الاجتهاد: تقريظ السيد الخوئي لكتابه (المحاضرات): وبعد فإن كتاب محاضرات في أصول الفقه الذي ألّفه قرة عيني المعظّم، العلامة المفضال المدقق، الشيخ محمد إسحاق الفياض دامت تأييداته تقريراً لأبحاثنا العالية في علم الأصول، قد تميّز بالدقة والإتقان، وحسن الأسلوب والبيان، كما دلّ على كفائته في العلم، وغزارته في الفضل
ولد الشيخ محمد إسحاق الفياض سنة 1350هـ وقيل 1348هـ في إحدى قرى محافظة (غزني) في وسط أفغانستان، وهو ثاني أبناء والده محمد رضا،وکان والده رحمه الله المتوفى سنة 1989م فلّاحاً بسيطاً يعمل عند بعض المتمولين في القرية من ملّاك الأراضي ليقتات من عرق جبينه في إعاشة عياله، وکان يرى ذلك المزارع المؤمن البسيط في ولده محمد إسحاق من علامات النبوغ والذکاء ما ألزمه أن يوليه اهتماماً ورعاية خاصة، وکأنه يقرأ في ملامح ولده مذ ولادته ما يکون عليه في مستقبل الأيام.
قام والده بإرساله إلى مکتب شيخ القرية يومياً -حيث لا توجد مدارس نظامية في القرية آنذاك- ليتعلم مبادئ القراءة والکتابة والقرآن الكريم، وهو في الخامسة من العمر، وفي فصول الشتاء يحمل الوالد الکريم صغيره على ظهره مغطياً إياه بما يکفي لحمايته من البرد القارص عبر الطرق الوعرة والثلوج الکثيفة، ليوصله إلى مکتب الشيخ صباحاً ويعود به إلى البيت مساءً.
ثم قرر الشيخ محمد إسحاق إکمال دراسته في الحوزات الدينية کما کانت كذلك رغبة والده رحمه الله، فقرأ على شيخ القرية کتاب جامع المقدمات وهو کتاب يشتمل على عدة مختصرات في النحو والصرف والمنطق والأخلاق لعدة مؤلفين.
ثم انتقل الطالب المجد بعد مکتب شيخ القرية إلى قرية (حوت قل) المجاورة وهو ابن الخامسة عشر من العمر لينظم إلى صفوف المدرسة الدينية، وأکمل في تلك المدرسة قراءة کتاب (جامع المقدمات) وکتاب (البهجة المرضية في شرح الألفية) المعروف في الأوساط الدراسية بکتاب السيوطي نسبة إلى مؤلفه جلال الدين السيوطي، وهذا الكتاب في النحو وقواعد اللغة العربية، وبقي الشيخ في هذه المدرسة لعدة سنوات.
وفي تلك الفترة فقد الشيخ والدته رحمها الله حيث وافاها الأجل المحتوم اثر مرض ألم بها، فحزن لفقدها وتألم کثيراً، إلا أن المصاب رغم فداحته لم يثنه عن مواصلة التعلم، بل زاده إصراراً حتى قرر الانتقال من مدرسة القرية إلى مدينة مشهد المقدسة في إيران.
استقر الشيخ محمد إسحاق لسنة واحدة في مشهد المقدسة قرأ خلالها کتاب (حاشية ملا عبدالله)، ومقداراً من کتاب (المطول) عند الأستاذ الشهير العلامة الشيخ محمد حسين الأديب النيشابوري رحمه الله.
الهجرة إلى النجف الأشرف:
هاجر المرجع الديني آية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض إلى النجف الأشرف سنة 1369تقريباً، ومنذ وصوله إلى النجف واستقراره في المدرسة، بدأ بشوق وجد واجتهاد دون کلل أو ملل بإکمال ما تبقى عنده من الکتب التي قرأها في مدرسة القرية أو في حوزة مشهد، فقرأ کتاب (قوانين الأصول) للمحقق القمي وکتاب (حاشية ملا عبد الله)
وأخذ قسماً من کتاب (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) عند آية الله المحقق المرحوم الشيخ ميرزا کاظم التبريزي، وأکمل کتاب (اللمعة) عند آية الله المرحوم السيد أسد الله المدني وآية الله المرحوم الميرزا علي الفلسفي، کما أکمل کتاب (المطول) عند المرحوم العلامة الجليل الحجة الشيخ محمد علي المدرس الأفغاني والذي أصبح الشيخ الفياض صهراً له فيما بعد.
ثم انتقل الطالب المجد إلى دراسة مرحلة السطوح ليتأهل لحضور بحوث الخارج لدى العلماء الکبار، فقرأ کتاب (الکفاية) للشيخ الآخوند الخراساني وکتابي (الرسائل) و (المکاسب) للشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري عند الأستاذ الشهير المرحوم آية الله الشيخ مجتبى اللنکراني،
کما كان في تلك الفترة يتباحث في الکتب التي يدرسها مع بعض زملائه، ويدرّس ما فرغ من تحصيله إلى الطلبة المبتدئين من بعده، کما هو المتعارف في نظام التعليم في الحوزة الدينية في النجف الأشرف، حيث يتمرن الطالب منذ البدء على تعلم نظام التدريس وهو يدرس مرحلة أعلى، فهو تلميذ وأستاذ في وقت واحد، وتسمّى تلك المرحلة في عرف الحوزات الدينية بمرحلة السطوح التي تستغرق حوالي خمس سنوات للطالب المجد والمثابر، والتي انتهى منها الشيخ الفياض بأقل من تلك المدة والتحق بحلقات بحوث کبار العلماء لمرحلة الخارج.
البحث الخارج:
حضر الشيخ الفياض في بحث الفقه لمرجع الطائفة آية الله العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم قدس سره مدة سنة، كما حضر عند الفقيه الكبير آية الله الميرزا محمد باقر الزنجاني قدس سره مدة ستة أشهر في خارج المكاسب.
ولكن عمدة حضوره عند أستاذه الأعظم وشيخه الأفخم زعيم الحوزة العلمية المحقق الكبير آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره، فقد حضر عنده من بحث المكاسب المحرمة من الدورة الثانية وأكمل البيع والخيارات ثم حضر الطهارة والصلاة من العروة الوثقى، أي كان حضوره عنده في الفقه أكثر من عشرين سنة، من سنة 1372هـ إلى 1393هـ تقريباً.
وقد حضر عنده في خارج الأصول من أواخر الاستصحاب من دورته الثالثة أي في سنة 1374 هـ، ثم حضر في الدورة الرابعة الممتدة من سنة 1375هـ إلى 1382هـ وكتب التقرير، ثم حضر في الدورة الخامسة الممتدة من سنة 1382هـ إلى سنة 1389 أو 1390هـ.
وقد اعتاد العلماء الأفاضل في الحوزات العلمية أن يقرروا بحوث الأستاذ بعد الدرس على بعض زملائهم ويکتبونها منظمة بعد التحقيق وإخراج المصادر والمقارنة بين الآراء وأدلتها، ومن ثم عرضها على الأستاذ فإن وافق عليها تطبع وتنشر لتکون دليلاً على قوة البحث وبيان رأي الأستاذ وفضل الطالب، وتلك الکتب المعروفة في أوساط الحوزات العلمية بـ (التقريرات)،
وقد دأب الشيخ الفياض منذ حضوره بحث أستاذه الإمام الخوئي على هذا المنوال، فکان يقرر البحث على بعض الزملاء وواظب على کتابتها يوماً بعد يوم في حلقتي الفقه والأصول، حتى أکمل تقرير دورة كاملة من دورات بحث الأستاذ في علم أصول الفقه ، فکان الکتاب المعروف بـ (المحاضرات).
وقد قرّظه السيد الخوئي بتقريظ بديع أشاد به بمواهب تلميذه الذي كان في الثانية والثلاثين من عمره، وقد ذكر فيه بعد الحمد والصلاة:
(فإني أحمد الله تعالى على ما أولاني به من تربية نفر من ذوي الکفاءة واللياقة حتى بلغ الواحد منهم تلو الآخر درجة راقية من العلم والفضل، وممن وفقت لرعايته وحضر أبحاثي العالية في الفقه والأصول هو قرة عيني العلامة المدقق الفاضل الشيخ محمد إسحاق الفياض دامت تأييداته، وقد عرض علي الجزء الأول من کتابه (المحاضرات في أصول الفقه) الذي کتبه تقريراً لأبحاثي بأسلوب بليغ وإلمام جدير بالإشادة والإعجاب)
وقال في تقريظ الجزء الثاني:
(وبعد فإن كتاب محاضرات في أصول الفقه الذي ألّفه قرة عيني المعظّم، العلامة المفضال المدقق، الشيخ محمد إسحاق الفياض دامت تأييداته تقريراً لأبحاثنا العالية في علم الأصول، قد تميّز بالدقة والإتقان، وحسن الأسلوب والبيان، كما دلّ على كفائته في العلم، وغزارته في الفضل)
وقد كانت علاقة الشيخ الفياض بأستاذه الخوئي علاقة مميزة جداً، حيث لازمه خارج الدرس، وصار من أعضاء جلسة الاستفتاء الدائمة لمدة خمسة وعشرين سنة إلى جانب كل من آية الله السيد علي البهشتي وآية الله السيد مرتضى الخلخالي قدس سرهما، فصار من أكثر الخبراء بمبانيه وفتاواه ومرجعاً يُركن إليه في ذلك، كما أن كتاب (مباني تكملة المنهاج) هو من كتابة الشيخ الفياض، حيث كان تعقد جلسة خاصة بالسيد الخوئي لم يكن يحضرها سوى الشيخ الفياض وآية الله السيد البهشتي، وتطرح فيها مسائل تكملة المنهاج وتتم مداولة الدليل على المسألة والمناقشة فيه لتحقيق تماميته ثم يقوم الشيخ بالكتابة ويعرض المكتوب على السيد الخوئي لإمضائه ومراجعته.
تدريسه:
کان الشيخ الفياض واحداً من الأساتذة المبرزين المشهورين في الحوزة حيث يلقي دروسه وبحوثه على جمع کبير من الأفاضل من طلاب العلوم الدينية، وكان يدرّس الکتب المعهودة لمستوى السطوح العليا وهي الرسائل والکفاية والمکاسب في حلقات متعددة في المسجد الهندي المعروف، کما کان أستاذ هذه المرحلة لأکثر من عشر سنوات في جامعة النجف الدينية التي أسسها المرحوم السيد محمد کلانتر، ونلاحظ أن الشيخ الفياض قد اهتم بتدريس هذه الكتب في دورات متعددة، إذ المعروف أن من أسباب النضج العلمي تدريس كتب السطح العالي مرات عديدة.
ومما ينصح به الشيخُ الفياض أساتذة السطوح العليا بل وطلابها هو مراجعة تقريرات الأعلام كتقريري بحث المحقق النائيني أجود التقريرات وفوائد الأصول وتقريرات السيد الخوئي، لأنها تساعد على فهم مطالب الرسائل والكفاية، وكذا الكلام في الفقه، فتراجع تقريرات بحث السيد الخوئي وغيره في بحث المكاسب.
ثم بدأ الشيخ الفياض بإلقاء بحوث الخارج عام 1398هـ في مدرسة السيد اليزدي الصغرى الواقعة في محلة العمارة، وعند افتتاح مدرسة دار العلم المعروفة التي أنشأها الإمام الخوئي عام 1400هـ انتقل مجلس بحثه إلى هناك حتى تاريخ هدم المدرسة، فانتقل مجلس الدرس إلى المسجد الهندي الکبير في فترة قليلة، ومن ثم إلى مدرسة اليزدي، وبعد سقوط النظام انتقل الدرس إلى بيته ويحضره جمع کبير من الطلبة وفيهم الكثير من الأفاضل.
وقد درّس الشيخ الفياض دورتين كاملتين في علم الأصول كل واحدة منهما استغرقت 15 سنة انتهت الثانية منهما في أواخر سنة 1428هـ وشرع في الثالثة في بداية 1429هـ، وقد وصل فيها الآن – 1436هـ – إلى مباحث الظن.
ودرّس الشيخ من الفقه كتاب الاجتهاد والتقليد والطهارة، وشرع في حوالي سنة 1415هـ في كتاب الصلاة، وانتهى منه في 10 جمادى الأولى سنة 1432هـ، وبعده شرع في كتاب الصوم والاعتكاف وانتهى منه في 4 ذي القعدة 1434هـ، وفي نفس اليوم شرع في كتاب الزكاة، ولا يزال مستمراً.
يقول الشيخ علي آل محسن في مقال كتبه عنه:
(كان درس شيخنا الأستاذ ولا سيما في الأصول الدرس الذي استقطب كثيراً من فضلاء طلبة العلم في الفترة التي حضرتها في النجف الأشرف، ولعلّي لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن درسه في علم الأصول كان أهم الدروس في وقته؛ لأن أكثر مراجع النجف إما لم تكن لهم بحوث في الأصول، أو كانت دروسهم لا تقاس بدرسه، وقد امتازت بحوث الشيخ الأستاذ في الفقه والأصول بالعمق، والترتيب، وحسن البيان، وقوة الاستدلال، كما يشهد بذلك كل من حضر بحثه الشريف)
من تلامذته: الشيخ محمد جواد المهدوي،الشيخ محمد هاشم الصالحي المدرّس، الشيخ مهدي المصلي التاروتي، الشيخ علي آل محسن، الشيخ محمد حسين الأنصاري، السيد محمد البكاء، الشيخ علي الربيعي، السيد عدنان العلوي، الشيخ عبد الأمير الخرس الأحسائي، الشيخ خالد السويعدي البغدادي، السيد أبو الحسن حميد المقدّس الغريفي، السيد محمود المقدّس الغريفي، الشيخ علاء أبو طابوق، الشيخ أحمد الطفيلي، الشيخ محمد علي محراب علي، السيد محمد صالح بن السيد مهدي الخرسان، السيد عباس بن السيد رضي المرعشي، الشيخ زامل الشويخات السيهاتي، السيد حسن والسيد حسين ابنا السيد محمد رضا السيستاني، الشيخ محمد جواد السعيدي، الشيخ غلام حسين برهيزكَاري.
مؤلفاته الشيخ محمد إسحاق الفياض
1-محاضرات في أصول الفقه، في عشر مجلدات ، طبع خمسة منها.
2-الأراضي، ذكر فيه أحكام الأراضي في الشريعة الإسلامية بصورة استدلالية.
3-النظرة الخاطفة في الاجتهاد
4-تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى، طبع منها عشرة أجزاء.
5-أحکام البنوك، ذكر فيه حلولاً إسلامية للتعاملات البنكية المعروفة.
6-منهاج الصالحين، في ثلاثة مجلدات.
7-مناسك الحج.
8-المباحث الأصولية، في 15 مجلدا، طبع منه 14.
9-موقع المراة في النظام السياسي الاسلامي.
10-الاستفتاءات الشرعية في 3 مجلدات.
11-مائة سؤال وسؤال حول الکتابة والکتاب والمکتبات.
12-منهج الحکومة الاسلامية.
13-المسائل المستحدثة.
14-المسائل الطبية.
15-المختصر في الحياة العلمية لزعيم الحوزة السيد الخوئي.
ملاحظة: كثير مما ورد في الترجمة مستل مما كتبه الشهيد السيد عبد المجيد الخوئي.
المصدر: موقع الشيخ علي آل محسن
لمحة خاطفة في حياة المرجع = خطأ
لمحة خاطفة عن حياة المرجع = صحيح
شكرا لكم على التنبيه