الاجتهاد: من العلوم المرتبطة بعلم الأصول، والتي تشكل أحد فروعه والمقدمات للدخول فيه، هو العلم المتصل بمسألة الاستعداد والتهيئة لمرحلة الاجتهاد، عبر توفير الجو والمناخ العلمي والنفسي والعملي لهذه المرحلة، التي هي غاية طالب العلم ، والدرجة العليا التي يصل لها. / الأستاذ محمد علي الحرز *
وقد أبدا العلماء اهتماماً بالغاً بهذا الجانب، لما لها من أهمية كبيرة لطالب العلم لمعرفة الخطوات العملية التي يسلكها خلال سنين دراسته لبلوغ مرحلة الاجتهاد، وذلك حفاظاً عليه من التخبط، وعدم وجود الأرضية الصلبة لمثل هذه المرحلة.
إلا أن الكتابات في هذا الموضوع بقيت مضطربة في معظم الأحيان لعدم وضوح الخط الفاصل بينه وبين علم الأصول، مما تسبب الخلط لدى الكثير من كتب في الموضوع نتيجة العلاقة القوية بينهما، فينجرف نحو علم الأصول، بينما حقيقة العلم هو أشبه بالمقدمة العلمية للولوج في علم الأصول، وأن اتصلت ببعض أطرافه، لكن لا على نحو التعمق والغور فيه.
وتكمن أهمية علم الاستعداد أنه يختصر على طالب العلم الزمن، وينجيه من التخبط، ويضع بين يديه خبرات وعصارة تجارب وإطلاع العلماء في الكتب الدراسية ومصنفات الأعلام التي تساعد طالب العلم، وتعرفه على مميزات كل كتاب، وغث الكتب من سمينها، وهذا من الأمور التي لا غنى لطالب العلم عنها، إن لم تعد من ضروريات المعرفة والاطلاع في المراحل الحوزوية الأولى لمن أراد أن يلج في سلك رجال الدين وأعلامه.
تأسيس علم الاستعداد
يذهب بعض الأعلام مثل الآغا بزرك الطهراني في كتابه (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) إلى أن علم الاستعداد من العلوم الحديثة والمبتكرة خلال القرن الثالث عشر الهجري وأن أول من التفت لأهمية هذا العلم وصنف فيه، هو السيد معز الدين محمد المهدي بن الحسن بن أحمد الحسيني القزويني الحلي النجفي (ت ۱۳۰۰هـ)، عندما ترشح يراعه عن كتابه المعروف بـ(أساس الإيجاد في علم الاستعداد لتحصیل ملكة الاجتهاد)، والذي ألّفه بالكاظمية بالتماس من تلميذه میرزا محمد بن عبد الوهاب الهمداني الكاظمي في صفر سنة ۱۲۷5هـ(1).
ثم يعقب الشيخ الطهراني بقوله: “وعلم الاستعداد من فروع علم أصول الفقه وهو الذي أسسه واخترعه وألف فيه هذا الكتاب المرتب على مقدمه وتأسیسات وخاتمة “(2).
فيستفاد من كلام الآغا بزرك أن الأعلام قبل القرن الثالث عشر انحصرت مؤلفاتهم ومصنفاتهم بين علمي الفقه والأصول، وباقي العلوم المرتبطة بهما دون الخوض في نواحي الاستعداد التي بمثابة مقدمات طلب العلم، والتهيئة له للتعرف على الكتب الحوزوية الهامة لدراستها والإطلاع عليها.
بينما يميل البعض للقول بأن المحقق الكركي علي بن الحسین (ت 940هـ) هو أول من كتب في هذا الحقل المعرفي من خلال رسالته “طريق استنباط الأحكام”، الذي حاول من خلالها أن يمهد لطالب العلم الخطوات التي تسبق مرحلة الاجتهاد، ومعرفة كيفية الاستدلال من المصادر الأربعة، وعلى هذا يكون تأسيس العلم في القرن العاشر الهجري، وسابق لما سطره السيد القزويني.
إلا أن رسالة الكركي وللإنصاف فيها تداخل كبير مع علم الأصول في الكثير من أجزائها، وإن كتبت للغرض نفسه، والفكرة كانت حاضرة لديه قبل السيد القزويني بقرون عدة، وكان واعية بأهميتها لطالب العلم، وأنها من المقدمات، إلا أن رسالته كانت مقتضبة جدا وقد أشار إلى ذلك في مقدمتها.
والذي نذهب إليه إن الكلام السابق غير دقيق ويفتقر إلى الصحة والدقة، وهو إن الشيخ محمد بن علي بن أبي جمهور الأحسائي (المتوفي بعد سنة 906هـ) هو أول من صنف في هذا العلم رسالة مستقلة موسعة تتناول العلم من جميع جوانبه، وضع فيها العديد من المقدمات الهامة لطالب العلم، وقد قسمها إلى مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، ولم يقع في التداخل الكبير الذي حدث لدى المحقق الكركي، فيكون هو بحق مؤسس علم الاستعداد) و أول من صنف فيه، وواضعه ومخترعه، وليس القزويني أو الكرکی، وهذا ما سنحاول إثباته بالدليل خلال السطور الآتية.
نعم قد يقال إن السيد المهدي القزويني، هو أول من أطلق عليه (علم الاستعداد) وواضع المصطلح للعلم، والشيخ محمد ابن أبي جمهور هو أول من صنف في هذا العلم رسالة مستقلة تناولته من جميع جوانبه، بما يتناسب مع لغة عصره وزمنه.
إلا أنه حتى هذا الكلام لا يمكن التسليم والقبول به، فالشيخ ابن أبي جمهور، هو أول من أطلق لفظة (أهل الاستعداد)، على طلبة العلم وكررها في رسالته في الخاتمة التوجيهية في نهاية ” کاشفة الحال ” من خلال عدة عبارات منها :
” ما يوصلك إلى مطالبهم التي وصلوا إليها على قدر استعدادك “،(3)
وفي مقطع آخر من نفس الخاتمة يقول: ” وأعلم إن الله تعالی نفحات و واردات تصل إلى أهل الاستعداد على قدر استعدادهم، فكن متعرضة لها بكثرة الاستعداد.(4)
ويكرر الكلمة “الاستعداد” حيث يذكرها في موطن آخر وهو يحث على قراءة الأخبار وتصفح الآثار فيقول: “تجد منها الاستعداد التام(5)، ثم يكرر نفس المصطلح في التنبيه على أهمية علم الرجال فيقول : ” فإنك تجد بالمذاكرة الاستعداد التام.
ثم نجده يؤكد على مصطلح ( أهل الاستعداد) في جهة أخرى من الخاتمة نفسها حيث يقول ” فإن الله تعالى بكرمه يفيض على أهل الاستعداد(6).
فكلمة (علم الاستعداد) أو (أهل الاستعداد) ليس ثمة فرق كبير في العبارتين، وقد تكون الأولى مقتبسة من الثانية، لذا حتى إبداع المصطلح في الحقيقة هو حق علمي وفكري لشيخنا محمد بن علي بن أبي جمهور الأحسائي، وليس لغيره كما ذهب الآغا بزرك الطهراني.
بين ابن أبي جمهور والمحقق الكركي
سنحاول هنا أن نجري مقارنة بين رسالة ابن أبي جمهور (کاشفة الحال عن أحوال الاستدلال)، ورسالة المحقق الكركي (طريق استنباط الأحكام) ، وقد وقع هذا الاختيار للمقارنة لعدة أمور :
1- أن الرسالتين هما أول ما كتب في هذا المجال، فيشكلان البذور الأولى ل( علم الاستعداد لمرحلة الاجتهاد).
٢- التشابه الكبير بين الرسالتين في بعض أجزائها، لكونهما كتبتا بلغة عصر واحدة، وفي فترة متقاربة، وبنفس الذهنية والعقلية للقرن التاسع والعاشر الهجري، ومن التجني أن نجري مقارنة بين رسالتين يفصل بينهما أربعة قرون، لما يطرأ على الفكر من تغير، والعلوم من تطور .
وسوف نتناول البحث من خلال عدة نقاط :
– نبذة تعريفية بالمحقق الكركي .
– الصفات المشتركة بين الأحسائي والكركي .
– مقارنة بين الرسالتين من خلال :
1- غرض الرسالة .
۲- أسلوب العرض .
۳- منهجية البحث .
4 – نقاط الالتقاء بين الرسالتين .
الهوامش
1- مقتبس من كتاب العطاء العلمي والفقهي عند الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي محمد علي الحرز، مكتبة الفرزدق: الآحساء ، دار روافد: بيروت، الطبعة الأولى: 1442هـ – 2021 م: 377.
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، آغا بزرك الطهراني 2 / 6 .
3- الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، آغا بزرك الطهراني 2 / 6 .
4- كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال، مصدر سابق: 152 ، وسنوردها كاملة في نهاية الفصل.
5- كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال، مصدر سابق: 153.
6- كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال، مصدر سابق: 153.
7- كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال، مصدر سابق: 153.
8- كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال، مصدر سابق: 153.
* الأستاذ محمد علي الحرز
حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة الملك عبد العزيز بجدة.- خطيب ورجل دين.- عضو هيئة تحرير مجلة الواحة .- له عدة كتب مطبوعة:1- الشاعر علي الرمضان طائر الأحساء المهاجر .2- الشيخ باقر أبو خمسين علم وعطاء وأدب .3- التعليم التقليدي المطوع في الأحساء .4- العلامة السيد ناصر السلمان الزهد عندما يتجسد .إضافة إلى عدة بحوث منها :- القضاء الشيعي في الأحساء .- الوقف في الأحساء معالم وآفاق .- علماء الاحساء ودورهم في بناء الوحدة الوطنية .- ملامح من الحياة العلمية في الاحساء .- المخطوطة الأحسائية المهاجرة .- القبائل والأسر الأحسائية المهاجرة إلى العراق .- الهجريون ودورهم في رواية الحديث .- الإجازة الروائية والمشيخة في الأحساء .- القبائل والأسر الأحسائية المهاجرة إلى إيران .- من المكتبات الأحسائية الدارسة خارج الوطن.
تحميل البحث