الاجتهاد: وضع العمّة أو العمامة موضوعٌ تمّ تداوله في التراث الحديثي والفقهي عند المسلمين في مواضع متعدّدة، كالصلاة والسفر وغير ذلك.
وسوف أتناول هنا ـ من منظور فقهي ـ العمامة بوصفها رمزاً للباس رجل الدين أو عالم الدين، ونتحدّث لاحقاً بحول الله عن العمامة في مواضع مختلفة أخرى.
فحديثنا في هذه الحلقة الأولى حول عمامة علماء الدين أو لباسهم الخاصّ بشكل عامّ، على اختلافه وتنوّعه بين المذاهب والقوميات والبلدان والأنساب والحقبات التاريخيّة.
خلاصة الرأي الشخصي
والذي توصّلتُ إليه هنا هو أنّني لم أعثر ـ في حدود تتبّعي ـ على شيءٍ في الكتاب الكريم أو في السنّة الشريفة يفيد التمييز في اللباس بين علماء الدين وغيرهم، أو أنّ لهم لباساً خاصّاً، فضلاً عن أن يكون بهذه الطريقة أو تلك، أو أنّ هذه العمامة أو هذا اللباس هو نمطٌ متوارث عن النبيّ بما هو نبيّ يحمل ما علّمه الله إيّاه من علمٍ، بل قد كانت سيرة الرسول الأكرم ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وأهل البيت النبويّ وصحابة الرسول والتابعين وأصحاب الأئمّة يلبسون ما يلبس الناس، ولم يكونوا ليتمايزوا عن الآخرين في ذلك.
ولعلّ بدايات هذا التمييز ظهرت ـ على ما يقال ـ في العصر العباسي الأوّل، وبخاصّة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، ويقال بأنّ المرجع في ذلك هو بعض فقهاء الأحناف، وأنّ الأمر بلغ ذروته في العصر المملوكي، ثمّ العثماني.
وعليه، فليس هناك حتّى استحباب شرعي للباسٍ خاصّ يرتديه رجال الدين، ولو كانت العمامة مستحبّة لكان استحبابها عامّاً وغير خاصّ برجال الدين، فيُرجى الانتباه، فليس كلامنا في استحباب العمامة في الصلاة أو السفر أو مطلقاً؛ لأنّ هذا الاستحبابَ عامٌ، بل كلامنا في التمييز بين رجال الدين وغيرهم في اللباس بحيث تكون العمامة عنصرَ تمييزٍ مقصودٍ للشريعة هنا.
ومع هذا كلّه، ليس هناك مانعٌ من تمايز الناس عن بعضها في لباسٍ خاصٍّ بطبيعة نشاطهم، كما هي ألبسة القضاة أو الأطباء أو رجال الشرطة في عملهم، شرط:
أ ـ أن لا يُعتبر ذلك التمايز في اللباس ـ بحيث يُقصد أو يُتلقَّى ـ أمراً دينيّاً فيصير ابتداعاً في الدين.
ب ـ ولا يؤدّي إلى ممارسة حالة طبقيّة مرفوضة إسلاميّاً وأخلاقيّاً.
ومن دون ذلك ليست هناك أيّ مشكلة في الموضوع، بل قد يكون اللباس الخاصّ راجحاً عقلانيّاً وفقاً لبعض الاعتبارات الزمنيّة أو الموضوعيّة، والعكس صحيح.
كلامٌ للشيخ محمّد جواد مغنيّة حول العمامة ورجال الدين
ولا بأس هنا بنقل كلام الشيخ محمّد جواد مغنيّة (1400هـ)، والذي هو نصّ مقالة مختصرة له كان نشرها في مجلّة العرفان عام 1954م، ثم نشرها في كتابه: الشيعة في الميزان، حيث يقول ما نصّه:
«كان اللباس في عهد الرسول ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ والخلفاء الراشدين، وأوّل عهد العباسيّين واحداً لا تمييز فيه لأحدٍ على أحد، فلا فرق بين لباس العالم والجاهل، ولا بين رجل الدين وغيره، فالنبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وخلفاؤه وأصحابه جميعاً كانوا يلبسون كما تلبس الناس، فكان العالم يُعرف بهديه وآثاره، لا بثيابه ومظاهره. وأوّل من غيّر لباس رجال الدين في الإسلام إلى هيئة خاصّة هو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة.
وفي المجلّد الأوّل من كتاب المدخل لابن الحاج ص 137 أنّ تمييز رجال الدين باللباس عن غيرهم مخالفٌ للسنّة، ثمّ ذكر مفاسد تترتب على هذا التمييز نلخّصها بما يلي:
إنّ تمييز رجال الدين في اللباس يستدعي ـ كما رأينا ـ أن يتزيّا بزيّهم من لا أهليّة له، فيتقدّم ويترأس في المجالس وغيرها على من هو خير منه علماً وخلقاً، وتنخدع العوام بثوبه فيأتمنونه ويسألونه عن أشياء لا يعرف حكمها، ويمنعُه زيّه ولباسه أن يقول: لا أعلم، كي لا يقال: إنّه جاهل ومتطفّل يلبس ثوب غيره فيُفتي بما لا يعلم، ويحكم بغير ما أنزل الله سبحانه.
ولو كان لباس العلماء كلباس غيرهم من الناس لم تقع هذه المفاسد، ولعمّ بهم النفع، وحصلت البركة والراحة والخير على أيديهم.
وضَرَبَ شاهداً على ذلك ما حكي عن العالم أبي الحسن الزيّات. كان من عادة هذا العالم الجليل أن يلبس لباس العمال، ويعمل في أرضه كما يعملون، وفي ذات يوم خرج ليعمل في أرضه كعادته، وإذا بالشرطة يأخذونه مع غيره من العمال ليشتغلوا سخرة في بستان السلطان، وكان الشرطة يسمعون باسمه، ولكنّهم يجهلون شخصَه، وليس عليه ما يدلّ على علمه ومكانته، فسمع وأطاع، وعمل كغيره، ودخل الوزيرُ البستانَ يراقب الأعمال، وما أن وقعت عيناه على الشيخ حتى انكبّ على قدميه يقبّلهما ويعتذر، ويقول: من جاء بك يا سيّدي، فقال: أعوانكم أيّها الظلمة، قال: أَقِلْنا يا سيدي، واخرج بسلام، فأبى الشيخ إلا أن يبقى مع المظلومين، وقال: وهؤلاء إخواني، كيف أخرج وأدعهم في ظلمكم؟! قال الوزير: يخرجون معك، فأبى الشيخ، وقال: غدا تعودون بهم إلى السخرة، فأعطاه الوزير أوثق العهود على أن لا يسخر أحداً أبداً، فرضي الشيخ، وخرج هو والعمال.
ثم قال صاحب كتاب المدخل في صفحة 139 “إنّما عزّ الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل بها.. ومعرفة البدع وتجنّبها.. قال الله سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء. فجعل خلعة العالم الخشيةَ والورع، ولكنّ البعض جعل خلعته توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها”.
قال صاحب البحار في المجلّد السادس ص 209 طبعة 1323 هجرية: “كان النبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ يلبس القلانس تحت العمائم، والعمائم بغير القلانس.. وكانت له عمامة يقال لها: السحاب، فوهبها للإمام علي ـ عليه السلام ـ وكان ربما طلع فيها الإمامُ، فيقول النبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ: أتاكم عليّ في السحاب”. ويدلّ على هذا أنّ النبيَّ لم يكن يتقيّد بزيّ خاص، ولم يوجب أحد من أئمة الدين على طلاب العلم وشيوخه لباساً معيّناً.
وبعد أن أصبحت العمامة شعاراً مقدّساً بحكم العادة واستمرارها وجب صيانتها من يد العابثين وضحكة الهازئين، وجب على أهلها الحقيقيّين أن يلزموا أولي الأمر بسنّ قانونٍ يحوطها من الفوضى، ويصونها من جاهلٍ مُنتحل، ومُراءٍ محترف، لو تزيّا غير الشرطي بزيّ الشرطي لعاقبه القانون، فهل تأتي الأيّام، ونرى لمرجعٍ ديني كبير ما لشرطيٍّ صغير من نظام يحفظه ويرعاه.
وإن عجز أهل الدين والعلم الصحيح عن إيجاد هذا النظام فألف خير لهم وللمجتمع أن يسيروا مكشوفي الرأس، أو يلبسوا الكوفيّة والعقال من أن يتزيّا بزيّهم الجهلاءُ والدخلاء.
إنّ الدين فوق كلّ شيء، ولكن ليس له حارس يحرسه، ولا سياج يحفظه، اللهم إلا صوت الاستعمار يخوّفنا من عدوه، ويوصينا بالاحتراس منه، يخاف الاستعمار على الدين من عدوّ الاستعمار، كأنّ الدين يوالي الاستعمار ويحالفه، وليس للدين عدوّ كالاستعمار ولا خصم كالإقطاع؛ لأنّهما يدينان بالغيّ والفساد، فيكفران بالله وحقوق الإنسانيّة ويتخذان من الدخلاء على الدين وسيلة لتحقيق ما يبغيان، وهذا وحده يحتّم على رجال الدين الذين هم منه في الصميم أن يسلكوا كلّ سبيل للغربلة والتصفية» (مغنيّة، الشيعة في الميزان: 393 ـ 395).
الشيخ مغنيّة يصف الشيخ محمّد تقي شريعتي الذي تخلّى عن العمامة ولبس القبّعة
وقال الشيخ محمّد جواد مغنيّة في موضعٍ آخر، وهو يتحدّث عن وقائع زيارته للإمام الرضا ـ عليه السلام ـ في مدينة مشهد، عام 1382هـ، وكان يصف العلامة الشيخ محمّد تقي شريعتي (1987م) والد الدكتور علي شريعتي، فيقول: «أمّا العلامة التقي شريعت أستاذ التفسير في كليّة المعقول والمنقول بمشهد، فهو ملاكٌ مقدّس وروح طاهرة تجسّدت في هيكل رقيق أبرته العبادات، وأضنته المجاهدات، يعتمر القبّعة لا لشيء إلا ليصطاد بها هذا الشباب الذي لا يرى إلا القشور والظواهر، لبس القبّعة ليصون بها ألوف العمائم واللحى من سخرية الساخرين بأهل الدين لمجرّد الملابس والمظاهر، فقال لهم بلسان الحال: إنّكم تأبون وتنفرون من العمّة والجبّة، فتعالوا إليّ هذه قبّعتي، وهذا بنطلوني على أحدث طراز.. فتقاطروا إليه من هنا وهناك، وهو يصطادهم جماعات وزرافات، ويتجّه بهم إلى الدين وشريعة سيّد المرسلين..» (مغنيّة، كتاب المقالات، من هنا وهناك: 116).
علماء معاصرون يحذّرون من تراجع محبوبيّة علماء الدين
كلام الشيخ مغنيّة هذا قبل حوالي سبعين عاماً، ظلّت له عبر التاريخ أصداء، تقوم على الدعوة للصلاح والإصلاح، وليس آخرُها ما وجّهه السيد موسى الشبيري الزنجاني من تحذيٍر وتخوّف من نِسَب تراجعٍ عالية في محبوبيّة علماء الدين والمعمّمين في المجتمع.
فمثل هذه الدعوات تتطلّب مواقف ومسلكيّات مسؤولة، من أصغر طالب علم ديني إلى أكبر مرجعيّة دينيّة. وأوّل الخطوات هو التواضع والاعتراف بالخطأ وإجراء مراجعات ذاتيّة نقديّة، فالمشكلة حقيقيّة وعميقة، ولا يمكن تجاهلها ووضع الرأس في الرمال، مغترّين بفائض القوّة الذي نملكه اليوم على غير صعيد.
والإصلاحات المطلوبة لا تكون بالكلام والشعارات فقط، ولا بمجرّد الأمل والاكتفاء بحبّ الله وحبّ أهل البيت والصدق الداخلي، بل تحتاج لخطوات حقيقيّة عمليّة تأخذ بالأسباب وتتبع مسالكها. وذلك حتى لا نكون كما قال الشاعر أبو العتاهية (211 أو 213هـ):
ترجو النجاةَ ولم تسلُكْ مسالِكَها
إنَّ السفينةَ لا تجري على اليَبَسِ
كما أنّ من المطلوب توعية الناس للتمييز بين العالم وغير العالم من المعمّمين، بدل توهّم أنّ العمامة مساوقة للعلم، حتى لا يذهب الصالح بجريرة غيره. نسأل الله لكلّ العاملين في هذا المضمار التوفيق لصلاح حال الدين وأهله، والعلم ورجاله، إنّه مجيب الدعاء.
وأيضاً، دعوةٌ لإنصاف المعمّمين والعدل معهم وفي المقابل، إنّه لمن الظلم الكبير الذي يمارسه بعضُ الناس، وبخاصّة بعض الكتّاب العلمانيّين المعاصرين وبعض اللادينيين وبعض الأقلام الصحفيّة هنا وهناك، من جعل عمامة رجال الدين هدفاً للتشويه وتصفية الحسابات السياسيّة وغيرها، وكأنّ المعمّمين كلّهم أثرياء متعجرفون متكبّرون يهضمون مال الله، ماكرون يعملون في السياسة بخلاف الأخلاق والحقّ والدين وغير ذلك من التهم..
ومع اعتقادنا باتصاف بعض المعمّمين بهذه التُّهم، بل كثير منهم، والحقّ أحقّ أن يُتبع ويقال، لكنّ دعوتنا لهؤلاء النقّاد هي الدعوة للإنصاف والعدل في تقويم الناس والحكم عليهم، وعدم التعميم بدون معطيات منطقيّة، وعدم النظر بعين واحدة تلتقط كلّ سلبيّةٍ لتتعامى عن كلّ إيجابيّة.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8 ).