الاجتهاد: يعرض سماحة المؤلف في مقدمة البحث، الدعاوى الثلاث للشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي في كتابه “هدایة الأبرار إلی طریق الأئمة الأطهار(ع)” الذي”أنكر استقلالية علم الأصول” وأن “الواضع الأول لعلم الأصول هم العامة” و”الاستغناء عن علم الأصول، لوجود ضروريات الدين ونظرياته في أحاديث الأئمة عليهم السلام”. ثم يبدأ بإنحلال هذه الدعاوى ومناقشتها والجواب عنها.
اختلفت المدرستان -مدرسة المحدثين ومدرسة الأصوليين– في قيمة علم الأصول عند علماء الإمامية ومدى اهتمامهم به على مدى التاريخ الفقهي، ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث بتمام فصوله، لعدم ارتباطه بهدفنا وهو تقديم أطروحتنا العامة في علم الأصول، ولكن من باب التمهيد للدخول في صميم البحوث الأصولية نستعرض بعض الجوانب المفيدة في تجلية واقع علم الأصول وأهميته التاريخية والفعلية بالنسبة للفقيه.
ونبدأ ذلك بعرض عبارات من كتاب هداية الأبرار للكركي نقلا عن القطيفي (1) – أحد مشائخ صاحب الوسائل – قال: “فأعلم أن علم الأصول ملفق من علوم عدة ومسائل متفرقة بعضها حق وبعضها باطل، وضعه العامة لقلة السنن عندهم الدالة على الاحكام “،
وقال: ” ولم يكن للشيعة في أصول الفقه تأليف لعدم احتياجهم إليه، لوجود كل ما لا بد منه من ضروريات الدين ونظرياته في الأصول المنقولة عن أئمة الهدى، إلى أن جاء ابن الجنيد فنظر في أصول العامة وأخذ عنهم وألف الكتب على ذلك المنوال حتى أنه عمل بالقياس “.
وهذا الكلام ينحل لثلاث دعاوى:
1 – إنكار استقلالية علم الأصول، بل هو بنظره مجموعة من المسائل الملفقة.
2 – إن الواضع الأول لعلم الأصول هم العامة، وأول من ألف فيه من الشيعة ابن الجنيد حتى أنه عمل بالقياس.
3 – الاستغناء عن علم الأصول، لوجود ضروريات الدين ونظرياته في أحاديث الأئمة عليهم السلام.
الدعوى الأولى ونقاشها: من الواضح أن كثيرا من المسائل المطروحة في علم الأصول لا مناسبة بينها وبين علم آخر، فبحث تعارض الأدلة الشرعية وطرق علاجه، وبحوث حجية الطرق والامارات كخبر الواحد والشهرة والاجماع، وبحث الظن الانسدادي، وموارد الأصول اللفظية كبحث تعارض العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ،
كل هذه البحوث لا علاقة لها بعلم اللغة ولا بعلم الفقه ولا بعلم الرجال ولا غيرها من العلوم، لأنها تتعلق بحجية الدليل الفقهي الذي هو مناط أصولية المسألة، فالمناسب لها هو علم الأصول.
ومجرد وجود بعض المسائل اللغوية في علم الأصول كبحث الوضع والاستعمال وعلامات الحقيقة والمجاز مما ذكر تمهيدا لبعض البحوث الأصولية، وكذلك بعض البحوث الكلامية والفلسفية كبحث اتحاد الطلب والإرادة وبحث اعتبارات الماهية في المطلق والمقيد مما ذكر تمهيدا لبعض البحوث الأصولية أو استطرادا، فهذه لا تخرج تلك المسائل السابقة عن كونها مسائل أصولية وكون العلم المشتمل عليها علما مستقلا برأسه، ما دام مناط المسألة الأصولية موجودا فيها كما سيأتي تحقيقه.
الدعوى الثانية وجوابها.
ونذكر هنا أمرين:
1 – إن أول مؤلف لمدرسة أهل السنة في علم الأصول هو رسالة الشافعي، وفي تلك الفترة كتب الشيعة رسائل مختلفة في علم الأصول أيضا، فقد كتب ابن أبي عمير – المتوفى عام 217 ه – ويونس بن عبد الرحمن – المتوفى عام 208 ه – في علاج الحديثين المختلفين،
وكتبا أيضا في العام والخاص والناسخ والمنسوخ كما يلاحظ عند مراجعة تراجمهم في كتب الرجال، وليس الشافعي أقدم منهما زمانا، فقد ولد عام 150 ه بعد وفاة الصادق عليه السلام بينما يونس بن عبد الرحمن أدرك الصادق عليه السلام وتوفي الشافعي عام204ه مقاربا لوقت وفاة يونس بن عبد الرحمن،
فلم يثبت أن الواضع الأول لعلم الأصول هو مدرسة أهل السنة، بل الشيعة كتبت في علم الأصول في نفس الفترة الزمنية لولادته عند أهل السنة، ثم جاء أبو سهل النوبختي وكتب رسالتين: إحداهما في بطلان القياس والعمل بخبر الواحد، والأخرى في مناقشة رسالة الشافعي،
ثم توسع علم الأصول على يد ابن الجنيد والمفيد والمرتضى في الذريعة والطوسي في العدة، وبذلك يتبين لنا أيضا عدم كون ابن الجنيد هو أول مؤلف شيعي في علم الأصول.
2 – إن نسبة العمل بالقياس لابن الجنيد وردت في عدة كتب ولكننا نحتمل أن تكون النسبة في غير محلها بمقتضى تتبعنا لاستعمال كلمة القياس، فلعل المراد بهذه الكلمة هو ما نعبر عنه بالموافقة الروحية للكتاب والسنة.
بيان ذلك: إن معظم الأصوليين المتأخرين فسروا الأحاديث الآمرة بعرض الخبر على الكتاب والسنة نحو: “ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف فذروه ” (2) بالموافقة والمخالفة النصية، بمعنى أن يعرض الخبر على آية قرآنية معينة فإن كانت النسبة بينهما هي التباين أو العموم من وجه طرح الخبر، وإن كانت النسبة هي التساوي أو العموم المطلق أخذ،
ولكننا نفهم أن المراد بالموافقة الموافقة الروحية أي توافق مضمون الحديث مع الأصول الاسلامية العامة المستفادة من الكتاب والسنة، فإذا كان الخبر مثلا ظاهره الجبر فهو مرفوض لمخالفته قاعدة الامر بين الامرين المستفادة من الكتاب والسنة بدون مقارنته مع آية معينة،
وهذا المفهوم الذي نطرحه هو الذي يعبر عنه علماء الحديث المتأخرون بالنقد الداخلي للخبر، أي مقارنة مضمونه مع الأصول العامة والأهداف الاسلامية، وهو المعبر عنه في النصوص بالقياس، نحو: ” فقسه على كتاب الله ” (3)،
إذن فمن المحتمل كون المراد من عمل ابن الجنيد بالقياس هو كونه من المدرسة المتشددة في قبول الحديث التي تلتزم بنظرية النقد الداخلي للحديث والموافقة الروحية فيه للكتاب والسنة، في مقابل مدرسة المحدثين التي تعتقد بقطعية صدور أكثر الأحاديث دون مقارنتها مع الأصول الاسلامية،
ومما يؤيد ما ذكرناه نسبة العمل بالقياس لأعاظم الامامية كما في رجال السيد بحر العلوم (4)، قال: ” فقد ذكر السيد المرتضى في رسالة له في أخبار الآحاد أنه قد كان في رواتنا ونقلة أحاديثنا من يقول بالقياس، كالفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن وجماعة معروفين “.
وقال في كشف القناع (5): ” وحكى – الصدوق – في مواضع متفرقة عن جماعة من أساطينهم العمل بالقياس، وفيهم من الأوائل مثل زرارة بن أعين وجميل بن دراج وعبد الله بن بكير “. ولا يتصور في حق هؤلاء الأعاظم العمل بالقياس الفقهي مما يشير إلى أن المقصود بالقياس هو التشدد في قبول الحديث بالعمل بنظرية النقد الداخلي،
ويؤيده ما حكاه المحقق (6) في المعارج، قال: ” المسألة السادسة: قال شيخنا المفيد: خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقرن بدليل يفضي بالنظر فيه إلى العلم، وربما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل أو حاكما من قياس “.
الدعوى الثالثة وجوابها:
ونقدم هنا ملاحظتين:
1 – إن وجود القواعد الشرعية في روايات أهل بيت العصمة عليهم السلام لا يلغي علم الأصول، فإن استفادة القاعدة والحكم من الحديث يتوقف على عدة عناصر أصولية، منها تحقيق الظهور من خلال مباحث الألفاظ المطروحة في علم الأصول كالبحث في الأوامر والنواهي والمفاهيم والعام والخاص والمطلق والمقيد،
ومنها الاعتراف بكبرى حجية الظهور، ومنها الاعتراف بحجية خبر الثقة، ومنها إجراء قواعد التعارض لو كان للنص معارض، وهذه العناصر كلها مدونة في علم واحد هو علم الأصول، فمجرد وجود القواعد والاحكام في النصوص المعصومية لا يلغي الحاجة لعلم الأصول.
ب – إن وجود القواعد الأصولية نفسها في النصوص والروايات، كالروايات الدالة على حجية خبر الثقة، وعدم حجية القياس، وحجية أصالة البراءة والاستصحاب، وقواعد التعارض، لا يلغي قيمة علم الأصول بل يؤكد لنا انبثاق هذا العلم من منبعه الصافي وهم أهل البيت عليهم السلام لا من المدارس الأخرى كما ذكر بعض المحدثين.
فوجود هذه المسائل الأصولية في النصوص كوجود بعض البحوث الأصولية في ضمن البحوث الفقهية، نحو ما ذكره الكليني في الكافي في كتاب الطلاق عن الفضل بن شاذان أنه استدل على بطلان بعض صور الطلاق بأن النهي يقتضي الفساد (7)، وهي قاعدة أصولية،
كذلك ما صنعه صاحب الحدائق عندما بحث حجية الاجماع ضمن حديثه عن صلاة الجمعة (8)، كل ذلك لا يلغي أهمية علم الأصول واستقلاليته عن غيره من العلوم، فإن ميزان المسألة الأصولية كونها باحثة عن حجية الدليل الفقهي، سواءا ذكرت بصورة مستقلة، أم في ضمن كتب الحديث، أو ضمن كتب الفقه،
ومن طبيعة كل علم تكامله على نحو التدريج لا الدفعة الواحدة، كما في علم المنطق حيث ذكر الشيخ الرئيس في الشفاء بأن أرسطو ما وضع علم المنطق وإنما أكمل ما وصل إليه من هذا العلم (9) فكون بعض مسائل علم الأصول كانت متفرقة في علوم أخرى ثم اجتمعت بصورة تدريجية لاشتراكها في هدف واحد تحت علم واحد يسمى بعلم الأصول لا يضر بأهمية العلم واستقلاليته.
الهوامش
(1) هداية الأبرار 333 و 234.
(2) البحار 2: 235 / 20، الوسائل 27: 118 / 33362.
(3) الوسائل ٢٧: ١٢٣ / ٣٣٣٨١، البحار ٢: ٢٤٤ / ٥٢.
(4) رجال السيد بحر العلوم ٣: ٢١٥
(5) كشف القناع ٨٣٠.
(6) معارج الأصول: ١٨٧.
(7) الكافي ٦: ٩٣ / 945.
(8) الحدائق الناظرة 9: 361.
(9) الشفاء 1: المقولات: 6.
المصدر: كتاب: الرافد في علمُ الأصول محاضرات آية الله السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله بقلم السيد منير السيد عدنان القطيفي الحلقة الأولى