الاجتهاد: مثلت الفترة الزمنية الممتدة بين عامي 40 – 60 ﻫ حقبة صعبة في تاريخ التشيع اختزنت بين طياتها كل تراكمات الماضي القريب وارهاصات الفتن التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله،
وأوضحت مدى هشاشة الشخصية الإسلامية في علاقتها مع أئمة أهل البيت عليهم السلام بحكم قلة الوعي وعدم الاستيعاب الكامل للعقيدة القرآنية في التعامل مع مفهوم الولاية والطاعة لولاة الأمر المنصوبين من قبل الله تعالى.
لقد أظهرت تجربة الأربع سنوات التي خاضها أمير المؤمنين في الكوفة أن العقلية الكوفية تحتضن تناقضات فكرية حادة تكفي لإجهاض أي مشروع للتغيير مهما كانت خلفيته النظرية متينة (القرآن الكريم) ومهما كانت قيادته حكيمة ومخلصة (أمير المؤمنين عليه السلام).
والمتتبع لخطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج بلاغته يستشعر أن الإمام عليه السلام استنفذ كل وسعه في إصلاح رعيته المخدوعة بألوان الفتن فكان آخر أيامه يندب الخلّص من شيعته الذين مضوا قبله فينادي من على منبر الكوفة وهو يحرض الناس على القتال: (أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة… قال نوف [البكالي]: فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان) “نهج البلاغة 2110”.
ومن الطبيعي جداً أن تشكل وفاة أمير المؤمنين عليه السلام منعطفاً يترك بصمات خطيرة على واقع الأمة الإسلامية، وفسح هذا الغياب المفاجئ لأمير المؤمنين عليه السلام المجال لذوي الزيغ والأهواء أن يتحركوا بحرية أكبر مستغلين حالة الصدمة التي أصابت مفاصل البلاد الإسلامية مع ما تختزنه من انحطاط في الوعي وقلة الحصانة، فكانت الشام هي الحاضرة الأكثر حراكاً على المستوى الميداني في دفع الأمور نحو تصعيد الغرائز والعصبيات واستغلاها في تحقيق المكاسب السياسية.
حكمة القائد وشجاعة الموقف
لقد أدرك الإمام الحسن عليه السلام من اللحظات الأولى لاستشهاد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام أن خطورة الموقف تستدعي تحركاً سريعاً لسحب البساط من يد الأمويين لمنع توجيه ضربة قاضية للبقية الباقية من المؤمنين، فاستبق الإمام عليه السلام الأحداث بتنظيم الصفوف وتعبئة العساكر وسد الثغرات جرياً على سياسة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام في سلوك خطين متوازيين من الحكمة والشجاعة.
ويبدو أن حالة التشرذم وصراع الإرادات وعقدة العصبية الجاهلية التي حكمت العقلية الإسلامية الفتية قد أصبحت من الخطورة بمكان بحيث يكون الحسم العسكري مع ذلك الخليط المتشظي ضرباً من الانتحار وسلوكاً نحو شطب الخط الإيماني من المعادلة، فكان القرار الشجاع والجريء للإمام الحسن عليه السلام بمصالحة معاوية بشروط هي أقرب إلى شروط الغالب المنتصر،
يقول السيد شرف الدين العاملي في كتابه صلح الحسن ص264: (ومن الحق إن نعترف للحسن بن علي عليهما السلام – على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه – بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها، لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين وحكام المسلمين اللامعين.
ولن يكون الحرمان يوماً من الأيام، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان، دليلاً على ضعف أو منفذاً إلى نقد، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير وسمو الرأي، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش).
لقد أظهرت ردة الفعل التي عبرت عنها الشخصيات المقربة من الإمام الحسن عليه السلام تجاه خطوة الصلح أن الحالة الشيعية لم تكن بعدُ قد وصلت إلى المستوى الحقيقي من الإيمان بمبدأ الولاية والتسليم للإمام عليه السلام، وربما كان الكثير من الشخصيات المحيطة بالإمام تنظر إليه من جانبه الأسري والأخلاقي لارتباطه برسول الله صلى الله عليه وآله ولنفس شخصيته الرفيعة التي استحقت لقب سيد شباب أهل الجنة، أما ما وراء هذا التصور من الإيمان بطاعته وإمامته المفترضة من الله تعالى، وأنه ينطق عن الله، ولا يعمل إلا بأمر الله، وأنه الحجة على كل الخلق فهذا ما لم يكن تستوعبه الأغلبية الساحقة من أتباع الإمام عليه السلام،
ولهذا كان البعض ينظر للإمام من وجهة نظر ضيقة جداً تنطلق من المصالح المرئية دون ملامسة العمق الغيبي الذي يحكم قرارات الإمام و يؤطر كل حركاته وسكناته، وما تنقله النصوص التاريخية من الاحتجاجات أو الاعتراضات على وثيقة الصلح يكشف جانباً من هذه الحقيقة،
وربما انقسمت تلك الاحتجاجات إلى قسمين:
الأولى: مثلها تيار الخوارج الذي كان ينشط بخلايا نائمة ضمن الحواضر والمجموعات الإسلامية والذي أعلن فتوى تكفير الإمام الحسن عليه السلام ونصها (كفر الحسن كما كفر أبوه من قبله) “الأخبار الطوال للدنيوري 216″، واتخذ الخوارج قراراً بتصفية الإمام فكانت محاولات اغتيال الإمام عليه السلام في (ساباط) جزءاً من هذا المخطط.
الثانية: مثلها بعض المخلصين من شيعته وأتباعه الذين لم يستطيعوا استيعاب قرار الإمام عليه السلام بخلفيته العقائدية الغيبية وتعاملوا معه كما قلنا من المنطلق الشخصي الضيق،
والنصوص التالية توضح بعض تلك الاحتجاجات:
* يقول الدنيوري في أخباره الطوال ص220: وكان أول من لقي الحسن بن علي رضي الله عنه، فندمه على ما صنع، ودعاه إلى رد الحرب حجر بن عدي، فقال له: (يا بن رسول الله، لوددت أني مت قبل ما رأيت، أخرجتنا من العدل إلى الجور، فتركنا الحق الذي كنا عليه، ودخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه، وأعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيسة التي لم تلق بنا).
فاشتد على الحسن رضي الله عنه كلام حجر، فقال له (إني رأيت هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقيا على شيعتنا خاصة من القتل، فرأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما، فإن الله كل يوم هو في شأن).
* قال المسيب بن نجية الفزاري وسليمان بن صرد الخزاعي للحسن بن علي عليه السلام: (ما ينقضي تعجبنا منك بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز !) فقال الحسن: كان ذلك فما ترى الآن؟ فقال: (والله أرى أن ترجع لأنه نقض العهد)، فقال: (يا مسيب إن الغدر لا خير فيه ولو أردت لما فعلت)، فقال حجر بن عدي: (أما والله لوددت انك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم فانا رجعنا راغمين بما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبوا). مناقب ابن شهرآشوب 3\197.
* (واجتمع إلى الحسن وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين علي يلومونه ويبكون إليه جزعًا مما فعله). مقاتل الطالبيين 44.
* (السلام عليك يا مذل المؤمنين)
وهي من أشد وأجرأ العبارات التي قيلت للإمام الحسن عليه السلام من قبل بعض المخلصين من شيعته، واختلفت المصادر حول شخصية قائلها فأكثر المصادر تشير إلى (سفيان بن أبي ليلى الهمداني)،
ويظهر من الروايات أنه ما قالها استهزاءاً أو إهانة وإنما بدافع الحمية غير المنضبطة (راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد 16\16، الأخبار الطوال 220، مقاتل الطالبيين 44، الاختصاص 82)، في حين أشارت مصادر أخرى أن قائل هذه العبارة هو (حُجر بن عدي الكندي) ولا تعارض بينهما لاحتمال تعدد القائل (راجع: الهداية الكبرى 192، اليقين لابن طاووس 26، دلائل الإمامة 166)،
وقد كشفت هذه العبارات من كبار الشخصيات الشيعية أن الواقع العقائدي لم يكن بمستوى النضج الكامل لإحداث تغيير شامل على مستوى البلاد الإسلامية وأن هناك فترة لا بد من اجتيازها للوصول إلى مرحلة الاندماج الكامل بين الإمام وشيعته.
إن الفترة التي عاشها الإمام الحسن ومن بعده الإمام الحسين عليهما السلام خلال حكم معاوية بن أبي سفيان في العقدين الرابع والخامس من القرن الهجري الأول (40 – 60 ﻫ) تشترك مع عصرنا الذي نعيشه (زمن الغيبة الكبرى) ببعض الصفات المشتركة نتيجة لوحدة الموضوع والتشابه في الظروف الحاكمة، وربما تختلف الغيبة الكبرى عن تلك الحقبة بما يلي:
أولاً: اختلاف الفترة الزمنية، ففي حين استمرت تلك الحقبة عقدين من الزمن، امتدت الغيبة الكبرى حتى يومنا أكثر من (1100) عام، وهذا يكشف أن حجم التغيير المنتظر من الغيبة الكبرى أكبر وأوسع مما كان متوقعاً من تلك الحقبة.
ثانياً: إن الإمام المهدي عليه السلام سيخرج وليس في عنقه بيعة لطاغية زمانه بخلاف الإمامين الحسنين عليهما السلام الذين أعطيا البيعة لطاغية زمانهما (معاوية بن أبي سفيان)، والبيعة في المفهوم العقائدي لأهل البيت عليهم السلام لا تعني الاعتراف بالشرعية أو الالتزام بالسمع والطاعة، وإنما تختص بالالتزام بعدم الخروج والسكوت عن المطالبة بالحق الشرعي للإمام عليه السلام،
وهكذا تفهم بيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمن سبقه من الخلفاء وكذلك بيعات الأئمة لكل خلفاء الجور وحكام الضلالة الذين تعاقبوا على حكم البلاد الإسلامية، ويختص إمام زماننا من بين كل الأئمة عليهم السلام أنه يخرج وليس في عنقه أي بيعة لطاغية زمانه،
يقول الإمام المهدي عليه السلام في توقيعه المشهور الذي خرج لإسحاق بن يعقوب: (وأما علة ما وقع من الغيبة فإن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)، إنه لم يكن أحد من آبائي إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي) “غيبة الطوسي 292”.
وقد أوضح الإمام الحسن عليه السلام هذا المعنى لمجموعة من شيعته حين سألوه عن علة مصالحته لمعاوية، فقد روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن أبي سعيد عقيصا قال: لما صالح الحسن بن علي عليهما السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال عليه السلام: ويحكم ما تدرون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أنني إمامكم مفترض الطاعة عليكم وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله صلى الله عليه وآله عليَّ؟
قالوا: بلى، قال: أما علمتم أن الخضر عليه السلام لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصوابا، أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي روح الله عيسى بن مريم عليه السلام خلفه، فإن الله عز وجل يخفي ولادته، ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير.
أوجه التشابه مع الغيبة الكبرى
وبالرغم من التمايزات الموجودة بين الحقبتين إلا أن أوجهاً للتشابه يمكن أن تقرأ على خلفية العناصر المشتركة، ولعل التمعن في هذه العناصر يمكّن الباحث من فك بعض الرموز والعقد التي تحيط بالواقع المعاصر وتساعده في تفسير الكثير من المواقف التي يمكن أن يتخذها للتعاطي مع الوضع الراهن، وهذه النقاط المشتركة هي:
أولاً: إن كلا الحقبتين شهدت غياب الإمام الشرعي عن الساحة السياسية واتخاذ العزلة طريقاً للتعاطي مع الأحداث على خلفية انحطاط مستوى النضج العقائدي للأئمة،
يقول الشيخ المفيد في الإرشاد 2\15: (ولما استقر الصلح بين الحسن صلوات الله عليه وبين معاوية على ما ذكرناه، خرج الحسن عليه السلام إلى المدينة فأقام بها كاظماً غيظه، لازماً منزله، منتظراً لأمر ربه جل اسمه)، وهذه العزلة مشابهة من بعض الوجوه لحالة الغيبة التامة التي يعيشها الإمام المهدي عليه السلام منذ ألف ونيف من السنين،
ويبدو أن هذه العزلة هي العلاج الناجع لحالة الاهتزاز العقائدي الذي دب في جسد الأئمة – ولا يزال – تحت تأثير السياسة وتيارات الانحراف الفكري، وتعمل العزلة في جانبين:
الأول يستهدف تنمية الوعي وتعريض المجتمع لحالة من التصحيح الذاتي المعتمد على تراكم المعاناة وتنامي الصراع الداخلي مع قوى الانحطاط العقائدي، والثاني يستهدف تعرية الأنظمة الفاسدة التي تحكم بأسماء وعناوين مختلفة وتحت شعارات متلونة للتغطية على الشرعية المستباحة لأهل البيت عليهم السلام.
ثانياً: صدور الأوامر من قبل الأئمة عليهم السلام في كلا الحقبتين بوجوب الكف والصبر وعدم الخروج على السلطان الجائر، وهذه الأوامر هي في الحقيقة انعكاس لحالة التبعية التي يجب أن تحكم العلاقة بين والشيعة وأئمتهم، والتي تعكس المفهوم السليم للتمسك الوارد في حديث الثقلين الشريف، وهذا المعنى مستفيض في صحيح الآثار المنقولة عن العترة الطاهرة،
ومن تلك الروايات الشريفة:
* نهج البلاغة 1\189 – شرح محمد عبده: عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى. فإن لبدوا فالبدوا وإن نهضوا فانهضوا. ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا).
* في قرب الإسناد للحميري 350: قال أبو جعفر عليه السلام: (إنما شيعتنا من تابعنا ولم يخالفنا، ومن إذا خفنا خاف، وإذا أمنا أمن، فأولئك شيعتنا).
* في الوسائل 27\73: عن الصادق عليه السلام أنه قال: (فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا).
* الوسائل 27\68: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أمر الناس بمعرفتنا والرد إلينا والتسليم لنا ثم قال: وإن صاموا وصلوا وشهدوا أن لا إله إلا الله، وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا إلينا، كانوا بذلك مشركين).
وانطلاقاً من هذا التأصيل وحيث أن العزلة وترك التصدي كان هو الحاكم على منهجية الإمامين الحسن المجتبى والإمام المهدي عليهما السلام، فقد أصدر الأئمة أوامر مشددة لشيعتهم بوجوب التزام البيت وعدم الخروج في معمعة الصراعات السياسية المشتعلة بين الأحزاب الحاكمة سواء في تلك الحقبة الصعبة من حكم معاوية أو في زمن الغيبة.
أما في زمن معاوية فقد أوصى الإمام الحسين عليه السلام مجموعة من شيعة الكوفة، عقب توقيع وثيقة الصلح بين أخيه الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، فقال لهم: (فليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته، ما دام هذا الإنسان حياً) يعني معاوية ” الأخبار الطوال 220″.
أما في زمن الغيبة الكبرى فالروايات بهذا المعنى تصل إلى حد الاستفاضة وربما التواتر القطعي،
وهذه نماذج من تلك المرويات الشريفة (راجع: غيبة النعماني 200):
1 – عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ” إنه قال لي أبي (عليه السلام): لا بد لنارٍ من أذربيجان لا يقوم لها شيء، وإذا كان ذلك فكونوا أحلاس بيوتكم، و ألبدوا ما ألبدنا، فإذا تحرك متحركنا فاسعوا إليه ولو حبوا، والله لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد، على العرب شديد.
2 – عن أبي المرهف، قال: ” قال أبو عبد الله (عليه السلام): هلكت المحاضير. قال: قلت: وما المحاضير؟ قال: المستعجلون، ونجا المقربون، وثبت الحصن على أوتادها، كونوا أحلاس بيوتكم، فإن الغبرة على من أثارها، وأنهم لا يريدونكم بجائحة إلا أتاهم الله بشاغل إلا من تعرض لهم “
3 – عن أبي بكر الحضرمي، قال: “دخلت أنا وأبان على أبي عبد الله (عليه السلام) وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان، فقلنا: ما ترى؟ فقال: اجلسوا في بيوتكم فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا على رجل فانهدوا إلينا بالسلاح “.
4- وسائل الشيعة 15\51:، عن سدير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا سدير ألزم بيتك، وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك.
5- أمالي الطوسي ص163: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما دخل سلمان (رضي الله عنه) الكوفة، ونظر إليها ذكر ما يكون من بلائها، حتى ذكر ملك بني أمية والذين من بعدهم. ثم قال: فإذا كان ذلك فالزموا أحلاس بيوتكم حتى يظهر الطاهر ابن الطاهر المطهر ذو الغيبة الشريد الطريد.
وكما شهدت هذه الهدنة المقرة من قبل الأئمة خروقات من بعض الشيعة في زمن معاوية فقد شهدت الغيبة الكبرى أيضاً خروقات لا مجال للتفصيل فيها.
ثالثاً: ومن أوجه التشابه المهمة أن كلا الحقبتين كانتا مقدمة للفتح الموعود، فحقبة معاوية مقدمة لملحمة عاشوراء التي كانت فتحاً بتصريح الإمام الحسين عليه السلام (أما بعد فان من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح) “كامل الزيارات 157″، وأما الغيبة الكبرى فهي مقدمة للفتح المبين الموعود على يد المنقذ الذي تنتظره الشعوب المقهورة والثلة المستضعفة في أرجاء المعمورة بعد امتلاء الأرض جوراً،
عن الإمام الصادق عليه السلام: (يوم الفتح يوم تفتح الدنيا على القائم لا ينفع أحداً تقربٌ بالإيمان ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند الله قدره وشأنه..) “معجم أحاديث الإمام المهدي 5\345”.
ومن هنا يبدو أن التشابه في المهام الموكلة للشيعة في هاتين الحقبتين ينطلق من تشابه في الهدف وفي الدور المرسوم، وأن الاختلاف في طول الحقبتين قد يعزى إلى اختلاف في سعة الدور التغييري المتاح لكلتيهما.
إن دراسة الحقبة التي عاشها الإمامان الحسنان في عهد معاوية بن أبي سفيان تؤكد للباحث أن ليس ثمة فروقات نفسية أو منهجية في العمل القيادي بين الإمام الحسن وأخيه الحسين عليهما السلام، وأن الشجاعة والحكمة التي امتلكها الإمام الحسن عليه السلام هي بعينها الشجاعة والحكمة التي توافرت في الحسين عليه السلام، فكلهم نور واحد، قال الإمام الصادق عليه السلام لأبي بصير: (يا أبا محمد كلنا نجري في الطاعة والأمر مجرى واحد..). “بصائر الدرجات 499”.
بقلم: علي الفحام
المصدر: مركز الإمام الحسن عليه السلام للدراسات التخصصية