الاجتهاد

في حقيقة الاجتهاد .. الأصول والضوابط / د. أحمد السلطان

الاجتهاد: في حقيقة الاجتهاد: الاجتهاد ضرورة تشريعية، تقتضيه المستجدّات، وتوجّهه كثرة الحوادث والنوازل. وهذا ما يجعل الخطاب الشرعي مستمراً باستمرار الحياة البشرية… والاجتهاد في الإسلام يتأسّس على مجموعة من الضوابط والشروط، كلها مؤصلة في كتب علم أصول الفقه.

قد عبر أصول الفقه عن أهمّ المشاغل التشريعية التي واجهت الحضارة الإسلاميّة في صيرورتها التاريخية وتطورها الحضاري. ومن هذه المشاغل التي استأثرت بعناية علماء الأصول والفقه «تناهي النص الشرعي دون تناهي وقائع البشر».

ولحلّ هذا الإشكال التشريعي دعا علماء أصول الفقه إلى استثمار الخطاب عن طريق الاجتهاد؛ وذلك بإرجاع الوقائع والنوازل غير المنصوص عليها وإلحاقها بأصولها، عن طريق العلل القياسية، والكلّيات المصلحية، والمقاصدية…

الاجتهاد: حقيقته، ضوابطه، أنواعه، مراتبه

فمن أبرز خصائص الشريعة الإسلامية أنها شريعة حية ومرنة، بمقدورها الاستجابة لكلّ جديد، والتفاعل مع كل حديث. فقد استطاعت أن تستجيب لمشاكل الماضي، وهي الآن قادرة على الاستجابة لحاجيات الحاضر. وهذا بفضل الاجتهاد، الذي هو رمزٌ خلودها وبقاء أحكامها، واستمرار تشريعاتها باستمرار الحياة البشرية.

فالاجتهاد من ألزم الأمور التي تحتاجها الأمة الإسلامية في العصر الراهن. والذي يجعله من ألزم الأمور هو المستجدّات التي يفرزها الواقع المعاش، والتي تتطلب أحكاما شرعية مناسبة لكل واقعة.

فالإسلام يدعو إلى الاجتهاد والتجديد، ويقاوم الجمود والتقليد، ويؤمن بمواكبة التطوّر ومواصلة التقدّم. والشريعة الإسلامية لا تضيق بالجديد، ولا تعجز عن إيجاد حلّ للمشاكل الطارئة.

ومن ثم فالاجتهاد ضرورة تشريعية، تقتضيه المستجدّات، وتوجّهه كثرة الحوادث والنوازل. وهذا ما يجعل الخطاب الشرعي مستمراً باستمرار الحياة البشرية… والاجتهاد في الإسلام يتأسّس على مجموعة من الضوابط والشروط، كلها مؤصلة في كتب علم أصول الفقه. ومن ذلك أن لكل حادثة حكماً شرعياً مستمداً من الدليل، سواءٌ أكان هذا الدليل مصرَّحاً به في الكتاب والسنّة أم مستنبطاً من النصّ، مثل: القياس، والاستصلاح، والمقاصد…

قال الإمام الشافعي(204هـ) في الرسالة: «كل ما نزل بمسلمٍ ففيه حكم لازم»([1]). فطريق طلب الحكم الشرعي للنوازل والأقضية هو النصّ الشرعي الصريح. لكنْ إذا غاب النص الشرعي الصريح فإنّ المقتضى المنهجي يلزم المجتهد المصير إلى الاجتهاد، بأنواعه المتعدّدة، وأشكاله المختلفة.

جاء في كتاب الفصول في علم الأصول، للإمام الجصّاص الحنفي: «إذا ابتلوا بحادثةٍ طلبوا حكمها من النصّ، ثم إذا عدموا النصّ نزعوا إلى الاجتهاد والقياس، ولا يسوِّغون لأحدٍ الاجتهاد واستعمال القياس مع النصّ»([2]).

والاجتهاد سائغ في المسائل والقضايا التي لا نصّ فيها؛ إذ لا اجتهاد مع وجود النصّ، فإذا «وجد نصٌّ أو إجماع سقط جواز الاجتهاد»([3]).

فالاجتهاد ضرورة حياتية؛ لاستمرار حياة الناس المتجدّدة، وبقاء إيمانهم بالإسلام وفاعليّته([4]).

فالاجتهاد من أهمّ الآليات التي تجسّد مرونة الشريعة الإسلامية في تفاعلها مع الواقع، وفي استجابتها للحاجيات الجديدة والوقائع المتجدّدة.

والاجتهاد لا يُلغي النصّ، وإنّما هو إعمالٌ للنصّ الشرعي في الوقائع الطارئة والجديدة.

ومن الطبيعي أن يختلف المجتهدون في تلقّيهم لدلالة النصّ، وتنزيلها على الوقائع الجديدة. واختلافهم هذا يرجع إلى عدّة أسباب، أبرزها: اختلاف فهومهم لكلام الله وسنّة نبيّه|؛ وكذا قدراتهم في الاستنباط والاستدلال؛ واختلاف أحوالهم وأزمانهم وأمكنتهم وثقافتهم وأفكارهم. وممّا قرّره علماء أصول الفقه في هذا الباب: «أنّه لا إنكار في مسائل الاجتهاد».

ومن ثم فالاجتهاد هو السبيل للنهوض بالفقه الإسلامي المعاصر؛ وذلك بتقديم الحلول للوقائع الجديدة، ممّا يتّفق مع روح الشريعة الإسلامية وأصولها ومقاصدها في التشريع.

ومما يلزم المجتهد اليوم هو معرفة علوم عصره، إنْ تيسَّر له ذلك؛ فإن تعذّرت هذه المعرفة وجب عليه استشارة أهل الاختصاص؛ لأن هذه الاستشارة من شأنها أن تعينه على معرفة الحكم الشرعي للنوازل الطارئة([5]).

إن المجتهد في عصرنا هذا بحاجّة ماسة إلى الاستعانة والاستشارة مع أهل الاختصاص، وهم العلماء العارفون بمجال تخصّصهم، والمتمكِّنون من علوم العصر. وهو ما جرى به العمل عند متقدِّمي الفقهاء وأهل الاجتهاد، فقد كانوا يستفسرون عن حقائق الأشياء التي لها صلةٌ وقرابة بالنازلة التي هي موضوع الاجتهاد.

وهذه المعرفة ضرورية. وقد عبّر عن هذا الإمام الشاطبي عندما قال: «فلا بدّ أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي ينظر فيها؛ ليتنزَّل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى»([6]).

تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً

الاجتهاد في اللغة هو استفراغ الوسع في تحصيل الشيء.

وفي الاصطلاح هو استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية. وبصيغة أخرى: هو «بذل المجهود في ما يقصده المجتهد ويتحرّاه، إلاّ أنّه اختصّ بالعرف بأحكام الحوادث التي ليس لله تعالى عليها دليلٌ قائم، يوصل إلى العلم المطلوب بها»([7]).

والمقتضى التشريعي في ضرورة الاجتهاد هو تناهي النصوص الشرعية، دون تناهي وقائع البشر. فالأصول الشرعية معدودةٌ، والحوادث ممدودة([8]). وهذا ما يلزم منه المصير إلى الاجتهاد.

جاء في كتاب البرهان لإمام الحرمين: «ومَنْ أنصف من نفسه لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى والأقضية أنّ تسعة أعشارها صادرةٌ عن الرأي المحض والاستنباط، ولا تعلّق لها بالنصوص والظواهر»([9]).

ومن أبرز الأدلة الشرعية التي استعان بها علماء أصول الفقه لحلّ الإشكال التشريعي الذي تطرحه قضية تناهي النصوص الشرعية، دون تناهي وقائع البشر، دليل القياس: «فالضرورة داعيةٌ إلى وجوب القياس؛ لأن النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية. ولا بدّ أن يكون لله تعالى في كلّ حادثة حكمٌ؛ إما بتحريم؛ أو تحليل… ألا ترى أنّا إذا تركنا القياس لتعطّلت أحكام الحوادث، فصح قولنا: إن الضرورة داعيةٌ إلى استعمال القياس»([10]).

فالاجتهاد من خصائص هذه الشريعة الإسلامية، التي من مواصفتها الاستمرار مع حياة البشر. فالإسلام يدعو إلى الاجتهاد والتجديد، ومواكبة التطوّر والتقدّم، ولا يعجز عن إيجاد حلٍّ للمشاكل الطارئة.

فالاجتهاد يتقيَّد ببذل الفقيه قصارى طاقته الفكريّة في دراسة النص الشرعي؛ بحثاً عن الحكم الذي يحمله النص الشرعي؛ من أجل تنزيل هذا الحكم على تصرفات الناس، وكذا على الواقع الذي يعيش فيه هؤلاء الناس.

فالاجتهاد في التطبيق لا يقلّ أهمية عن الاجتهاد في فهم النص الشرعي؛ لأن نتائج التطبيق منوطة بتحقيق مقاصد الشريعة.

فلا فقه للنصّ بلا فقه لمحلّ النصّ. ومحل النصّ هو الواقع بأبعاده المختلفة ومكوّناته المتعدّدة.

أشكال الاجتهاد وأنواعه

إن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية يأخذ عدّة أشكال:

فقد يكون قياساً، وهو إلحاق واقعة غير منصوص عليها بواقعة منصوص عليها؛ لاشتراكهما في علّةٍ جامعة.

بل من الأصوليين مَنْ خصّ الاجتهاد بالقياس. قال الإمام الشافعي(204هـ) في الرسالة: «فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلتُ: هما اسمان لمعنى واحد…»([11]).

ونفس الاختيار أخذ به الإمام الجصّاص الحنفي. فالاجتهاد عنده هو «استخراج علّةٍ من أصلٍ، يرد بها إلى الفرع. ويحكم له بحكمه، وهو الذي نسمّيه قياساً»([12]).

وقد يكون الاجتهاد استصلاحاً؛ ذلك أنّ المجتهد إذا وجد للواقعة نظيراً لجأ إلى القياس وحكم، أمّا إذا لم يجد للواقعة نظيراً حكم بالمصلحة، بناءً على أن الشريعة الإسلامية جاءت إما لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة.

وقد يكون الاجتهاد حكماً بمقاصد الشريعة الإسلامية. فقد دلّ الاستقراء أن الشريعة الإسلامية لم تنصّ على حكم كلّ جزئيّة على حِدَة، وإنما أتت بقواعد وكليات شرعية، مجرّدة عن عاملي الزمان والمكان، بحيث يمكن تنزيلها على الجزئيّات والوقائع الجديدة. وبفضل هذه الكلّيات يتيسَّر للخطاب الإسلامي أن يستوعب جميع الجزئيّات ويغطي جميع المستجدّات.

والأصل في الاجتهاد بالمصالح والمقاصد هو أنّ الحكم الشرعي على النوازل إن كان ملائماً لتصرّفات الشارع، وشهدت به كلية من كليات الشريعة، فهو صحيحٌ، يُبنى عليه الاستدلال على الوقائع الجديدة، ويرجع إليه في الحكم على النوازل الطارئة.

ومن الاجتهاد فهم الخطاب الشرعي، واستجلاء دلالاته، وتمثل معناه؛ لتمهيد استنباط الحكم الشرعي منه. وهو المسمى عند علماء أصول الفقه بـ (فقه الخطاب الشرعي)، أو (الاجتهاد البياني)([13]). ومرجعيته اللغة العربية؛ لأن النص الشرعي نصّ لغوي في بنائه، ومن ثم فهو محكومٌ بقواعد اللغة العربية وقوانينها في الإفهام.

ومن الاجتهاد معرفة الواقع بجميع ملابساته ومكوّناته؛ وذلك بتنزيل الأحكام الشرعية وإيقاعها في هذا الواقع عن طريق تطبيق القواعد الكلّية والأصول العامة للشريعة الإسلامية. وبعبارة أخرى: «هو الإجراء العملي لما حصل على مستوى الفهم التجريدي للأحكام الشرعية([14]).

وعلى هذا الاختيار فإنّ الاجتهاد دائماً يسير في طريقين لطلب الحكم الشرعي: طريق النصّ؛ وطريق الواقع. ولا يمكن الوصول إلى المطلوب الشرعي إلاّ من الطريقين معاً…»([15]).

والاجتهاد في جميع أشكاله وأنواعه يدور في محور النصّ، فقد ظلّ مرتبطاً به، وخاضعاً له، وباحثاً عنه. فالاجتهاد لا يعدو أن يكون استجلاءً لمدى صحّة النصّ، أو استكشافاً لمعناه ودلالته، من حيث العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والإجمال والبيان، ومدى قابلية النصّ للتأويل…

الاجتهاد في النصّ الشرعي

يقصد بالاجتهاد في النص الشرعي تمثّل الدلالة اللغوية والشرعية للنصّ الشرعي؛ لما في هذا التمثّل من إعانة ومساعدة على استنباط الأحكام الشرعية.

فالمجتهد لا يحلّ له أن يمارس الاجتهاد في النصّ الشرعي إذا لم يكن من جهةٍ على علم بوجوه دلالة النصوص الشرعية في العموم والخصوص، والمجمل والمفصَّل، والمقيد المطلق، والإثبات والنفي، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ؛ وعلى علمٍ من جهة أخرى بدلالة الألفاظ على المعاني، في بعدها المطابقي، والتضمني، واللزومي.

فالمقتضى المنهجي في تمثّل دلالة الخطاب الشرعي يجب أن تكون البداية فيه بالخدمة اللغوية لألفاظه، من حيث الإفراد والتركيب، والوضوح والخفاء، والاستعمال والإهمال…([16]).

هذه الأهمية التي اكتسبها اللفظ في الدرس الأصولي قادت علماء أصول الفقه إلى تتبُّع اللفظ، مفرداً ومركباً، مطلقاً ومقيداً، خاصّاً وعامّاً، حقيقةً ومجازاً.

وكانت هذه المتابعة من جميع الجهات والزوايا، بحيث يصعب الوقوف على جميع هذه الجهات والزوايا التي كانت محور دراسة علماء أصول الفقه للفظ.

جاء في كتاب البرهان لإمام الحرمين: «اعلم أنّ معظم الكلام في الأصول يتعلَّق بالألفاظ والمعاني. أمّا الألفاظ فلا بدّ من الاعتناء بها؛ فإنّ الشريعة عربيّة»([17]).

ومن الاجتهاد في النص الشرعي التحقُّق من دلالة الألفاظ، من حيث الوضوح والخفاء؛ وضبط المعجم الشرعي، وهو الألفاظ المنقولة من اللغة إلى الشرع. فتحصيل دلالة الألفاظ من لوازم الاستدلال ومقتضيات الاستنباط. فالمعاني التي تؤول إليها ألفاظ القرآن الكريم تتأسَّس عليها أحكام في غاية الأهمّية، وتترتَّب عليها عدّة آثار.

وحتّى يكون المفسِّر والمجتهد في النصّ الشرعي على علمٍ ومعرفة بهذه الألفاظ فقد قام علماء أصول الفقه بإحصاء لهذه الألفاظ، وإيداعها في كتب خاصّة؛ حتى يكون المستدلّ على بيّنة منها. ومن هذا القبيل ما قام به أبو حاتم الرازي(322هـ) في كتابه «الزينة في الألفاظ العربيّة الإسلاميّة»([18]). والكتاب عبارةٌ عن متابعة واسعة ورصد كبير لأهمّ الألفاظ المنقولة من اللغة إلى الشرع.

ومن التحقّق من دلالة الألفاظ الفصل بين المشترك والمترادف من الألفاظ.

فالمشترك ما كان فيه اللفظ واحداً، والمعاني متعددة ومختلفة، اختلاف تباين أو تضادّ.

والمترادف ما كانت ألفاظه متعدّدة، والمعاني واحدة.

ومن التحقّق من دلالة الألفاظ معرفة الألفاظ المنقولة من الحقيقة إلى المجاز.

فالألفاظ الواقعة في التركيب قد تخرج من المعنى الأصلي، وهو الحقيقة، إلى المعنى التبعي، وهو المجاز. والأصل في الألفاظ أنّها لا تنبئ عن المعاني بذاتها([19])، وإنّما القرائن والسياق هما الطريق المرشد إلى الفصل بين ما هو حقيقي وما هو مجازي، وما هو أصلي وما هو تبعي…([20]).

ونظراً لهذه الأهمية التي يكتسيها التحوّل الدلالي للألفاظ على مستوى فهم الخطاب الشرعي، وعلى استنباط الأحكام الشرعية، فقد قام علماء أصول الفقه بإيداع هذه الألفاظ في مصنَّفات خاصة؛ حتى تكون في متناول كلّ مَنْ اختار الاستدلال على الأحكام الشرعية، أو فهم الخطاب([21]).

كما استوعبت هذه المؤلَّفات جملةً من الكلّيات والقواعد اللغوية، التي بواسطتها يفهم الفقيه معنى النصّ، ويدرك مقصديته، مثل قاعدة: (لا يلجأ إلى السياق إلاّ عند عدم قدرة الوضع على الوفاء بالمعنى)؛ (لا يصار إلى التأويل إلاّ بدليل)؛ (التأويل خلاف الأصل)؛ (كلّ تأويل يرفع معنى النصّ فهو مردودٌ)؛…

وممّا قرَّره علماء أصول الفقه في دراستهم للفظ أنّ الأصل في وضع الألفاظ هو تحقّق الإفادة والبيان، وأنه «لا يجوز أن يَرِد في القرآن ما ليس له معنى أصلاً، وهو المهمل. والباري سبحانه منزَّه عن أن يخاطبنا بما لا يُفهَم»([22]).

ومن التحقُّق من دلالة الألفاظ معرفة حروف المعاني، وهي الروابط([23])؛ لأن النصّ الشرعي، الذي هو الأصل في الاجتهاد، والسند في الاستنباط، كثيراً ما تتغيَّر فائدته تبعاً للحروف الداخلة عليه.

قال أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد: «اعلم أنّ الكلام لما انقسم إلى: الاسم؛ والفعل؛ والحرف، وكان الخطاب تتغيَّر فوائده تبعاً للحروف الداخلة عليه. وكان أكثر الغرض بهذا الكتاب ذكر الخطاب الذي يستدلّ به على الأحكام»([24]).

وتوصف حروف المعاني عند كثير من علماء الأصول بأنّها مدار وأساس «المسائل الفقهيّة، وتشتدّ الحاجة إليها. من هنا كان لا بدّ من بيان هذه الحروف، وذكر الطريق في تخريج المسائل عليها»([25]).

ومن مظاهر التحقُّق من دلالة الألفاظ ضرورة انتقاء الألفاظ المعبِّرة عن المعاني، كما دلّ على ذلك الوضع اللغوي، واصطلاح التخاطب؛ احترازاً من اللبس؛ وبعداً عن الغموض. «فلكلّ اسم مسمّى يختصّ به، ويتبين به المراد؛ ليقع به التفاهم… ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبداً، ولبطل خطاب الله تعالى لنا»([26]).

إنْ حُمل اللفظ على غير معناه فهو مدعاةٌ للبس والغموض، وطريق إلى إفساد البيان الذي يقع به التفاهم. وعليه يقع التكليف. فإنّ علماء الأصول يرفضون إخراج الألفاظ عن معانيها الحقيقية، كما دل على ذلك اصطلاح التخاطب، وهو الوضع اللغوي، إنْ كان ذلك الإخراج عارياً من الدليل. فالأصل في اللغة أنّها تفيد البيان، وإن عدم التقيُّد بهذا الشرط هو من قبيل إبطال الكلام كلّه، «وإفساد الحقائق والشرائع»([27]).

وعليه فإنّه يجب أن يكون المنطلق في (مدارسة) دراسة الأصوليين للخطاب الشرعي هو التحقُّق من دلالة الألفاظ التي تقع عليها المعاني، سواءٌ أكان هذا التحقّق معجمياً أو شرعياً، لغوياً أو عرفياً، حقيقياً أو مجازياً…، مع الاستعانة بالسياق أو المقام التي وردت فيه هذه الألفاظ. وبما أنّ اللفظ في التركيب قد يحتمل أكثر من معنى فإنّ النظر في السياق الذي ورد فيه اللفظ هو الذي يقطع هذه الاحتمالات. فالسياق هو الأداة المعيِّنة والمساعدة على بيان المعنى المراد من اللفظ، «فلا يفهم معنى كلمة أو جملة إلاّ بوصلها بالتي قبلها، أو بالتي بعدها»([28]).

ومن الاجتهاد في النصّ الشرعي إدراك الدلالة اللفظية، وهي العلاقة الجامعة والمتبادلة بين الألفاظ والمعاني، بأقسامها: المطابقي؛ والتضمني؛ واللزومي…

فلا بدّ في التفسير من إدراكٍ سليم، ومعرفةٍ عميقة بدلالات الألفاظ على المعاني، وبالتغيُّر الذي يطرأ على دلالة الخطاب، تبعاً للسياق المحيط بالخطاب. ولهذا الغرض نظر علماء أصول الفقه في الألفاظ من حيث علاقتُها بالمعاني. كما انصرفت عنايتهم إلى الإلمام بالمقتضيات المحيطة بالخطاب؛ لأنّ الكلام الواحد تختلف دلالته تبعاً للمقتضيات المحيطة به، وهو ما يعرف بـ (علم الوجوه والنظائر).

ويعدّ مبحث الدلالات من أهمّ البحوث التي يبتني عليها صرح علم أصول الفقه([29]).

وهذا ما كشف عنه علماء أصول الفقه عامّة، والإمام الغزالي(505هـ) خاصّة، الذي صرَّح في المستصفى بأنّ علم الدلالات هو قطب علم أصول الفقه؛ «لأنه ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها، واجتنائها من أغصانها»([30]). فالدلالات هي مجموعة من القواعد الأصولية واللغوية التي ترسم منهج الاجتهاد في استثمار كافّة طاقات النصّ في الدلالة على معانيه. «وهو من أهمّ البحوث التي يقوم عليها استنباط الأحكام»([31]).

وممّا يدلّ على مبلغ العناية والاهتمام التي أولاها علماء أصول الفقه لجهة الدلالات تنصيصهم المتكرِّر على ضرورة تمكّن المجتهد من اللغة العربية إنْ هو قصد الاستدلال أو رام الاستنباط؛ ذلك أنّ «القول بضرورة الإحاطة باللسان مشعرٌ بالدلالة اللفظية»([32]).

والدلالات؛ باعتبارها طريقاً في فهم الخطاب الشرعي، ومسلكاً في التفسير والبيان، ومنهجاً لاستجلاء المعنى لغوياً كان أو شرعياً، تعدّ من أهمّ الآليّات المعينة للمجتهد والمستنبط على اكتساب معنى الخطاب؛ لأن المعنى المكتسب من اللفظ قد يكون معنى مطابقيّاً أو تضمّنيّاً أو لزوميّاً، وقد يكون منطوقاً وقد يكون مفهوماً من المنطوق، وقد يكون أصلياً وقد يكون تبعيّاً…

النظر في سياق الخطاب

ومن مقوّمات التحقّق من دلالة الألفاظ في بُعدها المعجمي والسياقي ضرورة الاحتكام إلى سياق الخطاب، بناءً على أن الألفاظ لم تقصد لذاتها، وإنما المرجع في تعيين المعنى هو سلطة المتكلِّم ومراده من الخطاب. ومن ثم كان شرط القصد من مقوّمات الدلالة في الدرس الأصولي.

ويراد بسياق الخطاب أسلوبه ومجراه. تقول: وقعت هذه العبارة في سياق الخطاب، أي إنها جاءت متّفقة مع مجمل النصّ ومضمونه([33]).

ويتحدّد السياق في كونه هو المحيط اللساني الذي أنتجت فيه العبارة أو الخطاب، ويندرج في سياق الخطاب فهم الخطاب الشرعي في مستواه الكلّي، وذلك بردّ أوله إلى آخره، والنظر في أحواله وأطرافه، وسوابقه ولواحقه، بحيث لا يصحّ الاقتصار في تمثّل المعنى على بعض أجزائه دون البعض الآخر. «فلا محيص للمتفهِّم عن ردّ آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره. فإنْ فرَّق النظر في أجزائه فلا يتوصَّل إلى مراده»([34]).

وتحكيم سياق الخطاب يستلزم الجمع بين النصوص التي تشترك في الموضوع الواحد، وذلك بحمل المطلق على المقيِّد، والعام على الخاص، والمجمل على المبين. فالنصّ الشرعي سلسلةٌ واحدة موصولة الحلقات.

ومن متعلّقات الجمع بين النصوص اعتبار القرآن الكريم والحديث النبوي كلفظةٍ واحدة. فلا يحكم بآيةٍ دون أخرى، ولا بحديثٍ دون آخر، «بل يضمّ كل ذلك بعضه إلى بعض؛ إذ ليس بعض ذلك أَوْلى بالاتّباع من بعض. ومَنْ فعل غير هذا فقد تحكَّم بلا دليل»([35]).

ومن شروط تحكيم سياق الخطاب([36]) اعتبار الخطاب الشرعي «كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلّياتها وجزئيّاتها المترتّبة عليها. فعامّها المرتّب على خاصّها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسّر على مبيّنها»([37]). وممّا قرّره علماء أصول الفقه في هذا الباب أنّ الاكتفاء بنصّ واحد في الاستدلال وتفسير الخطاب يعدّ سقوطاً منهجيّاً في الاستدلال([38]).

ويحذّر الإمام ابنُ حزم النظّار من عواقب التمسّك بنصّ واحد في الاستدلال؛ لما في ذلك من خطورة على اكتساب معنى الخطاب. قال في كتابه «التقريب»: «فلا تأخذ بعض الكلام دون بعض؛ فتفسد المعاني. وأحذّرك من شغب قومٍ في هذا المكان، إنْ ناظروا ضبطوا على آيةٍ واحدة أو حديثٍ واحد. وهذا سقوطٌ جديد، وجهلٌ مفرط»([39]).

ولم يشذّ عن هذا المعنى الإمام الشاطبي عندما صرّح في الموافقات مخطّئاً من أخذ بنصّ واحد في جزئيّة من جزئيات الشريعة، دون أن يعمد إلى الرجوع إلى كليات الشريعة، التي تمّ اكتسابها واستخلاصها عن طريق استقراء مجموعة من النصوص الشرعية. فالذي عليه محقِّقٌ من العلماء أنّه لا يجوز الاستدلال بالنصّ الوحيد من القرآن الكريم والسنّة النبوية، منفرداً ومعزولاً عن غيره من النصوص.

الاجتهاد والدليل

ومن المسائل الأصولية المتّفق عليها بين علماء أصول الفقه أنّ لكلّ حادثة حكماً شرعياً، مستمداً من الدليل، سواءٌ أكان هذا الدليل مصرَّحاً به أم مستنبطاً من الدليل، وهو القرآن والسنّة والإجماع.

وكان من آثار اقتران الوقائع والنوازل بالحكم الشرعي معارضة علماء أصول الفقه لكلّ استدلال جاء عارياً من الدليل الشرعي؛ لأن مُنشِئ الأحكام هو الله تعالى. فالاجتهاد سائغٌ ما لم يوجد نصّ أو إجماع؛ فإذا وجد نصّ أو إجماع سقط جواز الاجتهاد([40]).

والدليل إنْ كان مصرَّحاً به فهو نقليّ؛ وإنْ كان مستنبطاً فهو عقليّ. والعلاقة الجامعة بينهما هي علاقة التابع بالمتبوع. فكلّ قسم مفتقرٌ إلى الآخر؛ «لأن الاستدلال بالمنقول لا بدّ فيه من النظر. كما أن الرأي لا يعتبر شرعاً إلاّ إذا استند إلى النقل»([41]).

وفي هذا يقول الشاطبي: «الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل؛ والثاني: ما يرجع إلى الرأي. وهذه القسمة هي بالنسبة لأصول الأدلة، وإلاّ فكلّ واحد من الضربين مفتقرٌ إلى الآخر»([42]).

ويتحدَّد الدليل النقلي في القرآن الكريم؛ والسنّة؛ والإجماع، والدليل العقلي في القياس؛ والاستصلاح؛ والمقاصد… ويمكن إرجاع جميع الأدلة إلى القرآن الكريم، فهو «أصل الأحكام كلّها»، وجميع الأدلّة، نقلية كانت أم عقلية، تابعة له، وملحقة به.

ومن لوازم الاجتهاد اقترانه بالدليل. فالاجتهاد لا يصحّ إلاّ إذا اقترن بالدليل([43])؛ لأن مُنشِئ الأحكام هو الله تعالى، وكلّ اجتهاد عري من الدليل فهو اجتهادٌ مردود.

وتمثّل المعنى الشرعي للخطاب عن طريق العلل، بقسمَيْها الجزئي أو الكلّي، أو اللغوي أو الشرعي، يأخذ عدّة أشكال، منها: القياس؛ والاستصلاح؛ والاجتهاد المقاصدي.

وهذا التنوّع في طرائق الاجتهاد دليلٌ على قدرة الخطاب الشرعي على الاستجابة لكلّ جديد، والتفاعل مع كلّ حديث. فالاجتهاد عن طريق العلّة الجزئية أو الكلية يمنح للخطاب الشرعي قدرةً خلاقة في تلبيته لحاجيات الإنسان المعاصر؛ فالنصوص الشرعية متناهية، ووقائع البشر غير متناهية، وحتّى لا تضيق الشريعة الإسلامية بالمستجدّات فإنّ المقتضى التشريعي يقتضي فتح باب الاجتهاد، بجميع مكوّناته وأشكاله وأنواعه.

ومن أبرز هذه الأبواب: الاجتهاد القياسي، والاستصلاحي، والمقاصدي، والتنزيلي. وهذه الاجتهادات مشروطةٌ بغياب النصّ الصريح في النازلة؛ إذ لا اجتهاد مع النصّ.

الاجتهاد والمنطق، دور المنطق في فهم الخطاب الشرعي

يعدّ علم المنطق من أهمّ الطرق والآليّات المساعدة على تفهّم المعنى، واستجلاء الدلالة. فهو يعمل على تقنين طرق دلالة الخطاب، بجميع مكوّناته وأقسامه، سواء أكانت هذه الطرق صريحة أم مضمرة، منطوقة أم مفهومة، أصلية أم تبعية…

وقد نبعت الحاجة إلى دراسة المنطق من الرغبة في تفهّم الخطاب الشرعي، وتمثّل دلالته، باعتبار دلالة اللفظ على المعنى قد تكون مطابقة، أو تضمناً، أو التزاماً. وهذا ما قاد علماء أصول المنطق إلى البحث في علاقة الألفاظ بالمعاني في جميع مستوياتها، ووضع المقاييس التي بموجبها تنضبط أنواع الدلالات.

فالاهتمام بالمستويات البيانية للمنطق كان استجابةً لما تتطلّبه عملية الاستنباط والاستدلال من دقّة وصرامة، وذلك بالانتقال من الخطاب الشرعي، باعتباره دالاًّ، إلى القضية الشرعية، باعتبارها مدلولاً.

فالتوجّه نحو المعطيات اللغوية للمنطق يعود إلى كون هذا العلم هو الطريق الذي به تؤخذ الألفاظ على مقتضاها، وكيف يعرف الخاص من العام، والمجمل من المفصل، وبناء الألفاظ بعضها على بعض([44]).

ويعدّ ابن حزم الأندلسي الظاهري من أبرز المناطقة المسلمين الذين عملوا على تأصيل وتقعيد القواعد والاستدلالات المنطقية، وتوجيهها توجيهاً بيانياً. وهذا ما تجسّده مقدمة كتابه «التقريب لحد المنطق»، فهو من أهمّ المصنفات المنطقية التي عملت على تقريب الدرس المنطقي إلى علم أصول الفقه؛ من أجل تفهّم الخطاب الشرعي، واستجلاء دلالته، واستنباط أحكامه([45]).

وقد صرَّح الإمام ابن حزم الأندلسي، في مقدّمة كتابه التقريب، أنّ علم المنطق علم ضروري للمجتهد والمستنبط والمستدلّ والفقيه، وأن الجهل به أو التقصير في طلبه يجنِّب صاحبه الصواب، ويعرّضه للخطأ في الاستدلال.

جاء في مقدمة كتاب التقريب: «وليعلم العالمون أنّ مَنْ لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربّه، وعن النبيّ|، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين؛ لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاج النتائج التي يقوم بها البرهان»([46]).

فالقواعد والطرق الأصولية المخصّصة للاستنباط، والمتعلّقة بفقه الخطاب، لها علاقة بعلم المنطق، الذي موضوعه المعاني، والمعاني لا تنكشف إلاّ بالألفاظ، «وهذا ما جعل صناعة المنطق تتّجه نحو الألفاظ في علاقتها بالمعاني»([47]).

ومن محاور التلاقي بين علم أصول الفقه والمنطق صياغة علماء الأصول لمجموعة من المباحث الأصولية والفقهية على شكل قواعد كلّية منطقية، يغلب عليها الإيجاز في البناء والتركيب، بحيث يتمّ إعمال هذه الكلّيات في الجزئيات التي تعترض المفتي والمجتهد، سواء في تفهّمه للخطاب، أو في استدلاله على الأحكام.

وهذه القواعد مشيَّدة على الاستقراء، وهي تمثِّل جانباً من طموح علماء الأصول في تقنين وضبط الطرق وقواعد الاستدلال. ومن هذه القواعد:

ـ العامّ يجري على عمومه ما لم يرِدْ دليلٌ يخصِّصه.

ـ كلّ حكمٍ أمكن تعليله فالقياس جائزٌ فيه.

ـ لا يحمل اللفظ على العموم إلاّ بعد البحث عن المخصِّص.

ـ الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلاّ بذلك.

ـ التأويل خلاف الأصل([48]).

ـ محالٌ أن يكون لفظٌ واحد مستعملاً في موضعه ومعدولاً به عن موضعه في حالةٍ واحدة.

وممّا يقدّمه علم المنطق للفقيه والمجتهد أنّه يعينه على الجمع بين النصوص ذات الموضوع الواحد، بردّ أوّلها إلى آخرها، وآخرها إلى أوّلها، وحمل العامّ على الخاصّ، والمطلق على المقيِّد، والمجمل على المبين؛ لأنّ من شأن التمسك بنصّ واحد في الاستدلال، دون ردّه إلى أطرافه وأجزائه، وكذا إلى باقي النصوص ذات الموضوع الواحد، قد يؤدي إلى إفساد المعنى، وتحريف النتائج، وقلب الحقائق…([49]).

فالمعرفة بالمنطق، وخاصّة ما تعلّق بالجانب البياني، شرطٌ ضروري للمجتهد في تفهّمه للنص الشرعي قصد بيان الحكم الشرعي منها، وتنزيل هذا الحكم على الواقع. «فلا بدّ للمجتهد أن يعرف تقرير الأدلة، وما يتقوّم ويتحقّق به نصب الدليل، ووجه دلالته على المطلوب. ولا بأس بأن يكون عالماً بشيءٍ من فنّ المنطق، لا أن يكون متوغِّلاً فيه؛ لأنه يعين على ترتيب الأدلة، ويحتاج إليه في القياس احتياجاً كثيراً»([50]).

لا مساغ للاجتهاد في مورد النصّ

من القواعد الأصولية التي لها صلةٌ بالاجتهاد ومجالاته قاعدة «لا مساغ للاجتهاد في مورد النصّ». وقد وردت هذه القاعدة بصيغة أخرى، وهي «لا اجتهاد في مورد النصّ»([51]).

والمضمون العامّ لهذه القاعدة أنّ الاجتهاد مشروعٌ إذا انتفت الموانع، وتوفَّرت هذه الشروط:

1ـ أن تكون المسألة المجتهَد فيها غير منصوص عليها بنصٍّ قاطع أو مجمع عليه.

والنصّ القطعي هو «كلّ حكم شرعي، عملي أو علمي، يقصد به العلم»([52]).

قال أبو الحسين البصري: «اعلم أن قاضي القضاة ذكر في العمد أنّ ما عليه دلالةٌ قاطعة فليس هو من مسائل الاجتهاد. والحقّ واحدٌ فيه، لا يحلّ خلافه»([53]).

والنصوص القطعية تتعلق بالثوابت الدينية، من عقيدة وشريعة وبعض المعاملات التي جاءت بنصوص قطعيّة في دلالتها وثبوتها أو كانت محلّ الإجماع. والقطعيّات تتعلّق كذلك بكلّيات الشريعة، وأصولها الأساسية في الحياة، وقيمها الخالدة التي بها قوام الاجتماع الإنساني، وعليها مدار العمران البشري.

2ـ أن يكون النصّ الوارد في النازلة محتمِلاً للتأويل، وقابلاً لأكثر من معنى.

3ـ أن تكون المسألة المجتهَد فيها من النوازل والوقائع الطارئة، أو ما يمكن وقوعه، والحاجة إليه ماسّة.

والاجتهاد لا يمسّ النصوص القطعية في دلالتها؛ لأن قطعيّتها تنفي عنها الاحتمال في المعنى، والتعدّد في الدلالة([54]).

والنصوص القطعية في الدلالات تأخذ عند الأصوليين مصطلح النصّ، وهو اللفظ الذي يدلّ على معنى واحد، ولا يحتمل غيره.

وإخضاع هذه النصوص القطعية للاجتهاد من شأنه أن يهدر دلالتها اللغوية، ويلغي ميثاق التواصل والتفاهم الذي يجري في اللغة العربية([55]). لكنّ الاجتهاد في هذه النصوص يأتي من جانب الفهم، وتمثّل المعنى الذي تحمله هذه النصوص، وكذا في تنزيل هذه النصوص على الواقع، وذلك بالنظر في المناط الذي يحفّ بالنازلة، ويؤثِّر في الحكم الذي تأخذه هذه النازلة تبعاً للحال والمآل.

4ـ أن يكون الاجتهاد في النصوص المتعلّقة بالمتغيّرات، وليس في الثوابت. ويراد بالمتغيّرات النصوص الشرعية المؤسّسة على مصلحة أو مقصد شرعي أو عرف شهد له الشرع بالقبول، وأقرّه في التصرّفات والمعاملات؛ بسبب عدم معارضته لأصلٍ من أصول الشريعة.

فهذه النصوص ليست مرادةً لذاتها، وإنما مرادة للمصلحة أو المقصد الذي من أجله شُرِّعت. ومن ثم فإن أحكام هذه النصوص تدور مع علّتها وجوداً وعدماً. فالحكم يكون معتبراً إذا وُجدت العلة، ويختفي إذا اختفت. وهذا ما عبَّر عنه الإمام العزّ بن عبد السلام في أحد فصول كتابه «قواعد الأحكام»، والذي حمل عنوان «فصل في مناسبة العلل لأحكامها، وزوال الأحكام بزوال أسبابها»([56])، وفيه يكشف الإمام العزّ بن عبد السلام أنّ النصّ الشرعي إنْ كان قائماً على مصلحة مشهود لها بالاعتبار، أو على عرف غير مصادر لأصل شرعي، فإنّ ذلك النصّ يكون مراداً لمصلحته، ويدور معها من حيث الوجود والعدم([57]).

5ـ أن لا يكون الاجتهاد في النصوص المتعلِّقة بالثوابت، وهو كل ما لا خلاف عليه بين المسلمين، ويمثل الأحكام القطعية التي عليها مدار بقيّة الأحكام. وكلّ ما يجري من اجتهادات، سواء أكانت فردية أو جماعية، لا بدّ أن يكون المرجع فيه هذه الثوابت.

والاجتهاد في هذه الثوابت يأتي من جهة الفهم، وذلك باستجلاء الدلالة، واستكشاف المعنى، وهو المسمى بالاجتهاد البياني.

وحفاظاً على ما هو قطعيٌّ وثابت في النصوص الشرعية فإنّه من الضروري على المجتهد أن يراعي الموقع التي تحظى به هذه النصوص في الخطاب الشرعي؛ لأن من شأن هذه المراعاة أن تجعل المجتهد في مأمنٍ في تقيُّده بقاعدة «لا اجتهاد في مورد النصّ»([58]).

الاجتهاد في المذهب الشيعي

إنّ المذهب الشيعي، بمختلف مذاهبه ومدارسه، يقرّ بمشروعية الاجتهاد،ويعترف بضرورته التشريعية في مسايرته للمستجدّات وتلبيته للحاجيات.

والناظر في أدبيّات الفقه الشيعي المعاصر يلاحظ بشكلٍ واضح مدى إصرار أغلب المنتمين إلى هذا المذهب على ضرورة تفعيل آليات الاجتهاد، بجميع أشكاله وأنواعه؛ من أجل أن يتحقّق التفاعل والتعايش بين النصّ الشرعي الثابت والواقع المتغيِّر.

وما يميِّز الكتابات الفقهية المعاصرة ذات النزوع الشيعي هو إجماعها على رفض الجمود والتقليد وتقديس الاجتهادات والآراء الفقهية لأئمة المذهب الشيعي والتسليم المطلق بآرائهم وأفكارهم؛ لأنّ هذا التقديس في حدّ ذاته إهمالٌ وإغفال للخلفيّات الثقافية والفكرية والحضارية التي تحكَّمت في هذه الاجتهادات، وعرقلةٌ للتجديد التي تحتاجه الأمّة الإسلامية في مواجهتها لما يحدث في الواقع المعاصر من مستجدّات وطوارئ([59]).

من هنا فإنّ الضرورة المنهجية تستلزم مراجعة هذه الاجتهادات، وذلك بتمحيصها وإرجاعها إلى ظرفيّتها التاريخية ولحظتها الثقافية؛ لأنها اجتهادات تحمل هموم عصرها ومشاكل زمنها، فضلاً عن أنها محكومةٌ بخلفيّة أصحابها، وهي خلفيّة يتداخل فيها ما هو ثقافي مع ما هو سياسي([60])، وما هو ذاتي مع ما هو موضوعي. ومن ثم كان من اللازم مراجعة فتاوى الفقهاء بما يناسب العصر، ويحقِّق مقاصد التنزيل.

هذا المعطى يُشعر بضرورة الاجتهاد في كلّ زمان ومكان، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيّرات والتحوّلات التي تحدث في الواقع، وتؤثِّر في عملية الاجتهاد. وهذا ما يشعر بأنّ الفقه الشيعي هو الآخر يراعي الواقع في حاله ومآله، وفي حركيته وسكونه، وفي ثباته وتغيُّره. وهو ما يوجب على المجتهد أن لا ينظر إلى النازلة وهي مجرّدة عن مناطها وتوابعها الزمانية والمكانية، بل لا بدّ له من مراعاة كلّ هذه المتغيِّرات؛ من أجل تقرير الحكم الملائم للوضع الجديد.

والأدبيات الشيعيّة المعاصرة لا تقيِّد الاجتهاد بما له صلة بالأحكام الشرعية، وإنّما تعمِّمه ليشمل كلّ ما له صلة بالحياة. فالاجتهاد هو أداةٌ للتجديد في فقه الأفراد، وأداة للتجديد في فقه المجتمع([61]).

ومن شأن هذا الاقتران بين الاجتهاد وبين الواقع في تجلّياته أن يجعل الخطاب الإسلامي مستمراً مع جميع الأجيال، وفي كلّ زمان ومكان.

والذي يمكن تقريره واستنتاجه من خلال قراءتنا ومتابعتها للأدبيات الشيعية المعاصرة في حديثها عن الاجتهاد، واتّفاقها على هذه المعطيات:

أـ تقريرها لتناهي النصّ الشرعي، دون تناهي واقع البشر في كلّ يوم.

ب ـ إيمانها بأنّ استمرار الخطاب الشرعي باستمرار الحياة البشرية يتوقَّف على تفعيل الاجتهاد، بجميع أصنافه وأشكاله. فهو الأداة لملاحقة التطوّرات، والإجابة عن المشاكل الحادثة.

ج ـ إنّ الاجتهاد مفتوحٌ لكلّ مَنْ توفَّرت فيه الشروط، ورأى في نفسه أهلية الاجتهاد.

فالفقه الشيعي المعاصر حقَّق نقلةً واقعية في تأصيلاته للاجتهاد، من حيث الضوابط والشروط، بحيث لم يجعله حِكْراً على فئةٍ معينة.

راهنية الاجتهاد

تزداد الحاجة إلى الاجتهاد بشكلٍ أكثر؛ لأن الظرف الذي نعيش فيه يمتاز بمجموعة من التقلُّبات والتحولات، وهو ما يفضي إلى تزايد الحوادث والمستجدّات بشكل أكثر، وهذه المستجدّات بحاجةٍ إلى بيان حكم الشرع فيها.

إذن فالحاجةُ إلى الاجتهاد حاجةٌ دائمة وملحّة ما دامت وقائع الحياة تتجدَّد، وأحوال المجتمع تتطوّر، وما دامت شريعة الإسلام صالحةً لكلّ زمان ومكان، وحاكمةً في كلّ أمرٍ من أمور الإنسان. وعصرُنا بخاصّةٍ أحوجُ إلى الاجتهاد من غيره؛ نظراً للتغيُّر الهائل الذي دخل الحياة الاجتماعية([62]).

ومن الضروري للمجتهد اليوم، فضلاً عن تمكُّنه من الآليات والضوابط والشروط التي يتوقَّف عليها فهم الخطاب الشرعي، أن يكون بصيراً عارفاً بما يجري في الواقع، وكذا بالمتغيِّرات التي تقع في هذا الواقع، فتؤثِّر في سلوك أفراده، من حيث نمط عيشهم وطبائعهم، التي تتأثَّر ببيئتهم وواقعهم.

ومن ثمّ فتنزيل الحكم الشرعي من النصّ إلى الواقع لا بدّ أن تراعى فيه مجموعة من الشروط، أبرزها: معرفة الأحوال والمؤثِّرات التي تؤثِّر في الواقع، وتنقله من حالٍ إلى آخر.

والاجتهاد الذي يحقِّق فيه المجتهد مقاصد التنزيل هو الاجتهاد «الذي يقع في خضم الواقع، وهو الذي يتعامل مع الواقع في ثباته وحركيّته…»([63]).

والمعرفة بالواقع الذي هو محلّ تنزيل الحكم الشرعي يقتضي من المجتهد أن يكون متمكِّناً من علوم العصر، مطَّلعاً على كلّ ما هو جديد في هذه العلوم، ولا سيّما التي لها صلةٌ بالنوازل والمستجدّات، التي هي موضوع الاجتهاد.

وينبغي للمجتهد اليوم أن لا يبقى مشدوداً لاجتهادات واستنباطات المجتهدين السابقين؛ لأن تلك «الاجتهادات مرآةٌ صادقة لواقع عاشه هؤلاء العلماء الأجلاّء. فلم يكن المجتهد آنذاك إلاّ انعكاساً لما يجري في مجتمعه»([64]).

فكثيرٌ هم المفتون الذين اختاروا أن يكون المرجع في فتاواهم هو الكتب، وليس الواقع. وبعبارة الأستاذ الفاضل العلاّمة يوسف القرضاوي: «يفتون في الكتب، ولا يفتون في الواقع، بل هم غائبون عن فقه الواقع، وفقه الواقع غائب عنهم»([65]).

فالاجتهاد بهذه الشروط والمواصفات، التي تُلزم المجتهد أن يكون ملمّاً بثقافة عصره، حتّى لا يعيش منعزلاً عن واقعه، فضلاً عن الاطّلاع على علوم العصر، التي تعينه على معرفة مجتمعه بظروفه ومشكلاته وتيّاراته الفكرية والسياسية والدينية([66])، ليس باستطاعة الفرد الواحد تحصيله. وعليه فإنّ المقتضى المنهجي والعلمي يلزم تفعيل الاجتهاد الجماعي، وهو الاجتهاد الذي يلتقي فيه فقهاء النصّ بخبراء الواقع. وعلى حدّ تعبير الدكتور عصام البشير: «فالصيغة المثلى لقضايا الأمّة المعاصرة هي الاجتهاد الجماعي، الذي يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر؛ لأن الفقهاء يعلمون النصوص ومقاصدها، والخبراء يعرفون الواقع بمشاكله وتحدّياته، والحكم الشرعي مركَّبٌ من العلم بالنصوص والعلم بالواقع»([67]).

والذي يجعل الاجتهاد الجماعي([68]) أكثر فاعليّة، من حيث الاستجابة للحاجيات، والتفاعل مع المستجدّات، كونه تفاعلاً وتكاملاً ومشاركةً بين عدد من العلماء والمجتهدين والخبراء المختصّين. ويتميَّز عن الاجتهاد الفردي في كونه أكثر استيعاباً وإلماماً بالموضوع في جميع جوانبه، وأكثر شمولاً في الفهم والتنزيل، وأكثر دقّة في الاستنباط، وأكثر إصابةً للحقّ. كما أنّ رأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد، وخاصة في ما يتعلّق بالقضايا العامّة والمصيرية([69]).

إنّ الاجتهاد بهذه الأوصاف والأشكال والضوابط يبقى حاجة ملحّة، تفرضها حاجات العصر، وتلزمها أحد ثوابت الخطاب الإسلامي، وهو استمرار هذا الخطاب باستمرار الحياة البشرية.

وبغياب هذه الشروط والآليّات، أو التقصير في أحد مكوّناتها وشروطها، ستستمر المجازفات، وتهدر الطاقات، وتغيب أسرار التشريع ومقاصده.

استنتاجٌ وتعليق

إنّ الحاجة إلى الاجتهاد ضرورةٌ حضارية، وإن أيَّ توقُّف عن الاجتهاد والنظر يعني معاصرة الخلود، وتجميد الشريعة، والحكم بعدم صلاحياتها لكلّ زمان ومكان، وإزاحة لها عن واقع الناس، ووضعها في خانة التاريخ، وإعطاء العقل المسلم إجازة عطلة وراحة، الأمر الذي يمكِّن الآخر من امتداد قوانينه وقِيَمه إلينا، ويتحوَّل العقل المسلم إلى المساهمة في إنتاج الآخر، عوضاً عن أن يساهم في إنتاج الذات…([70]).

بعض آثار تعطيل الاجتهاد

رأينا في مقالٍ سابق حول أسباب تجميد ملكة الاجتهاد أنّ علماءنا وفقهاءنا اتّخذوا التقليد الأعمى للسلف الصالح ذريعةً للنأي بالفكر الإسلامي وبالسلوك عن الشبهات. وفهمنا أن هذه الذريعة لم تكن في محلّها؛ لأنّ ذلك المنحى أوقع الفكر الإسلامي في مطبٍّ عميق، أشبه بالكمين، شلَّ حركته وعطَّله، وعاقه عن التطوُّر والتجدُّد، وعن مواكبة العصور المتلاحقة.

صحيحٌ أنّ السلف الصالح كان صالحاً بكلّ معنى الكلمة، ولكنّ صلاحه كان محكوماً بأمور وشؤون وظواهر ومقاييس ومعايير من بنات عهوده، ولا تمتّ بأيّ صلة إلى ما صارت عليه أجيالٌ تعاقبت بعده، من الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد.

إنّ السلف الصالح لم يعرف الطائرات، ولا الغوّاصات، ولا السيارات المتدحرجة في كلّ مكان، ولا الصواريخ العابرة للأمداء. ولو كان قد اطّلع على هذه المصنوعات بما لديه من الفهم لقال: إنّها من الجانّ؛ إذ منه الغوّاص، ومنه الطيّار، ومنه عابر الأقطار، إلخ.

والسلف الصالح لم يعرف وسائل الاتّصال والتواصل القائمة حالياً. ولو كان قد عرفها، على سبيل المثال، لكان التوقيت بين كلّ الأقطار الإسلامية موحَّداً. لا أقول: التوقيت الزمني، فهذا تحكمه ظواهر كونية خارجة عن إرادتنا وقدراتنا، وإنّما أقصد الشعائر والأعياد والمناسبات الإسلامية؛ إذ لو كان السلف الصالح حاضراً اليوم لما أجاز أن تحتفل دولتان إسلاميّتان متجاورتان بعيدٍ من الأعياد الدينيّة، أو أن تؤدّي شعيرةً من الشعائر، في يومين مختلفين، بينما لا يتجاوز الفرق بينهما في التوقيت الزمنيّ دقائق معدودة، أو بعض ساعة، أو سويعات قلائل، الشيء الذي لا يفعل سوى أنّه يفرق و يشرذم، ويطبع علاقتنا ببعضنا بطابع الفصام والنشاز غير المبرَّرين.

لو كان السلف الصالح مقيماً بيننا اليوم لأقام الدنيا ولم يُقعدها إلى أنْ يعلم جميع المسلمين، ويعملوا بما علموه، بأنّ عيد الفطر مثلاً ليس عيدين أو ثلاثة أعياد، حتى يحتفل به في ثلاثة أيام متفاوتة، في بلدانٍ لا يفصل بينها سوى بعض اليوم بحساب الزمن، وبأنّ رؤية الهلال لم تعُدْ واردةً إلاّ في مكان القبلة أو في أيّ نقطة تكون محطّ اتّفاق المجتمع الإسلامي كلّه، كما في خطّ غرينتش الدولي على سبيل المثال، وبعد ذلك تعمل وسائل الإعلام والأخبار والاتّصال عملها، ليعلم كلّ المسلمين أنّ الهلال قد ثبتت رؤيته أو عدمها. وهذا الأمر لم يعُدْ يتطلَّب من أجل أن يعمَّم في مجموع المعمورة سوى دقيقة أو بعض دقيقة.

لو كان السلف الصالح حاضراً اليوم لنادى بتوحيد القراءة (بخصوص نصّ القرآن)؛ وتوحيد التفسير؛ وتجديد المصطلحات، ما دام الأساس اللغوي واحداً، ومرجعه قائمٌ إلى يوم الدين (القرآن الكريم)؛ وتوحيد التشريعات، ما دامت مرجعيتها واحدة (الكتاب؛ والسنّة؛ والإجماع)؛ وتوحيد الانشغالات والآمال والمطامح، ما دام عبء الدعوة الإسلامية قائماً على كاهل كلّ مسلم، ومطلب الدفاع عن حِمى خريطة الإسلام واجباً من آكد الواجبات، ومسؤولية تطوير وتجديد وتحديث دولة الإسلام الكبرى وسيلة وغاية في آنٍ واحد، وفي كلّ الأمكنة والأزمنة.

إذن كلّ هذه نقطٌ وأفكار للمناقشة، استوجبت من تقاعسنا عن الأخذ بما كان يأخذ به السلف الصالح من فنون الفهم والبحث والتحليل والتمحيص والاستنباط، واكتفائنا في مقابل ذلك بالأخذ بما كان ذاك السلف يمارسه ويقضي به في عهوده وعصوره الأولى، رغم اختلاف الظروف والظواهر والعلائق، وأسباب البحث والفهم، ووسائلهما، الآخذة في التبدُّل والتطوُّر يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد أخرى، حتّى لا أقول: في كلّ وقت وحين، وهو عينُ الواقع.

ولو كانت هذه وما يشابهها ويماثلها من الظواهر والأمور هي كلّ ما جنيناه من تعطيلنا لعقولنا، وتجميدنا لمَلَكة الاجتهاد فينا، لكان الأمر هيِّناً، ويسيراً على العلاج، ولكنّ الطامّة أنّ هذا لم يعُدْ يمسّنا نحن المسلمين فحسب، بل صار يهدِّد عقيدتنا، بعد أن أثبتنا بما نحن عليه من الجمود الفكري والعطل الإبداعي، ومن العجز عن التجديد والابتكار، أنّ الإسلام هو الآخر ـ وهذا عينُ الباطل ـ عاجزٌ عن مسايرة ركب العصر، وعن مواكبة مسيرة الحداثة، حتى صار بيننا «علماء» وباحثون وأساتذة نتغنّى بأسمائهم وإنجازاتهم ينادُون بعلمنة الإسلام، مع ما تشتمل عليه هذه الدعوة من مظاهر الفصام، والسقم الفكري، والجهل المقيم، ليس بشؤون الإسلام وروحه ومضمونه الفكري العقلي المتفوِّق والمتعالي على الجهد الإنساني برمّته فحَسْب، بل أيضاً بشؤون العلم والعلمانية، الشيء الذي جعل أصحاب هذه الدعوة هؤلاء يرَوْن العلم الوضعي بنظريّاته النسبية، والقابلة للتعديل والتغيير، والتصويب والتصحيح، يتعالى على الحقائق العلمية الدينية الواردة في كتاب الله العزيز. هكذا وبكلّ صفاقة ووقاحة؛ لمجرد كونهم ـ عفا الله عنهم ـ منبهرين إلى الجذور بأضواء الحضارة العلمية القائمة (بل الغربية)، وألوانها، وإغراءاتها، مع علمهم بأنّ هذه الحضارة لم تجِئْ على الصعيد الإنساني إلاّ بالتفكُّك الأسري، والانحلال الأخلاقي، والعبث الفكري، لم تأتِ إلاّ بالخسران في الدنيا قبل الآخرة.

إنّ أخطر نتائج تعطيلنا للاجتهاد الفكري في فهم الشأن الديني على حقيقته، لا كما نراه في منطلق قصورنا وعجزنا، أنّ المغرورين من علمائنا وأساتذتنا بدأوا يرَوْن أنّ شريعة الإسلام لا تساير التطوُّر القائم، ولا تجاريه، ولا تسير مع الزمن في سرعته وصيرورته. ولذلك ألقَوْا هذه الشريعة وراء ظهورهم، وما زالوا يفعلون، وانكبّوا على شرائع الآخرين، من غير المسلمين، ينقلون عنها ويقلِّدون، كما كانوا بالأمس ناقلين ومقلِّدين لأساليب فهم السلف الصالح.

فاستبدلوا القليل الجائز على علاّته بالكثير الفاسد رغم ألوانه وأضوائه، حتّى صرنا ضدّاً على إسلامنا، المعلَن على الأقلّ، نعيش ونتعامل ونتفاهم من منطلق فكرٍ دخيل، ونتحاكم إلى قوانين لا علاقة لها بعقيدتنا وبعاداتنا وتقاليدنا، ونقرأ ونعلِّم أجيالنا الناشئة أموراً تقلب حياتنا رأسا على عقب؛ من قبيل: نظرية دارْوِن المتهالكة في النشوء والارتقاء؛ ومن قبيل: تنظيرات فرويد المنقوعة في شَبَقية جنسيّة مريضة، وباعثة على الرثاء، حتّى لا أقول: الغثيان؛ ومن طينة فكرة النظام العالمي الجديد، التي يعلم الله سبحانه وتعالى كم سيمضي على العقل العربي والإسلامي من الوقت قبل أن ينتبه إلى أنّها ليست سوى دعوة إلى اعتناق جاهليّة حديثة متطوّرة، تتّخذ أصنامها أشكالاً جديدة مبتكرة، منها: الحاسوب، ومنها: بورصات القيم، ومنها: محاور للدفاع وللأمن، تزن الأمور بميزان العجل الذهبي الذي تركه السامريّ قائماً في العقول وفي القلوب، المطبوع عليها بالوَقْر، والمغلولة بالأكنّة…، وللحديث صلة.

 

(*) باحثٌ متخصِّص في العلوم الشرعيّة، من مصر.

الهوامش:

([1]) الشافعي، الرسالة: 477.

([2]) أبو بكر الجصّاص الحنفي، الفصول في علم الأصول 2: 319.

([3]) المصدر السابق 3: 346. ولمزيدٍ من التفصيل في قاعدة «لا اجتهاد في مورد النصّ» يراجع: د. نجم الدين الزنكي، الاجتهاد في مورد النصّ: 239.

([4]) البحر المحيط: 1: 444.

([5]) د. مسفر القحطاني، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة: 173.

([6]) الموافقات 4: 165.

([7]) الفصول في الأصول 1: 9.

([8]) السرخسي، الأصول 1: 10.

([9]) البرهان 2: 502.

([10]) السمعاني، قواطع الأدلة 2: 85.

([11]) الشافعي، الرسالة: 477.

([12]) الفصول في الأصول 1: 4.

وفي كتاب المقدّمات الممهدات 1: 42، لابن رشد: الحدّ «هو القياس، وهو أحد أقسام الاجتهاد».

([13]) د. أحمد بوعود، «فقه الواقع، أصول وضوابط»، كتاب مجلّة الأمّة: 74، 2002م.

([14]) د. بشر بن ملود جحيش، «في الاجتهاد التنـزيلي»، كتاب مجلّة الأمّة: 94، 2002م.

([15]) د. إدريس حمادي، الاجتهاد المقاصدي وإصلاح مدوّنة الأسرة: 101؛ إفريقيا الشرق المغرب: 206.

([16]) د. عبد الكريم مجاهد، الدلالة عند الأصوليين، مجلّة الفكر العربي، العدد 1، السنة السابعة، 1986م. ويراجع كذلك: د. عبد المجيد السوسة، الأسس العامة لفهم النصّ الشرعي، دراسة أصولية، مجلّة التجديد الماليزية: 99، السنة الثالثة.

([17]) إمام الحرمين، البرهان في أصول الفقه 1: 130.

([18]) هذا الكتاب حقَّقه حسن الهمداني، وصدر عن دار الكتاب العربي بمصر سنة 1957م.

([19]) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 3: 3.

([20]) عبد العال مكرم، المشترك اللفظي في الحقل القرآني، مؤسسة الرسالة، 1996م.

([21]) للوقوف على هذه المصنَّفات يستحسن الرجوع إلى: د. صالح الضامن، الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، مجلة آفاق الإماراتيّة، العدد 24، السنة التاسعة، 2001م.

([22]) البحر المحيط 1: 444.

([23]) الحرف «هو ما دلّ على المعنى في غيره». يراجع: الجرجاني، التعريفات: 85.

ويطلق المناطقة الرابط للدلالة على الحرف، وهو «اللفظة الدالّة على النسبة، وحكمها حكم الأدوات». يراجع: ابن سينا، العبارة: 92.

([24]) أبو الحسين البصري، المعتمد 1: 17.

([25]) السرخسي، الأصول 1: 111.

([26]) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 8: 20. وقد جاء في المصدر نفسه 3: 38: «إنّ اللغات إنّما رتبها الله عزَّ وجلَّ ليقع بها البيان، واللغات ليست شيئاً غير الألفاظ المركَّبة على المعاني المبينة على مسمّياتها».

([27]) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 3: 6.

([28]) د. عبد الرحمن بو دراع، أثر السياق في فهم النص القرآني، مجلة الإحياء المغربيّة، العدد 25، 2007م.

([29]) اعتبر الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي مبحثَ الدلالات لبَّ علم أصول الفقه. يراجع: البوطي، إشكاليّة تجديد أصول الفقه: 162.

([30]) المستصفى 2: 7.

([31]) د. فتحي الدريني، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي: 268.

([32]) د. عبد الحميد العلمي، منهج الدرس الدلالي عند أبي إسحاق الشاطبي: 252.

([33]) د. محمد إقبال عروي، الوظيفة الترجيحية للسياق عند المفسِّرين، مجلة آفاق الإماراتيّة، العدد 35، السنة التاسعة، 2001م.

([34]) الموافقات 3: 413.

([35]) ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام: 3: 117.

([36]) نجم الدين قادر زنكي، نظرية السياق، دراسة أصولية، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006م.

([37]) الاعتصام 1: 164

([38]) الإحكام في أصول الأحكام 2: 7.

([39]) التقريب لحد المنطق: 281.

([40]) الفصول في علم الأصول 3: 146.

([41]) الموافقات: 3: 41.

([42]) المصدر نفسه. ويراجع: د. عبد الكريم عكيوي، نظرية الاعتبار في العلوم الإسلامية، منشورات المعهد العلمي للفكر الإسلامي، 2008م.

([43]) البحر المحيط 6: 231.

([44]) الفصل 1: 44.

([45]) يقع كتاب التقريب لحد المنطق في الجزء الرابع من رسائل ابن حزم، التي حقَّقها د. إحسان عباس. كما قامت دار الكتب العلمية في بيروت بتحقيق هذا الكتاب، وإصداره ضمن منشوراتها لسنة 2005م.

([46]) التقريب 1: 22.

([47]) جعفر آل ياسين، المنطق السينوي: 11.

([48]) يراجع: د. عبد الرحمن الكيلاني، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ د. الجيلالي المريني، القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي: 203، منشورات دار ابن عفّان.

([49]) التقريب لحد المنطق 4: 95.

([50]) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل 1: 372.

([51]) يراجع: محمد بن محمد الصاعدي، قاعدة «لا متاع للاجتهاد مع النصّ وعلاقتها بسجل الاجتهاد الفقهي»، دار الكتب العلمية، 2007م.

([52]) الزركشي، البحر المحيط 6: 227.

([53]) المعتمد 2: 978.

([54]) د. عبد العزيز حريز، شرائط الاجتهاد بين النظرية والتطبيق المعاصر: 219، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويتيّة، العدد 5، 2002م.

([55]) نجم الدين زنكي، الاجتهاد في مورد النص، دراسة أصولية مقارنة: 17.

([56]) العزّ بن عبد السلام، قواعد الأحكام 2: 5.

([57]) بشرى الشقوري، الاجتهاد بين قاعدتي «لا اجتهاد مع وجود النصّ» و«الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً»، مجلة الحياة الطيّبة، العدد 14.

([58]) يراجع: قطب مصطفى سانوا، الاجتهاد الجماعي المنشود في ضوء الواقع المعاصر، دار النفائس، 2006.

([59]) الشيخ حسن بن موسى الصفّار، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي: 167، مكتبة الفجر الثقافية، 1426هـ.

([60]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي: 292، المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر، 1999م.

([61]) الشيخ سامي الغزيري، الاجتهاد وأثره في الشريعة الإسلامية، مجلة رسالة التقريب، العدد 1. ويراجع كذلك: زينب شوربا، نحو فهو معاصر للاجتهاد، حوارات في الاجتهاد، دار الهادي، 2004م؛ محمد واعظ زاده، الاجتهاد عند الشيعة الإمامية، مصادره وضوابطه، رسالة التقريب، العدد 26.

([62]) د. يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: 124.

([63]) أحمد الريسوني ومحمد جمال باروت، الاجتهاد: النصّ، الواقع، المصلحة: 63.

([64]) د. رقيّة جابر العلواني، أثر العرف في فهم النصوص: 71، دار الفكر، 2003م.

([65]) د. يوسف القرضاوي، موجبات تغيُّر الفتوى، برنامج (الشريعة والحياة) على قناة الجزيرة، من الحلقة 3 إلى الحلقة 6، 2007م.

([66]) يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: 60.

([67]) د. عصام البشير، الوسطية من خصائص الأمّة الإسلامية، درس حسني رمضان، 1424هـ.

([68]) للوقوف على حقيقة هذا النوع من الاجتهاد يستحسن الرجوع إلى: د. قطب سانو، الاجتهاد الجماعي المنشود في ضوء الواقع المعاصر، دار النفائس، 2006م.

([69]) مسفر بن عليّ القحطاني، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة: 54. ويراجع كذلك: د. عبد المجيد الشرفي، الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، كتاب مجلّة الأمّة، العدد 62، 1418هـ.

([70]) من مقدّمة الأستاذ عبيد حسنة لكتاب في الاجتهاد التنـزيلي، كتاب مجلّة الأمّة: 93.

 

المصدر : http://nosos.net/في-حقيقة-الاجتهاد-الأصول-والضوابط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky