رسالة التفقه في الدين

رسالة التفقه في الدين .. في المحاكمة بين الفاضلين / تحقيق الشيخ هادي القبيسي

هذه المقالة كما يقول الباحث في الحوزة العلمية بقم المقدسة الشيخ هادي القبيسي العاملي والذي قام بتحقيقها فضيلته، منازعة حصلت بين الشيخ حسن بن زين الدين – الشهيد الثاني – صاحب معالم الدين وملاذ المجتهدين، وبين تلميذه المتأخر زماناً منه الشيخ عبد اللطيف الجامي العاملي في مسألة عنوانها تقليد الميت. وبعد مدة اطلع على هذين الرأيين المحدث محسن الفيض الكاشاني، فصاغهما بیراعه على شكل محاكمة بين متنازعين ثم أعقبها بیان رأيه وحكم بحكمه. كذلك أضاف المحقق القبيسي ردّ قيّم للعلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري على المسألة، ومن هنا صارت المحاكمة.

الاجتهاد: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه محمد و آله الطيبين الطاهرين.

وبعد، فيما كنت أتصفح إحدى مجلدات الذريعة للعلامة البحاثة الطهراني إذ وقع ناظري على عنوان كان لافتاً للوهلة الأولى، یحمل اسم محاكمة بين الفاضلين، فقلت في نفسي: وما عساها أن تكون تلك المحاكمة، وما هو النزاع الذي أدى بهما إلى هذا الأمر.

وعلى أي هذا العنوان جعلني أبحث عنه في المكتبات العامة، ومن حسن الصدف أني عثرت علی نسخة كتبت بخط ابن المؤلف نقلها عن نسخة بخط والده. فقرأتها من أولها إلى آخرها فاتّضح لي أن المنازعة حصلت بين الشيخ حسن بن زين الدين – الشهيد الثاني – صاحب معالم الدين وملاذ المجتهدين، وبين بعض الفضلاء الذي لم يذكر المؤلف اسمه، ولم تكن تلك المنازعة في مجلس واحد، ولكن الفاضل متأخر زماناً عن صاحب المعالم في كلامه هذا.

وبعد الفحص والتتبع في المصادر اتّضح لي أن الفاضل هو تلميذ صاحب المعالم – الشيخ عبد اللطيف الجامي العاملي – فليس ببعيد عن آرائه العلمية.

وأما المسألة المتنازع عليها فعنوانها تقليد الميت، وقد ذهب الشيخ حسن في رسالة له إلى وجوب الاجتهاد على القادر وعدم جواز تقليد الميت مطلقاً، وعدم اعتبار الاجتهاد المتجزیء، وكان للتلميذ رأي مخالف لرأي أستاذه فعبر عن قناعاته العلمية. وبعد مدة اطلع على هذين الرأيين المتخالفين علم من أعلام الطائفة ورمز من رموزها، ألا وهو المحدث الشيخ محمد بن المرتضى المدعو بمحسن الفيض الكاشاني، فصاغهما بیراعه على شكل محاكمة بين متنازعين ثم أعقبها بیان رأيه وحكم بحكمه، ومن هنا صارت المحاكمة.

فعبر عنها تارة بالمحاكمة وأخرى بالتفقه في الدين أما ما ذهب إليه الفاضلين صاحب المعالم وتلميذه من رأي فالظاهر أنه جزء من رسالة عقدها الأستاذ في حكم تقليد الميت ورد عليها التلميذ، ونحن إلى الآن لم نوفق للوقوف عليهما والاطلاع على محتواهما وحجمهما، نسأل الله تعالى أن يهيء لنا الظروف المناسبة للحصول عليه وأثناء تصحيحي لهذه الرسالة عثرت علی ردّ قيّم ومقيد للعلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري في كتابه كشف الأسرار في شرح الاستبصار فذیلت الرسالة بها تعميما للفائدة فأصبحت بثلاث ردود لثلاثة أعلام.

وقد اكتفيت في المقدمة بشرح حال و ترجمة الفاضل التلميذ فقط لعدم اشتهاره، و کثرت من ترجم للشيخ حسن والفيض وكذا الجزائري مراعاة للاختصار.

الشيخ عبداللطيف: هو ابن الشيخ علي بن أحمد أبي جامع الجامعي العاملي المتوفي ۱۰۵۰هـ.

ما أنقله ملخصا من أعيان الشيعة ٤٥/٨ كان فاضلاً عالماً محققاً صالحاً فقيهاً، قرأ على الشيخ البهائي وعلى الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني وعلى السيد محمد بن السيد علي أبي الحسن العاملي – صاحب المدارك – وأجازوه.

له مصنفات منها كتاب في الرجال، وكتاب جامع الأخبار في إيضاح الاستبصار وغير ذلك ويعبر عن صاحب المعالم بمفيدنا وعن صاحب المدارك بشيخنا، وقال أيضا في معرض الكلام عن كتابه في الرجال: ويصلح أن يكون مقدمة من مقدمات کتابنا جامع الأخبار في إيضاح الاستبصار، فإني عمدت فيه إلى إثبات ما طرحه مشائخنا المتأخرين صاحب المعالم والمدارك من الضعيف بل الموثق بحسب الأصطلاح الجديد، فهدموا بذلك أكثر من نصف أحاديث الكتب الأربعة لأمر شرحناه هناك

وقال في آخر کتاب الرجال – بعد إيراد رسالة أستاده صاحب المعالم في عدم جواز تقليد الأموات: وقفت علی کلام في بحث التقليد لشيخنا المحقق الحسن ابن زین الدین الشهيد الثاني، فإذا هو قد ضيق على المكلفين المسالك وأوقعهم في المهالك فأحبت إيراده مع ما يرد عليه، وتحقيق الحق في ذلك. قال 1: فائدة مهمه لا نجاة لمكلف من أخطار التفريط الخ.

له مؤلفات منه

۱- کتاب الرجال وصف بأنه لطيف مفيد، وقال هو: إنه يصلح أن يكون مقدمة الكتابه جامع الأخبار.
۲ – جامع الأخبار في إيضاح الاستبصار.

٣- كتاب في المنطق.
۴- حواشي على المعالم.
۵- رسالة في رد کلام صاحب المعالم في الاجتهاد والتقليد التي منها هذا الرد.
ومنه يعلم أن ذلك الفاضل الذي رد على صاحب المعالم هو شيخنا المترجم الذي خفي اسمه على علامتنا الطهراني في الذريعة وغيره ممن تعرض للرد على صاحب المعالم، والعبارة التي استهل بها صاحب المعالم رسالته شاهد على ما نقول الا نجاة لمكلف من أخطار…

نسبة الرسالة وتسميتها:

كل من تعرض لهذه الرسالة نسبها للفيض الكاشاني وعدها من مصنفاته و أنه جمع فيها كلاماً لصاحب المعالم وردا عليه لبعض الفضلاء، الذي تعرفنا على شخصيته فيما بعد من خلال التتبع، وهو الشيخ عبد اللطيف العاملي أحد تلاميذ صاحب المعالم،وحاكم بينهما، وقد صرح في أوله

ا ب : رسالة في التفقه في الدين، وأعقبها بعبارة: ثم المحاكمة بينهما ولذا نرى صاحب الذريعة ذكرها في ج ۱۱/ ۱۵۳ باسمها، وأشار إليها بعنوان المحاكمة بين الفاضلين في ج ۱۳۹/۲۶.

وجاء في بدايتها: فيقول: محمد بن مرتضى المدعو بمحسن هذه رسالة في تحقيق التفقه في الدين. ولعل من هذه العبارة دخلت الشبهة على مفهرس مكتبة السيد الگلپایگاني حيث سماها التحقيق في التفقه في الدين.

النسخ المعتمدة:

۱- النسخة المحفوظة في مكتبة السيد المرعشي النجفي في قم المقدسة برقم ۳۱۹۳ وقد رمزنا لها بالأصل. وهي نسخة كما ورد في نهايتها كتبت بخط ابن العلامة المحدّث الفيض الكاشاني الشيخ محمد علم الهدی ابن محمد محسن بدون تاریخ في كل صفحة ۱۸ سطراً بقياس (۲۲ × ۱۳) ذكرت في فهرسها ٤١٥/١٨.

۲- أيضا في مكتبة السيد النجفي برقم ۱٤۰۱/۱۰ وقد رمزنا لها ب : (ب) وهي ضمن مجموعة تقع في الفقرة ۱۰ كلها من مؤلفات الفيض الكاشاني و كتبت المجموعة سنة ۱۲۹۰ ه في محرم الحرام. في كل صفحة ١٦ سطرأ بقياس ١٦ × ۱۰/۵ سم ذكرت في فهرسها ۱۷۹/٤.

٣- النسخة المحفوظة في مكتبة السيد الگلپایگاني في قم المقدسة برقم ۳۳ ۳۵ وقد رمزنا لها ب (ج) ضمن مجموعة في الفقرة ۳۰ تاریخ کابتها ۱۱۰۳ ه السطر ۲۹ × ۱٥ ذكرت في فهرسها ۱/ ۱۵۳. ولكنها وردت تحت اسم تحقيق في الفقه في الدين وهذا سهو من المفهرس. كما أنه ذکر تاریخ کتابتها ۱۱۰۳ والحال أنه هكذا ورد (۱۱۲) وقد يكون سنة (۱۱۲٠)، لاحظ الفهرس.

عملنا في الرسالة

لما كانت نسخة الأصل هي الأقرب لمراد المصنف ومقصوده حيث كتبت بخط ولده العالم الشيخ علم الهدی عن نسخة والده،فاعتمدناها أصلا في التحقيق، واستعنا بباقي النسخ للتأكد من عدم وجود خلل أو نقص أو تغير، فعارضت نسخة الأصل على النسختين الآنفي الذكر وأشرت إلى الاختلاف في الهامش، ثم استخرجن الآيات والروايات من مصادرها، وبعدها قمت بتقطيع النص إلى فقرات و تقویمه بما تقتضيه القواعد الفنية للتحقيق.

والحمد لله الذي وفقنا للمساهمة في دفع عجلة التراث قدما نحو التطور والتصحيح، وأتقدم بخالص الشكر إلى كل من ساهم في إخراجهم هذه الرسالة لتبصر النور، والحمد لله أولا وآخرا.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين وكتب العبد هادي قبيسي العاملي حامداً مصلياً

رسالة التفقه في الدين ( المحاكمة بين الفاضلين)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد و آله الطاهرین. وبعد، فيقول محمد بن مرتضى المدعو بمحسن: هذه رسالة في تحقيق معنى التفقه في الدين، أوردنا فيها كلام بعض المحققين، ثم ما أورد عليه بعض المعترضين، ثم المحاكمة بينهما بما سنح لنا من كلام مبين.

قال المحقق الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين العاملي قدس الله تعالى روحهما: لا نجاة المكلف من أخطار التفريط في جنب الله، والتعدي لحدوده بدون الوصول إلى رتبة الاقتدار على استنباط الأحكام التكليفية، واقتناصها من أصولها وماخذها بالقوة القدسية، أو بالتقليد لمن هذا شأنه مشافهة، أو بتوسط عدل فصاعدا، بشرط كونه حيّاً.

والاستراحة في ذلك إلى فتاوى المونی کما يصنعه بعض الأغبياء، الذين يبنون تدينهم وتقواهم على غير أساس، وكثير من الأشقياء الذين يراوون الناس هذيان يدرك فساده بأدنی نظر و هوس(١) يری بطلانه كل من أبصر، فإن التقليد من حيث هو غير محصّل لليقين والجزم في باب العرفان بما يريده الله تعالى و يطلبه من المكلفين، وإنما يحصل فيه الظن، وفي مشاهدة أقوال العلماء تنبيه على ذلك لمن هو راقد على مهاد الغفلة، فإن أحكام الله سبحانه لا تختلف ولا تتغير بعد انقطاع الوحي، وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على المنع من اتباعه على أي وجه اتّفق، ومن كل جهة حصل، بل هو مخصوص بمواضع ثبت حكمها بدلیل قطعي لا ظنّي، فإن اعتماد الظن في ذلك دور صریح تقضي البديهة ببطلانه.

ومن جملة المواضيع التي تثبت بالقطع ظن القادر على الاستنباط، وظن المقلد للمجتهد الحي في قول جمهور العلماء، لم يخالف فيه إلا من أوجب الاجتهاد عيناً من علمائنا.

وحينئذ فيحتاج في اتباع الظن الحاصل من تقليد الميت إلى حجة ودليل قاطع، وكيف يتصور وجوده ولا يعرف من علمائنا الماضين قائل بذلك ولا عامل به؟ ولو وجد له دلیل ظني استخرجه بعض العلماء لم يُجد(۲) شيئاً؛ لأن المحصل لهذا الدليل إن كان من أهل الاستدلال فهو ممنوع من التقليد لغيره من الأحياء والأموات، فلا فائدة له في ذلك، وحصول الفائدة لغيره ممن فرضه التقليد غير متصور في زمن حياته؛ لتعين الرجوع إلى الحي على ما حقق في موضعه؛ وبعد موته تصير فتواه في هذه المسألة مثل غيرها من الفتاوى الصادرة عن الموتی، فيحتاج اتباعها والعمل بها إلى حجة قطعية، والمفروض انتفاؤها.

وكيف یتصور عامل أن يجعل حجته وطريقه في عمله بقول المجتهد الميت بمجرد قوله إن وجد. ومع فرض كون المحصل للدليل المذكور غیر متمكن من الاستدلال على غير ذلك من الأحكام يكون متجزئاً فيه.

والمسلك الذي حررناه في إبطال العمل بقول المیت یلتفت منه الفطن إلى إبطال طریق التجزّي ایضا، فإنه ليس عليه دلیل قطعي بغير شك، واعتماد الدليل الظني فيه غير معقول؛ لأنه تجزّ في مسألة التجزي وهو دور ظاهر، وهذا القدر كاف في الإشارة إلى ما يجب التعريف به، وتفصيل المقام في مواضع أخر قد استوفينا القول فيها بتوفيق الله تعالى، وخصوصا في الكتاب الموسوم بمشكاة القول السديد في تحقيق الاجتهاد والتقليد. نسأل الله الإمداد بالتوفيق، انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

واعترض عليه بعض الفضلاء (۳)

بأن مدار ما اعتمده (طيب الله مرقده) على أن من ليس له رتبة الاجتهاد لا يجوز له العمل بشيء من المسائل الشرعية إلا بتقليده للمجتهد الحي؛ ولو صح ما ذكره للزم إما تکلیف ما لايطاق أو خلوّ المكلف عن التكليف، والتالي بشقيه باطل، فكذا المقدم .

بیان الملازمة: إن المكلف إذا لم يكن قادراً على تحصيل العلم بما كُلّف به ومُنع من العمل بالظن في ذلك فلا يخلو إما أن يكون باقياً على التكليف بالعلم فيلزم الأمر الأول، أو لا فيلزم الأمر الثاني.لا يقال: هنا ظن جوزنا العمل به وهو تقليده للمجتهد الحي فلا يلزم شيء من المحذورین.

لأنّا نقول: الدليل على جواز التقليد للحي أيضا ظني، ووقوع الخلاف فيه كما اعترف به في شاهد على ذلك، فيبطل بما أبطل به تقليد المیّت. سلمنا كونه قطعياً لكن قد یعدم المجتهد الحي. وما ذكروا من الدليل على امتناعه أوهن من بيت العنكبوت. سلمنا امتناع ذلك، لكن لا سبيل للمقلد إلى معرفة اجتهاد المجتهد إلا الظن الناشيء من إخباره وممارسته ممن له أهليتها وتصديه للفتيا وإقبال الناس عليه، وعدم النكير عليه، وكل ذلك إنما يثمر ظنّاً.

سلمنا إمكان العلم باجتهاده لكن قد يتعذر الوصول إليه، ويتم الملازمة على هذا التقدير. وأما بطلان اللازم بشقيه فهما قبيحان، فلا یصدران من الله تعالى، على أنّا نقول: إن ما ذكره من دلالة الأدلة العقلية والنقلية على المنع من اتباع الظن إن أراد به الدلالة الظنیّة فمسلّم، ولكن ينهدم بذلك أركان الدور الذي ادعاء كما هو واضح، بل يقوى لزوم مثل هذا الدور على تقدير التمسك بها في إبطال العمل بالظن، وإن أراد به الدلالة القطعية فهو ظاهر البطلان.

أما العقلية فقد ذكروا لها وجوها لا تثمر ظنّا فضلا عن القطع. وأما النقلية فقد أشار إليها في حجة مانعي العمل بخبر الواحد في كتابه الموسوم بمعالم الدين وملاذ المجتهدين، حيث قال: حجة القول الآخر عموم قوله تعالى و”لا تقف ما ليس لك به علم” (۴) فإنه نهي. إلى آخر ما قاله. وإذا كان أمر هذه الآيات في الدلالة بهذه المثابة فكيف يمكن التمسك بها في إثبات المنع من اتباع الظن، وهل هذا إلا إبطال الشيء بنفسه أو إثبات الشيء بنفسه فتبصّر؟

(اعتراض الفيض الكاساني)

أقول: قد أخرج الله سبحانه وله الحمد بعض عباده بنور التوفيق من ظلمات هذا المضيق، بأن فتح على قلبه باباً من أبواب التحقيق وهو أن التفقه في الدين، والتوصل إلى علوم سیدالنبيين(ص)، لا يحصل إلا بالسماع عن أهل بيته المعصومين، واقتفاء آثار أولئك الأئمة الهادین صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، كما قال الله عز وجل: “فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”(۵) وقال الصادق :”أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا”.(۶)

رواه في الكافي في جملة مما في معناه تكاد تبلغ حد التواتر دون اتباع الظن الحاصل من الاجتهاد والرأي، فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، مع أنه لم يرد بذلك إذن من الشارع، بل النهي عنه وارد في القرآن وفي أخبار بلغت حد التواتر، على أن فيه من الشكوك والشبهات، وزيغ الأهواء واختلاف الآراء ما لا يخفى.

وعلى هذا فكل حكم شرعي ورد به نصّ خاصّ جزئي معتمد عليه عنهم ، أو أصل محكم كلي كذلك، يمكن أن يفهم منه الحكم الجزئي كما من له طبع سليم وذوق مستقيم، فهو واجب الاتباع سواء كان المفتي بذلك حيّاً أو ميتاً، وسواء كان هو العامل أو غيره، إذ لا تأثير للموت والحياة في ذلك، فإن حلال محمد حلال (أبدا) إلى يوم القيامة وحرامه (أبدا) إلى يوم القيامة(٧)، لا يتغير ولا يتبدل، ومن لا يفهم لابد وأن يرجع إلى من يفهم، وكل حكم لم يرد به نص جزئي أو كلي كذلك فهو باطل زائف لا يعول عليه ولا يركن إليه.

وإن ادعي فيه الإجماع أو اختلط فيه بين الرأي والسماع، كما قال مولانا الصادق : كل علم لا يخرج من هذا البيت فهو باطل، وأشار بيده إلى بيته(٨). سواء كان الحاكم به حيّاً أو ميتاً، وعلى هذا لا يقع الاختلاف في الحكم إلا نادرة؛ إذ الاختلاف في الحكم لا يخلو إما أن يكون من جهة اختلاف الآراء والظنون الاجتهادية، وقد أبطلناه.

وإما أن يكون بحسب اختلاف الأخبار الواردة عن المعصومين ، وقد استفاض الأخبار عنهم لا بطريق الجمع بينها إذا اختلفت، وذاك الطريق واحد في التحقيق، فإذا كان العمل على أخبارهم فلا يقع في ذلك اختلاف.

وإما أن يكون بحسب اختلاف الأفهام في استنباط المعنى المراد من الألفاظ، وهذا يندر من أصحاب الطباع السليمة والأذواق المستقيمة ذوي القوة القدسية، ولا سيما في المحكمات، وإنما يكون من المعوجين وأصحاب الأهواء، وفي المتشابهات التي لا اعتماد عليها.

فإن قلت: أي فائدة في تحقيقك هذا وقد وقعت فيما هربت منه؟ أعني لزوم العمل بالظن، فإن طرق الأخبار ظنیة، فلا تفيد مضمونها إلا ظنّا. قلنا: طرقها وإن كانت ظنية إلا أن وجوب العمل بها على الشرائط المقررة مما استفاض به الأخبار، بحيث انتهت إلى إفادة القطع كما يظهر من التتبع الآثار القدماء المستحفظين للمذهب الحق الناصرين له.

وقد نبه على هذا ما ورد عن صاحب الأمر (عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام) بغير واحد من الأسناد حيث قال: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليهم”(۹). وعن الصادق قال: احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها”.(۱۰) وقال لمفضل بن عمر: اكتب وبثّ علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم”.(۱۱)

إلى غير ذلك من الأخبار، فظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم،(۱۲) مع أن في تلك الأخبار ما يدل على جواز العمل بها وإن صدرت عن تقية أو لم يصدر عنهم في الواقع، وهو قول الصادق: من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وإن لم يكن عليى ما بلغه.(١٣)

والسر في ذلك أنه تسليم وطاعة وانقياد، لا رأي فيه ولا اجتهاد، على أن إثبات المتشابه في الأحكام بمعنى إبقائه على حاله من دون تأویل يغني عن الاجتهاد في كثير من المسائل، ومن التعويل على كثير من الأخبار، وذلك ثابت وارد في غير واحد من الأخبار، بحيث يبلغ حد الاستفاضة.

قال أمير المؤمنين : إن الله تبارك وتعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقضوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً لها فلا تكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها. ثم قال: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الأثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها”.(١٤)

ومن تتبع حق التتبع – بعد سماع قوله سبحانه: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله”(١٥) والتدبر في معناه – ظهر له الغناء عن كثير من أخبار الآحاد فضلا عن القوانين المخترعة في العباد والبلاد للاستعانة بها على استنباط الأحكام من المتشابهات، وذلك لأن ما اضطر إليه الناس في عباداتهم ومعاملاتهم من الأحكام الشرعية يجري مجرى الضروري الذي لا اشتباه فيه، وإنما الخلاف والاختلاف في أشياء ليست بضرورية، أو هي تکالیف مخترعة وأحكام مبتدعة ليست من الدين، وذلك مثل ما يتعلق بالنية، من التكاليف الذي أخذتها طائفة من متأخري أصحابنا من كتب المخالفين وشدّدوا بها الأمر على المسلمين، إلى غير ذلك من نظائره.

ثم إن فرضنا الاحتياج إلى مسألة ضرورية لم يكن عليها دليل واضح أو معتبر، فإن وجدناها في المتشابهات أخذنا فيها بالاحتياط، كما أشير إليه في الحديث المذكور، وإن وجدناها في المتعارضات أخذنا فيها بالتخيير بعد استيفاء مراتب الترجيح، وإن لم نجدها في شيء نرجع إلى ما أرشدونا إليه من التوقف وانتظار الفرج، كما دل عليه أخبار مستفيضة،(۱۶)

وقد حقّقنا هذه المباحث حق التحقيق وذبيتا عمّا قرّرناه حق الذبّ في كتابنا الموسوم بالأصول الأصلية وفي كتاب تسهيل السبيل وغيرهما و أنت إذا تحقّقت ذلك و أمعنت في ما ذكرناه كما ينبغي عرفت ما في كلامي الشيخ حسن والفاضل المعترض عليه من الصحة والفساد، وعلمت الحق في ذلك، وخرجت من ظلمات الشبهات إلى نور العلم “الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور” و “يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”. والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد و آله الطاهرين الأكرمين والسلام.(١٧)انتهت الرسالة المنيفة للفيض الكاشاني

اعتراض السيد نعمة الله الجزائري

اعتراض السيد نعمة الله الجزائري الذي تعرض لكلام الشيخ حسن صاحب المعالم في كتابه کشف الأسرار في شرح الاستبصار ورد عليه قائلا:

والكلام عليه من وجوه:

أولها: إن الآيات والأخبار التي ظاهرها النهي عن اتباع الظن قد ذكرها الأصوليون في كتبهم في حجة من منع العمل بخير الواحد، وهو من جملتهم،

وأجاب عنها بما حاصله: أن العام منها يخص والمطلق يقيد للدليل، على أن آيات الذم ظاهرها بحسب السوق الاختصاص باتباع الظن في أصول الدين، لأن الذم فيها للكفار على ما كانوا يعتقدونه من تقليد آبائهم وأسلافهم في أمر التوحيد والنبوة وباقي الأصول، وإلا فلا محيص لنا عن العمل بالظن في الفروع، و كل دليل من القرآن أو السنة دل بظاهره، أو بما يستنبط منه على جواز العمل بالظن الحاصل من تقليد المجتهد الحيّ، يدل على جواز العمل بالظن الحاصل من فتاوى المجتهد الميت، لإطلاق الدلائل وعمومها.

مع أن هذا الاجتهاد والتقليد المصطلحين في هذه الأعصار وما تقدمها لم يكونا موجودين في أعصار الأئمة ، ولا في أعصار من بعدهم، وإنما حدثا في عصر شيخنا الطوسي ومن بعده، واشتهرا في زمن العلامة إلى هذه الأعصار، والذي كان المدار عليه في تلك الأعصار هو كتب المحدثين التي جمعوها في زمن الأئمة وبعده ، وكانوا يعتمدون على كتب الأموات أكثر من اعتمادهم على كتب الأحياء، وفي هذا نوع من الاجتهاد.

وذلك أن الاطلاع على بعض الأصول الأربع مائة، والكتب التي دونت، يطلعك على اختلاف الأخبار المودعة فيها، و تناقض مدلولاتها، وأن من اختصر منها كتاباً من المحمدين الثلاثة، أو من تقدمهم، أو تأخر عنهم، فإنما أخذوا الأخبار من تلك الأصول على حسب ما ظهر لهم صحّته و رجحانه، وتركوا نقل الأخبار المضادة لما نقلوه من تلك الكتب، ولو نقلوها كلها لكان لمن تأخر عنهم مجال واسع في الكلام عليهم من تصحيح ما صحّحوه و طرح غیره، مع أنه الراجح عند من تأخر عنهم لو كان موجوداً.

وملاحظة بصائر الدرجات دليل على هذا، فإنك تراه ينقل في الباب الواحد أخباراً متعارضة والمشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) لما أخذوا من تلك الأخبار، ما أخذوا منها إلا ما رجح عندهم، ولا ريب في أن هذا اجتهاد منهم في ترجيح الأخبار بعضها على بعض وطرح بعضها ونقل بعض آخر والعمل به، ومع هذا فعلماؤنا (قدس الله أرواحهم ) قد اعتمدوا على نقلهم وترجيحهم، سيما شيخنا الصدوق فإنه حيث ظن صحة ما ذكره في كتابه مال العلماء إلى الأخذ بأخباره والاعتماد عليها، وليس جملة ما ذكرناه إلا من باب تقليد الأموات كما لا يخفی.

ثانيها: أنه طاب ثراه هو ومن قال مقالته، لم يذکروا دليلا على المنع من تقليد الميت سوى إجماع العلماء عليه،

ويرد عليه:

أولا: الكلام الوارد على مثل هذه الجماعات، مع أنك قد عرفت أن القدماء من علمائنا لم يتعرضوا لمثل هذا، ولا منعوه في كتاب من كتبهم لما قررناه سابقاً.

وثانيا: أنه إجماع منقول بخبر الواحد، فلا يفيد إلا ظنا، فأين الدليل القطعي الذي ادعيت وجوده؟!
وثالثاً: أن هذا من باب التعويل على أقوال الموتى وفتاواهم، وذلك أن معناه هو أن العالم الفلاني قال: لا يجوز تقليد المجتهد الميت، وكذا ذلك العالم قال بقوله، وهكذا، فقد عولت على فتاوي الأموات في هذه المسألة، فالدور لازم عليك لا علينا.

وثالثها: أن العمل بأقوى الظنين متعين في أكثر المواضيع عند أكثر الأصحاب، وذكروا من أفراده تعارض البيّنات ووجوب تقليد الأعلم من المجتهدين، لقوة الظن بفتواه، ولا يرتاب المنصف في أن الاعتماد على كتب المجتهدين كالمحقق وأضرابه يحصل منه ظن أقوى من الظن الحاصل بفتاوى هؤلاء المجتهدين الأحياء، لوفور علمهم، وزيادة ورعهم، وكثرة تقواهم، فيرجح العمل للمقلد، ويحصل له ظن قوي من الاعتماد على فتاوى المحققق وأضرابه.

ومن هذا يظهر أن ما أجاب به بعض المتأخرين الموافقين لنا في هذا القول، من أن قول العلماء: يجب تقليد المجتهد الحي ولا يجوز تقليد الميت، إنما هو عند وجود الحي لا عند عدمه، فإن هذا القول وإن كان يحصل به الجواب في الجملة، لكن القول به مطلقاً غير لازم علينا.

ورابعها: إن طريق معرفة المجتهد الحي للمقلد، إذا أراد معرفة اجتهاده إنما هو من إذعان العلماء بأجتهاده، أو إقبال الناس على فتاواه، أو اشتهاره به، وكل هذا لا يثمر إلا الظن مع أنّ مع أن إذعان العلماء لواحد منهم في حياته أعز من الكبريت الأحمر، ولا نقول: إن سببه التنافس والتحاسد، فإنا ننزّه ساحتهم عن مثل هذا، بل نقول لعل السبب فيه هو عدم اجتهاده في اعتقادهم وإن كان مجتهداً في الواقع، فإن الأنظار والآراء مما يختلف اختلافاً كثيراً في خصوص هذه القضية.

ولقد ألف شيخنا الثقة صاحب التفسير الموسوم بنور الثقلين ذلك التفسير بأخبار أهل البيت فجاء من أعظم التفاسير وأوثقها، فسألت أحد شيوخنا عنه في المسجد الجامع في شيراز، وكان منصفاً، فقال: يا ولدي! هذا التفسير الذي ذكرته، أما في هذه الأوقات . وهي حياة مؤلّفه . فلا يسوى فلساً واحداً، وأما إذا مات مؤلّفه فأوّل من يكتبه بماء الذهب – أنا- ثم قال شعراً.
ترى الفتى ينكر فضل الفتى
ما دام حيا واذا ما ذهب
لجّ به الحرص على نكتة
يكتبها عنه بماء الذهب

وما أحسن جواب بعض الأفاضل حيث صنف كتاباً فلم يشتهر، فقيل له: لم لا يشتهر كتابك مع ما هو عليه من التحقيق؟ فقال: إنّ له عدواً، فإذا ذهب عدوه اشتهر، فقيل من عدوه فقال: “أنا”، وأمثال هذا كثير.

وأما العلماء الأموات فكل الأحياء يزعمون لهم بالاجتهاد ويصدقون به، فهذا إجماع من المجتهدين الأحياء يحصل منه القطع على كون ذلك الميّت مجتهداً، وتحصيله منهم على التصديق باجتهاد واحد من الأحياء غير معلوم، ولا مظنون، فكيف نترك المعلوم وتعدل عنه إلى المظنون، مع أن العمل بالعلم إذا أمكن تحصيله الواجب.

خامسها: أن المجتهد قد يعدم من البلدان، ولا دليل قطعي بل ولا ظنّي على امتناع هذا، بل ربما حصل في هذه الأعصار، فإنك لا ترى عالماً يدّعي الاجتهاد إلا ويكذّبه آلاف من العلماء فلم يظهر اجتهاده للناس حتى يرجعوا إليه في فتاواه، فحينئذ كأنّ ذلك الزمان خال من المجتهد، إذ المجتهد الذي لا يمكن للمقلّد أن يتوصل إلى معرفة اجتهاده كأنه ليس موجوداً بالنظر إلى ما يحتاج إليه المقلد منه.

ففي مثل هذا الزمان إذا لم يجز للمقلد تقليد الأموات والعمل بفتواهم كيف يكون مكلفاً؟ أيخرج عن رتبة التكليف؟ أم يكلف بالاجتهاد الذي لايمكنه تحصيله ؟!! وكلاهما باطل بالضرورة.

سادسها: أن قوله : «ولو وجد له دليل ظني استخرجه بعض العلماء، إلى آخره.

لا يخفى ما فيه، إذ لا مانع من أن يقيم المجتهد دليلا على جواز تقليد غيره، ألا ترى أن من ذهب إلى جواز تقليد المجتهدين على سبيل التخيير كأنّه أقام للمقلّد دليلاً على جواز تقليده لغيره، وهذا لا مانع منه، لأن هذه المسألة من جملة المسائل القابلة للاستدلال عليها.

وأما حكاية التجزي في الاجتهاد، فلا مانع منه، والدلائل عليه مذكورة في محالها. وقوله : اليس عليه دليل قطعي بغير شك، عجیب منه! فإن الدليل القطعي الذي لا يعتريه شك مما ندر وجوده، وذلك لاعتراف علماء الكلام بأن أدلة إثبات الواجب أكثرها مدخولة، لابتنائها على إبطال الدور والتسلسل، وفي إبطالهما كلام كثير، وإذا لم يتم الدليل القطعي على مثل هذا المطلب، فكيف يتم على غيره؟

وينبه على هذا أن الفاضلين وأضرابهما من المجتهدين، قد أكثروا في كتبهم من التردد والإشكال، وقولهم: “إن الوقف في هذه المسألة هو الأولى” وهو اعتراف منهم بعدم القدرة على استنباط حكمها، ومثل هذا لا يكون اجتهاداً، لأنّ معناه استنباط الأحكام الفرعية من أصولها، والتوقف، والتردد، ونحوهما لا يفيدنا حكماً من الأحكام، مع الإطباق على اجتهادهم من كل العلماء.

وسابعها: أنه يلزم الحرج على المكلفين، وتعطيل أمر معاشهم بالسعي إلى تقليد المجتهد الحي، وذلك لأن الواسطة العدل في التقليد لا يكون عنده كلّما يحتاج إليها المقلدون في كل أمورهم، وهذا واضح، فيلزم من هذا القول بطلان كل عباداتهم، وهذا بعيد.

قال أبو عبدالله الحسين عليه آلاف التحية والثناء في دعائه يوم العرفة:كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر الیك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، منی غبت حتی تحتاج إلى دليل یدل عليك؟ ومتی بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك ولا تزال علیها رقيبياً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا.(۱۸)

فعليه ما ورد من الاستدلال عليه بالآثار في كلام الأئمة الأطهار نحو قول مولانا أمير المؤمنين: البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير(۱۹)، إرشاد إلى حكم العقل، واعتضاد لما علمه من قبل من صاحب الشريعة السمحة البيضاء. والعوام في هذه الأعصار مثل العوام الذين كانوا في أعصار الأئمة ، وما كانوا يضيقون عليهم المجال في هذا وأمثاله.

بل روي أن رجلا من أهل الأهواز قال للإمام : إن الحكم ربما أشكل علي ولا يسعني الوصول إليك في كل وقت؟ فقال له: “إذا كان كذلك فأت إلى ما عندكم من القضاة، وخذ بخلاف ما أفتاك به، فإن الخير في خلافهم.(۲۰) مع أن الظاهر أن المراد مشقة الوصول إليه الا ، لا تعذّره، كما لا يخفى على من نظر إلى ذلك الحديث.

وفي رواية أخرى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك،(۲۱) مع إمكان التوصل إليه ، وليس ذلك إلا لإرادته رفع المشقة عنهم، والسعي إليه في أكثر الأوقات

ٹامنها، أن أهل هذا القول ذكروا من أقوى دلائلهم: أن المجتهد الميت لو كان حيّاً إلى هذا الآن لربما عدل عن اجتهاده وتغير رأيه، كما هو حال المجتهدين. وهذا الدليل كما ترى! لمعارضته بالمجتهد الحيّ؛ فإنّه يجوز رجوعه عن ذلك الرأي في كل ساعة من الساعات، ولم يوجبوا على المقلد أن يرجع إليه ويسأله عن أحوال اجتهاده واستمراره، وتغيره في كل يوم من الأيام، وإن نقل مثل هذا عن شيخنا الشهيد الثاني (طاب ثراه), وقد تعجب منه المتأخرون من الأصحاب، وهو في محله، للزوم الحرج على المقلدين.

تاسعها: أنّكم عملتم بفتاوى الأموات وقلدتموهم فيها في كثير من المسائل، منها مسائل الجرح والتعدیل، فإن قولهم: إنّه ثقة، أو إنّ حديثه صحيح، أو إنّه فاسد المذهب، أو ضعیف الحديث، وإن كان إخباراً عن حاله وما هي عليه إلا أنّه مبني على الإجتهاد.

وذلك أن أسباب التوثيق والتضعيف والتصحيح لو نقلوها لنا لربما عقلنا منها غير ما عقلوه، وفهمنا منها غير مافهموه، كما هو المشاهد في التعديلات والجروح التي ذكروا أسبابها، مثل ما وقع للمتأخرين في شأن عمر بن حنظلة، حيث قالوا: إن الشهيد الثاني طاب ثراه وثقه، فيكون حديثه صحيحاً، فاعتمد على توثیقه هذا جماعة منهم.

وبعضهم بحث عن سبب هذا التوثيق، فإذا هو قول الصادق لمّا قيل له: إن ابن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال: إذاً لا يكذّب علينا.(۲۲) فنفى التوثيق عنه؛ لأن هذه العبارة مجملة ومحتملة لغير التوثيق، وهو أن يكون معناه أنّه في هذا الحكم لا يكذب علينا؛ لأنه من المشهورات عنّا، كما يستفاد من قوله (إذاً)، ونظائر هذا كثير.

وحينئذ فالاعتماد على أقوالهم في الجرح والتعديل اعتماد على اجتهادات الأموات، فقد وافقونا على جوازه، وإن لم يصرحوا به.وإذا تأملت قوله تعالى: « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم تحذرون(۲۳) تراها دالة على المطلبين، أعني جواز تقليد الأموات وجواز التجزّي في الاجتهاد.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد فصّل بعض المحققين(۲۴) تفصيلا في هذا المقام، حيث قال: إن العالم إذا كان له قوة استنباط المسائل من مآخذها التفصيلية. وهو المجتهد التام – فلا يجوز له تقلید غيره، لقوة الظن في جانبه. وإن لم يكن له قوة الاستنباط إلا في بعض المسائل، فإن لم يمكنه الوصول إلى مجتهد حيّ، تعيّن عليه العمل بظنّه فيما له قوّة استنباط ؛ لرجحانه أيضا.

وإن أمكنه الوصول إلى معرفة رأيه وتخالف الرأيان فيتوخى أقوى الظنين الحاصلين له من استنباطه ومن قول المجتهد، ويعلم به. فإن عرف من نفسه كثرة الخطأ مثلا والرجوع عما ظنّه صواباً، وحسن ظنه جزماً، وليس حجة في حقنا. وعليه فلا يرد النقض على النافي لاعتبار رأي الميّت بما أفاده سيّدنا الجدّ في المتن، إذ الاعتماد على قول الرجاليين إنما يجوز بالنسبة إلى موارد کانت شهادتهم عن حسّ بالمجتهد زيادة على ظنّ نفسه قلّده، وإلّا فلا.

وإن لم يكن له قوّة استنباط شيء من المسائل، وأمكن الوصول إلى المجتهد الحيّ واتّحد، تعين على تقليده. وإن تکثّر فيرجّح بالعلم والتقوى والكثرة ويقلّد، وإن فقد أو تعذّر الوصول إليه، فيعمل على قول من يغلب على ظنه من الموتى، إما لكثرة علمه، أو لكثرة القائل بقوله، أو لاشتهاره بين العلماء، إلى غير ذلك من المرجحات، وذلك إما باطلاعه على أقوالهم، أو كان له قوة الاطلاع، أو بأخبار من له تلك القوة ممن يعتمد على قوله.

ولا جناح عليه في توزيع المسائل على المجتهدين، لوجود المرجح مع كل واحد منها في موضع. ثم قال:والذي يختلج بالبال أن ما ذكرناه مراد من أوجب الاجتهاد عيناً من علمائنا المتقدمين، فإن المكلف حينئذ على طبقاته يكون عاملا يظن نفسه بعد بذل وسعه و جهده في تحصيل أقوى الظنون الحاصلة على مقدار طاقته، ولا يكون عاملا بظن غيره، فيكون خارجاً عن التقليد المحض، وبهذا يزول الاستبعاد عن أولئك الفضلاء الأعلام بأنهم كيف يكلفون كافة العوام بالاجتهاد التّام. انتهى.

أقول: إنّا إذا تنزّلنا عن ذلك القول الأول، قلنا بهذا التفصيل، وهو جواز تقليد الميت مع عدم وجود المجتهد الحيّ، وإلا فما ذكرناه من التفصيل سابقا هو الأقوى. وأما تأويله كلام فضلاء حلب رضوان الله عليهم بقولهم بوجوب الاجتهاد عيناً، فحاصله أنّ مرادهم بالاجتهاد معناه اللغوي، وهو بذل الجهد في تحصيل معرفة الأحكام، سواء كان بالاجتهاد أو التقليد.

والذي يخطر بالبال أن مرادهم من الاجتهاد معناه الاصطلاحي، إذ هو العرف الشائع بينهم، حتى أنهم إذا أطلقوا لفظ الفقيه، يراد به عندهم المجتهد، لكن مرادهم . والله أعلم – أن الاجتهاد يجب عيناً على كل من كان له قابلية الاجتهاد، ومتأهلاً له من حيث الذكاء والاستعداد بالقوة له، ولا يلزم على هذا تعطيل أمور المكلفين، إذ القابل لهذا واحد من ألف.

وذلك أنك ترى أمل الذكاء والقبول لهذا المطلب الجليل، قد أقبلوا على البطالة والتعطيل، ومصاحبة أهل الدنيا، وترى الأغنياء ممن ليس لهم تلك الأهلية، ولا تلك القابلية بالقوة ولابالفعل قد أقبلوا على طلب العلم وتحصيله، ولكن إذا انقضت منهم الأعمال كان سعيهم في حفظ بعض مسائل مختصر النافع أو الشرائع أو نحو ذلك.

وليس هذا إلا من باب ما ذهب إليه جماعة عن علمائنا من أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر واجب على الأعيان، وقالوا: إنّ معنى وجوبه على الأعيان هو كونه واجباً على من اتصف بشرائطه، وعرف مواقعه وأحكامه؛ لأنّ من لم يعرف قواعده الشرعية لا يجوز له القيام به فضلا عن وجوبه عليه. وقال المحقّقون في أمثالهم: ضاع العلم بين ذكې معطّل وبين بليد مشغول بتحصيله. وقد شاهدنا مثل هذا في أعصارنا هذه کثیرا…
انتهى كلام السيد الجزائري.(٢٥)

الهوامش

١. في نسخة (ب) : (و حدس)
۲. فی کشف الاسرار: (لم ینفع).
۳. و هو شیخ عبد اللطیف کما اشرنا فی المقدمة.
٤. الاسراء، ٣٦.
٥. النحل، ٤٣.
٦. الكليني، الكافي، ج۲، ص٤۰۲ ، أنظر: الحر العاملی، وسائل الشیعه، ج ۳، ص ۷۰ باب ٧ من أبواب صفات القاضي، حدیث ٢٥.
٧. الكليني، الكافي، ج ۱، ص ۵۸ حدیث ۱۹، انظر: الفيض الكاشاني، الوافي، ج ۱، ص ٢۶۰، حدیث ۲۰۱، وما بين المعقوفين عن المصدر .
٨. المحتضر، ص۱۵، حدیث ۳. أما ما ورد بهذا المضمون قما رواه في الكافي عن الصادق في حين سأله رجل عن قول أميرالمؤمنين سلوني عما شتم… الخ قال إنه ليس أحد عنده علم شيء إلا خرج من عنة أمير المؤمنين، فليذهب الناس حيث شاؤوا و الله ليس الأمر إلا من ههنا، وأشار بيده. (الكليني، الكافي، ج ۱، ص ۳۹۹، حدیث ۲)
۹. الصدوق، کمال الدین و تمام النعمة، ص ۴۸۴، الباب الخامس والأربعون، أنظر: الحر العاملي، وسائل الشیعه، ج ۲۷، ص۱۴۰،باب ۱۸ من أبواب صفات القاضي، حدیث ۹.
.۱۰. الكليني، الكافي، ج ۱، ص ۵۲ حدیث ۱۰، أنظر: الحر العاملي، وسائل الشیعه، ج ۲۷، ص ۸۱ باب ۸ من أبواب صفات القاضي حدیت ۱۷.
۱۱. الكليني، الكافي، ج ۱، ص ۵۲ حدیث١١، أنظر: الحر العاملي، وسائل التبعه، ج۲۷، ص۸۱ باب ٨ من أبواب صفات القاضي،حدیث ۱۸.
١٢. من هنا.
١٣. الكليني، الكافي، ج٢، ص٨٧، حديث١، ليس فيه(اجره) و لكن رواه الوافيعن الكلينيبهذه الزيادة، ج١، ص٣٠٠، حديث ٢٤٠.
١٤. الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج ۴، ص٧٥، حدیث ٥۱۴۹، أنظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج۲۷، ص ۱۷۵، باب ۱۲ من أبواب صفات القاضي، حدیث ۶۸.
١٥. آل عمران، ۷.
١٦. إلى هنا سقط من نسخة (ج)
١٧. وجاء في آخر النسخة الأصل ما يلي: عارضتها بنسخة خطها الوالد المصنف بيده، متعنا الله بدوام خدمته في أهنى العيش و أرغده، وذلك حين ما قرأها بعض الأصحاب علي على جهة التفهم ولأستبصار، غير آل جهده في فنون التدبر والاستمرار ورقم الفقير إلى ريّه محمد يدعى علم الهدی ابن محمد محسن عفا الله عنه ما اجترح وجنى، وجعله من الذين سبقت لهم منا الحسنی حامداً مصلياً داعياً تائباً.

وجاء في آخر نسخة ب: تمت الرسالة المنيفة وفي أخر المجموعة في يوم الجمعة من شهر محرم الحرام في سنة تسعين ومائتين بعد الألف، والحمد لله ظاهراً وباطناً أولاً وأخراً.

لقد أنهيت بحمد الله والمنه تحقيقها وتنقيحها بعد مقابلتها على النسخ الخطية.

وورد في آخر نسخة ج تمّت بتاريخ يوم الأ…من خامس شهر ربيع الثاني ۱۱۲ ه.

لقد انتهيت.. وكتب خادم العلم هادي الشيخ حسين آل قبيسي العاملي حامداً مصلياً في العاشر من شهر رجب الحرام ۱۴۳۵ هـ.قم المقدسة.

۱۸. المجلسی، بحار الأنوار، ج ۴۶، ص۱۴۲، الفيض الكاشاني، الوافی، ج ۱، ص۲۸۸.
۱۹. المجلسی، بحار الأنوار، ج ۳، ص۵۵، حذیت ۲۷، ج ۱۰۸، ص ۳۸.
۲۰. لم تعثر على هذا النص إلا في شرح الاستبصار للسيد نعمة الله الجزائري، ج ۲، ص ۸۸، ولكن ورد في معناه في عيون أخبار الرضا ، انظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج۲۷، صر۱۱۵، باب ۹ أبواب صفات القاضي، حدیث ۲۳، عن علي بن أسباط قال: قلت للرضا : يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستغنيه من مواليك، قال فقال انت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإن الحقّ فیه.

۲۱. الاحسایي، عوفي اللئالیء، ج۴، ص۱۳۳، حدیث ۲۲۹، انظر: النوری، مستدرك الوسائل، ج۱۷، ص ۳۰۳، باب ۹ من أبواب صفات القاضي، حدیث ۲.
۲۲. الكليني، الكافي، ج ۳، ص ۳۷۵، حدیث۱ ، أنظر الحر العاملي، وسائل الشیعه، ج ۴، ص ۱۳۳، باب ۵ من أبواب المواقيت حدیث ۶.
٢٣. التوبة،١٢٢.
٢٤. لم نتعرف على اسمه.
٢٥. الجزائري، كشف الأسرار في شرح الاستبصار، ج٢، ص٧٧.

مصادر التحقيق

الكليني، محمد بن یعقوب (١٤٠١)، الكافي، تصحیح: علی اکبر غفاري، بیروت، دار صعب ودار التعارف.
الحر العاملي، محمد بن الحسن (۱٤۰۳)، وسائل الشيعة، بیروت، دار إحياء التراث العربي.
الفيض الكاشاني، محمد محسن (۱۴۰۶)، الوافي، اصفهان، مكتبة الإمام أمير المومنین عليه السلام.
الصدوق، محمد بن علي (۱۴۱۱)، کمال الدین وتمام النعمة، قم، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين (۱۴۱۳)،

من لایحضره الفقیه، بیروت، دارالأضواءّ
المجلسي، محمد باقر (۱۴۰۳)، بحارالأنوار، بیروت، دار احياء التراث العربي.
الاحسايي، ابن ابي جمهور (۱۴۰۳)، عوالي اللئالي، قم، مطبعة سيد الشهداء عليه السلام.
النوري، حسین (بي تا)، مستدرك الوسائل، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

 

المصدر: فصلية “پژوهش های اصولی. فصلنامه تخصصی علم اصول “س ۵، ش ۱۸، پايير ۱۳۹۲ش- صفحات ۱۴۳ – ۱۶۲
فصلية الأبحاث الأصولية- السنة الخامسة – العدد 18 – خريف 1392ش –

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky