خاص الاجتهاد: صدَرَ حديثاً عن مركز تراث البصرة التابع لقسمِ شؤون المعارف الإسلاميّة والإنسانيّة في العتبة العبّاسية المقدّسة، كتاب ( الوجيزة الحقّية ) لمهذّب الدين أحمد بن عبد الرضا البصريّ، ويتضمّن تحقيقاً وعرضاً ودراسة مع محوريّة تعليم عمليّة الاستنباط ومراحلها الفنيّة.
الكتاب من تأليف الشيخ الأستاذ محمود العيداني، ومراجعة وتَدقيق وضَبط مركز تُراث البصرة، وقد جاء الكتابُ بـ(338) صفحة من القطع الوزيريّ.
يقول معاونُ مديرِ مركزِ تُراث البَصـرة فضيلةُ الشَّيخ ياسين اليوسُف: “للفقهِ دورٌ محوريٌّ في حياة الأمّة الإسلاميّة، لتصدّيه إلى تشـريع منهاج حياة المُسلم، وتغطيته مساحاتٍ واسعة من سلوكيّاته، وقد برز في هذا الميدان جملةٌ من الفقهاءِ خُلِّدت سطورُهم ونتاجاتُهم عبر طيّات الزمان، وبذلوا حياتهم في سَبر غورِ هذه الأبحاث، وحملوا مشعل الرِّسالة والدِّين بعد غياب الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)”.
مضيفاً: “ومن الموضوعات المهمّة التي كانت محطَّ عنايةٍ في بحوث العُلماء، والتي بيّن الفحول مفهومها وحكمها، ضمن كتاب المكاسب أو المتاجر تارةً أو برسالةٍ مفردة تارةً أخرى،
وفي هذا السياق صنّف العلّامة مهذّب الدين أحمد بن عبد الرضا البصريّ رسالته المعروفة بـ( الوجيزة الحقّية )، وتناول فيها ما قد يُستدَلُّ به على الجواز من بعض الأخبار، مستعرضاً جميع الرِّوايات المعارضة مبيّناً حكم المسألة بأسلوبٍ متين وطريقٍ رصين،
وقد تصدّى الأستاذ الشيخ محمود العيداني لتحقيقِ هذه الرِّسالة ودراسة المطالب التي اعتمدها المصنِّف في استنباط حكم التغنّي بالقرآن، ضمن منهجيةٍ تُطلع الباحثين على منهج الاستنباط، وتبيّن للدارسين مراحل ممارسة الاستدلال بطريقةٍ منطقيّة”.
مقدمة المؤلف الشيخ الدكتور محمود العيداني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، وصلّى الله على مُحَمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
يُعَدُّ مهذِّبُ الدين البَصْرِيُّ من جُملة أبرز الشَّخصيات البَصريَّة على مَرِّ تاريخ البصرة، وهو ـ بالتأكيد ـ من جُملة أبرز شَخصيَّتين بَصريَّتين تَعاصَرَتا في القَرن الحادي عشر الهجري، وأمّا الشخصيَّة الأخرى، فهي شخصيَّةُ السيد نعمة الله الجزائري (رضوان الله تعالى عليه).
بُروزُ شَخصيةٍ مثل شخصيَّة مهذِّب الدين لم يكن أمرا غيرَ طبيعي أبدا؛ بل كان أمرا طبيعيا للغاية؛ حتَّم ذلك ما تمتَّع به الرجلُ من طاقات وقابليات وفنون وأخلاقيات، يأتي على رأسها كونه فقيها معترفا به من الطراز الأول.
ولم يكن قدس سره الشريف فقيها مبرَّزاً فَحَسب، ولم يكن ممَّن بَرَزَ وألَّف في العلوم التي ترتبط بالفقه وعالم الفَقاهة فَحَسب، بل تعدَّت فنونُه إلى ما لا علاقة له بذلك العالم أبدا، فكان متخصِّصا فيه من الطراز الأول، بحيث ألف فيه ودرَّس، وناقش.
الطبُّ، والخطُّ، والرياضياتُ، والهندسةُ، وخواصُّ الأعشاب، والطبيعةُ، والأخلاقُ، والآدابُ، والشعرُ، والادعيةُ، وغيرُها من العلوم المختلفة، كلُّها تشهد له بالاحترام والتقدير والتخصُّص؛ ذلك عبر ما ألفه في جميع هذه العلوم وغيرها من مؤلفات تركها لنا مبعث فخر وتقدير عظيمين، حتى أنها جاوزت الخمسمائة مؤلف كما سيأتي بالتفصيل.
هذا كله على الرغم مما كان يعانيه الرجل من حياة فقر وفاقة وحاجة شديدة للغاية، اضطرته إلى أن يترك مدينته التي نشأ فيها، بل جميع العراق ليتجه صوب العالم المفتوح حينها على مصراعيه للثقافة والعلم والتأليف، إيران، وخراسان، وأفغانستان، والهند؛ حيث كانت حكّام الإمامية تحكم ذلك العالم حينها.
وقد بلغَ الرجلُ في تأوُّهاته وشكواه ممّا كان يعانيه من الفقر والفاقة الغاية في ما ألفه من رسالة أسماها (السؤالية الحبيبةُ، والنواليةُ المجيبة)؛ التي انتهى منها في بيشاوَر سنة (1080) (1)؛ فقد بثَّ فيها من الآهات ما يحرقُ القلوب، ويُجري المُقلَ باللغة العربية والفارسية؛ ففي بدايتها: >من أقلِّ العباد، اللا شيء في البلاد، المجرَّح بقواطعِ القضاء، المقرَّح بلوامع العَناء… .
آهِ منْ نيرانِ هَمٍّ أشْرقَتْ
في فُؤادي وَلِروحي أَحْرَقَت
…آهٍ ثمَّ آه، ما أقولُ في من لَعِبَت بحالي، وَضَيَّعت جَمالَ كَمالي… وقد أحرَقتْني حَرارةُ شُهُبِ نيرانِ هُمُوم الفَقرِ والدَّين، بحيثُ لم يَبْقَ شيءٌ من الوُجود أنتفعُ به على مواضبته(2) طاعاتِ الدين
نَحَلتُ حتّى إذا هَبَّتْ عَلى جَسَدي
ريحُ الصَّبا لأَطارتْهُ وَما عَقلا
وَلو أرادتْ صِغارُ النَّملِ تَحْملُني
إلى قُراها تَجوزُ السَّهلَ والجَبَلا
وَلو نِِمْتُ في عَين البَعوضِ لَما مُعارضا
علِمَتْ في أيِّ زاويةٍ نمتُ
وَلو أنَّني عُلِّقْتُ في رِجل نَملةٍ
لَسارتْ وَلا تَدري بأَنّي عُلِّقْتُ
…أمّا فقري، فقد قَصَمَ فِقَري، وقَصَمَ ظَهري، بعدَ أن سكبَ قِدر قَدَري، وأمّا ديني، فقد كادَ يأخذُ بتخريب عَمايِر دِيني، وإطفاءِ منايرِ نورِ عَيني، بعدَ أن باعدَ بينَ الفراغ وبيني….
تُغَطّي عُيوبَ المَرْء كَثرةُ مالِه
يُصَدَّقُ في ما قالَ وهو كَذوبُ
وَيُزري بِعَقلِ المَرْءِ قِلَّةُ مالِه
يُحَمِّقُه الأقوامُ وَهْوَ لَبيبُ
…ثمَّ أقول: لقد كوَّرَ فقري عِلمي وحِلمي، ودمَّر اسمي ورَسمي، وأَفنى فَضيلتي، وشوَّش لُبّي، وَدَقَشَ(3) قلبي، وأَسقَطَ اعتباري عَن أدنى دَرَجات الاعتبار عندَ الأكثر، كما لا يخفى على أبرار الأخيار…<.(4)
ومن المثير جدا أن ترى الرجلَ يعيش حياةً فاعلةً ومثمرةً جدا على صعيد التعليم والتأليف والنشر في جميع السنين التي عاشها، في جميع هذه الأصقاع المتباعدة، على الرغم مما كان يعيشُه من الفقر المُدقع، فترك لنا ممّا ألفه ثروة عظيمة من الأفكار والنظريات والعلوم والفنون.
إلّا أنَّ ما يؤسف له أنَّ تلكَ الثروةَ العظيمةَ الغاليةَ لم تُستغلَّ الاستغلالَ المناسبَ لها؛ فعلى الرغم مما حُقق من تركة المهذِّبِ العلميةِ العظيمة، لم يكن ذلك إلا شيئا قليلا جدا من تلك التركة.
لهذا كله، ووفاء منا ببعض الدين الذي في أعناقنا للإنسانية كلها، وللمهذب +، ولبصرتنا الحبيبة المعطاء، ارتأينا أن نهتم بهذا التراث، محاولة متواضعة منا لبعثه من جديد؛ باعتباره ثروة علمية للانسانية جمعاء لا للشيعة فحسب.
ولما كان تراث الرجل عظيما متنوعا ذا جنبات متعددة مختلفة، فقد ارتأينا أن نختار من هذه الثروة الجانب الفقهي والاستنباطي منها؛ باعتباره غاية في الفائدة من جهة، وباعتبار قلة، بل ندرة من يهتم بهذا الجانب من جهة أخرى؛ باعتبار ضرورة أن يكون المحقق الباحث ذا تخصص في الفقه والفقاهة بمستوى يمكِّنه من فَهم الأفكار المطروحة من قِبَل المؤلف في هذا المجال، فوقعَ الاختيارُ فعلا على رسالة مخطوطة للمؤلف بعنوان ( الوجيزة الحقّية )،
يتناول فيها المصنفُ مَسألةً غايةً في الأهميَّة والحساسيَّة والعلاقة بالانسان وما يعيشه من ظواهر وفعاليات ونشاطات مختلفة يمر بها، في ذلك الوقت وفي وقتنا الحالي على السواء، وهي مسألة التَّغَنّي بالقُرآن الكريم، فيتعرض لشُبهة القَول بجَوازه، وما سبَّبَ تلكَ الشُّبهة، ثم يتعرَّض لما يَرفع تلك الشُّبهة ويردها ويستأصلها من جذورها، بتحقيق واف جميل تخصصي مهني موضوعي.
ما سبق من الموضوع والأهمية والأهداف، يجعل الوقوف على مجرد تحقيق كتاب أو رسالة مخطوطة أمرا غير مناسب أبدا؛ إذ لن يحقق ذلك إلا جزءا يسيرا مما نرومه هنا، ولذا، كان من الضروري أن نتخطى تلك المرحلة إلى مرحلة متقدمة نعرض فيها ما ورد في المخطوطة على بساط الدراسة والبحث بعد تحقيقها، محاولين عرضها عرضا وافيا واضحا مبسطا، مع مراعاة الموضوعية والانصاف.
الأهداف المتوخاة عامُّها وخاصُّها اقتضى تعاملا خاصا مع المخطوطة الحاضرة، ما استدعى جهدا تخصصيا كبيرا، سيجده الباحث واضحا في ما يأتي. وسيأتي في محله تفصيل لما بذلناه من جهود في هذا الكتاب، والمنهج المناسب الذي اخترناه لذلك.
نسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا القليل بأفضل قبول، وأن يكتب فيه الفائدة المتوخاة، إنه سميع مجيب.
الهوامش
(1)ينظر: المجموعة الخطية لمجموعة رسائل مهذِّبِ الدين، المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى في طهران، برقم (8922)، ص265، وفيها: قد وقع الفراغ من مشقَّة مَشْقِها نصفَ الثاني عشر، من الشَّهر الثامن، من السَّنة العاشرة من العُشر الثامن، بعد مضي حاصل باز في كف من الهجرة النبوية، على مهاجرها وآله أفضل الصلاة وأكمل التحية، في البلدة الموسومة بالبَشاوُر.
(2)هكذا في الأصل، المجموعة المتقدمة الذكر، ص253 يسار. والصحيح: (المواظبة على).
(3)أي: ذهب بعقلي وأفسده. ينظر: لسان العرب، ج6، ص302.
(4)المصدر السابق، ص253ـ 256.
الجدير بالذكر أنَّ كتاب الوجيزة الحقّية هو أحد الإصدارات التراثيّة التي يسعى عبرها مركزُ تراث البصرة إلى رفد المكتبة الإسلاميّة بالإصدارات المنوّعة، ليرتشف الباحثون والمهتمّون بالشأن التراثيّ من مناهله، واقتطاف ثماره وعبير محاسنه، كما تجدر الإشارة إلى إمكان القارئ الكريم أن يتصفّح الكتاب، مع جميع إصداراتِ ونشاطاتِ قسم شؤونِ المعارِف الإسلاميّة والإنسانيّة والمركز المذكور، عبرَ زيارة الموقع الإلكتروني www.mk.iq.
الوجيزة الحقّية
الاتصال بمركز تراث البصرة
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964 7602326873
+964 7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq/p