الحرية في الفقه

بعد فتحه النار على الفقه.. يتراجع عن قوله: الحرية في الفقه…مشكلة المفهوم

الاجتهاد: توفيق السيف في مقاله السابق: حيثما بحثت في علم الفقه ستجد أن مفهوم الحرية مفقود أو منتقص. لا يعترف الفقه بالتنوع الديني والاجتماعي، ولا يعترف بحق الاختيار، كما لا يقر بحرية الاعتقاد والتعبير. ولهذا تجد أن النخبة الدينية، تنكر دون تحفظ، مشروعية الإفهام والتفسيرات والاجتهادات الجديدة للنص الديني. لأنها تتعارض مع ما يرونه صورة وحيدة للحق.

هاجم الكاتب السعودي، توفيق السيف، في مقالة له في الأسبوع الماضي ( 30 يناير 2019 م) بعنوان “الحرية عند أهل الفقه” التي نشرتها صحيفة الشرق الأوسط، الفقه الإسلامي والملتزمين بتقاليد المدرسة الفقهية، قائلاً: “إنهم يُنكرون حرية التعبير والتنوّع الديني والاجتماعي، فيما تمثّل الحرية عندهم الإذلال والقهر المادي”.

وذكر الدكتور السيف ، أنه “حيثما بحثت في علم الفقه فستجد أن مفهوم الحرية مفقود أو مُنتقص. لا يعترف الفقه بالتنوّع الديني والاجتماعي، ولا يعترف بحق الاختيار، كما لا يُقرّ بحرية الاعتقاد والتعبير”، بحسب ما ورد في المقال.

وأضاف في مقاله “لهذا تجد أن النخبة الدينية تُنكر دون تحفّظ مشروعية الإفهام والتفسيرات والاجتهادات الجديدة للنص الديني؛ لأنها تتعارض مع ما يرونه صورة وحيدة للحق”.

ويتابع الكاتب: “بعبارة أخرى فإن الملتزمين بتقاليد المدرسة الفقهية يُنكرون الحرية في الجوهر، لكنهم لا يرون هذا الإنكار معارضاً لروح الدين والقيم العليا؛ لأن مفهوم الحرية السائد بينهم لا يساوي تعدّد الخيارات. ولأن نقض الحرية المتعارف عندهم ينصرف إلى صورة وحيدة هي الإذلال والقهر المادي”.

 المقال السابق

الحرية عند أهل الفقه

إلا أنه وبعد ردود فعل من قبل القراء تراجع نسبياً عن مقاله السابق بكتابة مقالة بعنوان ” الحرية في الفقه… مشكلة المفهوم ” في نفس الصحيفة (- 06 فبراير 2019 م) ويقول:

النقاش حول مقالة الأسبوع الماضي، لفت انتباهي إلى غفلتنا عن التحول التاريخي للمفاهيم والمصطلحات وحتى المعاني الأولية للألفاظ. وذكرني هذا بقصة في بواكير دراستي لأصول الفقه، قبل أربعة عقود تقريباً. فقد أطنب الأستاذ في شرح العلاقة بين اللفظ والمعنى والفرق بينهما، وبين العام والمصطلح، وبين المعنى الحقيقي والمجازي… الخ.

لا أتذكر الآن مما تعلمته يومذاك، سوى إشارات بقيت في الذهن، من بينها تأكيد الأستاذ على أن «التبادر علامة الحقيقة». والمقصود بهذا القول إن لكل لفظ معنى حقيقياً، نعرفه إذا تبادر قبل غيره إلى أذهاننا. ووفق ما تعلمته يومئذ فإن المعنى الأول للفظ يبقى لصيقاً به على الدوام.

ومرت السنين، فتعلمت أن اللغة ليست كائناً مستقلاً، بل هي جزء من ثقافة المجتمع الذي يتحدثها، وأنها – خلافاً لما تعلمته سابقاً – لا تنتج المعاني. فالمجتمع هو الذي ينتج المعاني، ويلصق بكل منها اللفظ الذي يراه قادراً على حمل المعنى وإيصاله.
أما المعاني فهي التصوير الذهني لعناصر الواقع، المادية مثل التعاملات، والنظرية مثل الأخلاقيات والمعارف والجماليات والمثل والأعراف.

المعاني إذن هي ما نريد التعبير عنه حين نتحدث. أما اللفظ فهو وعاء المعنى أو ظرف الرسالة. ونعلم أن الناس لا يأكلون الوعاء، بل الطعام الذي فيه، ولا يهتمون بالظرف الذي يحمل الرسالة، بل بالرسالة التي في الظرف.

بعد هذا الاستطراد أعود إلى مقالة الأسبوع الماضي، التي ذكرت فيها أن مفهوم الحرية في التراث الفقهي الإسلامي محدود في معنيين، هما الأسر – السجن والرق – العبودية. فقد أثارت هذه الدعوى جدلاً، فحواه أنها تنطوي على رجم للفقه وأهله بالقصور أو التقصير.

لكن صديقي المهندس فؤاد عسيري لفت انتباهي إلى حقيقة غفلت عنها، وخلاصتها أن مفهوم الحرية الذي نعرفه اليوم، لم يكن متداولاً في غابر الزمان. وقد ذكر المفكر البريطاني – الروسي إيسايا برلين أنه أحصى 200 تعريف للحرية، يشير كل منها إلى معنى متمايز عن نظيره.

ذكر برلين هذا في محاضرة شهيرة جداً سنة 1958 عنوانها «مفهومان للحرية»، وقد أصبحت نصاً مرجعياً في التراث الفلسفي الخاص بالحرية. وفقاً لهذا التعداد فإن أكثر من ثلاثة أرباع تلك التعريفات – المعاني يرجع إلى القرن السابع عشر وما بعده.

بعبارة أخرى، فإن معظم المعاني التي ينطوي عليها مفهوم الحرية، لم تكن معروفة أو متداولة في الماضي، بل تطورت وتبلورت في سياق التطور العام الذي مر به المجتمع الإنساني خلال القرون الثلاثة الماضية.

هذا لا يعفينا – على أي حال – من الإشارة الإجمالية إلى نقطتين مهمتين:

الأولى: أن إغفال البحث الفقهي لمفهوم الحرية الحديث، ناتج – حسب ظني – عن اعتزاله لتيارات العلم والفلسفة الجديدة، رغم سعة تأثيرها في حياة البشر جميعاً، المسلمين وغيرهم. الحرية من القيم المعيارية الكبرى، وهي تشكل أرضية لشريحة واسعة من أحكام الشريعة والقانون. ونعلم أن الزمان متغير أساسي في تشكيل موضوع الحكم الشرعي وأغراضه.

الثانية: أن انفصال المعرفة الدينية عن تيارات الحداثة، أبقى ثقافتنا العامة أسيرة للتراث القديم بلغته ومفاهيمه وطرق تعبيره الخاصة. هذا أحد الأسباب الذي تجعلنا نتعامل مع قيمة عظيمة مثل الحرية بشيء من الارتياب، وتضطرنا لتبرير ارتيابنا بأن معانيها ولدت أو تطورت في الإطار المعرفي الغربي، وندعي أن لدينا مفهوماً مختلفاً. وهذا بعيد عن الحقيقة.

 

الدكتور توفيق السيف مفكر وباحث ديني وسياسي ومؤلف سعودي مهتم بقضايا التنمية السياسية . ولد في القطيف في 11 يناير 1959 م وهو عضو في مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وكذلك عضو في منظمة العفو الدولية في لندن. ساهم في العديد من الدورات العلمية في الفلسفة والاقتصاد وعلوم الإدارة وحقوق الإنسان والعديد من الدورات في القانون.

من مؤلّفاته: الديموقراطية في بلد مسلم، الحداثة كحاجة دينية، نظريّة السلطة في الفقه الشيعي، الإسلام في ساحة السياسة، ضدّ الاستبداد: قراءة في الفكر السياسي الشيعي، هوامش نقدية على واقعنا الثقافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky