الإمام الكاظم

سبل الحرب العباسية على العلويين .. سبيل المنهج الفقهي أنموذجاً

الاجتهاد: لقد اتبع العباسيون في سياستهم وحربهم القذرة للقضاء على أهل البيت النبوي “عليهم السلام” خاصة فكر الإمام الكاظم “عليه السلام” عدّة سبل منها: سبيل المنهج الفكري . فإننا بالرجوع إلى التاريخ سنجد أن الجهود التي بذلها الأمويون في الطعن بأهل البيت النبوي ومحاولات القضاء على البيت العلوي لا تبلغ معشار الجهود التي بذلها بنو العباس وعملاؤهم للقضاء عليهم

وقد بدأ هذا الأمر يتحرك ضمن اطارين:

الإطار الأول: أن العلويين ابناء بنت
فالجهود العباسية في هذا المضمار قد انصبّت على أن هؤلاء الذي ينتسبون إلى علي بن أبي طالب “عليه السلام” لا يمثلون لرسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” شيئا سوى أنهم أبناء عمه، ونحن كذلك أبناء عمه ، فنحن وهم على حد سواء في هذه المسألة. فكما أنهم يدعون بأن لهم الحق في خلافة الرسول فإننا ۔ بني العباس – لنا الحق أيضا في ذلك ؛ لأننا بنو عمه كما أنهم كذلك.

الإطار الثاني: شرك أبي طالب “عليه السلام”
إن أول من أكد على شرك أبي طالب “عليه السلام ” هم العباسيون، فهؤلاء يقولون: إن جدّ العلويين قد مات مشركاً، وان جدّنا قد مات مسلماً. وقد بذلوا جهوداً جبارة ضخمة في هذا الإطار، فاخترعوا روایات و نظریات كلها تدور حول أن أبا طالب عليه السلام” قد مات وهو مشرك، وضربوا بكل الأدلة التاريخية والعقلية عرض الجدار لأجل تحقيق هدف في نفوسهم هر تمويه حقيقة معينة، وبيان شيء مزيف للناس ينصّ على أن أبا طالب عليه السلام” قد مات وهو مشرك.

السبيل الثاني: السبيل السياسي
وقد عمد هؤلاء إلى محاربة أهل البيت “عليهم السلام”، مع أنهم الامتداد السماوي لرسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” من الناحية السياسية كذلك والقضاء عليهم وابعادهم عن الساحة السياسية تماماً.

ومن السبل التي اتبع العباسيون للقضاء على فكر الإمام الكاظم عليه السلام” هي السبيل الفقهي.

وقد حورب في هذا المجال على جميع الأصعدة، فكان كل من له علاقة بنظرية تمتّ إلى علي بن أبي طالب “عليهما السلام” بصلة يحارب ويطارد. وهو الحال في الأغلب في الأمور الفقهية، فقد كان فقهاء المدينة حينما يتناولون بعض الأحكام الفقهية فإنهم يذكرون فيها رأياً لعلي بن أبي طالب”عليه السلام”: فكان إذا أفتي أحدهم برأي علي بن أبي طالب “عليه السلام” يبعث خلفه الرشيد وينهاه عن ذلك، فقد ارسل خلف أحد الفقهاء، لا لشيء الّا لأنه أفتى وفق رأي أمير المؤمنين في مسألة التكبيرات في الصلاة على الجنازة ، وقال له: ألم تعلم أنّا قد نهينا أن يذكر لهذا الرجل رأي؟ إياك أن أسمع مثل ذلك منك مرة أخرى!

ومن هذا كذلك نظرية الوضوء التي وقعت مع علي بن يقطين، فنحن نعرف أن هناك خلاف بين الإمامية وباقي المذاهب الإسلامية الأخرى حوله، فالله تعالى يقول : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة: 6) فوقع الخلاف – من ضمن ما وقع – في مسح الأرجل أو غسلها، بناء على الاختلاف في تحديد المعطوف عليه؛ فالكعبان الواردان في الآية الشريفة هل هما العظمان الناتئان من جانبي القدم ، أو غيرهما؟

کتب علي بن يقطين لـ الإمام الكاظم “عليه السلام” : جعلت فداك ، إن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين، فإن رأيت أن تكتب إلي بخطك ما يكون بحسبه، فعلت إن شاء الله تعالى، فكتب إليه الإمام الكاظم “عليه السلام”: “فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلّل شعر لحيتك، وتغسل بدك إلى المرفقين ثلاثاً ، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ، ولا تخالف ذلك إلى غيره”.

فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين، تعجّب مما كتب له الإمام الكاظم “عليه السلام” ، واستغرب من حضر عنده، ثم قال: مولاي أعلم بما قال، وأنا ممتثل أمره.

وكان لابن يقطين مكانة عند الرشيد، وكان يستغلّها لخدمة أبناء المذهب وقضاء حوائجهم، وفعلاً راح يعمل في وضوئه على هذا الشكل الذي رسمه له الإمام ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالا لأمره.

فسُعي به إلى الرشيد وقيل له: كيف تأتمن مثل هذا على بيتك ونفسك ودولتك؟ قال: ما الخبر؟ قيل: إن علي بن يقطين رافضي مخالف لك، وهو من أتباع علي بن أبي طالب “عليه السلام”. فقال : إني لا أرى أنه قد قصّر في خدمتي، ولا أظن أن عنده هذا الذي ترمونه به.

أي أن هذا الأمر – ولاء علي بن أبي طالب “عليه السلام” – يُعدّ جريمة في نظر السلطات، ولذا فالقائمون عليها ينفون هذه التهمة التي يعتبرونها عاراً عن كل من يرون أنه مواليا لهم، مع أن هذا الأمر كان في القرن الأول بسبب الخلافة لكن الآن بأي سبب؟ والغريب أن البعض ليس له من هم سوی شتمنا بهذا!

وعلى العموم بعد أن كثرت الوشاية به عند الرشيد قال لبعض خاصّته: قد كثر عندي القول في علي بن يقطين والاتهام له بخلافنا، وميله إلى الرفض، ولست أرى في خدمته لي نقصيراً، وقد امتحنته مراراً ، فما ظهر منه ما يقرف به، واُحبّ أن أستبري أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرّز منی، فقيل له: إن مذهب الرافضة يخالف مذاهب الجماعة في الوضوء فيخففه، ولا يرى غسل الرجلين، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه. فقال : أجل، إن هذا الوجه يظهر به أمره.

ثم تركه مدّة وناطه بشيء من الشغل في الدار، وقال له: إنه لیں کل أحد يصلح لهذه المهمة، ولست آمن على داري أحدا غيرك، فقام بها ابن يقطين، حتى إذا دخل وقت الصلاة – وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته – وقف الرشید من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو، فدعا بالماء للوضوء، فتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه، وخلل شعر لحيته وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه كما أمره الإمام ، والرشيد ينظر إليه، فلما رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه ، ثم ناداه : كذب با علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة، وصلحت حاله عنده.

وبعد ذلك ورد عليه کتاب من الإمام الكاظم: ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين، توضّأ كما أمر الله تعالی ؛ اغسل وجهك مرة فريضة وأخرى إسباغاً ، واغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك؛ فقد زال ما كان يُخاف عليك، والسلام”(1)

فالإمام الكاظم يأمره بأن يتوضأ على الطريقة التي عليها أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى، ويأمره بأن يبقى على هذه الشاكلة حتى يأتيه کتاب آخر منه في هذا الخصوص؛ لأنه علم – بتعليم الله له – بما يدبّر له .

التشيع جريمة في نظر السلطات

والواقع كما هو معروف أن علي بن يقطين كان ذا مكانة مرموقة في البلاط العباسي كما هو مذكور في كتب التواريخ والسير، وكان يستغل هذا المركز في دفع البلاء عن أتباع مذهب أهل البيت “عليهم السلام” كما ذكرنا، بمعنى أنه كان يخدم المذهب من خلال مكانته ووجوده في السلطة . وعليه فإن هؤلاء الذين وشوا به إلى الرشيد لم يكونوا ليشوا بمثل هذه الشكاية والتهمة إلا إذا كانت تعد جريمة عند أصحاب السلطة، أي أن السلطة في ذلك الوقت كانت ترى أن موالاة علي بن أبي طالب “عليه السلام” واتباعه جريمة تخالف قانونهم وتهدم عروشهم، كما ذكرنا قبل قليل.

ولذا فإننا نجد أنهم قد حاربوها بشتى أنواع المحاربة، غير أن الله جل وعلا أراد خلاف ما أرادوا ؛ ولهذا فإننا وجدنا أن الرشید قد دافع عنه رادّاً عليهم بأنه شخص مخلص ولم يقصر في أداء واجبه أو خدمته للخلافة .

وهذا الأمر ليس وقفاً على زمان معين دون آخر، بل إنه لازال يعيش حتى هذه اللحظة ، فهناك من لا شأو له في الحياة إلا أن يشتم هذا المذهب وأتباعه، والأنكی والأدهى أنه لا يتم إلاّ بما فيه هو: رمتني بدائها وانسلّت.

وهذه المسألة مما يجب التنويه بها ولفت النظر إليها؛ لأنها مما يجب أن يعرف به الناس وأن يطلع عليه أبناء هذا الدين الحنيف؛ ليعرفوا من هو المحق من المبطل ، وقد جاءني هذا اليوم منشور يذكر فيه أصحابه أن من أراد أن يتزوج زواج “المسيار” فعليه أن يتصل بهذا الرقم؛ فإنهم سيقومون بتوفير هذه الزوجة وبإجراء اللازم له.

وهذا الزواج ليس في حقيقته وواقعه الا زواج المتعة ، وإذا كان الأمر كذلك وكان يروَّج له وتفتح له المكاتب فلماذا إذن تفتعل هذه الضجة الكبيرة على الشيعة، ويسبون بسبب هذا الأمر وهو أمر مشروع يعملون به هم أنفسهم؟ مع أننا لا نفعل حول زواج المتعة هذا الفعل ولا نقرّ به ولا نقرّره بهذا الإقرار أو النقرير، بل اننا نضعه في حالات معينة لعلاج بعض ما يعتري الأشخاص الذين يعيشون في غربة مثلا ولم يكونوا يصبرون عن ممارسة هذا الحق المشروع، فيأتي الرجل إلى المرأة ليعقد عليها عقداً مؤقتا، فليس في الأمر مکاتب ولا أرقام هواتف ولا ما إلى ذلك مما يروج به هؤلاء لتجارتهم هذه.

ولست أدري لماذا لا نتحلّى بصدور واسعة وبمستوى من العقل والذكاء يمكننا من فهم الآخرين بشكل أفضل أو بشكل صحيح، دون أن نلجأ إلى المهاترة والسباب والتكفير وما إلى ذلك؟

إن العلماء يقولون: إن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، وهذان مثلان فلماذا يجوز هناك ولا يجوز عند أصحاب هذا المذهب؟ إذن فالواجب أن نتحلى بصدور رحمة واسعة وأن نكون على مستوى المسؤولية التي وضعنا الله بها كي نفهم الآخرين فهما صحيحاً، ولا نسيء اليهم ، فكل منا رافد يصب في نهر محمد بن عبد الله . .

وبناء على هذا فيجب على كل مسلم أن يناقش أحكامه وأحكام الآخرين مناقشة موضوعية خاضعة للفهم والعقلية الناضجة ؛ لأن المسلمين هم عائلة واحدة ينتمون إلى دين محمد بن عبد الله . لكن ما الذي يمكن أن نفعله ازاء هذا الأفق الضيّق المحدود وصاحبه الذي يحاول أن يحبس نفسه بين طيات مجموعة من الآراء التي تمنعه من أن ينطلق ، وأن يفكّر، وأن يستوعب الأخرين بعقله وحكمته؟

إذن فالمسألة في واقع الأمر قد بدأت تأخذ أبعاداً كبيراً جدا إلى درجة أن الفقيه الذي يذكر رأياً لعلي بن أبي طالب فإنه يتعرّض للمساءلة القانونية بناء على أوامر السلطان القائمة. كما أن هناك حالة أخرى تروى في هذا المجال وهي أن بعض أئمة الصلاة كبَّر التكبيرات في صلاة العيد على رأي علي بن أبي طالب، ذلك أن رأي علي في التكبيرات المختصة بصلاة العيد يختلف عن رأي غيره من الصحابة، فلما بلغ السلطات الحاكمة آنذاك أرسلت خلفه وعنفته ونهته أن يكرر مثل هذا الفعل نهيا قاطعا لارجعة فيه.

يذكر الكاتب محمد أبو زهرة في كتابه ( الإمام الصادق “عليه السلام”) قائلا : إن من غير المعقول أن يقتل هؤلاء أبناء علي “عليه السلام” بالسيف، ثم يعمدون إلى القول بآرائهم الفقهية أو الأخذ بها.

وهذا واقع؛ لأنهم حتما سوف يحاولون القضاء على الفكر كما يحاولون القضاء على صاحبه ، فإذا كان هذا الفكر أو هذا الرأي أو هذه النظرية تعلي شأن صاحبها فهم حتماً سوف لن يوافقوا على الإبقاء عليها؛ لأنها حينئذ ستشكّل عنصر خطر لهم؛ لذا فإنهم عمدوا إلى محاربة كل رأي ، أو كل نظرية تنسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “عليه السلام” ، أو أحد من أبنائه “عليهم السلام”، فشوّهوها ونسبوها إلى النقائص.

وهكذا فإننا نجد أن هؤلاء قد حاولوا جاهدين، وعملوا مصرين على ابعاد آل أبي طالب ع عن هذه الساحة في جميع أصعدتها ونشاطاتها ؛ سواء الفقهية منها أو الكلامية أو السياسية وما إلى ذلك.

———

1 – الإرشاد 2 : 227، مناقب آل أبي طالب 4: 288. الخرائج والجرائح 1: 335 / 26.

 

 

المصدر: كتاب سيرة اهل البيت “عليهم السلام” من محاضرات الدكتور الشيخ أحمد الوائلي(المجلد الثالث، الصفحة 129)

 

سيرة أهل البيت عليهم السلام مع فهرس جميع المجلدات / تحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky