الاجتهاد: الطلاب في الحوزة لايخضعون لاختبار الميول والرغبات، فتكون النتيجة أن قد يرى الطالب الذي يميل الى الفقه أو الفلسفة أو الآداب أو علم الكلام أو التاريخ أو التفسير، أنه قد دخل فرعاً غير الذي يجد في نفسه الاستعداد للاستمرار فيه وفق رغبته. إن فروع العلوم الدينية قد تضاءلت كثيرة في الأيام الأخيرة، فادخل اكثر الفروع ضمن الفقه، والفقه نفسه غدا بحيث أنه توقف عن التكامل منذ مائة سنة .
يتميز محيط الحوزة العلمية عندنا بمميزات وخصوصیات لا نظير لها في محيطات أخرى.
إن محيط حوزة العلوم الدينية محيط من الصفاء والمحبة والمعنوية، أي أن الروح المهيمنة على هذه الحوزة هي هذه الروح العامة، ومن لا يتميز بهذه المميزات الخاصة يكون مخالفا لروح الحوزة ومستثنى منها.
إن الميزة التي يعترف بها الطلاب بعضهم لبعض إنما هي ميزة العلم والتقوى، ولا يحترم الطالب أو يقدر حقاً إلا من حيث مقدار علمه وتقواه. إن فيهم الفقير والغني، والريفي والمدني، وابناء العمال وابناء التجار والسادة، وكان فيهم قديما من طبقة الأشراف وابناء الملوك ايضاً، إلا أن كل شيء يفقد قيمته ، ولا تبقى إلا قيمة الفضل العلمي والمعنوي، فهي التي تنتزع احترام الطلاب لشخص ما وترفع من مكانته.
إن محيط الحوزة العلمية محيط زهد وقناعة، لا أثر فيه للاسراف والتبذير ولا لمجالس السَّمَر الليلية التي تنتشر بين الطبقات الأخرى وحتى بين طلاب العلوم غير الدينية، بل أن أمثال هذه الأفكار لا تخطر لأي طالب من طلاب العلوم الدينية مجرد خطور، فإذا بدر من أحدهم شيء من هذا القبيل كان سقوطه حتمية. فالطلبة على الاجمال، أناس قانعون، مصروفاتهم قليلة، ولا يعدون عبئا على المجتمع.
والعلاقة بين الطالب والأستاذ علاقة حب واحترام فالطلاب يحترمون استاذهم في حضوره وفي غيابه، بل حتى بعد وفاتهم فانهم يذكرونهم بكل خير ويدعون لهم بحسن العاقبة.
ان هذا القدر من احترام الأستاذ الذي يتصف به طالب العلوم الدينية انما هو وليد تعاليم أولياء الدین نحو قدسية العلم والمعلم. إن هذه الحالة اقل ظهورا – كما نعلم – في الأوساط الأخرى.
إن من عادات الدراسة في الحوزة أن يعيد الطالب التفكير في الدرس الذي يسمعه من الأستاذ ، فيدرس النص في الكتاب ثم يشترك مع طالب آخر في بحثه. وفي الدروس العالية يعيدون كتابة ما سمعوه من الأستاذ أثناء الدرس بعد عودتهم ليلاً، ولا يتبعون طريقة الحفظ الببغائية، كما هي عادة الطلبة المحدثين، بل يعتمدون التعمق في التفكير والتحليل، وبما أن حق التدريس ليس محصوراً، فان للطالب الحق في اختيار استاذه، ولكل امرىء أن يقوم بتدریس الموضوع الذي يرى أنه قادر على تدريسه. وعليه فان الطالب الديني وهو يتعلم ، يمكن أن يقوم بتعليم المواضيع التي سبق له أن درسها واستوعبها.
إن ميزة أسلوب دراسة العلوم الدينية في حوزاتنا العلمية، هي أنهم إذ يتلقون الدرس من الأستاذ يدرسونه جيداً ثم يتباحثون فيه، ويدونونه، وفي الوقت نفسه يقومون بتدریس الدروس الأخرى لمن هم أدني مرحلة. إن هذه الأمور تجعل طالب العلوم الدينية متعمقاً في علومه .
إن هدف هؤلاء الطلاب ليس الحصول على شهادة، والدرجة التي يعطيها الأستاذ لا تعرف مقام الطالب، بل أن مباحثات الطالب، ومجادلاته واعترافاته التي يثيرها في مجلس درس الأستاذ، وفي مجلس تدریسه هو، وحمله الأساتذة والطلاب على الالتفات اليه، كل هذا يكون خير معرّف الطالب العلوم الدينية .
يقضي طلاب العلوم الدينية مراحل الدراسة والتدريس بصورة طبيعية جداً، حيث يتعين الأستاذ بالاختيار لا بالتنصيب ، أي أن الطلاب هم الذين يختارون أساتذتهم عن طريق تجاربهم واتصالاتهم، وهذا نوع من الحرية والديمقراطية سائد في حوزة العلوم الدينية مما تفتقر اليه الحوزات الأخرى .
وعلى هذا فان قانون اختيار الأصلح هو السائد بينهم، ففي المؤسسات التربوية الحديثة تقوم الجهات العليا بتعيين الأساتذة لمختلف الفروع والدروس، وكثيرا ما يتفق الا يكون الأستاذ المعين مناسبا لصفوفه، وقد يكون مناسباً لصفوف أعلى أو أدني، وبذلك قد لا يرضي الطلاب بذلك ولا يحترمونه، ويكون احترامهم للأستاذ مبنية على خوفهم من الحصول على درجات ضعيفة والسقوط في الامتحانات. أن أمثال هذه الاضطرابات والاختلافات كثيرة في الوسط التربوي الكلاسيكي، ولكننا لا نجد لها أثرا في حوزة العلوم الدينية.
وعلى هذا الأساس يكون تقدم الأفراد في حوزة العلوم الدينية مبنياً على القانون الطبيعي القاضي باختبار الأصلح، كما ورد في وصف علي (ع) لعلماء الدين : فكانوا كتفاضل البذر يُنتقى فيؤخذ منه ويلقي قذ ميَّزه التخليص وهذّبَه التمحيص. فهم منتقون كانتقاء البذور الخالصة المعدة للزراعة وعلى وفق هذا القانون يصعد الطلاب، درجة فدرجة حتى يصلوا الدرجة التي تلي الدرجة الأخيرة – درجة المرجعية .
إن ما يرفع الأساتذة الى مرحلة ما قبل الدرجة الأخيرة هو ذوق الطلاب وثقتهم . ولكنهم ما أن يصلوا الى المرحلة الأخيرة حتى تَطرأ قضية العائدات وسهم الامام وتقسيم الأموال والمرتبات . هنا قد تتشابك الحسابات احياناً ، ولا يعود قانون انتخاب الأصلح حاکماً.
هذه هي المميزات التي تمتاز بها حياة طالب العلوم الدينية إلا أن هناك نواقص لا بد من ذكرها :
النواقص :
لا يوجد امتحان قبول الطلاب العلوم الدينية، لذلك فمن المحتمل أن ينتسب الى هذا المسلك المقدس من لا يصلح له، ولعدم وجود أي امتحان ، فان انتقال الطلاب من دراسة كتاب أدني إلى كتاب أعلى حر لا يمنعه مانع ، ومن البديهي أن يستعجل بعضهم فيقفز الى مرحلة أعلى، ومن ثم يتوقف عن الدراسة ويصاب بالبرود.
والطلاب لا يخضعون لاختبار الميول والرغبات، فتكون النتيجة أن قد يرى الطالب الذي يميل الى الفقه أو الفلسفة أو الآداب أو علم الكلام أو التاريخ أو التفسير، أنه قد دخل فرعاً غير الذي يجد في نفسه الاستعداد للاستمرار فيه وفق رغبته .
إن فروع العلوم الدينية قد تضاءلت كثيرة في الأيام الأخيرة ، فادخل اكثر الفروع ضمن الفقه، والفقه نفسه غداً بحيث أنه توقف عن التكامل منذ مائة سنة .
إن من نواقص الجهاز العلمائي هو الحرية التي لا حد لها ولا حصر في ملابس رجال الدين، حتى أصبح لباسهم بالتدريج مختلفة عن الآخرين، وصار لهم لباس خاص، مثلما للجنود وللعسكريين وبعض المهن الأخرى لباس خاص .
في التشكيلات الدينية، بخلاف الأمر في التشكيلات الأخرى، يستطيع كل فرد، دون مانع ورادع، أن يتزيا بزي رجال الدين، فقد لوحظ كثيرا أن من لا علم له ولا ايمان، يتزيا بزي رجال الدين لاستغلال مكانتهم ، فيكون بذلك مدعاة للتقول عليهم
في الحوزة العلمية يدرسون الأدب العربي، ولكن بطريقة مغلوطة، بحيث أن الطلاب بعد سنوات من الدراسة لا يتعلمون اللغة العربية، على الرغم من أنهم يتعلمون قواعدها، فلا يقدرون على التكلم ولا الكتابة بها .
على الرغم من أن الاكثار من التباحث في الدروس وشيوع علم الأصول يزيدان من قدرة الطالب على التفكير بذكاء. إلا أن في ذلك نقصاً كبيراً ايضاً، وهو أنه يبعد الطلاب عن التفكير الواقعي في القضايا الاجتماعية ، ثم ان الضعف في تدریس منطق ارسطو، يوجه فكر الطلاب وجهة جدلية نظرية، الأمر الذي يحول دون تمكن الطلاب من التفكير واقعياً فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية.
والنقص المهم الحاصل حالياً في جهاز القيادة الدينية يتعلق بالميزانية وبالنظام المالي وطريقة ارتزاق رجال الدين.
الميزانية
هنالك وجهات نظر عديدة في كيفية تحسين طرق معيشة رجال الدين :
أ- يرى بعضهم أن رجال الدين ليسوا بحاجة الى ميزانية خاصة، بل أن عليهم – مثل باقي أصناف الناس – أن يشتغلوا ليكون لهم مصدر للدخل يعيشون منه . عليهم أن يعيشوا من عرق جبينهم ، أي أن عليهم أن يخصصوا جزءا من وقتهم للعمل لتأمين معاشهم، وجزء آخر للشؤون الدينية والدرس والبحث والتأليف والتدريس والافتاء والارشاد وغيرها .
يعتقد هؤلاء أن الشؤون الدينية في الإسلام ليست مهنة خاصة بحيث تستوجب تعيين ميزانية خاصة بها . وانما كل من كان قادراً على تعهد الأمور الدينية ضمن قيامه بتأمین معاشه فله ذلك . أما إذا أراد أحد التعهد بتلك الأمور ، بالقاء نفسه عالة على المجتمع فخير له الأ يفعل ذلك منذ البداية.
وأدلة هؤلاء هي أن في صدر الإسلام، على عهد الرسول (ص) والأئمة الأطهار (ع) كان هناك أشخاص يقومون بتلك الواجبات، يعلمون الحلال والحرام، يعظون وينصحون، ويشتركون في حلقات الدرس ويقومون هم بالتدريس، وفي الوقت نفسه كان لكل منهم مهنة يتكسب بها، وكثير منهم اشتهروا بالمهنة التي كانوا يمتهنونها، كالتمار، والبزاز، والخراز، والطحان، والسمان، والحذّاء، والوشاء، وغير ذلك من الألقاب التي لقبوا بها في كتب الحديث والفقه والتاريخ .
لم يذكر التاريخ أن الرسول أو احد الأئمة طلب من عدد من الناس أن يتركوا أعمالهم ، ويقتصروا على القيام بوظائف دينية ، كالافتاء، والتدريس ، وإمامة الجماعة، والوعظ، والارشاد، وغير ذلك . تلك هي نظرة بعضهم: الحقيقة هي أنه إذا استطاع اشخاص أن يضمنوا معيشتهم من طريق آخر ، واستطاعوا في الوقت نفسه أن يتعهدوا الشؤون الدينية ، فذلك خير ، إلا أن أمثال هؤلاء قليلون في الغالب، ولذلك لا يمكن أن نطلب من الجميع أن يكونوا هكذا ، وانه لا يجوز لغير أمثال هؤلاء الدخول الى الحوزة ، وذلك
للتغييرات التي طرأت على حياة الناس بالنسبة إلى صدر الاسلام ، ولتوسع العلوم وازدياد احتياجات المجتمع . وعليه فمن اللازم أن ينبري جماعة من الناس لتعهد الأمور الدينية ، وان ينصرفوا طوال حياتهم الى ذلك ، وهذا يتطلب تخصيص ميزانية خاصة تصرف بطريقة صحيحة .
في صدر الإسلام لم تكن الحاجات كما هي عليه الآن، كما لم تكن المشاكل والشبهات ولا عدد المعاندين والأعداء بهذا المقدار ، لذلك ينبغي أن تكون هناك جماعة دائمة الاستعداد والتأهب للدفاع عن الاسلام ولسد حاجات الناس الدينية.
والواقع أن هناك أشخاصاً يشغلون انفسهم ، كما هي الحال فعلا ، بأمور من قبيل امامة الجماعة، التي لا شأن لها بالمسائل الدينية، ولا يحق لأحد أن يتذرع بها في الاخلاد الى البطالة وترك العمل والجلوس بانتظار وقت الصلاة فيذهب الى المسجد لأدائها ، ثم يعود ليدور على مجالس الفاتحة ، ويظل عمره کلاًّ على المجتمع.
على كل حال ، ان من الجمود الفكري أن نقول إن ما لم يكن موجوداً في صدر الإسلام لا حاجة له اليوم أيضاً .
ب – ویرى اقتراح آخر أن تتكفل الأوقاف والصدقات الجارية بالصرف على الشؤون الدينية . ولعل الجهات الدينية في العالم – عدا الشيعة- تعتمد على صندوق الأوقاف والصدقات الجارية لادارة أمورها .
لقد بنيت في أكثر مدن ایران مدارس دینية، وأوقفت عليها الموقوفات الكثيرة العائدات، وكانت هذه تعين كثيراً مدارس الطلبة في طهران وأصفهان و مشهد و تبریز وشیراز وغيرها من المدن ، وتساعد على استمرارية الدراسات الدينية .
ولكن الذي يؤسف له أن اكثر هذه الموقوفات انقلب الى املاك خاصة لأسباب لا مجال لشرحها هنا، وما بقي منها وقع تحت تصرف احد رجال الدين المشهورين وتصرف عائداته على اجهزة تعمل ضد مصالح الاسلام والمسلمين العالية، وبعض آخر تحت تصرف الأوقاف نفسها،حيث تضيع عائداته بطرق أخرى، ولا يبقى سوى جزء ضئيل هو الذي يصرف في مضانه الشرعية الحقيقية .
إن الموقوفات التي يمكن أن تكون ، أو يجب أن تكون، تحت تصرف المنظمة الدينية لا تقتصر على ما أوقف على المدارس، فهناك أرقام اکبر وموارد اضخم مما يجوز شرعاً ، أو يلزم أن تكون تحت تصرف الجماعة الدينية . ولقد جرى کلام حول هذا الموضوع مرات عديدة بين الجهات الدينية والمرجعية، لغرض وضع تلك الموارد في خدمة الجماعة الدينية، إلا أننا لم نصل إلى نتيجة مرضية لأسباب مجهولة .
لو امكن تنظيم الأوقاف لتكون مؤسسة معقولة، لأمكن القيام بخدمات جليلة للدين وللثقافة وللتربية وللأخلاق العامة، أما إذا بقيت على ما هي عليه فستكون سبباً في تفشي الفساد وتقوية اشخاص يقفون دائما حجر عثرة في طريق الاصلاح وتقدم المجتمع الاسلامي.
ج – الاقتراح الآخر هو طريقة استغلال سهم الامام عليه السلام .
فيما يتعلق بالأديان الأخرى، لا علم لي فيما إذا كان عندها نص أو قانون مالي ينطبق مع حياة رجال الدين وإدارة منظمات القيادات الدينية. إلا أننا في الاسلام، وبموجب النظرة الشيعية إلى آية الخمس المباركة، لنا قانون كهذا.
يجب الخمس من الغنائم الحربية، والمعادن، والعوائد السنوية الخالصة، وبعض الأشياء الأخرى، ويعني أن يدفع كل شخص بعد استخراج مصاريفه الخاصة، الخمس الى جهاز الامامة والقيادة الدينية.
نصف هذا الخمس يدعی “سهم الامام”، ويصرف بحسب الفقه الشيعي، في حفظ الدين وابقائه. واليوم، الميزانية الوحيدة التي تدير شؤون الجماعة الدينية، والتي عليها بني تنظيم الحياة الدينية، ومنها استمدت الجماعة الدينية شكلها وصيغتها بحيث أصبح لها تأثير كبير في جميع الشؤون الدينية، هي سهم الامام.
إن رجال الدين والمجتهدين لا يفرضون أي الزام أو اجبار لغرض جباية هذه الميزانية المالية، بل ان الناس المؤمنین هم الذين يتصلون عن رضا وطيب خاطر بمن يعتمدونهم ويطمئنون اليهم من رجال الدين ويدفعون لهم ما بذمتهم، وليس لهؤلاء أي تنظيم الي متميز لهذه الأموال، انما الناس مدفوعون بضمائرهم وايمانهم، يدفعون ما ينبغي عليهم من أموالهم كثيرا كان أو قليلا ، من الأرقام الصغيرة حتى الأرقام التي تصل الى المئة الف تومان وبضع مئات الآلاف منه.
إن ميزة سهم الامام على ميزانية الأوقاف هي أنه ينطوي على عواطف الناس وتواضعهم وحبهم. فقيام عامة الناس بدفع سهم الامام الى شخص ما ناشیء عن حسن ظنهم، إما کون الذي يتسلم هذا المال يصلح لذلك أو لا يصلح فيعود إلى مقدار صحة حكم الناس على صلاح هذا الشخص، وإلى عدم وجود عوامل أخرى غير ذلك في الأمر. غير أن المتسلم النهائي لهذا السهم هو الإمام، فثمة سلسلة من العلل والمعلولات تنتظم في تعريف شخص ما، ثم وثوق الناس وحسن ظنهم به، ثم وصول سهم الامام اليه ، ثم بلوغه الزعامة وتسنم الرئاسة.
المصدر: كتاب ” الاجتهاد في الإسلام والمشكلة الأساس في جماعة علماء الدين” للشهيد الشيخ مرتضى مطهري– الصفحة: 47 – 57 ( كتب الكتاب قبل الثورة الإسلامية في ايران)