المهاجر

قراءة مستقبلية لإشكاليّات فقهيّة.. الشيخ جعفر المهاجر

يطرح الشيخ جعفر المهاجر وهو من تلامذة مدرسة السيد الخوئي و الشهيد الصدر، في هذا البحت تحليلات حول أربع القضايا الملحّة والجدير بالاهتمام وهي: الأداء السياسي للأمّة، الفنون، المرأة، المصرف،ويرى أن على الفقة و الفقيه أن يُبادر إلى الاجتهاد فيها بما يُحقّق المصلحة والقصد الذي رمى إليه الشّارع فيما شرعه. أو أن يُنتج صياغات مشروعة لها. 

الاجتهاد: ثمّة ثلاث اعتبارات أساسيّة فرضت هذا البحث على كاتبه:

إيقاع الحياة المتسارع من حولنا، وما يفرضه على أي نظامٍ فكري – أخلاقيّ أن يواكبه بتشريعات وسلوكيّات مناسبة. بدونها ربّما سيجد نفسه في المستقبل معزولاً حتى عن قاعدته الإنسانيّة.

ـ التّحدّي الحضاري الذي يستقرّ الإسلام، بوصفه عقيدة وشريعة لأهله، في القلب منه. حيث تكون خيارات قادته ونخبتة المفكّرة محصورة في خيارين لا ثالث لهما: فإمّا أن تستجيب له الاستجابة الصحيّة، بأن تبني نمط تقدّمها الخاصّ المُنتمي إلى هويتها، مفهوماً وأسلوب حياة وإدارة وغاية للسعي البشري.
وإمّا أن تتنازل عن المُهمّة، تاركةً للتيّارات المنهالة المُسلّطة عليها من خارجه أن تقرر عنها ما لن يكون بصالحها، بل بصالح الخارج ويناسب سياسته الرّامية إلى التسلّط والنهب.

حيث لن تكون حصة الإنسان المُسلم من مسيرة التقدّم العام إلا صورة مُستعارة مُشوّهة عن أصلها. سيتشبّث به صانعه بالتأكيد، ولن يمنحنا إياه، ويكون في يده دائماً أن يستعيدها أو أن يحبطها ساعة يشاء. ولنا في تاريخنا القريب والأبعد قليلاً أمثلة صريحة على ذلك.
ـ قيام الجمهورية الإسلاميّة في إيران. ليس فقط بوصفها نظاماً سياسيّاً متحرّراً من الإملاءات الخارجيّة. بل أيضاً، وربما بالدّرجة الأولى، مشروع قيادة وتسيير مجتمع في كلّ وجوه علاقات أبنائه وكامل أعماله ونشاطاته.

ومن الواضح للقارئ الحصيف، أنّ فَصلَ هذه الاعتبارات، على هذا النحو، هو فصل تحليليّ، اقتضته طبيعة البحث، وليس فصلاً واقعياً. لأنها في الحقيقة وجوه مُتقاطعة فيما بينها. فمثلاً، إن قيام الجمهورية الإسلامية هو في الوقت نفسه استجابة صحيّة للتّحدّي الحضاري، وهي أيضاً في قلب إيقاع الحياة المُتسارع، و. . . . هكذا.
ان المغزی الکبیر الذي نستفيده من دراسة الفقه الإمامي، هو أنّ عوامل تطوّر الفقه الإمامي، خلافاً لفقه المذاهب الإسلاميّة الأخرى، كامنةً في أصل تكوينه. بحيث أنّها تكون جاهزة للعمل ما أن تستتمّ مُقتضياتها وموجباتها.

ولقد لمسنا ذلك في كتابنا (نشأة الفقه الإمامي ومدارسه)، الذي سيصدر قريباً إن شاء الله، في مدرسة بغداد، التي نقلت الفقه الإمامي من بيئةٍ متجانسة إلي بيئة حواريّة. وفي مدرستي الحلّة وجبل عامل، اللتين وضعتاه في قلب تحدّ سياسيّ. وكانت استجابتُه في الحالات الثلاث، على مستوى الفكر الفقهي، صحّيّةٌ وفي الصّميم.

هذا يدعونا إلى العودة بقراءتنا المُستقبلة إلى الاعتبار الثالث:

قيام الجمهورية الإسلامية. ذلك الحدّث السّاطع، الذي أخرج الفقه الإمامي من مُستوى التكليف الشّخصي، إلى مستوى تكليف الدّولة تجاه المواطنين، وبالمقابل تكليف المواطنين تجاه الدّولة. ومن مستوى الاجتهاد الفردي وراء الأبواب المُغلقة، وبمعونة النّصوص المسطورة في الكتب، إلى مستوی (الاجتهاد) الجماعي العلني والمؤسّسي الجاري في مؤسّساتٍ دستوريّة، معنيّة بمعالجة مُشكلات من كلّ ما يخطر بالبال. كل ذلك يعمل في ظلّ موقع شرعيّ قياديّ منتخب، خاضع للمراقبة وللمحاسبة عند الاقتضاء.
السؤال: إنّه إن يكن موجبٌ سياسيّ، من الحجم المحليّ الذي طرحته بيئتا الحلّة وجبل عامل، قد أدخل على الفقه الإمامي مُتغيراً أساسيّاً، نال وظيفة الفقه والفقيه، فماذا عن مُتغيّر جذري كبير عميق الغور من حجم ومعنى سابقة الجمهوريّة الإسلاميّة؟

كيف ستكون تفاعلاته داخل الحركة الفكريّة الفقاهتيّة، وماذا سيكون تأثيره على تطوّر الفقه الإمامي ؟
السوال كبير، ثم هو من الغيب المستور. ولكنّه يبعث الأمل والتأمّل على الأقل. ويغرينا بطرح تحليلات لا يخلو بعضها من تساؤلاتٍ وإشكاليّات، تدور على أربع قضايا نراها ملحّة وحَريّةً بالاهتمام: الأداء السياسي للأمّة، الفنون، المرأة، المصرف، سنتناولها واحدة واحدة بالترتيب:

1 ــ إنتاج السلطة والأداء السياسي للأمّة

الإمام الخميني، رضوان الله عليه، بعد عودته المظفّرة من المنفى وإعلان الجمهوريّة، أجاب عن سؤال طرح عليه عن النّظام السياسي الذي يراه بديلاً عن النظام المخلوع، بأن قال: “اسألوا الناس!”
الجواب فاجأ الكثيرين وأدهشهم حتى داخل إيران. ذلك أنّ الإمام من كبار المُنظّرين لولاية الفقيه ولاية عامّة، فكان من المُنتظر والمُتوقّع أن تكون هذه فرصته التاريخيّة للقبض على السلطة بحكم ولايته.

أمّا في الدّوائر الغربيّة، التي كانت تُراقب ما يجري بكمال الدقّة، فكانت من جانبها تنتظر أن يكون شأن الإمام شأن قادة الثورات في الشرق. فيستبدّ بالحُكم، وبذلك يفقد الحصانة التي تمنحها القاعدةُ المُشاركةُ في العمليّة السياسيّة لقيادتها. وتلك هي فرصة تلك الدّوائر، التي تنتظرها وتمرّست باستغلالها طويلا.

تعمدُ إلى تطويق النظام الجديد الفاقد الحصانة، ودفعه باتجاه السّقوط في شراكها، بحيث لا يملك أدنى فرصة للخلاص منها.

والحقيقة التي لم يُدركها كل الذين أساءوا فهم الأُطروحة، أنّ ولاية الفقيّه لا تعني الاستبداد بالسلطة، ولا عزل القاعدة الشعبيّة عن حقّها الطبيعي بوصفها مصدر السلطات. بل إنّ من وظائف إمام الأصل أو نائبه العامّ إيجاد الشّروط التي تقود إلى مُمارسة الأمّة حقّها الطبيعي بوصفها المصدر العملي للسّلطة.

فإن هي نجحت في اختيار القيادة الأهلة الصّالحة حصدت النتيجة بسطاً للعدل وتوفيراً للرّفاه وللأمن، وإن فشلت تكون هي المسؤولة عن فشلها. ولنا في ذلك بحثّ مستفيض، مبنيٌّ على قراءة سلوك الإمام علي(ع)، بعد أن تنكرت الأمّة لبيعة يوم الغدير. ليس هذا مقام البسطه.

المهمّ، و بصرف النّظر عن النّقاش الفقهي على أطروحة ولاية الفقيه، أنّه انطلاقاً من ذلك الموقف التاريخي، جرى تنظيم أول استفتاء عامّ على النّظام السياسي الذي يرضى” الناس” أن يكون أداءهم السياسي في ظلّه، أجاب عنه الشعب الإيرانيّ بفرسه وعربه وكُرده وأتراكه وتركمانه و بلوجه، بشیعته و سنّته، وربما بمسیحییه وزرادشتییّه، باعلان اختیارهم الإسلام أصلاً للنظام. ليس أي (إسلام )، بل هذا الإسلام الذي أثبت أهليتّه وجدارته بانجازاته السياسيّة.

هذه نتيجة مذهلة لا يُمكن أن يخرج بمثلها استفتاءً عام في أي بلد إسلامي آخر. وهي شهادة ضمنية بأنّ كلّ أولئك المستفتون، على ما بينهم من فروق عرقيّة ودينيّة، يثقون بالإسلام أميناً عليهم حين يكون ممثّله إنسان في مثل سموّ الإمام وأصالة النظام الفكري الأخلاقي الذي أنجبه. تلته سلسلة من الاستفتاءات المُماثلة عند كلّ منعطف سياسي. وبهذه الوسيلة بنت إيران صيغتها الخاصّة الفريدة لحكم الشعب نفسه بنفسه.

هنا نصل إلى موضع تساول لا نرى بدّاً منه: إن التجربة الإيرانيّة في هذا النطاق لها خصوصيّتها، المبنيّة على: خبرة رجالاتها التاريخيّة في العلاقة المتينة بين هويّة بلدهم وبين عقيدة الأكثريّة السّاحقة للناس. ذلك أنّ إيران هي عبارة عن تجمع سياسيّ لعدد من القوميّات، شدّت عراها عقيدة جامعة. أثبت الزمان قرناً بعد قرن قوّتها واستعصاءها على كل عوامل الفرقة والتفريق . أي بالتالي وجود حالة وعي عامّة بان التّخلي عنها هي مغامرة غير محمودة العواقب.

— التزام شعبها المُطلق بالمنظومة التشريعيّة والأخلاقيّة الإسلاميّة . بحيث تبقى هذه مُحصّنة وخارج كل مساءلة. هذه أيضاً ممّا لم يفهمه الغرب، أو بالأحرى ممّا يتظاهر بأنّه لم يفهمه. ومن هنا فإنّه ، مع اعترافه بصدق المُشاركة العامّة للشعب الإيراني بالأداء السياسي العامّ، ما يزال يجأر بالشكوى من نقص أو افتئات ما يُسمّيه حقوق الإنسان، بالنظر لمفهومه هو بهذا الشأن. ومن ذلك، مثلاً، تحريم الخمور وضروب الفحشاء والشذوذ الجنسي، وإنزال العقاب بمرتكبيهما، وما إلى ذلك.

هذا التحليل يسوقنا إلى القول، إنّ مواصفات التجربة الإيرانيّة السياسيّة التاريخيّة محصورة بظرفها وخصوصيّته، ولا يمكن أن تعمل في ظرف مختلف. الأمر الذي يطرح تساولاً برسم البحث الفقهي:
ماذا عن مجتمعاتٍ إسلاميّة مختلفة؟ وكيف يمكن أن تشارك في العمليّة السياسية، من موقعها بوصفها جماعة إسلاميّة مُلتزمة، تشاركها المواطنة جماعة أو جماعات غير إسلاميّة ؟

2 ـ الفنون

الموقف الشرعي من الفنون: الموسيقى، الغناء . . الخ. ليس يخلو من التباس. ينبغي العمل بالوسائل المناسبة على التحرّر منه.
الفتوى المشهورة عند أكثر الفقهاء والمعمول بها من المؤمنين هي الحظر والحُرمة : حرمة الأداء ، وحرمة الاستماع، وحرمة البثّ والإذاعة ، وحرمة اقتناء أدواتها والتعامل بها.
وهم طبعاً لهم أدلّتهم على ما أفتوا به. ولا مراء في ذلك. جانب ممّا سمّيناه التباس نشأ بعد وبسبب قيام الجمهورية الإسلامية.

فعلى الأثر رأينا إعلامها المسموع والمنظور، فضلاً عن إعلام الجهات المحليّة المُتماهية معها، يبثّ عن غير سابقة من مثلها أناشيد مصحوبة بالموسيقى الصّادرة من أحدث أدواتها دون أيّ إشكال. ولي في ذلك ذكرى طريفة . سأرويها لما فيها من مغزى :
ذلك أنّني وغیري دُعينا إلى احتفالٍ في أحد مساجد بعلبك . وعند دخولنا المسجد رأينا فرقة موسيقيّة بكامل رجالها وأدواتها تتصدّر المسجد بجوار محرابه، استعداداً للمشاركة في إحياء المناسبة بأناشيدها وموسيقاها. وصادف جلوسي بجنب صديقي هو أحد المُثقّفين المعروفين. الذي ما أن استقرّ بنا المقام حتى التفت إليّ ليقول، مُشيراً إلى الفرقة: ” هل كان يخطر ببالك أنّك في يوم من الأيام ستدخل بعمّتك مسجداً لتجد أمامك هذا المنظر، بديلاً عن الرّاكعين والسّاجدين؟!

في الجواب قلتُ لصاحبي: “كلاً بالتأكيد. ولكن الظّرف هو الذي تغيّر. لقد بتنا الأن بحاجة ماسّة إلى أدوات خطاب مُختلفة لجمهورنا. والنشيد بما يصحبه من موسيقى، وما يطرحه من تحريض وتعبئة، هو جزء لا يتجزأ من الخطاب العتيد”. إذن، فهذا النّمط من الموسيقى والغناء، حتى إن سمّيناه نشيداً، هو من المباحات. بل إن نحن لاحظنا وظيفته وتأثيره قد يكون أكثر من مباح. فقهاونا، إذ يُحاولون تعريف الغناء المحرّم لمقلّديهم، لا يجدون ما يميّز بين مُحرّمه ومباحه إلا أن يقولوا أن المُحرّم منه هو” المتعارف عند أهل الفسوق. وهو تعريفت قادمٌ من نصوص الباب الأصليّة فيما يبدو.

التي تتوفّر الدّلائل، لمن يُحسن التأمّل، على أنّها دارت على الغناء بوصفه جزءاً من الحياة الفاسقة، وليس بوصفه فناً بريئاً.
وإذن، فالغناء والموسيقى الوظيفيين ، هما من المباحات وربما أكثر، طبقاً للجدوى والنفع المترتّب على أدائهما. ولكنهما محرّمتان إن كانتا، في بيئتهما وفي اللغة المغنّاة ، تترافقان أو تنطويان على عمل أو مضمون غير أخلاقي .
هذا كلام واضح وسديد ولا غبار عليه.

ولكن، ماذا بشأن هما حيث تكونان فناً سامياً له مدارسه وأصوله وقواعده، كما هو عند حضاراتٍ كثيرةٍ أخرى. أو حيث تكونان لمُجرّد الاستمتاع البریء؟
أعتقد أن هذه المسألة يجب أن تكون برسم البحث الجادّ المُستقبلي في الوسط الفقهي. مع العلم أنّ هناك اجتهادات فرديّة بهذا الشأن، ولكنها لم تصل بعد إلى مستوى أن تكوّن رأياً عاماً عليها بين المؤمنين.

كما أنّني أعتقد جازماً، أن الاهتمام بالبحث الجادّ عليها هو ذو صفةٍ ملحّة بنحو خاص. لأنّ التقصير في رعاية التراث الفنّي الذي لا يخلو منه قطر من الأقطار الإسلاميّة ، والتقصير في تشجيع الإبداعات المحليّة وأربابها في هذا النطاق، سيفتح الباب مشرَعاً لاحتراقٍ ثقافيّ أجنبيّ في هذا الباب، يستغلّ حالة الفراغ ليملأها بفنّه. وبذلك يزجّ في مجتمعاتنا مؤثّرات غير مرغوبة، بل في غاية الخطورة على عقول و وجدان وثقافة شبابنا.
الكلام نفسه يمكن أن نسحبه، على مستوى التحليل والبحث والنتيجة، إلى الرسم والنحت.

3 ـ المراة

مسألة المرأة المُسلمة وموقعها في الأسرة والمجتمع الإسلاميين إجمالاً هي من التحدّيات المستقبليّة. يتوقف على حسن معالجتها، على المستوي الفقهي والأخلاقي والعملاني، أهمّ النتائج على صعيد بناء التقدّم أو تثبيت التخلف.
ولقد سال حبرٌ كثيرٌ في الدّفاع عمّا يرى فيه كاتبون إسلاميون دفاعاً عمّا يفهمونه من نصوص وأحكام وسلوكيّات إسلاميّة معمول بها في هذا النطاق. أكثرها خطابيّات تُوجّه عيناً عوراء إلى ما هو واقع، بعضه مُرعب لمن يتفكّر في معناه وماله. ومثالاً على ذلك ساسوق مثالاً واحداً، هو ما يُعنون في الكُتب الفقهيّة بحرمة خروج الزّوجة من بيت زوجها إلا بادنه.

إن حالة الزوجية في شرعنا هي موجب تعاقديّ ينشأ بعقد الزّواج. أي أنّ إرادة الطرفين الحرّة، المُعبّر عنها صراحة من الطرفين، هي وحدها التي صنعته. وهو ككُلّ عقد يمكن أن يتضمّن شروطاً خاصة لكلّ من طرفيه. وحسناً جدّاً فعلت الجمهورية الإسلاميّة، حيث فرضت على الفقيه المُشرف على إجراءات العقد، أن يطلع الطرفين على ما يمكن لكل منهما أن يضمّن صيغة العقد من شروط، ستكون ملزمة لهما في حياتهما الزّوجية المُستقبلة. وأي أنّه بالتالي ليس عقد استخدام يملك أحد طرفيه بمقتضاه قوّة عمل الأخر، وينتزع منه جزءً من حريته في استخدام الوقت بما يتنافى مع موجب العقد.

هذا بنفسه إنجاز إنساني للشّرع الإسلاميّ تاريخيّ وخارق، لم يلحق به غير المسلمين إلا بعد قرون طويلة. أي إلى حين ابتداع الحضارة الغربيّة الزّواج المدني، على أنقاض الزواج الكهنوتي.
بعد هذا العرض الواضح نسأل : كيف انتهت هذه الصيغة الجميلة إلى شرطٍ قهريّ لم يُنصّ عليه في متن العقد، هو حُرمة خروج الزّوجة من بيت الزّوجيّة إلا بإذن الزّوج ؟ أو بتعبير آخر : ما هي الفلسفة أو الفكرة وراء هذا الحكم الاستلابي لجانبٍ صغير ولكنّه أساسي من حريّة الزّوجة ؟

من الفقهاء من يقول جواباً على السوال: إن عقد الزوجية يمنح الزوج حُرّيّة مُطلقة في الاستمتاع الجنسي بزوجته. وخروجها من بيت الزوجية ساعة تشاء يسلبه، وإن مُوقّتاً، هذا الحق.
الجواب يفترض أن حقّ الاستمتاع محصور بالزوج فقط. وأن لا حقّ مُماثل للزوجة المسكينة ، وهو خُلف بالتأكيد “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” (البقرة / 228) . فلنتصوّر بناءً على تلك الفلسفة أو الفكرة أنّها، مثلاً، طالبت بحقّها المُقابل بالاستمتاع الدّائم ، فهل سنُرتّب على ذلك حُرمة خروج زوجها إلا باذنها ؟ هذه صورة ساخرة، نعم ! ، ولكنّني مع ذلك أوردتُها لبيان مدى بؤس هذا النّمط من التفكير .

كما يفترض أن الزوج الفحل هو في حالة شَبَقٍ دائم ، وأنّ وظيفة الشّرع والشّارع ليست إلا تامين جهوزيّة زوجته آناء الليل وأطراف النهار لتلبية رغباته المُلحّة. حتى لو أدّى ذلك إلى تركها مكرهة على أن تكون قعيدة البيت دائماً، في حالة انتظار لا تنتهي.
هذا تفكير أقلٌّ ما يقال فيه أنه تفكيرٌ بائسٌ أحاديً . وكانّ صاحبه لم يتل كتاب الله سبحانه ، وما علّقه على كرامة الإنسان بوصفه إنساناً، بصرف النّظر عن كونه ذكراً أو أنثى ، وأيضاً على ما علّقه على حرّياته الأساسيّة. وخصوصاً على فكرة القسط السّامية النبيلة، التي تعني، فيما تعنيه، أنّه ما من حقّ إلا في مُقابله واجب ، وما من واجب إلا في مُقابله حقّ.

وهي الفكرة التي لا ينفلكّ كتاب الله عن التذكير بها. كما أنّها من المعالم الأساسيّة والمُميّزة في فكره الحقوقي.
وكانّه أيضاً لم يقف متدبّراً على قوله تعالى : ” ومن أياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة ” (الروم/21) ، بما فيها من سمّوّ ورقّة وعمق. بحيث لم ير إلا الجانب الجسدي الشّهواني منها.

هذه الفتوى، التي اخترتُها عامداً لما فيها من بؤس واضح ، هي مُجرد أنموذج له أمثال لا تقلّ بوساً فيما بين أيدي الناس من فقه المرأة .أعتقد جازماً ایضاً أنّها بمجموعها يجب أن تكون برسم البحث وإعادة النظر، ابتغاء إنتاج فقه يُساهم حقاً في رسم معالم التّقدّم الآتي إن شاء الله.

4 ـ المصرف

المصارف، أو ما يُسمّى أيضاً بيوت المال، باتت اليوم من المؤسّسات التي لا يُمكن لأي دولة أو مؤسّسة إنتاجيّة أو تجاريّة أن تعمل بمعزل عنها. ذلك بسبب تقارب العالم، ونشاط الحركة التجاريّة العالق بين أطرافه مهما تباعدت. الأمر الذي اقتضى مؤسّسات من وظائفها تنظيم تبادل الأموال دون حملها نقداً، بالنحو الذي يؤدّي ويضمن غرض ومصلحة الطرفين من العمل. المسألة طبعاً ليست كلها بهذه البساطة أو البراءة. ولكن هذا الذي قلناه عليها يكفي لبيان ما ينبغي بيانه على سبيل المقدّمة لغرض إشكاليّة الفقرة.

مثل هذه المؤسّسات كان موجوداً في تاريخنا للغرض نفسه، أو لبعضه فيما يناسب احتياجات الناس البسيطة نسبيّاً في ذلك الأوان، وذلك بشخص الصيّرفي . الذي كان من مهمّاته نقل الأموال بواسطة أوامر دفع من صيرفيّ إلى أخر، كانت تسمّي باسم فارسي الأصل (سفتجه) ، المُعرّبة من الفارسيّة التي بالباء المثلثة بدلأ عن الفاء . لأن هذا الحرف لا وجود له في الألفباء العربية . ما يُشير إلى أصلها في الحضارة الفارسيّة قبل أن يستنسخها المسلمون. وكانت الحركات السياسيّة، خصوصاً المعارضة منها، تستفيد من خدمات أولئك الصيارفة في تحريك الأموال خفية عن السلطة. وقد عرضنا لمثلها بخدمة الحركة الشيعية السرّيّة الواسعة في الجانب المالي منها في كتابنا ( التاريخ السّرّي للإمامة ) .

وطبعاً كان أرباب تلك المؤسّسات الصيرفيّة، كما هم اليوم، يتقاضون عُمولات في مُقابل ما يُقدّمون من خدمات .
إذن ، وما دامت المسألة بهذه المثابة من البساطة والضرورة ، فما هي المُشكلة التي تدعونا الأن إلى اعتبارها من المُشكلات التي ينبغي للفقه والفقيه المُستقبلي أن يُعالجها؟

الحقيقة أن المُشكلة كامنة في التعارض بين الضّرورة من جهة، وبين الفائدة الرّبويّة التي يتقاضاها المصرف من عُملائه أو يدفعها لهم ، في سياق تحريك الكتلة الماليّة. بحيث يُعطي القليل ويأخذ الكثير أثناء التحريك صاعداً وهابطا ليستفيد من الفرق بين الحالتين. ومن المعلوم أن الشّريعة الإسلاميّة تُحرّم كافة أشكال الرّبا ، حتى الخفيّ منها، تحريماً قاطعاً لا استثناء فيه ، إلا حيث يكون بين الأب وابنه . ومن هنا نعرف أنه ما من إشكال فيما تتقاضاه تلك المؤسّسات من عمولات في مُقابل ماتقدّمه من خدمات، لأنّها في مُقابل عملٍ مشروع.

شرط أن تكون العمولات معلومة القيمة سلفاً عند الطرفين. ومن المعلوم أنّ هذا الشّرط من الشّروط العامّة في كل عقد .
المُشكلة كانت موضع عناية خاصّة من أستاذنا الشهيد السيّد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه. وفي هذا السّبيل صنّف كتابه الشّهير (البنك اللاربوي في الإسلام ) ، وفيه تقبّل من حيث المبدأ فكرة ” البنك “. ولكنه اقترح اليّات تُحرّره من السقوط في غائلة الرّبا.
ما نلاحظه أنّ الأعمال الجادّة لفقهاء إماميّة في هذا السّبیل قد توقّفت من بعده بمقدار ما نعرف. في حين تابع فقهاء من مذاهب أخرى أبحاثهم عليها. بنيت عليها عدّة مؤسّسات مصرفيّة هي قيد العمل الأن. بعضها اكتسبت موقعاً عالميّاً. لست في الموقع الذي يؤهلني للحكم على أصالتها وصدّقها. ولكن ما سجّلته وتُسجّله من نجاحاتٍ عمليّة أمرّ يستحق التنويه .

فهذه موضوعات أربعة، نرى أنّ على الفقه والفقيه المستقبليّ أن يُبادر إلى الاجتهاد فيها بما يُحقّق المصلحة والقصد الذي رمى إليه الشّارع فيما شرعه. أو أن يُنتج صياغات مشروعة لها. واضعاً نصب عینیه أنّنا نعیش في عالم متقارب متواصل. بحیث أن جمهورنا بات في موقع يسمح له بأن يُقارن بين ماعندنا وبين ما عند الأخر المُختلف عنا حضاريّاً وثقافيّاً. وأن يحكم على التشريعات المعمول بها عندنا من خلال المُقارنة.

وبحيث أن الأخر المختلف لن يوفر فرصة لتوجيه النقد القاسي لنا عند أدنى مفارقة، بوصفه جزءً من الحرب المعنويّة (الناعمة) التي يشنّها علينا، يكون لها فعل التّحريض على ذاتنا وذاتيّتنا عند طليعتنا المتطلّعة للتقدّم والحرّية.
وقبل هذا وذاك أن يكون هاجس الفقيه الأساسي قضيّة بناء التقدّم الذاتوي، الذي لن يتمّ إلا برفع كل المعوّقات من الطريق الشّاق والطويل الذي على مُجتمعاتنا أن تسلكه. ومنها هاتيك الموضوعات .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky