجد العباسية (مِئذَنةُ جامعِ سامُرَّاء، وجامع أبي دُلف بالعراق ومئذنةُ جامعِ أحمدَ بنِ طُولونَ بمصرَ)، وقد اشتهرَت تلك المآذنُ في الآثارِ الإسلامية باسْم (الملويّةِ)، أمّا العناصِرُ الزخرفية التي شاع استخدامُها في طِراز العمائر العباسية فنَجِدُها في (الأكسية الجصِّيَّةِ) التي نُفِّذَتْ بطريقةِ القالَبِ على (واجهاتِ العمائر) العباسيةِ كافّةً من (الداخلِ والخارجِ)، وكذلك على (إطاراتِ العُقود وفتحاتِ النوافذِ والمداخل والمحاريب)، وكذلك اتَّسَمَتِ العمائِرُ العباسية من مساجِدَ وقُصورٍ بِـ(ضَخامَتها وكِبَرِ مساحاتِها وسَعَةٍ أفنِيَتِها).
ومِن أهمِّ ما خلَّفَه لنا الطِّرازُ العباسي من عمارة المساجد ما نَجِدُه في (المسجدِ الجامع بِسامُرَّاءَ، وجامع أبي دُلف بالعراق، وجامع ابن طولون بمصر، وجامع نايين في إيرانَ)، وتمتازُ تلكَ المساجِدُ بـ(عناصِرَ معماريةٍ وزُخرفية متشابهةٍ) من حيث (مادَّةُ البناءِ الآجُريَّةِ)، وكذلك (استخدامِ الدعائِم والأكتاف) بَدلاً من (الأعمدة)، كما أُحيطتْ تلك المساجِدُ من الخارجِ من ثلاثِ جِهاتٍ -عَدا جِهَةِ القِبْلةِ- بِزيادةٍ تُعَدُّ بمثابةِ حَرَمٍ للمسجِد، أمّا العمائرُ المدنية فقَد كشفتْ عنها أعمالُ التنقيبِ التي أُجْريتْ في المدنِ العربية بالعراق، وقد ساعدتْ تلك الكشوفُ على (التعرُّفِ بِصُورةٍ جليَّةٍ على تخطيطِ تلكَ المدنِ)،
ومِن أشهرِ العمائر المدنية في العصر العباسيّ (مدينةُ بغدادَ) التي أسَّسها الخليفةُ أبو جعفرَ المنصورُ في عام 147هـ، وقد خُطِّطَتْ على (هيئةٍ دائريةِ الشكلِ)، واستُخْدِمَ في بِنائها (اللَّبِن والآجُرُّ)، وكان للمدينةِ (سُورانِ خارجيَّانِ) بينهُما (مساحةُ فضاءٍ مكشوفةٍ) عُرِفَتْ بـ (الفصيل)، وكان للمدينةِ (أربعةُ أبوابٍ رئيسية مِحوريَّةٍ ألّا وهي: بابُ الكُوفَة، وبابُ البَصرةِ، وبابُ خُراسانَ، وبابُ الشامِ)، وقد كانت (مدينةُ بغدادَ بِحَقٍّ تُحفَةً مِعماريَّةً تشهدُ على عَظمةِ المِعمارِ الإسلاميِّ) في تلك الفترةِ.
ومِن المدنِ العبَّاسيَّةِ التي حَظِيتْ بِشُهْرَةٍ واسعة في الحضارة الإسلامية (مدينةُ سامُرَّاء) التي شيَّدَها الخليفةُ “المعتصِمُ” في عام (221هـ- 835م)، بعدَ أنْ ضاقتْ مدينةُ بغدادَ بِجُنودِه، ومِن أشهَرِ قُصورِ سامراء (قصرُ الجوسَقِ الخاقانيُّ، وقصرُ العاشقِ) إلى جانبِ كَثْرَةِ (البساتين والبُحيرات والميادين)، كما اشتهرَتْ سامراءُ بـ (شَوارعِها الفسيحةِ، وخطَطِها المنتظمةِ).
وقد تجلّتْ عناصِرُ العمارةِ العباسية في قصورِ تلك المدن من حيث (القِبابُ المرتفعة، والبوَّاباتُ الضخمةُ، والأواوينُ الواسعةُ، والحدائِقُ المسوَّرةُ).
كما وصلتْ إلينا من العمائرِ المدنية في الطِّراز العبَّاسيِّ مجموعةٌ قليلة من القصور التي تعود تواريخُ إنشائِها إلى تلك الفترة، ومِن أشهرِ تلك القصور (قصرُ الأُخيضر) الذي يقع جنوبَ مدينةِ (كَربلاء) بالعراق، و(قصرُ بلكوارا) الذي شُيِّدَ في عَهدِ الخليفةِ المتوكِّلِ جنوبَ مدينةِ (سامُرَّاءَ).
ومِن أشهَرِ ما يُميِّزُ عمائِرَ الطِّراز العباسي (بناءُ الأضْرِحَةِ)؛ إذ يعودُ أقدمُ ضَريحٍ إلى عهدِ الخليفة العبّاسيِّ “المستنصِر”، وهو الضريحُ المعروفُ بـ (قُبَّةِ الصليبيةِ) التي تقع على (الضّفَّةِ الغربية لِنَهْرِ دِجْلَةَ)، وهيَ (بناءٌ مثمَّنُ التخطيطِ) يتألَّفُ من (مُثمَّنٍ خارجيٍّ داخِلُه بِناءٌ مُثمَّنُ الشكلِ ضِلْعُه أصغرُ من طُولِ ضلعِ المثمَّنِ الخارجيِّ)، وهذا التخطيطُ يُؤكِّدُ مَرَّةً أُخرى على (استمرارِ التأثيراتِ المعمارية الأموية في طِراز العمائر العباسية).
الطِّرازُ الفاطِميُّ:
تميّزَ طِراز الفاطميَّةِ عن غَيره من الطُّرُزِ المعمارية الإسلامية، وأصبحَ له طابَعٌ خاصٌّ يتجلَّى في مبانيهِ القائمة من (مساجِدَ ومشاهِدَ وأضرحةٍ وأسوارٍ وأبراجٍ) وغَيرِها من العناصرِ (المعمارية والفنِّيّة).
ومِن أهمِّ خصائصِ العمارةِ الفاطمية (استعمالُ الأحجارِ بشكلٍ أساسيٍّ) في المنشآت (الدِّينية والحربية والأضْرِحَة). وقد تطوَّرَتْ عمارةُ المساجِد الفاطميةِ-بِفَضْلِ استعمالِ الحجارةِ في العمائِر الفاطمية- تطوُّرًا كبيرًا، وامتازَ بناؤها بـ(المتانَة والفخامَة والصلابَة)، وليس معنى ذلك أنَّ الطِّرازَ الفاطِميّ لم يستخدِمِ الآجرَّ في البناءِ؛ فقَد شُيِّدَتْ (قاهِرةُ جَوهَر) بالآجُرِّ. كذلك استُخدِمَ الآجرُّ في بِناء (القِباب، والعُقود، والأسقُفِ، والجوانبِ الداخلية للحوائط).
كما استُخدمَتْ في بناءِ بعض المساجد (الأحجارُ والآجَرُّ)، ومِن أمثلة ذلك جامعُ “الحاكِم بأمْرِ اللهِ”(403هـ). كذلك استُخدِمَتِ (العَوارِضُ الخشبيةُ في تدعيم الجدرانِ، والأعمدةُ السابحةُ في تثبيتِ الأسوار الحربية).
وقد اعتنى المعمارُ الفاطميّ عنايةً كبيرة بِـ(صَقْلِ الأحجارِ ونحتِها وتنسيقِها في البناء)؛ مِمّا ساعدَ المعمارَ كثيراً على (الاستِغناء عن الأكسية الجصية)، كما ساعدَ استعمالُ الأحجارِ في العمائر الفاطمية على تنفيذِ الزخارف عليها بطريقةِ (الحفْر) أو (النحْت) مباشرةً، مثالُ ذلك: واجهاتُ جامعِ (الأقمر، والصالح طلائع)، وكذلك (أسوار وأبواب) القاهرة.
كذلك شاعَ في العمائِر الفاطمية استخدامُ “الصَّنْجاتِ المعشَّقَةِ-قطعِ الحجارةِ الصغيرة- في مِصرَ لِأوَّلِ مَرَّةٍ، ومثالُ ذلك أبوابُ القاهرةِ الفاطمية؛ مثل (بابِ النصر والفتوح وباب زويلة)، وقد استخدمَ المعمارُ الفاطميّ تلك (الصنجاتِ) في (تكوين إطارات عقود فتحات الأبواب)، وكذلك في (الأعتاب، والعُقودِ)، ثمَّ تطوَّرَتْ بعد ذلك في جامع (الأقمر والصالح طلائع)؛ حيث (اتخذَّتِ الصنجاتُ المعشَّقَة مَظهرًا زُخرفياً مع احتفاظِها بوظيفتها المعماريةِ).
كذلك امتازتِ المساجدُ الفاطمية في مِصرَ والمغربِ بالتطوُّرِ الكبير الذي أُدخِلَ على طريقةِ استخدام الروافعِ؛ حيث استعملَ الفاطِميُّونَ (انحداراتٍ فوقَ تِيجانِ الأعمدةِ)، وبدأتْ -ولأوَّلِ مَرَّةٍ- تُصنَعُ الأعمدةُ خِصِّيصاً للمساجِد بعد أن كانت تُنقل من عمائِرَ قديمةٍ، كما استخدمَ المعمارُ الفاطمي (الدَّعائمَ والأكتافَ) في بعضِ المساجد الفاطمية من أمثلتِها (جامِعُ الحاكم) الذي قيلَ إنَّه شُيِّدَ على غِرار جامِع ابنِ طُولونَ، وأيضًا (جامِعُ المهديَّةِ) في تونس، كذلك شاعتْ في الطرازِ المعماريّ الفاطميّ أنواعٌ عديدة من العُقود؛ منها العَقدُ (المقوّسُ، والمدبَّب، والمنفرِج والمنبطِح والمحدَّب والمنكسِرُ ونِصفُ الدائريِّ)، ومِن أشهَر العُقودِ انتشارًا فيالفاطمية العقود الفارسية، كذلك استُخدمت في العمائر/ الفاطمية المداخلُ البارزة عن سَمْتِ الواجِهَةِ والمعروفة بـ(المداخل التذكارية)، ومِن أقدَمِ أمثلتِها (المدخلُ الرئيسُ في جامع المهديةِ بتونس، والمدخلُ الرئيسُ في جامِع الحاكم بالقاهرة).
كذلك عَرفَت العمائرُ الدينية في الطراز الفاطمي أنواعًا عديدة من مخطَّطاتِ المساجِد؛ منها (جامعُ المهديِّ) الذي ظهرَتْ فيه لِأوَّلِ مَرَّةٍ (ظاهِرةُ تعدُّدِ الصُّحونِ)، و(جامِع الأزهرِ) الذي كان يتكوَّنُ من (صحنٍ وثلاثةِ أروقةٍ)، ثمَّ (جامِعُ الحاكم) الذي خُطِّطَ على (هيئة صَحنٍ وأربعُ ظُلّاتٍ أكبَرُها ظُلَّةُ القِبلَة)، هذا بِخلافِ التخطيطاتِ الأُخرى التي ظهرتْ في (جامع الأقمرِ والصالحِ طلائع والمشاهدِ).
كذلك شاع في طِراز العمائر الفاطمية (الدينية والحربية) استخدامُ (التغطيات المقبَّبَةِ)، مثالُ ذلك استخدامُ (القِبابِ) لأوَّلِ مَرَّةٍ في مِصرَ على (المحرابِ والصحونِ أو في تغطيةِ ظلَّة القِبلة) كما هي الحالُ في (جامعِ الأقمر).
كذلك شاع في طُرُزِ العمائرِ الفاطمية (ظاهِرةُ تعدُّدِ المحاريب)-سواءٌ (المسطَّحةُ) منها،كما هي الحالُ في (جامع ابن طولون) أو (المجوَّفةُ) التي مِن أمثلَتها (مشهدُ السيَّدةِ رقيَّة) بالقاهرة؛ إلّا أنّ المحاريبَ الفاطمية شهدَتْ تطوُّراً كبيراً في (مِحرابِ جامع الجيوشيّ) بالقاهرة.
كما شاع في طِراز العمائر الفاطمية استخدامُ المقَرْنَصاتِ (حليات مِعمارية تُزَيِّنُ بواطِنَ العُقودِ أو واجهاتِها) بأشكالٍ متطوِّرةٍ، وأصبحتِ التركيباتُ المقرنصةُ أكثرَ تعقِيداً.
كذلك احتفظَ المعمارُ الفاطِميُّ بنَمطٍ مُميَّزٍ في المآذنِ تشهَدُ على ذلك أمثلتُها في جامع (الحاكم، والجيوشيّ)؛ حيث ظهرَتْ بِهما -لأوَّلِ مَرَّةٍ- في تاريخِ (الأفاريز المزدوجةِ من المقرنَصات) التي تدورُ حولَ الطابقِ الأوَّلِ من بناءِ المِئذنة ومن أمثلتها (مِئذنةُ الجيوشيّ).
الطِرازُ المغربيّ الأندلسيّ:
اعتادَ الباحثونَ دراسةَ المغربِ والأندلس ضمنَ (إطارٍ فنِّيٍّ واحدٍ)؛ نَظراً للعواملِ (التاريخية والجغرافية والسياسية) التي تُؤلِّفُ بينَهُما، إلى جانبِ الصِّلاتِ الفنِّيَّةِ المتبادلَةِ بينَهُما، ممَّا ساعَد على طَبْعِ عمائِر هذا الطِّراز بِـ(سِماتٍ فنِّيَّةٍ متشابهةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ) -على الرغمِ من وجودِ فنٍّ مغربيٍّ اصطلِحَ على تسميتِه (الفنَّ القيروانيَّ)-؛ إلَّا أنَّ غلبةَ العناصِر (المعمارية والفنية) بين المغربِ والأندلس والوحدة السياسية التي ربَطتْ بينَهُما هي التي أوعزَت لِعُلماءِ (الآثار والفنِّ) بالربطِ بينَهُما فنِّياً.
وقد بدأتْ مراحِلُ الزعامةِ الفنيةِ في المغربِ والأندلس في عَصر الدولة الأموية الغربية، ثمّ انتقلَتْ إلى مراكشَ منذُ ضمِّ بلادِ الأندلس إلى سُلطانِهم سَنة (483ه-1090م)، فكان ذلك إيذاناً بتغييرٍ في ميدانِ الفُنونفي المغرب؛ إذ أفلَ نَجْمُ الطرازِ الأمويِّ المغربيِّ، وبدأت تظهَرُ في الأُفقِ سِماتٌ فنِّيَّةٌ مِعماريَّة جديدة حملَها معه (العصرُ المرابطيُّ والموحديّ)، تتمثَّلُ في بداية أمرِها بـ(التقشُّفِ والبَساطةِ والبُعدِ عن الثراءِ الزُّخرفيِّ ومظاهِر الترفِ)؛ ولكنْ سَرعان ما تغيَّرتِ الحالُ وبدأ المغربُ والأندلسُ في ظلِّ عَصرِ الموحِّدينَ (عَهْداً فنِّيَّاً جديداً) في القرنِ السادس الهجريّ الثاني عشرَ الميلاديّ.
ومِن الجديرِ بالذِّكْرِ أنَّ الطِّرازَ المغربيَّ لم يتأثَّرْ بِغَيرِه من الطُّرُزِ تأثُّراً كبيراً، وأنّ تطوُّرَه كان بطيئاً بالنسبةِ إلى تطوُّرِ سائرِ الطُّرُز الإسلامية، وكانت أهمَّ المراكزِ الفنِّيَّةِ لهذا الطِّراز (أشبيليا وغرناطة ومراكش وفاس).
أمَّا العمائرُ الدينيةُ فقَد كانت مُتأثِّرةً بما كان مُتَّبعاً في الطراز المغربيِّ الأندلسيِّ، في القرونِ الثلاثةِ الأولى؛ في (الفُسطاط والكُوفة والبَصرة والشَّام في تخطيطاتِ المساجدِ) إلى أنْ جاء القرنُ السادس الهجريّ الثاني عشرَ الميلاديّ؛ حيث بدأ يظهرُ تطوُّرٌ كبير في عمارةِ المسجد على أيدي (الموحِّدينَ)؛ فانصرَف مِعمارُ تلك الفترةِ عن استعمالِ (الأعمدة) وأقبلَ على استعمالِ (الأكتاف والدعائم المشيَّدةِ من الآجُرِّ والعُقود الحذويَّةِ الشكلِ) التي نُفِّذت على هيئةِ حذوة الفَرَسِ (مُستديرةً تمامًا أو مُدبَّبةً قليلاً).
وكانت مُعظَمُ تلك العُقودِ تُبنى منخفِضةً؛ ممّا كان يكسبُ ظُلَّاتِ المسجدِ طابَعاً من الجَلالِ. ومنْ أمثلةِ ذلك (عُقودُ جامع الكُتُبِيَّة بمراكش، وعُقود جامع تينملل في جنوب المغرب). كذلك اتَّسَمَتْ مساجدُ تلك الفترةِ بتعدُّدِ الصُّحون، ومِن أمثلةِ ذلك (جامع حسَّان بالرباط، وجامع القصبة بمراكش، وجامع القصبة بأشبيليا).
كذلك شاع في عمارةِ المسجد (أسلوبُ اتِّساعِ البلاطة الوسطى) عن سائر بلاطاتِ المسجد، واستخدامُ التغطياتِ الجمالونيَّة والمداخل البارزة والقِباب المقرنَصَة (ذات الحلياتِ المعمارية) التي تُغطِّي مجالَ المحراب بِظُلَّةِ القِبلَةِ، إلى جانب ظاهرةِ تشجير الصحونِ التي تميَّزَتْ بها المساجدُ (الأندلسية والمغربية) على السواء.
وإنَّ أهمَّ ما يُميِّزُ مساجِدَ تلك الفترة على الإطلاقِ (عمارةُ الصوامِع) التي وصلتْ إلى قِمَّةِ تطوُّرِها على يدِ (الموحِّدينَ)؛ حيث أخذتْ (هيئةُ الصَّومَعةِ تُشْبِه البُرْجَ الضَّخْمَ)، ومن الداخلِ (خُطِّطَتِ الصوامعُ المغربية والأندلسية من مجموعةِ حُجراتٍ مُتطابِقَةٍ يلتفُّ حولَها طريقٌ صاعدٌ بِدُونِ دَرَجٍ). ومن الخارجِ (تُغلَّفُ واجهاتُ الصوامِع بالفتَحات المعقودة (المقوَّسة) والزخارفِ الشبكية -أشرطة متقاطعة تكوِّن مناطقَ هندسيةً على شَكْلِ مُعيَّناتٍ-)،
ومن أشهرِ نماذج هذا الطراز (صَومَعةُ جامع الكُتُبِيَّة بمراكش، وصومعةُ جامعِ حسَّان بالرباط، وصومعةُ جامِع القصبة بأشبيليا المعروفة باسم الخيرالدة)، كذلك أَدخلَ الموحِّدونَ بناءَ المدارسِ في المغرب والأندلس في نهاية القرن السادس الهجري- الثاني عشر الميلادي-؛ ولكنَّ المدارسَ هناك كانت وقْفاً على التدريسِ فحسب، ولم تؤثِّرْ عمارتُها على تصميمِ المساجد، واشتهرَت مدينةُ (فاس) في العصر المرينيّ بكثرة ما شُيِّد فيها من المدارسِ التي كانت مخصَّصةً لتدريسِ المذهبِ المالكيِّ، ومِن أشهرِ المدارس المغربية (المدرسة اليَعقوبيَّةُ)، وتُعرفُ بـ(مدرسة الصَّفَّارينَ أو النَّحَّاسينَ (675هـ- 1276م)، ومدرسةُ فاس الجديدةُ المعروفة بـ(مدرسةِ دارِ المخزن) (721هـ- 1320م)، ومدرسةُ الصهريج (722هـ- 1321م)، ومدرسة العطَّارينَ، والمدرسةُ البوعنانية (723هـ- 1323م)، وتميَّزَتِ المدارسُ المغربية بوُضوحِ عناصِرها المعمارية المتمثِّلَة في (بَساطةِ تخطيطِها المعماريِّ) بجانبِ اشتمالِها على العناصِر الأساسيةِ كافّةً والتي تتألَّفُ منها المدرسةُ بشكلٍ عامٍّ؛ مِثل (تخصيصِ إيوانٍ أو قاعةٍ للتدريسِ والصلاةِ، إلى جانبِ حُجُراتٍ لإقامةِ الطُلَّابِ وملاحِقَ مائيَّةٍ) من صهاريجَ ومظاهِرَ وغيرِها.
د. محمد حسان محمد فائز السراج –دكتوراة في تاريخ العمارة الإسلامية – جامعة أريس
المصدر: مجلة الإقتصاد الإسلامي