الإمام الحسين

النهضة والتغيير في فكر الإمام الحسين (ع) / إيمان شمس الدين

خاص الاجتهاد: في موضوع النهضة والتغيير كتب الكثير الكثير، وعلنا ما ستستعرضه الورقة نذر يسير من بحر عاشوراء والإمام الحسين ع، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.

“إن الإحياء الشامل لمفاهيم الإسلام، هو الشرط الأساس عند دعاة النهوض والإصلاح لكل تغيير في الواقع، ولكل عملية بناء وتشييد، والمدخل للخروج من نفق التبعية والتخلف”

قد يكون للحضارات الإنسانية دور في تجديد ثقافتها الاسلامية، لما للحضارة من دور وظيفي في النهوض وخاصة الثقافي منه، وكون الثقافة تدخل في تشكيل الهوية، بالتالي تأتي خطوات النهضة والثبات- رغم التأرجح في البين- من هذا التلاقح الايجابي وكيفية استنطاق تاريخ الحضارات ومخزونها في الوجدان والذاكرة استنطاقا معرفيا، قادرا على فتح أفق عقلية، وتستطيع أن تستفيد من التجربة الإنسانية في تقييم التجربة الدينية، وتطوير بنية الفهم والعقل في سبيل اتساع دائرة فهم للنص.

وفي أي عملية إحياء شاملة للمفاهيم الإسلامية من قبل المصلحين، يتم غالبا التركيز على العمود الفقري لذلك الصرح العظيم، الذي تتفرع عنه باقي المفاهيم، وتستظل به منظومة القيم المعايير التي تشكل مرجعية يقاس عليها غالبا الحق والباطل.

وقبل فهم طبيعة تلك المفاهيم من الضروري عمل إطلالة سريعة على كيفية تصوير الصراع بين الإمام الحسين ع ويزيد بن معاوية لعنه الله، إذ أن هذا التصوير أثر بشكل مباشر في كثير من الأحيان، وبشكل غير مباشر أحيانا أخرى في فهم طبيعة معركة عاشوراء، وكشف كنوزها في ذلك الزمن، وتحجيم مفاعيلها وتأثيرها على حركة التغيير المركزية التي انطلقت من كربلاء، بل صنعت ردود أفعال ثورية لم تكن على نهج الإمام الحسين ع غالبا، ولم تستمد روحها القيمية منه، بل غالبا كانت كردود أفعال عاطفية على هول ما حدث في كربلاء بحق ابن بنت نبي الرحمة الحسين ع، الذي يعرف قدره ومكانته القاصي والداني، إلا أن هذه المعرفة لم تشكل رادعا سلوكيا يمنع وقوع معركة كربلاء وما حدث في يوم العاشر من محرم.

لقد تم تصوير الصراع بين الإمام الحسين(ع) ويزيد بن معاوية على أنه:

1. صراع بين قبيلتين نابع من روح الفهم العربي الذي بَعُدَ إلى حدٍّ ما عن الفهم الإسلامي، ذلك أن قضية الإمام الحسين ع ويزيد بن معاوية لم تكن صراعا قبليا بين بني أمية وبنو هاشم، وإن اعتقد بنو أمية أنه صراعا على الزعامات، لكن لم يكن النبي ص ووالده وجده وعمه في وارد هذا الصراع، إذ نظر بنو أمية إلى نبوة النبي محمد ص، على أنها ادعاء لأخذ زعامة قريش، ومنافسة بني أمية عليها.

2. صراع بين كتلتين سياسيتين حول الخلافة والحكم والنفوذ.

3. صراع على المصالح والمنافع والثروات.

 

ولكن ما طبيعة وحقيقة هذا الصراع:

يمكننا فهم هذه الطبيعة من خلال تصريحات الإمام الحسين ع، وأقواله كما نقلت عنه عبر التاريخ والثابت منها، حيث قال: “وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين..

فالصراع هو:

1. صراعا بين الانحرافية المتمثلة في الحكم الأموي، وبين امتداد الدعوة الإسلامية المتمثلة في الانتفاضات الإحيائية وأولها ثورة الإمام الحسين ع.

2. إن الصراع عبر التاريخ ومنذ خلق الله نبينا ادم هو صراع بين نموذجين ومثلين أحدهما مثل أعلى مرتفع والآخر مثل منخفض. مثل أعلى مرتفع محوره الله ومنطلق الله تعالى، حيث هو جل شأنه من يشخص حقيقة الخليفة وشخصيته، وهو من يختار من يستخلفه في الأرض، ويكون المُسْتَخلِف عبدا مطيعا لإرادة الله ولتوجيهاته وأوامره، ومثل منخفض محوره الإنسان، الذي يعطي لنفسه الحق في أن يحدد من يكون حاكما وواليا للناس، ويسلب ذلك من الخالق، والسلب هنا تحت ذرائع وشعارات قشرية باسم الدين، تعكس سطحية في فهمه، وخواء في إدراك الرسالة الربانية.

3. هو صراع بين جبهة الله وهي جبهة الحق، وبين جبهة إبليس وهي جبهة الباطل، وأحيانا يكون هذا الصراع واضحا جليا، وأحيانا يكون مموها يصعب رؤيته إلا على أصحاب الوعي والإدراك.

4. صراع بين النماذج “مثلي لا يبايع مثله”، نموذج متصل بالسماء هو نموذج الإمام الحسين ع وهو متصل بنموذج النبوة والإمامة عبر التاريخ، ونموذج انقطع عن السماء وهو نموذج يزيد وفرعون ونمرود وكل من سار على مسار “أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين” .

وأي نهضة تتطلب وعي بالواقع وانطلاق من نقطة مركزية هي “التوحيد” ومن “قيادة ربّانية”، وعادة المنهج النهضوي في أي فكر يسير في خطين متوازيين:

الأول: البناء الداخلي للاسلام وسبر أغوار الإشكاليات التي أعاقت إبرازه كحضارة نهضوية مستديمة في سيرورتها التاريخية، من خلال النظر إلى أهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الاسلامية.

الثاني: البناء الخارجي المتمثل في المشاريع المطروحة في عرض الإسلام لا في طوله، سواء كانت ترفع شعار الإسلام، ولكن تطبيقها في عرضه، أو كانت هي بذاتها مشاريع في عرضه نظريا وتطبيقيا.

ولقد تعرض الإسلام كمنظومة إلى عدة حروب
1. معنوية
2. ومادية

وقد نطلق عليها حروب ناعمة وصلبة بمنطق اليوم:

– فالصلبة هي الحروب العسكرية الداخلية كالتي خاضها أمير المؤمنين ع في عهده أو تلك التي خيضت بعد رسول الله ص بشكل بعيد عن روح الدين، وساندت في دك مدامك الأسس المحورية لبنية الإسلام العزيز.

– الحروب الناعمة – وهي الأخطر- التي عملت واشتغلت على وعي المسلمين الغض، والذي لم ينضج بعد غالبا في إدراك الإسلام وروحه ومعناه وأبعاده، كنظام حياة استراتيجي سيتكامل كبنية رصينة مع تكامل وعي الناس وإدراكهم.

وكان أهم ما تم هدمه خلال تلك الفترة هو:

1. مفهوم التوحيد، الذي يعني في جوهره العبودية لله وحده، وتحرير الإرادة من كل القيود والأغلال، لتنتظم في طول إرادة الخالق.

وتم ذلك ليس بشكل مباشر، وإنما بشكل غير مباشر وباستخدام الدين كآلة ووسيلة لتحقيق هدف تفريغ مفهوم التوحيد. مثالا لذلك:

– موضوع عدم جواز الخروج على الحاكم وطاعة ولي الأمر، حتى لو كان فاسقا،

– ومثال آخر موضوع الجبر وأن الإنسان مجبر غير مخير، لتبرير قتل الإمام الحسين ع.

هذه النماذج استطاعت أن تقوض مفهوم العدل الإلهي من جهة، وتقوض إرادة الفعل والتغيير وتعزز من جهة أخرى، وتشرعن الرضوخ للظلم بحجة دينية ليس لها أساس صحيح، فتم تشويه مفهوم العبودية الذي يخضع الإنسان كوجود مستقل لله.

ويمكن من خلال هذا التقويض تشتيت ولاءات الإنسان لأرباب وآلهة عدة “لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا” وتذويب إرادة الفعل عند المجتمع الإسلامي ليمرض بمرض أخلاقية الهزيمة. “إنشاء مفهوم للطاعة بعيد عن المفهوم القرآني، ليصبح بدل طاعة الله وأنبيائه ورسله والأوصياء، يدخل إليه طاعة الولاة والصحابة والخ، لنصل إلى أن طاعة الحاكم تصبح في عرض طاعة الله ومع ذلك تمضي”.

2. تفتيت مفهوم الأمة الذي يؤسس لقوة الفرد ضمن أمته، بحيث لا يهمل بناء الفرد، ولكن يجعل امتدادات تكامله وازدهاره كقوة بشرية فاعلة ضمن الأمة.

فالفردانية كمفهوم غربي ليس جديدا كفعل بشري، لكن المفهوم هو الجديد، وإنما الفعل كان عبر التاريخ صناعة طغاة وجبارين ومستكبرين، فعملية تشتيت الجمع هي سياسة عملانية لمن يريد أن يتحكم بالناس. فباتت الأمة التي صنعها رسول الله ص، والتي كان من ضمنها الأنصار الذين سطروا أروع صور الإيثار والتضحية والطاعة كجزء من هذه الأمة، باتت هذه الأمة قبائل وعوائل وولاءات متفرقة بين ولاة الأمصار.

علاقة الفرد بالأمة تأتي ضمن علاقتين:

الأولى: علاقة خصوص وعموم من وجه، وهذه العلاقة تكون في وقت السّلم، والسّلم هنا ليس عدم الحرب، وإن كان أحد معانيها ودلالاتها، وإنما هي الحالة التي تتحقق فيها العدالة الاجتماعية المرتبطة بتحقيق كرامة الإنسان. وهنا يمكن للفرد أن تكون له مساحته الخاصة، ومساحة أخرى ممتدة في الأمة، ضرورية وأساسية في تحقيق كماله وتكامله الوجودي.

الفرد_الأمة

الثانية: علاقة خصوص وعموم مطلق، وهذه تتحقق في حالة الحرب، والحرب هناك ليست فقط العسكرية منها، بل أيضا هي الحروب الناعمة التي تستهدف الهوية والثقافة والعقيدة، أي تستهدف جوهر الوجود الإنساني، وهنا الفرد يندك في الأمة ويصبح كل وجوده في مواجهة هذه الحرب بكافة أشكالها، إذ أن كماله الإنساني متوقف على هذا الاندكاك.

الفرد - الأمة

وقد ظهرت جليّة عمليّة التفتيت في عصرنا بعد اتفاقية سايس بيكو التي فتت المنطقة إلى دول وجغرافيّات، ثم إلى أوطان لها سيادتها وهي أمر بذاته جيد أي السيادة، لكن تحولت هذه المفاهيم إلى وسائل تفتيت وتشتيت لوحدة الأمة، خاصة في القضايا المصيرية التي تتطلب موقف وإجماع أمة، كقضية غزة التي يتم استنزافها من عدو وحشي، ومع ذلك نجد الأمة عاجزة عن موقف موحد لصالح نصرة غزة وأهلها المظلومين.

فبدل أن يستخدم مفهوم الوطن والسيادة إلى مفاهيم تتخادم مع الأمة وفي صالح رفعتها وحضارتها، باتت العائق المُكَبّل لهذه الأمة والمُفَتّت لها.

3. تقويض وتحوير منظومة القيم والمعايير والحقوق، فالدين لديه منظومة ثابته تقاس عليها الأشياء المتحركة عبر الزمن، ومن أهمها منظومة القيم والمعايير والحقوق، وهذه تبنى وفق رؤية استراتيجية تتفاعل مع باقي المفاهيم بشكل عضوي، فهي تزدهر وتتجلى بل لا يمكن أن تقوم قائمتها كما هي إلا في طول وفي ظل مفهوم التوحيد النظري والعملي الحقيقي، ومع قيامة وتحقق مفهوم الأمة، وعندما تم تقويض هذه المفاهيم المحورية، بالتالي سيتم تدريجيا تفتيت هذه المنظومة التي تشكل العمود الفقري للدين، و أهم قيم محورية تم هدمها وتشويهها هي الحرية والعدالة والكرامة.

طردية العلاقة بين العدالة والكرامة:

تحقيق العدالة بكافة مصاديقها يتطلب بداية إزالة كل ما تم تحميله من فهم لهذا المصطلح، فهو يشكل المدخل السليم والحقيقي للتوحيد، وأهم ما تحققه العدالة هو رفع الحجب التي فرضها الفهم والسلوك البشري المتراكم وفق هذا الفهم للنص الديني من جهة، وللكون وموقع الإنسان فيه ووظيفته من جهة أخرى، وللمفاهيم ودلالاتها بالتالي، والذي غالبا ما انحرف عن واقع الأمر، فانعكس هذا التشويه على السلوك الإنساني، فتشكلت منظومة مفاهيمية بعيدة عن الحقيقة، ورست على ضوئها منظومة سلوكية بعيدة عن الواقع، فألبست العدالة لباس آخر تحكمه الأهواء والاستمزاجات الشخصية، ومعايير خاضعة غالبا لمواضعات بشرية.

ويقول هيجل: “إن العقل يجمع الناس والفهم يفرقهم”. فالعدالة مفهوم غير مستقل بذاته لكنه متمازج مع الحرية والمساواة، ومتداخل مع الحقوق والقوانين، وهذا التداخل يعطيه القوة على الحركة والسرعة والتطوير المستمر في الواقع العملي.

فتعتبر الحرية علة أداتية له، والمساواة فرع من فروعه، ودفع تعاون كل هذه المفاهيم وتطبيقها باتجاه تظهير كرامة الإنسان في واقع الفرد ذاتيا وفي واقعه الاجتماعي.

“إن تحديد القانون للعدالة أنه يتدخل عند كل اختراق للعدالة. فالقانون يرى العدالة كنظام مضبوط بقواعد، تدبر حضور الفروقات الطبقية وغيابها في توزيع الثروة، من الجاه والسلطة والولاء.”

إلا أن إسناد العدالة للقانون فقط، يعطي شرعية شبه مطلقة للذي ينفذ القانون، والذي إما أن يكون منتخب وفق الرؤية غير الدينية وهو ما قد يفتح له المجال في استغلال سلطته، فيستغل منصبه لإضفاء عامل الشرعية الوضعية على أمور ليست شرعية، وإن اعترض أحد فهو بذلك وفق مبدأ العدالة بتطبيق القانون، فاعتراضه يكون اعتراضا على العدالة، أو يكون معصوم وفق الرؤية الدينية أو يمتلك درجة من العصمة، بحيث يكون ملتزما بمصادر التشريع القرآن والسنة النبوية المعتبرة.

فالعدالة لم تأت لقهر الفرد، وربطه بغايات تجعل منه وسيلة، إلا أن العدالة أداة لحماية الحرية الفردية، وتوفير الإمكانات والاستحقاقات اللازمة للجميع من نقطة انطلاق متساوية، والعدالة لا يمكن أن تتم إلا بربط الذات بالغاية المشتركة للذوات، لتفرد الذات يفرقنا وغايتها تجمعنا.

فالعدالة في دور من أدوارها هي معالجة الواقع بتناقضاته واختلافاته واتفاقاته، والعمل على اتقاء الظلم الذي يسرى في المجتمع من كل جانب، عن طريق عقلنة المؤسسات، على اعتبارها الضامن لاستمرار هذه العلاقة بين الفرد والمجتمع.

إن العدالة هي مطلب قيمي مهم في المجتمع، لأن مقصد تحقيق العدالة هو تحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق كرامة الإنسان مطلب لأداء وظيفته وفق رؤية ذات بعد إلهي محوري وآخر إنساني لا يجب أن يخرج عن حدود الله.

وللعدالة كأصل مرجعية معرفية تستمد شرعيتها من الله على مستوى التنظير كمقصد من مقاصد الشريعة، ولكن مرجعيتها التطبيقية خاضعة لمصادر معرفية متنوعة لا تخرج في أحدها عن مرجعية النص، بمعنى أن الأصل تحقيق العدالة، بالتالي الأدوات الصالحة التي تحققها تصبح أدوات شرعية بالتبع.

إذا تحققت العدالة تنضبط الحريات بها، وتكون المساواة تحت مظلة العدالة، وتنتظم لذلك مجموعة الحقوق

فكلما ازداد منسوب العدالة في النفس، كلما ازداد في الخارج، كلما انتظمت القيم وبالتالي ارتقت كرامة الانسان، فالعلاقة بين العدالة والكرامة علاقة طردية.

فإذا قلنا نريد أن يرتفع سقف الحريات، تكون الحريات المطلوبة هي تلك التي تحقق العدالة بحيث لا يمكن لهذه الحرية أن تحقق نقيض العدالة بالظلم أو سلب الاخرين لحقهم، فتكون الحرية المطلوبة حرية عادلة، وهكذا المساواة وموضوعة الحقوق.

ولا يمكن لمفهوم الحرية هنا أن يكون منتهكا لكرامة الإنسان التي تحفظ له آدميته وتميزه عن باقي المخلوقات وخاصة الحيوانات، فلا تتحقق الكرامة بالعبودية لشخص، ولا بالعبودية للشهوات، ولا الغرائز.

رسم يوضح العلاقة الطردية بين الحرية والعدالة والكرامة:

كرامة

ولكن هل العدالة المطلوبة هي كما يراها الإنسان وعقله؟

عقل الإنسان محدود، ولا يمكن للمحدود أن يحيط باللامحدود، قد يدرك هذا العقل حسن العدل وقبح الظلم، ويدرك أهمية العدالة في بناء الكرامة الإنسانية، ولكن ماهية العدالة وكيفها لا يمكن أن يدركه كما يجب إلا بتعليم من الوحي، لوجود التحيزات الادراكية، وتداخل حب الذات ومصلحة الإنسان في تشخيص الواقع، وتحقيق العدل، وهو ما سيصل له العقل إذا أدرك العدالة وأهميتها كمدخلا مهما لإدراك التوحيد، وعلى ضوء إدراك التوحيد، ستتأسس منظومة المفاهيم والقيم وفق الرؤية الالهية التي ستؤدي بشكل انسيابي حتمي في تحقيق الكرامة التي منحها الله لكل البشر.

إن السعي نحو الكمال الذي فطر عليه الإنسان، هو الداعي العقلي الذي يدفعه دوما لإقامة العدل، والبحث عنه، ولكن تكمن المشكلة في فهم الكمال ومصاديقه الخارجية والآليات التي يمكن من خلالها تحقيق العدل، فكلما ابتعد الانسان عن السماء – إن صح التعبير- كلما ابتعد عن تحقيق العدالة المطلوبة، وكلما أصبحت كرامته عرضة للانتهاك.

والعقل حينما يدرك أهمية المحتمل واحتمالات تحققه في حال إزالة الموانع، فإنه يدرك أهمية بذل ما يتناسب مع أهمية هذا المحتمل (العدل)، خاصة مع إمكانية تحققه وارتفاع احتمالات تحققه في حال توافرت الشروط وأُزيلت الموانع.

هذه أهم أسس تم تعرضها للحرب الناعمة الشرسة والتي أدت لوقوع كربلاء.

الوعي والطاقة الحرارية:

السؤال الذي يطرح نفسه والمتصل بذات الفكرة في كربلاء:

هذه الأمة التي صنعت المعاجز تحت قيادة تاريخية ربانية هي قيادة النبي ص، وتحملت أشد الصعاب لأجل العقيدة، كيف انقلبت بشكل سريع وتراجعت على مستوى الوعي وفهم الواقع حتى وصل بها الأمر لقتل أخر صلة مباشرة لها بالنبي ص، وهو سبطه الإمام الحسين ع مع إدراكها ووعيها لمقامه وموقعيته وحقّانيته، أين يكمن الخلل؟
“وما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ”

هناك فرق بين أن تتفاعل مع محيطك في بعده العاطفي كطاقة حرارية تستمد وهجها من شخص النبي ص، وبين أن تتفاعل مع شخص النبي ص بوعي وإدراك لرسالته وموقعيته في مشروع وجبهة الله تعالى، فالدين لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالدين.
وحتى ندرك طبيعة هذا الصراع علينا أن نسلط الضوء على طبيعة هذا الصراع في بعديه الناعم والصلب.

فهناك فرق بين الوعي والطاقة الحرارية كما يذكر الشهيد محمد باقر الصدر:

الوعي: عبارة عن الفهم الفعّال الإيجابي المحقق للإسلام في نفس الأمة، الذي يتأصل ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالا كاملا. ويحول تمام مرافق الإنسان من مرافق الفكر الجاهلي إلى مرافق الفكر الإسلامي، والذوق الإسلامي. ولكن هل الوعي هو ذاته الإدراك؟

“يعتبر الإدراك المفهوم الأشمل للعمليات العقلية بما فيها التفكير، فهو المظلة لكل العمليات العقلية، إلا أن الوعي يمثل إدراك الإنسان بأنه يقوم بهذه العمليات العقلية بما فيها التفكير، فالوعي يعتبر المستوى الأعمق من الإدراك”

وكلما تعمّق وعي الإنسان كلما استشعر أبعاد المسؤولية الملقاة على عاتقه، إذ أن الوعي يرتبط بعلاقة طردية مع حجم المسؤولية وعظمها، فالخطوات على هذه الأرض ترتبط فاعليّتها وثقلها وتأثيرها بارتباط صاحبها بمبدأ المسؤولية وإدراك أبعاده ودلالاته وتطبيقاته، بل وظيفته، مهما حاول الانسان الانفكاك الواقعي عن المسؤولية، إلا أنها ترتبط به ارتباطا تكوينيا

“وقفوهم إنهم مسؤولون”
أمرٌ مع تأكيد للصلة الوجودية، التي ستلاحق الإنسان مهما حاول الهروب منها. إلا أن الحديث عن ارتباط المسؤولية بوجود الإنسان تكوينيا، لا يعني بالضرورة أن الجميع على مستوى الفعل الإنساني متساوون في درجة المسؤولية لأنهم حتما ليسوا متساوون على مستوى الإدراك والوعي، فالأمر ليس بهذه الراديكالية على مستوى الفعل، وإن كان على مستوى القوة الوجودية حتمي الارتباط غير منفك، وبدرجة واحدة عند كل البشر.

فعلى مستوى الفعل الإنساني تختلف درجات المسؤولية باختلاف القابليات الإنسانية ومستويات الوعي: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” .

وإن كنا هنا نتحدث عن مسؤوليتنا اتجاه قضايانا فإننا هنا نتحدث عن ارتباط المسؤولية الإنسانية بعدة عوامل خارجية وداخلية.

فالداخلية منها هي:
– قابلية الإنسان.
– مستواه التعليمي والمعيشي وطبيعة البيئة التي نشأ بها.
– مستوى إدراكه، ووعيه لواقعه ومحيطه.

والعوامل الخارجية مرتبطة بعدة عوامل:

– الجغرافيا.
– الواقع الاجتماعي والسياسي.
– فاعلية النخب والمثقفين في ممارسة دورهم التوعوي، وفضاءات الحرية المتاحة التي يحددها طبيعة من يحكم.

لذلك ونتيجة لعملية التّجهيل التراكمي التي مورست بحق الأمة الإسلامية بعد رحيل خاتم الأنبياء محمد ص، فإن مستويات الوعي تراجعت بشكل كبير، وتراجع على ضوئها مستوى الإحساس بالمسؤولية وطبيعة هذه المسؤوليات، أي هل هي مسؤوليات متصلة بطبيعة استخلاف الله للإنسان فتكون في طول إرادة الخالق، أو هي مسؤوليات وفق رغبات صاحبها ومن يتولى من أرباب الأرض، فتكون مسؤوليته في عرض إرادة الخالق جل شأنه.

وهنا قد لا تسمى مسؤولية لأنها غير واقعة عن اختيار في كثير من الأحيان، بل إما تكون كما هو حال كثير ممن حارب الإمام الحسين ع، تكون تحت تأثير المال، أو الخوف على الدنيا، أو الخوف من عقاب الحاكم، أو حتى طمعا في جاه وحظوة عند هذا السلطان، وهذا غالبا مرتبط بالرغبة والشهوات والغرائز التي تشكل الدافع الرئيس للحركة والعمل، بينما المسؤولية التي تكون في طول إرادة الله، فإنها تقع عن إرادة واختيار الإنسان لأن لديه خيارات أخرى غير مكلفة له دنيويا، إلا أنه يختار تحمل المسؤولية التي أرادها له الله تعالى، وهذه تكون نتيجة إحساس بالمسؤولية التي تتولد من استشعار الرقابة الإلهية وحب الخالق وإطاعة أوامره، وهذا ما كان عليه أصحاب الإمام الحسين ع، الذي بذلوا مهجهم على طريق أبا عبد الله الحسين ع.

أما الطاقة الحرارية: فهي عبارة عن توهج عاطفي حار، بشعور قد يبلع في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث يختلف الأمر، فلا يميز بين الأمة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية، وبين أمة تتمتع بذلك الوعي إلا بعد التبصر.

إلا أن الفرق بين الأمة الواعية والأمة التي تحمل الطاقة الحرارية كبير، فإن الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالابتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية، والذي هو النبي ص.

ويتبلور الوعي في الشدة وليس في الرخاء، ففي الرخاء قد يتفاعل الجميع مع الدعوة إلى الله، أو مع جبهة الحق، كما تفاعل أولئك الذين أرسلوا كتبهم الداعمة لمجيء الإمام الحسين ع إلى الكوفة لنصرته وقالوا إن لك رجال جنود مجندة، لأن حاكم الكوفة النعمان بن بشير كان ضعيفا وفق فهم بني أمية للضعف، فكانت حركة الشيعة سهلة ويسيرة نوعا ما، ولعب هانئ بن عروة دورا بارزا فيها في دعم حركة مسلم بن عقيل، ولكن عندما جاء عبيد الله بن زياد مبعوث يزيد ليعزل النعمان، وتولى شؤون الكوفة، هنا برزت حقيقة هذا الوعي في الشدة، فقتل هانئ بن عروة وسحبت جثته في الأسواق ورمي مسلم بن عقيل من شاهق كما يفعل بمرتكبي فاحشة اللواط، أمام صمت وسكوت أولئك الذي استصرخوا الإمام الحسين ع، وحينما أرسل موفده مسلم بن عقيل ليستقرئ الواقع فغدروا به خوفا على دنياهم، لدرجة أن تسحب الأم يد ابنها خوفا عليه قائلة ما لنا وصراع السلاطين، معتبرة أن الصراع بين يزيد والإمام الحسين ع صراع سلاطين وليس صراع جبهتين ونموذجين.

لذلك هناك فرق شديد بين التفاعل مع كربلاء كوعي ممتد في كل الأبعاد حتى الاستراتيجية منها، وبين التفاعل معها عاطفيا وتراجيديا، دون بعد عقلي ناظم وضابط ومدرك.

لذلك تمثلت النهضة في كربلاء في كونها:

1. انبعاث جديد لإشعاع النور النبوي الممتد في الحسين ع، حيث تضمنت خطاباته عليه السلام تأسيسات توحيدية تذكر الموجودين برابطتهم وعلقتهم بخالق السماوات والأرض، وبانتمائه إلى جبهة الله واتصاله بخاتم الأنبياء، ليزيل عنهم اللبس، ويقيم عليهم الحجة.

2. تنوير مسار الأمة بطاقة شعورية متجددة تم تعميدها بأذكى الدماء وأطهرها، بعد خمودها ومرورها بتجارب أبعدتها عن التجربة الإسلامية الرشيدة في عهد النبوة، وبات هناك أجيال تم بناء بنيتها الفكرية على مفاهيم مخلوطة ومغلوطة فحاول الإمام من خلال واقعة كربلاء فلترة وضبط موازين هذه المفاهيم وإعادة النصاب للمنظومة المفاهيمية الصحيحة الممتدة للنبوة.

3. تجديد هذه الطاقة الشعورية كانت بمثابة قفزة وعي تُرشّد التجربة الإسلامية، وتعيد للأمة مسارها التصاعدي من جديد.

مصاديق النهضة في الفكر الحسيني:

خرج الإمام الحسين عليه السلام معلنا أول خطوة في طريق النهضة في وجه من مثل الاستبداد في زمانه “يزيد بن معاوية بن أبي سفيان”، حيث قال:” والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولكن خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”

والإصلاح يعني التنظيم والترتيب، وهو حركة تحدث تغييرا نحو الأصلح والأكمل، أي حركة ديناميكية مستمرة. وهي أيضا من مصاديق النهضة.

1. إحياء حياة فكرية جديدة تتجاوز انغلاق فترة زمنية سابقة وقيودها المعيقة، وقد استطاع الامام الحسين عليه السلام من خلال عدة مواقف أن يبعث الحياة في أساس الفكر النقي المتسق مع الفطرة البشرية السليمة،

وعلى سبيل المثال لا الحصر لو نظرنا إلى المكونات العرقية والقبلية والدينية لجماعة وأصحاب الإمام الحسين عليه السلام، نجدها تحمل في عمقها تنوعا فريدا ضم في صفوفه الطبقات الاجتماعية، والأديان السماوية والقبائل المختلفة والمتعددة، وهو مواجهة صريحة ورسالة واضحة لترسيخ مفهوم التقوى الذي مايز بين البشر والقبائل والعشائر والناس، قبالة التمييز على أساس العرق والقبيلة والطبقة، وغيرها من الأمور التي كرستها ثقافة أهل الشام، بل كرس ثقافة الرفض الطبقي الذي أسست له الشريعة الاسلامية مع بدايات الدعوة المحمدية.

2. وهي مؤسسة على المراجعة والتقويم وليست مبنية على الاجتثاث والقطيعة، إذ أنها تتصل بالماضي اتصالا مرتبطا بالهوية والانتماء الفكري والعقدي، فمجرد إعلان الامام الحسين الهدف الرئيس من ثورته وهو الاصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لهو دلالة صريحة وواضحة وإمارة جلية على مراجعة وتقويم التجربة الاسلامية بعد انحرافها عن أهدافها الانسانية ومقاصدها، والذي يعتبر العدل والعدالة من أسسه، فهو لم يصرح بانه ثار من أجل دين جديد أو فكر جديد، بل الاصلاح الذي يعتبر من مصاديق النهضة ويعمد إلى ترتيب وتنظيم ما فسد ليعيد له أصله السليم.

ولعل الخطب التي ألقاها الامام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، والتي بين فيها معالم نهضته للجنود في صفوف العدو، كانت رسائل واضحة للقوم في تقويم الفكرة ومراجعتها وإقامة الحجة عليهم، وهي وثيقة للتاريخ تثبت بذور الفكر النهضوي في ثورة أبا عبد الله.

3. وهي عملية متصلة بالذات وليست عملية غريبة عنها، أي أن نهضة الامام الحسين لم تأت بما هو غريب عن جسد الأمة الاسلامية وثقافتها، بل أعادت بلورة الأسس الدينية التي تم تشويهها تراكميا، فلم تستورد فكرة غريبة عن الذات الإسلامية، ولم تتأثر بقادم فكري خارج عن السياق الإنساني، بل هي من عمقه وفي خدمته وفي سبيل الارتقاء به والعودة به إلى صفاء فكره، وإزالة الشوائب التي تراكمت كميا فغيرت نوعيا،

بل واجه الإمام الحسين ع الأفكار الغريبة عن الذات وأهمها على المستوى السياسي في تحويل الدولة إلى ملك عضوض كسروي وراثي كان موجودا في بلاد فارس والبلاد الروم، وتغييب حق الناس في قبول السلطة ورفضها. إضافة إلى بعض المواقف التي حدثت في كربلاء وفي يوم عاشوراء رغم بساطة ظاهرها، إلا أنها عميقة الفكرة ودقيقة في وجهتها الانسانية.

4. إعادة إحياء مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن تم إماتته إما بالتشويه، أو بالتعطيل، فمن موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفض الطغيان ومواجهة الطغاة، والسعي لتحقيق العدالة ورفع الظلم، والدفاع عن الإنسانية وحقها في العدالة، وحقها في الحرية، وحقوقها العامة المؤثرة هو دفاع بحد ذاته،

لذلك فإن انتفاضة الأشخاص من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضا هي انتفاضة مقدسة بشروط وضوابط تم تقنينها من قبل الشارع الأقدس، ومن قبل سيرة العقلاء أيضا. لا يختص الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد، ولا مجال من المجالات ، بل هو شامل لجميع ما جاء به الاِسلام من مفاهيم وقيم ، فهو شامل للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الاِسلامية، وشامل للموازين والقيم الاِسلامية التي تحكم العلاقات الانسانية، وشامل للشرائع والقوانين، وللأوضاع والتقاليد،

وبعبارة اُخرى هو دعوة إلى الاِسلام عقيدة ومنهجاً وسلوكاً؛ بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الأوامر والارشادات الاِسلامية ، ومنكمشة ومنفصلة عن مقتضيات النواهي الاِسلامية؛ .

وهناك ثلاث ميزات في خطاب الأمر بالمعروف في عصر النهضة الإسلامية الحديثة والزمن الراهن هي:
1. الميزة الإحيائية
2. الميزة التطبيقية والأسلوبية
3. الميزة السياسية النهضوية

والجهاد كمرحلة متقدمة من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ تكون هناك مراحل سابقة عليه، يعطي المكنة والتمكن للجماعة المؤمنة المؤتمنة على تحقيق العدالة، وإنفاذ مفهوم التوحيد الذي يمنع استعباد الناس لغير الله، ويحررهم من كل الأغلال والقيود التي وضعت عليهم دون تشريع سماوي أو دون أدنى أثر لها لتحقيق العدل، بل هي أغلال تقيدهم وتقمع حريتهم وتكبل إرادتهم، وتهدم شخصيتهم الإنسانية التي تحققها الكرامة.

فكلمة الحق في وجه الجور والطغيان، تبدأ بالنصيحة وفي حال ازداد الطغيان تتدرج عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تصل إلى مرحلة المواجهة وهي مرحلة الجهاد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky