الأحاديث

دور الأحاديث في هدایة الأمّة .. آیة الله العظمی صافي الكلبايكاني

الاجتهاد: إنّ الأحاديث الشريفة تتضمّن جميع ما يحتاج إليه الإنسان، فيجب علينا الاهتمام بها، بدراستها و التفقّه فيها في الكليات و الجامعات وفي المحاضرات و جميع‏ المناسبات، و في الصحف و المجلات و الجرائد و الإذاعات و غيرها. و أيم اللّه إنّي لا أظن بأحد درس هذه الأحاديث و ما تحويه من العلوم و المعارف أن يعدل عنها الى غيرها، اللّهم إلا أن يكون في قلبه مرض.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام على النبيّ الأمين و سيد المرسلين مولانا أبي القاسم محمّد و آله الطاهرين، صلى اللّه عليه و على الأئمة الاثنی‌عشر خلفائه الهادين المهديّين.

لا ريب في أنّ ما عند المسلمين- بعد الكتاب المبين الذي هو الحبل المتين لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد- من السنّة النبوية و الأحاديث الشريفة المسندة المأثورة عن سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلّم و عن عترته الطاهرة، الذين هم أحد الثقلين اللذين أمرنا صلّى الله عليه و آله و سلّم بالتمسك بهما ثروة علمية كبيرة و تراث ضخم جليل مملوء من المعارف الحقيقية و البرامج التربوية و التعاليم الأخلاقية و السياسية و الاجتماعية، و اصول التقدم و الرقي و حقوق الإنسان، و الحرية و المدنية، و غيرها من التعاليم الصحيحة السليمة و القواعد الحكيمة و المناهج القيّمة القويمة، التي لو تمسّكت البشرية بها ما سقطت في هاوية الفساد و الظلم و الاستكبار و الاستعباد، و لم تقهر و لم يستضعفها جبابرتها الأقوياء.

و لم يقع المسلمون فيما وقعوا فيه من الفساد الاجتماعي و التفرّق و التخالف و التخاصم و غلبة الأشرار و سلطة الكفّار و المعيشة الضنك،

إلا للإعراض عن هذه المناهج الحكيمة الالهية و جهل بعضهم بقوة هذه التعاليم الرشيدة البنّاءة، و أخذهم بالبرامج الاستيرادية العلمانية الشرقية أو الغربية، فلم يكن حالهم إلا كحال تاجر، خزائنه مملوءة بالجواهر و الأحجار الكريمة و هو غافل عنها و لا يعرف قيمتها،

و يشتري من غيره الرمال و الأحجار عوضا عن الجواهر بقيمتها و بذهاب عزّه و مجده و حريته و استقلاله، و لا يفتح خزائنه ليرى أنّ ما يوجد عنده من أنواع الجواهر لا يوجد في سوق من الأسواق و لا عند تاجر من التجّار.

نعم، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من شي‏ء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النار الا و قد أمرتكم به، و ما من شي‏ء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنة إلا و قد نهيتكم عنه».

إنّ الأحاديث الشريفة تتضمّن جميع ما يحتاج إليه الإنسان، فيجب علينا الاهتمام بها، بدراستها و التفقّه فيها في الكليات و الجامعات و في المحاضرات و جميع‏ المناسبات، و في الصحف و المجلات و الجرائد و الإذاعات و غيرها. و أيم اللّه إنّي لا أظن بأحد درس هذه الأحاديث و ما تحويه من العلوم و المعارف أن يعدل عنها الى غيرها، اللّهم إلا أن يكون في قلبه مرض.

و قد سعت السياسات التي لا ترى من مصلحتها عناية المسلمين بـ الأحاديث و اهتمامهم بهذه الثروة العلمية و الأنظمة الحكيمة لإخفائها و إبعادها عن واقع حياة المسلمين عقيدة و سياسة و نظاما و أخلاقا، حتّى صار المسلمون سائلين بعد ما كانوا مسئولين وخادمين بعد ما كانوا مخدومين كما وصفهم بذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنهم (يستخدمون و لا يستخدمون).

ففي البرهة الاولى من الزمان حدثت مصيبة المنع عن تدوين السنّة، و حدثت إلى جانبها مصيبة الاسرائيليات و كان مثل كعب الأخبار بطلها الفذّ من خواص ذوي السلطة و مرجعهم في تفسير القرآن و قصص الأنبياء و الإخبار عن الملاحم و المسائل المهمّة الأخرى.

هذا على رغم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا رأى بعضهم مشغولا بقراءة كتاب من أهل الكتاب أو مطالعته قال: «لو كان موسى حيّا لما وسعه الا اتّباعي». و على رغم وجود إمام مثل علي عليه السّلام الذي هو باب مدينة العلم بنص الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قوله فيه: «علي مع الحقّ و الحقّ معه و لا يفارقه»، و على رغم وجود عترته بينهم التي قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيها و في القرآن: «إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

و في الفترة الثانية التي بدأت من عصر بني أميّة و تكاملت في عصر بني العباس سيّما المأمون جاءت السياسات الحاكمة المعارضة للقوانين الاسلامية التي‏ لا تسمح لأرباب هذه السياسات بسياساتهم الاستضعافية في الحكم و الإدارة و المال و ما يتعلق بالمسلمين و بيت مالهم،

جاءت بالفلسفة اليونانية بما يوجد فيها من الآراء الإلحادية و المبادئ التي لا تتفق في النهاية مع رسالة اللّه تعالى و هداية الأنبياء في معرفة اللّه تعالى و أسمائه الحسنى و صفاته الكمالية و أفعاله الحكيمة، و إن أصرّ بعض المشتغلين بها على التوفيق بين المدرستين.

مدرسة الأنبياء و دعوتهم التوحيدية التي قررّها و بيّنها القرآن بأحسن التقرير و أكمل التبيين و التي يتفق الكل عليها و على اصولها القيّمة القويمة، فلم يختلفوا حتى في أصل واحد. و مدرسة الفلاسفة الذين اختلفوا في اصولهم اختلافا كثيرا فلم يجمعوا في المبادئ الأولية على كلمة واحدة و لم يجعلوا أمام البشرية مسلكا مشخصا بمبادئه الفكرية و العملية و لم يهدوها الى حقّ اتفقوا عليه.

و قد اختلفت آراؤهم في المسائل المتعلقة بالمبدأ و المعاد حتى لعلك لم تجد اثنين منهم اتفقا على رأي واحد في جميع هذه المسائل، فلكل منهم مسلك سلكه و طريق يذهب فيه اللّهم إلا المتمسّكين منهم بحبل وحي الأنبياء و المعتمدين على هدايتهم و هداية الأئمة المعصومين عليهم السّلام ممن لم يغتروا بأقوال أصحاب الفلسفة و لم يخوضوا في مباحث لم يأذن الشرع الخوض فيها.

و من سبر كتبهم و اصطلاحاتهم يعرف أنّ منطق الفلاسفة و لغتهم غير لغة الأنبياء و المتشرّعين بشرائعهم.

فاللّه الذي هو خالق الكلّ يفعل ما يشاء، و يبعث الرسل و يجازى العباد على أفعالهم و يرزقهم، و يسمع دعاءهم، و يستجيب لهم، و هو موصوف بالصفات التي وصف هو تعالى نفسه بها، ليس هو ما أسماه الفلاسفة بالعلة الاولى التي لا يصح اطلاق أسماء اللّه الحسنى عليها حقيقة مثل: الخالق و الرازق و الغفار و التواب … الخ، إلا بالتأويل و التسامح و التجوّز، فليس في أسماء اللّه تعالى ما هو مرادف للعلة الاولى و لا ما مفهومه مفهومها أو مفهوم غيرها مما أطلقه الفلاسفة الذين عبّروا عن اللّه تعالى بالعلة الاولى.

كما يعلم أنّ مفهوم مثل الخالق و الخالقية و المخلوقية و نحوها الذي يبين به الفرق بين اللّه و بين ما سواه ليس مفهوم العلة و العلية و المعلولية الذي يدور عندهم عليه تبيين ربط الحادث بالقديم، على تفاصيل و بيانات مختلفة فلسفية مذكورة في كتب القوم.

و سواء أمكن التوفيق بين ما بنيت عليه دعوة الأنبياء و المعارف القرآنية و المأثورة عن أهل بيت الوحي و الذين هم عدل الكتاب، و ما قرره حكماؤنا الإسلاميون الذين ثبتت استقامة طريقتهم و اعتمادهم في مسالكهم على هداية الكتاب و السنّة أم لم يمكن فلا ريب أنّ المسلمين في دور طويل و قرون متمادية اشتغلوا بالبحث و الجدل حول مسائل لا يمكن إدراكها و الوصول الى حقيقتها، و لم يكلّفهم الشرع البحث عنها، و لم يستضيئوا فيها بأنوار القرآن و ما في الأحاديث من العلوم و المعارف حق الاستنارة و الاستضاءة.

و لو لا عناية جماعة من العلماء الأفذاذ و رجالات التفسير و الحديث و المعارف، و الذين لم يتتلمذوا إلا في مكتب القرآن و الحديث و لم يغترفوا إلا من بحار علوم أهل البيت عليهم السلام و لم يسألوا الا أهل الذكر، و لم يأخذوا إلا من أولئك الذين علمهم من علم اللّه تعالى، و عندهم ما نزل إلى الرسل و ما نزل به الروح الامين الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاندرست آثار النبوة.

نعم، هؤلاء الأعاظم هم تلامذة مدرسة الإسلام و مدرسة القرآن و مدرسة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الإمام أمير المؤمنين و سائر الأئمة عليهم السلام، لهم علينا حقّ كبير عظيم، فقد حفظوا الآثار و المعارف الإسلامية طول القرون و الأعصار حتى وصلت إلينا و هي كيومها الأوّل و زمان بلاغها أقوم المعارف الحقيقة و الإلهية و أتقنها.

هذا و في زماننا، و من عهد قريب، افتتن المسلمون بالفلسفة المادية العلمانية الحديثة، و مال إليها طائفة من المفتونين بالتمدن المادي العلماني الغربي أو الإلحادي الشرقي، فآمنت فئة بالأول و شرذمة بالثاني،

و كان وراء هذا الميل أيضا السياسات الاستكبارية الشرقية و الغربية، فزيّنت بلسان عملائها ما حصل لغير المسلمين من الرقيّ الصناعي و التقدم التكنيكي، فظن بعضهم أنّ ذلك معلول لمبادئهم العلمانية، فأخذوا في ترويج الحضارات المادية و المبادئ الماركسية و تشجيع الشباب على رفض الآداب الإسلامية،

و عمد عدد من الذين يعدّون أنفسهم من أهل الثقافة و التنوّر الفكري، و من الذين كل ثقافتهم و تنوّرهم ليست إلا الخضوع المفرط أمام المدينة المادية و توهين المبادئ الفكرية الإسلامية، عمدوا الى تفسير اصول الإسلام و مناهجه على الأصول المادية حتى الماركسية الملحدة.

و بالجملة فقد قلب هؤلاء المتسمّون بالمتنوّرين الامور في الإدارة و السياسة و الاقتصاد و التربية و الفنّ و غيرها ظهرا لبطن، و كان بلاؤهم و فتنهم و ما يروّجون من الضلالات باسم الثقافة بلاء عظيماً، إلّا أن الاسلام بأحكامه البناءة الالهية قام في كل عصر و زمان في وجه الضلالات بكل أساليبها، و ما زال يسجل انتصاراته في هذه المعارك الايديولوجية.

فكتابه العظيم كما كان في عصر نزوله يهدي للتي هي أقوم، فكذلك هو في بعده و في كل العصور و القرون الى قرننا الخامس عشر هذا، و بعده الى آخر الدهر …

يهدي للتي هى أقوم، فهو دين الهي و وحي سماوي، جاء للبشرية كلها في كل عصورها الى أن يرث اللّه الأرض و من عليها .. دين جاء للبقاء و الخلود، لهداية جميع الأمم، و تحقيق العدل بينها، فهو لا يرضى بتسلط أمة على أمة و لا بلد على بلد، و لا قوم على قوم، و لا ينظر مصلحة شعب دون شعب …

جاء ليختم الحياة على الأرض باقامة دولة العدل الالهي على يد خاتم الأوصياء و الحجج، صلوات اللّه و سلامه عليه، ليكون الدين كله للّه رب العالمين، و تكون الأمم كلها أمة واحدة، لا فرق بين أبيضهم و أسودهم، و أحمرهم و أصفرهم …

كلهم أمام الحق سواء.

و واجب المسلمين- سيما علماء اليوم، و قد يئست البشرية من جميع المدارس و الايديولوجيات المادية و الأنظمة العلمانية، واجبهم- عرض مبادئ الدين الحنيف الإلهية على البشرية الحائرة، و بيان ما فيه من الطاقات القوية الجامعة الكافلة لجميع ما تحتاج إليه مقتصرا على ما بيّن في الكتاب و السنّة متعلّما عن القرآن و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عترته الطاهرة عليهم السلام.

فيا أيّها المسلمون كونوا شاكرين لهذه النعمة العظمى و لا تكونوا عنها غافلين أو- و العياذ بالله- معرضين عنها أو كافرين:‏ وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ‏ و اتّقوا من الإلحاد في آيات اللّه و دينه، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى‏ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فخوضوا في بحار هذه العلوم و استخرجوا ما فيها من الدرر الغالية،

و عليكم بالسير و السياحة في رياضها التي عرضها أعرض من السماء و الأرض، فاقتطفوا من أزهارها الجميلة البهية و أثمارها الشهية الروحانية، و خذوا من هذا التّراث الإسلامي ما به حياة روحكم و إصابة نظركم و سلامة فكركم و نظام معاشكم و دينكم و دنياكم و لا تبتغوا له بدلاً و كونوا من تلامذة مدرسة الحديث و خرّيجى مدرسة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مدرسة أهل بيته و الأئمة الصادقين من عترته عليهم السّلام. قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏.

 

آية-الله-صافي-الكلبايكاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky