تعتبر قضية العلاقة بين الشريعة والمواطنة من المسائل المركبة لا باعتبار الجمع بينهما على صعيد واحد، ولكن بالاعتبار الذي حملت فيه قضية الشريعة ومسألة المواطنة بما لا تحتمل، وأدى ذلك إلى تصور حقيقية هذه العلاقة ضمن رؤى تفترض تناقضا في العلاقة بين الشريعة والمواطنة، على الرغم من أن قضية الشريعة تنتمي إلى دائرة المرجعية والقواعد المتعلقة بالنظام العام، بينما قضية المواطنة ترتبط بأسس المرجعية (المعاش الواقعى) بقلم: د. سيف الدين عبد الفتاح*
الاجتهاد: يبدو من تركيب ذلك العنوان أننا أمام إشكالية مركبة تتمثل في ثلاثة كلمات؛ الأولى منها تتعلق بالمواطنة، والثانية تتعلق بالدولة، والثالثة تتعلق بوصف مسلمة، وفي هذا الإطار تكمن تلك الإشكاليات في أن مفهوم المواطنة هو من المفاهيم الغربية التي سادت المعمورة (1) وانتقلت من ذلك السياق الحضاري الغربي،
اما الكلمة الثانية فهي ترتبط بحالة غربية أيضا تتعلق بمفهوم الدولة القومية ومقتضياته وإشكالاته في الدول المختلفة على تنوع المعمورة أما الكلمة الثالثة فترتبط بوصف مسلمة أو إسلامية، وخيرا فعل منظمو الندوة حينما جعلوا من وصف “مسلمة” هو الوصف المعتمد في هذا الشأن ليعبر عن حالة اجرائية غاية في الأهمية، ذلك أن على عالم المسلمين أن يدرك أنه في عالم متغير بكثير من سماته، وبالعديد من معطياته، يتأكد ذلك من واقع يجب أن نتحرى بصدده المناط ومن رؤية يجب أن نحدد بصددها منهج النظر والموقف.
نحن إذن أمام علاقة غاية في الأهمية تأخذ تجليات وإشكالات بين الإسلام والغرب في الأفكار وفي واقع الدولة القومية وفي واقع عالم المسلمين، وغاية الأمر في هذا الإطار وأنه من الواجب علينا أن نحدد طبيعة الإشكالية المنهجية في هذا المقام من فقه للواقع ومن تحديد للمناط يجعل هذا الارتباط بين المواجهة من جهة والدولة القومية من جهة أخرى وعالم المسلمين من جهة ثالثة يشكل في حقيقة الأمر إشكاليات مركبة تتطلب رؤية منهاجية واضحة تحدد مناهج النظر ومناهج التناول والتعامل.
وغاية الأمر في هذا المقام أن نؤصل معنى هندسة الاجتهاد المقاصدي كمدخل تأسيسي للنظر(2) إلى هذا المركب ذلك أنه لا يقف عند حدود الرسوم والأشكال متخطيا ذلك باعتبار الواقع والمآل، ومن هنا فإن هذا الإشكال المنهاجي التأسيسي يفرض علينا أن نتحرك صوب العامل مع إشكالات المواطنة ذاتها مستصحبين سياق الدولة القومية من جهة، وعالم المسلمين بمرجعيته الإسلامية من جهة أخرى، وهو أمر يفرض علينا مناهج النظر للتعامل مع الواقع إذ يؤصل المعنى الذي يتعلق بجهات الاختلاف سواء تعلق الأمر بالمكان أو بالزمان او الإنسان، وبمجمل الأمر كافة الأحوال.
وحول مبدأ المواطنة تثار أسئلة وإشكاليات عميقة أهمها ينبع من متطلبات تفريد الولاء للوطن وتقديمه على ما سواه من الهويات والانتماءات الفرعية. وفي مواجهة التقاطعية التي قد تحصل بين الانتماءات المتناظرة للأفراد تحت مظلة الوطن الواحد، فان منهج النظر الإسلامي قد أوجد حالة من التناغم والتوازن الخلاق بين منعرجات خارطة الانتماءات المتناظرة تلك.
وهكذا بلغت الرؤية الإسلامية – في حقوق المواطنة ومحدداتها – آفاقا راسخة متجددة. غير أننا بالمقابل لم نشهد خطاباً إسلامياً معاصرا يتبنى المواطنة في عمق التنظير القيمي للدولة وللمجتمع السياسي الحديث. أو بالمعنى الذي ينصرف الى العلاقة الأكيدة والسوية بين المجتمع والدولة.
لذا توجب علينا في هذا المقام التحري عن ملامح المواطنة واستخلاص الأبعاد والملامح الحقيقية لها وتجذير الوعي بأهميتها بالاستناد الى قيم الإسلام وتجربته التاريخية في ظل الدولة التي اقامها الرسول صلى الله عليه واله وسلم بوصفها المرجعية الشرعية والتاريخية التي ينبغي على المسلمين وغيرهم الاحتكام اليها في ضبط الحدود المعيارية لمبدأ المواطنة ومعالجة ما يواجهه من إشكاليات وتحديات عبر اعتماد اليات ووصفات اسلامية تنسجم مع روح العصر.
وفي ضوء ذلك يمكن بناء فرضية مفادها: “أن خصوصية المنهج قد أقام بناء متوازنا للمواطنة يستوعب في جنباته تقاطعات الانتماءات المتناظرة للفرد المسلم دون تفريط بأولوية الانتماء للهوية الإسلامية المرتبطة بالمرجعية وتحقيق مستلزماتها(3)
إن هذا الأمر إنما يشير إلى الإشكال الحيوي الذي يتعلق بالعلاقة بين المواطنة والدين، وبين المواطنة ودوائر الانتماء، وبين المواطنة وعلاقتها بالسياسي والمدني، وبين المواطنة وعلاقتها بمسالك ومداخل التنشئة السياسية والأطر والسياقات الغربية التي تنظر إلى مفهوم المواطنة باعتباره مفهوم منظومة في ذاته وضمن منظومة تتعاضد معه وتشكل مساراته، وفي هذا المقام وجب علينا أن نحدد لهذا المفهوم في مبناه معنً نحاول أن نتلمس بعض مرئياته ضمن رؤية إسلامية متميزة، ولكن في إطار سياق إنساني وحضاري يعتمد الدولة القومية كوحدة تأسيس في العلاقة بين الدول بعضها البعض.
وضمن هذا المقام يجب أن نتطرق إلى مشكلة الدولة في عالم العرب والمسلمين(4) والتعاطي معها ذلك أن الدولة القومية بما افترضته من اطر عامة للتعامل جعل كثير من الاجتهادات الماضية وبحكم فقه الواقع وتحقيق المناط تتعامل مع سياق مختلف ولا يتطابق مع سياق الاجتهادات في الماضي، إن القضية والإشكالية الأساسية في هذا المقام هي إشكالية منهاجية أيضا تتعلق بسياق الدولة القومية الذي لابد وأن يؤثر على تصور المواطنة وتفعيل معطياتها، وضمن ذلك لابد وأن تأتي الإشكالية التي تتعلق بذلك الوصف لهذه الدولة بالمسلمة لتعبر عن إشكالية منهجية أخرى ترتبط بإطار المواطنة ومسار الدولة القومية في آن واحد فتعبر بذلك عن إشكالية عالم المسلمين في الواقع الحاضر الذي يتنازعه جهازين مفاهيميين؛ جهاز مفاهيمي غربي النشأة؛ وهو الذي يسود بحكم الحضارة الغالبة، وجهاز مفاهيمي يرتبط بالحضارة الإسلامية ويتحرك صوب الواقع المعاش ليتعرف من خلاله على حقائق الاشتباك والتداخل بين الجهازين المفاهيميين.(5)
ومن هنا وجب أن يكون الموقف في هذا المقام يعبر عن حقائق عدة نحاول من خلالها أن نوضح الموقف الأساس من عملية فض اشتباك على نحو منهاجي يؤصل لمضمون مفهوم المواطنة في الذاكرة الحضارية الإسلامية، ويمد ذلك إلى إطار لتفعيله في سياقات الدولة القومية وما يتطلبه ذلك من إمكانات اجتهادية وتجديدية،
لأننا بذلك سنخرج من أسر ثلاثة أمور؛
الأسر الأول هو ذلك الذي يتعلق بطبيعة الجهاز المفاهيمي الغربي وافتراضاته،
والأسر الثاني الذي يرتبط بالفقه التقليدي في مضامينه الذي يتعلق بأزمانه الخاصة،
أما الأسر الثالث فيتعلق بإمكانيه تفعيل وتشغيل مفهوم المواطنة في سياق رؤية إسلامية واعية لا تغادر المفهومات الحديثة وتؤصل معاني التفعيل الإسلامي من خلال صبغ هذه الرؤى من مداخل مقاصدية تستطيع أن تستوعب معطيات التغير وأصول المرجعية، إن ذلك يعني القيام بعمل مركب وبموقف يتصل بمناقشة طبيعة هذه الإشكالات على نحو منهاجي ومنظومي ودينامي حركي وتشغيلي، ومن هنا يجب التعرض إلى موضوعات شتى، لتكوين رؤية بصيرة لقضية المواطنة في دولة مسلمة.
الخروج من الأسر
وواقع الأمر أننا لا نستطيع أن نتحدث عن هذه الرؤية المركبة إلا من خلال استعراض المواطنة كمفهوم غربي وتقديم رؤية نقدية له من منظور إسلامي أو غير إسلامي، أما الأمر الثاني فيتعلق بضرورة أن نقدم معاني الذاكرة الحضارية لمفهوم المواطنة في سياق مقارن يؤكد على معاني غاية في الأهمية ترتبط بالخبرة النبوية، إن وثيقة المدينة في هذا المقام تشكل أساسا مكينا ورصينا لرؤية متميزة لمفهوم المواطنة وبناء المجتمع السياسي، أما الأمر الثالث فيتعلق بضرورات إعادة بناء مفهوم المواطنة ضمن رؤية مقاصدية كلية وحقائق تتعلق بالجماعة الوطنية، ونماذج ترتبط بالمواطنة السفنية.
في هذا السياق يمكننا فقط تأصيل هذا المفهوم، وتفعيل مقتضياته، وتشغيل محركاته، والعمل من خلال آلياته، ومسالكه، وبنياته، ضمن هذه الرؤية الكلية يكون مفهوم المواطنة بمثابة اختبار معملي لإشكالات تتعلق بمناهج النظر الكلية، ومناهج التناول الجزئية، والتعاطي مع مناهج التعامل مع الواقع ومعطياته الحضارية والتشغيلية، من دون أن نهمل جانب التحديات الذي يتعلق بتشغيل هذه الرؤى والمآلات المترتبة عليه في سياق رؤية استشرافية مستقبلية.
أولا: الشبكة الاجتهادية وأصول الفقه الحضاري:
من الضروري الاهتمام بشأن البناء الحضاري وهندسة الاجتهاد المقاصدي ومعادلاته السننية الاستراتيجية وأصوله العمرانية والحضارية بما يؤسس رؤية في تجديد جامعية الأمة، ذلك أن الخروج من حال الاختلاف إلى فن الائتلاف في إطار الموافقات الكبرى في سياق اعتصام الأمة وتماسكها، ذلك المشروع الحضاري الذي يعتبر من أوجب الواجبات وذلك للتعامل مع جملة التحديات وتقويم عالم الاستجابات وبناء وتأسيس الاستراتيجيات.
ومن هنا كان ذلك المدخل الكلي الهادف إلى الألفة الجامعة للتمكين لكل أمر يؤدي إلى جامعية هذه الأمة وفاعليتها من خلال اجتماع الانسانية وجامعية المواطنة وأصول تماسك واعتصام ووحدة الجماعة الوطنية مجالا لتفعيل الإرادة والإدارة.
المواطنة تعد جزءا من منظومة الجامعية المعاصرة والاجتهاد المنظومى يحدث اجتهادا يسكن المواطنة ضمن منظومة الاجتهاد القادر على توظيف فكرة المواطنة ضمن سياقات الجامعية والجماعة الوطنية وضمن سياقات صناعة التوافق المجتمعى وأصول اعتصامه في إطار فهم متجدد لحركة الإجماع المعاصر بين موافقاته وتوافقاته وجامعيته وعوامل عصمته واعتصامه.
العلاقة بين الكلي والجزئي، وبين الاصل والفرع عمليات منهجية تتضمن حقيقة تسكين الجزئي في كلييه وعقد الصلة والنسب بين الأصل والفرع ضمن عملية تسكين وتنسيب.
الاهتمام بالفروع أو الجزئيات لا يكون بحال على حساب الكليات أو يكر على الأصل بالنفي والنقص والبطلان، فالكليات هي القاضية على الجزئيات والفروع تلحق بالأصول وهي بهذا المعنى حاكمة.. إلا أن التفاصيل هي بمثابة مقدمات الواجب والآليات الموصلة والواصلة.
هكذا نستعرض ما يمكن أن نطلق عليه الاجتهاد المنهجي ” ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا..” والمنهج والمنهاج والمنهاجية عمل فائق لابد أن يرتبط بالاجتهاد المقاصدي فما من قصد إلا وله طريق ومسلك وسلوك “وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..”
هذه الشبكة الاجتهادية نحن أحوج ما نكون إليها للوقوف على حال عوالمنا المختلفة؛ عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء، وعالم الأحداث، وعالم الرموز، وعالم النظم، وعالم المفاهيم، وعالم الخبرات، وعالم النماذج، وعالم الانماط، وعالم النماذج المعرفية ورؤى العالم، وعالم الادراكات، وعالم التحديات، وعالم الاستجابات، وعالم الاستراتيجيات، وعالم التشكيل الحضاري، والأبنية الحضارية، والعوالم الثقافية والعقلية والفكرية وعوالم التنمية والنماء والارتقاء، وعوالم الارادة والأداء وعوالم العدة وعوالم الأحوال المتقاربة بين الشدة والرخاء، والضعف والقوة، والوهن والعزة، وعوالم العلاقات، والسياسات، وعوالم المؤسسات، وعوالم البدائل والمواقف والاحكام والرؤى، وعوالم القيم وأنساقها والأخلاق وبنياتها، وعوالم المناهج والتفكير المنتظم، وعوالم المجالات المختلفة في سياسة واقتصاد واجتماع وتربية، وثقافة وفكر وعوالم الأفراد والتشكيلات الجماعية والجمعية والمجتمعية وعوالم الفكر والحركة.
ويرتبط بذلك كله عوالم الاجتهاد وعمليات التجديد الحافزة على العمران الحضاري ونهضته، وعالم الأسباب والمسببات، وعالم الوسائل والآليات والادوات والإجراءات والقواعد والمؤسسات والوسائط..، وعام العقبات والمسهلات وعالم النظام الدولي والعلاقات الدولية والأنظمة السياسية، وعالم الداخل والخارج، وعوالم العمليات المتعلقة بالمشاركة والشرعية والقيادة والحركات الاجتماعية والقوى السياسية ومسارات المواطنة..وعالم النماذج التاريخية والنفسية والفكرية…
عوالم شديدة التنوع والتمدد والتعقد والتجدد فهل لنا أن نعتبر هذه العوالم جميعا فنفهم حقيقتها وطبائعها، ومسيرتها وسيرورتها وتطوراتها، وتأثيراتها ومآلاتها ومستقبلاتها، عناصر نظمها ضمن رؤى استراتيجية نصل إلى رابعة الاجتهاد والمقاصدي وهو ضرورات البناء الاستراتيجي والحضاري ضمن أصول الفقه الحضاري والاستراتيجي والعمراني. فقه جامعية الأمة ومانعية افتراقها وتفرقها ” في واقع الدولة القومية والسياسات الكونية والعولمية.(6)
ضرورات البناء الاستراتيجى والحضارى والعمرانى ضمن أصول الفقه الحضارى.
ثانيا: السياق منهج مأمون لدراسة المواطنة:
من الأهمية بمكان حينما نعالج فكرة السياق وآثارها في رؤية الأحكام الشرعية أن نؤكد أن فكرة السياق لابد وأن تكون واحدة من أهم الشروط للقيام بالعمل الاجتهادي، ذلك أن السياق لا ينصرف فحسب إلى ذلك السياق الأسلوبي المتعلق بالنص والذي يحرك أصول الفهم العلمي للنص ضمن سياقاته اللغوية والأسلوبية، ولكن السياق أبعد من ذلك بما يعبر عن سياقات تتعلق بالواقع وكل تضميناته ومن هنا فإن السياق يعبر ضمن ما يعبر عنه عن فقه يتعلق بالحوادث الكلية كما يشير إلى ذلك ابن القيم.
ومن هنا فإننا قد نتوقف عند ما يمكن تسميته بسياقات المدخل المقاصدي بما هو ينظم بين مفردات تشكل مداخل متكاملة حتى تكتمل فكرة السياق وتشكل سياقات متساندة توضح عناصر متعددة ينضاف إليها سياقات أخرى تشكلها منظومة سياقات أصول الفقه الحضاري، فتسهم هذه السياقات جميعا في إبراز عناصر ثلاثة تشكل مثلث الاهتمام الذي يحرك فكرة السياقات ويضمنها بعمل متواصل ومتراكم.
هذا المثلث يهتم بعمليات ثلاث:
الأولى هي عملية التأصيل، والثانية: تتمثل في عملية التفعيل، أما الثالثة فتهتم بعملية التشغيل..
وغاية الأمر أن الوصل بين هذه العمليات الثلاث إنما يتأتى من اتساع فكرة السياق فتجعل من هذه العمليات سياقات متساندة تؤدي إلى بعضها بعضا وتؤسس معمارا يؤسس عناصر وعي ومقاصد سعى، تتلخص فيما يلي:
الأول يتعلق بسياق المجال، والثاني يهتم بسياق الأولوية، والثالث يتوفر على سياق الحفظ، والرابع يؤكد على سياق الموازين، والخامس يركز على سياق المناط، والسادس يتعلق بسياق الواقع والوسط، والسابع يتعلق بسياق المآل، أما الثامن والأخير فيفعل سياق الوسائل.
ثمانية محكمة تجعل من هذه السياقات بدورها عمليات متكاملة ترى فيها الشريعة في سياق واحد وعلى صعيد واحد كالجملة الواحدة تؤصل معاني الفقه وتوصل إلى مناط الفاعلية.
السياقات المقاصدية:
وهي بهذا إنما تستكنه من خلال الأصل والوصل بين الشريعة باعتبارها حكمة في بنائها المعرفي وعدل في نسقها القيمي، ورحمة في أنساق سلوكها ومصلحة تؤكد على أنساق المقاصد والغايات. وفي هذا المقام فإن ترجمة الشريعة من خلال تلك الكليات على ضرورة اعتبار السياق ومراعاته .(7)
ومن هنا فإن القول بأن الحال أن العمل على تطبيق الأحكام الاسلامية في الواقع يحتاج إلى منهج آخر مختلف، يكون مبنيا على فقه تطبيقي ليست غايته بسط حقائق الدين للإقناع وإنما غايته تسهيل الطريق لتلك الحقائق لكي تصبح جارية في حياة الناس.
ثالثا: نحو بناء استراتيجية لمفهوم المواطنة: رؤية إسلامية:
نقدم من خلال هذا المدخل بيان موجز لمجموعة المفاهيم الأساسية وبيان خريطتها الواصلة بينها ضمن نظريات المدخل المقاصدي؛ وهي مفاهيم المناط (أو العلة) والمفاهيم المتصلة به والمشاكِلة له من قبيل: الحكمة والمصلحة والقيمة والمقصد والنية، وتعريف الخطوات أو العمليات المناطية: التخريج أو التحرير والتنقيح والتحقيق، وعلاقة هذا المناط بدائرتي النص والحكم الشرعيين، والمنهج وعمليات النظر والتناول والتعامل، ومفهوم السياق وعلاقته بهذه الدوائر.
ثم يتم بيان نظرية المناط وعلاقته بالمقاصد الشرعية سواء المقاصد العليا أو المتعلقة بالمكلف، وعلاقة المناط والحكم بالسياق، والمعتبر من كل ذلك وغير المعتبر وما بينهما من سياق مرسل، نعنى في كل ذلك بالمناهج لا المسائل، وبشبكة المفاهيم المؤسِّسة؛ انطلاقًا من أن المناط هو مركز دوائر النص فالحكم الجزئي فالسياق الحاضن، موصول بحِكَم الشريعة ومقاصدها وقيمها، وبمصالح الخلق العامة والخاصة، وأن “المنهج”؛ أي الطريق المستقيم الواضح هو الذي ينبغي أن يحكم الوصل بين هذه الدوائر والزوايا.
لقد درجنا على الفصل بين مفاهيم المناط (أو العلة) في جهة أولى، والسبب والشرط والمانع باعتبارها تبني أحكامًا وضعية في جهة ثانية، والمقاصد في جهة ثالثة، والحكمة والمصلحة والقيمة في جهات أخرى، وذلك لاعتبارات الدراسة تارة ولاعتبارات البيان والضبط والتمييز تارات أخرى، كما ينبغي التأكيد على أنه قد تم الربط بينها لكن غالبا في الممارسة الفقهية أكثر من المدارسة الأصولية الأمر الذي ينبغي أن يتداركه “أصول الفقه الحضاري” الذي يركز على “الكلي” وإدراج القضايا تحت كلياتها، والوصل بين هذه العناصر في رؤية منظومية جامعة على سبيل التأسيس المنهاجي وفي الطريق إلى بناء عقلية أكثر تركيبا وأكثر قدرة على استيعاب تعقدات العصر الراهن .(8)
وضمن سياق فقه الواقع فان الأمر وكما أشرنا آنفا إلى تعريف الواقع وشموله هده الامتدادات الزمنية والمكانية الإنسانية, والمستويات المختلفة الفردية والجماعية بكل تكويناتها الحضارية, والداخل والخارج بفعل التداخل الشديد بحكم عناصر ثورة الاتصال وثورة المعلومات, كل دلك يجعل من الضروري التعرف على عمليات مهمة في فقه الواقع:
فقه الحال: الذي يحرك عناصر التعامل مع الواقع المعاش لاعتبارات تفرضها عناصر الزمان والمكان, إن سيولة المشاكل الدولية, وتأثيرها على أنحاء المعمورة لا يمكن أن يتحقق الدور الفاعل بصددها إلا من خلال فقه الحال, ولا يؤخر البيان فيه عن وقت الحاجة، كما يعتبر من فروض الوقت التي يجب جعلها ضمن قمة سلم الأولويات البحثية كمقدمات لوعي المواقف ووعي الوسائل والآليات.
فقه المجال: باعتباره الوسط المتشابك في إطار تصور التفاعل بين الداخل والخارج وتفاعل دوائر الواقع المختلفة.
فقه المآل: فان اعتبار المآل من المقصودات الشرعية والتي تحك التفكير والتدبر والتخطيط لعناصر الفعل الحضاري. والواقع هنا ليس تعاملا عفويا. بل هو جملة من الأفعال الحضارية يترتب عليها آثارا ونتائج. وفقه المآل هو أولى خطوات التفكير المستقبلي ويحرك عناصر التدبر في التعرف على عواقب الأمور وعاقبتها.
أصول فقه الواقع:
سياق المآلات: إن دراسة المناطات المتعلقة بالحكم الجزئي من ناحية والمتعلقة بالواقع من ناحية أخرى، وسياق الذي يتعلق بفقه الواقع وصفا وتحريكا إنما يتعلق بعناصر غاية في الأهمية ترتبط بما يمكن تسميته بالسياقات المآلية، سياق المآل يعني ضمن ما يعني البحث في النتائج والأثار المترتبة على الفعل كذلك المستشرفة لجملة من الأفعال يصار إليها بالقصد لبناء موقف مستقبلي يدخل في سياقات علوم التدبير.
إن السياقات المآلية هي التي تجعل من المجتهد حاضرا ليس فقط بعد تقرير الحكم الشرعي الجزئي أو الكلي ولكن يجعل من ذلك مقدمات أساسية يترتب عليها تفكير مآلي خشية أن يقع المكلف في الحرج أو في المفسدة وغاية هذا السياق المآلي أن يظل حاضرا ضمن اعتبارات المجتهد في نظره الاجتهادي ضمن عملية اجتهادية مستمرة وممتدة تفضي بالضرورة إلى البحث في الأمور التي تتعلق بإمكانات عمليات التنزيل والتأثير والتدبير والتغيير والتمكين. كما أنها تشير على المجتهد إلى ضرورة تأسيس علوم مستقبلية تشكل ركنا أساسيا وأصلا مكينا ضمن أصول الفقه الحضاري وتفعيل الفقه السنني.
عمليات لا يمكننا إغفالها ضمن استمرارية الاجتهاد في سياقات اعتبار المآل ضمن سياقات الحكم الشرعي الجزئي وسياقات الفقه الحضاري.
غاية الأمر في هذا الموضوع أننا في حاجة إلى مجتهد من نوع مختلف مجتهد قادر على إحداث فقه عميق بالنظر الجزئي، وفقه دقيق بالنظر الحضاري، وفقه منظم يتعلق بالنظر المنهاجي ينتظم فيه عناصر الفعل الجزئي بالفعل الحضاري بكليات في أصول الفقه الحضاري الذي يؤصل نماذج معرفية تصوغ عقل المجتهد بما يتناسب مع ذلك المعمار الناظم وتعقد المشكلات وتركيبها وتوافقها وتواقفها على بعضها البعض.
إن هذا الأمر يرتبط بفقه يتعلق بالتحديات التي تتعلق بالأفراد والتحديات التي تتعلق بالأمم والحضارات وهو في هذا الأمر يصل بين هذا وذاك ضمن عمليات تربوية وثقافية وتعليمية وتدريبية متكافلة ومتفاعلة.
هذا يشكل منهج نظر وتناول وتعامل تتصل مضامينه كما تتواصل مع مراميه ومقاصده.
وكأننا بذلك يمكن أن نخرج من أسر السياق الأصغر إلى السياق الأكبر ضمن منظومة سياقية تحاول أن تحرك هذه الكليات لتتواصل مع بعضها البعض كذلك لتتناغم تلك الجزئيات في اندراجها الجميل والرصين ضمن هذه الكليات.
هذه المسألة إنما تشكل ليس فقط أهمية إضافية لمعالجة فكرة السياق الأكبر على النحو الممتد والمنفتح والمنتظم والمتواصل ولكن أيضا نعطي لفكرة السياق حجية أعلى وأجل تجعل من المجتهد والاجتهاد عملية عميقة تجمع بين المنظور الاجتهادي الفقهي والمنظور الحضاري الكلي.
هذا الجمع إنما يشكل إطارا منهاجياً يجب أن يتحول إلى سياقات تعليمية وتدريبية وتربوية، تشكل المصداقية والأهمية والتعاضدية والتكاملية ما بين الأطر المنهجية التي يمكن أن تشكل بدورها أصلا فعالا في العملية الاجتهادية سواء كانت ضمن الأحكام الجزئية أو الأحكام الحضارية الكلية، ماذا يعنى كل ذلك بصدد المواطنة في دولة مسلمة؟
رابعا: بناء مفهوم للمواطنة يحفظ جامعية الأمة والجماعة الوطنية:
من الضروري التعامل مع باب الوسائل والآليات في إطار يحفظ جامعية الأمة واعتصامها والأدوات والوسائل بحكم هذا الفقه الذي يعد بابا مهما من أصول الفقه الحضاري والعمراني إنما يشكل مدخلين مهمين:
الأول منهما يتعلق بالوسائل والآليات لمواجهة التحديات وتقديم الاستجابات والأمر الثاني يتعلق بالأدوات التي تعين على بناء الأمة وعمرانها في سياق يتكافل هذا النوع من الأدوات مع أخيه ليحقق عملا مثمرا يصب في عافية الامة وكيانها.
من الممكن أن نصنف الوسائل التي يجب الاهتمام بها ضمن مشروع حضاري لنهضة الأمة وارتقائها إلى ثلاثة صنوف متكاملة ومتكافلة:
الاول منها يعنى بالأدوات المنهجية والوسائل المعرفية
والثاني يتعلق بالأبنية المؤسسية لاتي يمكن أن تقوم على مهمة هذه الجامعية فتدفع الأضرار المتعلقة بها وتجلب المصالح البانية لها
أما النوع الثالث من الوسائل والاليات فانه يقترن بقدرة الامة على التعامل تدريجا في تنفيذ سياساتها الجزئية وخططها الكلية بحيث يحقق التواصل بين الجزئي والكلي في عمليات التكامل والتفعيل والتشغيل، وبما يؤصل معاني موصولة بفقه الحال وفقه المجال كعمليات مترابطة ومتصلة بفقه التنزيل.
إن بناء استراتيجي أو توجه نحو بناء المواقف والقدرات المتكاملة والمتكافلة بحيث تمثل أحد مداخل الاستجابات الواعية لمواجهة التحديات التي تترى على الأمة، ومن هنا فإن عملا ثقافيا وتربويا من الأهمية القيام به وعليه في إطار التدريب الواعي على فنون “الاختلاف” وفنون “الائتلاف” على حد سواء، بحيث تشكل البنية التحتية لاعتصام الأمة وتعبئة قدراتها بما يحقق هذا في إطار تجميع المصالح وامكانات تبادلها بدلا من تناقضها وتصارعها، “بناء المصالح” “واحد” من أهم الأهداف المشتركة التي يجب أن تؤسس على قواعد ثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية بما يحقق ” التجديد التفعيلي ” على الأرض وبما يصب في عافية الأمة وكيان وجودها وحركة استمرارها ونهوضها وعمارتها وارتقائها.
إن جهود التأصيل والتفعيل والتشغيل للمواطنة يجب أن تكون ضمن تصور استراتيجي يحقق جامعية وفاعلية الأمة، وتأهيلها لمعاني الرافعية للنهضة، والدافعية لعمرانها، وبناء المصالح المشتركة والمتبادلة بحيث تتحرك صوب تأسيس ذلك كواجب وقت يلتزم في القيام عليه جملة الثوابت والكليات، وهو ما دعانا الى ضرورات استثمار وتفعيل وتشغيل المدخل المقاصدي وغيره من مداخل كلية في تجديد الخطاب الديني بنية وأداء(9) على أن تكون عملية التجديد هادفة الى تحقيق غاية ومقصد استراتيجي من مثل الحفاظ على جامعية الأمة وفاعليتها وتستأنف أدوارها الحضارية ومكانتها، للقيام بهذا الدور الحضاري والاستراتيجي في آن واحد، المواطنة ضمن هذا السياق حركة المرجعية والدافعية والرافعية والجامعية والشرعية والتجديدية والفاعلية.
خامسا: تعريف المرجعية وعلاقتها بالمواطنة:
المرجعية هي الأصول الفكرية والثقافية العامة التي التي تؤمن بها الجماعة الوطنية وتشكل قوة التماسك الأساسية في تشكيلها بوصفها جماعة بشرية وهي أيضا الأصول الفكرية والثقافية التي تتشكل منها هياكل التنظيمات السياسية والاجتماعية المشخصة للجماعة العامة كجماعة سياسية، أو الجماعات الفرعية التي يتكون منها المجتمع والمنظمة لأنماط العلاقات الاجتماعية السائدة .(10)
الإنسان رؤية العالم والإطار المرجعي:
الإطار المرجعي يشتمل على جملة الافتراضات والرؤى الأساسية والتأسيسية التي تشير إلى طبيعة الحياة وأبعادها الأساسية وعملياتها ومسار حركتها التي يؤمن بها الإنسان أو يتخذها مرجعًا ومرشدًا له في رؤية الظواهر الحضارية على امتدادها وتنوعها وتشابكها.
ومن هنا فإن إطار المرجع يحدد الأنساق المفاهيمية والمعرفية والفكرية والقيمية والسلوكية التي تصف وتفسر السلوك والظواهر والإطار المرجعي هو الذي يحدد للإنسان ما له دلالة وأهميته عند النظر إلى الظواهر الحضارية في وصفها وما يفتقر إلى تلك الدلالة والأهمية.
ومن الحقائق التأسيسية في هذا المقام أن نتحدث عن المرجعية بما يتبادر به إلى الذهن ولكن أن نتحدث عنها بما يشكل رؤية متكاملة للعالم للإنسان والكون والحياة، وما يتولد عن هذه الأصول من علاقات وتفاعلات.
والجماعة المرجعية تنصرف الى الامة خيريتها صفة، ووسطيتها منهجا، وشهودها فعلا وفاعلية وتأثيرا. وهي لا تتنافى أو تنفى جماعات مرجعية فرعية أو مشتقة أخرى بل توظفها في كيان الامة بحيث تصب في عناصرها المؤسسية (الخيرية-الوسطية-الشهود). وشبكة الإسنادات المرجعية في جملة المراجع والمصادر التي يجب الرجوع اليها من دون ان يعنى ذلك انغلاقها او الاكتفاء او الانكفاء عليها، بل ضرورة ان تتحرك صوب أهم وصف لها والتي تتعلق بنسقيتها المنفتحة في اطر المقارنة، وعمليات تحكم التواصل بين عناصر العلم النافع ومعاني الحكمة في كل سياقاتها وتنوعاتها.
وبهذا فإن فكرة المرجعية وفق عناصر الترجمة الإجرائية باعتبارها إطار للمرجع لأنساق الإدراك والقيم والسلوك والمصالح إنما تعبر بذلك عن فكرة جامعة ودافعة ورافعة وفاعلة.
ومن هنا فإن عناصر المرجعية التي تجمع بين رؤى التأسيس واعتبارات الواقع والجماعة الوطنية المرجعية وأصول وقواعد النظام العام فضلاً عن السياقات الثقافية التي تشكلها اللغة والرموز وكافة العناصر الثقافية إنما تعبر جميعًا عن أعمدة في بناء معماري يشكل أصول هذه المرجعية حينما تنسجم تلك العناصر وتتكامل وتتكافل وتأتلف بحيث لا تقوض ولا تهدم، وقد تختلف هذه الأعمدة في شكلها وفي تجلياتها ولكن نظر لهذه الأعمدة فضل رفعها للأسقف الحضارية والعمرانية لفاعلية إنسان الحضارة الذي يرتبط بها.
هذه الأعمدة وإن اختلفت في مبناها ومظهرها فإنها تأتلف في معناها وجوهرها ووظيفتها، وكأن ذلك الاختلاف في الأمة وجب على من يعيش فيها ويتعارف في ساحاتها أن يجعله اختلاف الرحمة الذي يشكل عناصر الوجود الحضاري الرافع والدافع والفعَّال والمالك لعناصر تصحيحه الذاتي وتجدده الذاتي.
سادسا: الشريعة الإسلامية والمواطنة.. نحو تأسيس الجماعة الوطنية:
تعتبر قضية العلاقة بين الشريعة والمواطنة من المسائل المركبة لا باعتبار الجمع بينهما على صعيد واحد، ولكن بالاعتبار الذي حملت فيه قضية الشريعة ومسألة المواطنة بما لا تحتمل، وأدى ذلك إلى تصور حقيقية هذه العلاقة ضمن رؤى تفترض تناقضا في العلاقة بين الشريعة والمواطنة، على الرغم من أن قضية الشريعة تنتمي إلى دائرة المرجعية والقواعد المتعلقة بالنظام العام، بينما قضية المواطنة ترتبط بأسس المرجعية (المعاش الواقعى) التي تتعلق بالواقع الذي يجمع المواطنين ضمن وطن واحد وحالة من المواطنة؛ ترتب أصول التعامل ضمن قاعدة المساواة العامة في الحقوق والواجبات.
من الضروري أن نحدد منهج النظر للعلاقة بين المواطنة والشريعة، ضمن دوائر عدة تتراوح بين التراحم والتزاحم والتصادم، فقد يرى البعض أن الشريعة والمواطنة صنوان، وقد يرى البعض الآخر أن العملية السياسية لا تتسع لكلاهما ولكل مجاله، بينما يرى فريق ثالث أن الشريعة والمواطنة مفترقان / متمايزان، ويتبنى رابع أن الشريعة والمواطنة متصادمان متنافيان، وذلك ضمن ضغوط تتعلق بواقع يعيش فيه النظام الاستبدادي على توليد الاختلافات بين طوائف الأمة وإستغلال ذلك الخلاف لمصالحة الاستبدادية، صناعة الخلاف والاختلاف عملية يقوم بها النظام السياسي الاستبدادي ضمن عمليات متراكمة، فتفتعل خلافا، وتختلق اختلافا، وتؤجج تناقضا، بحيث تصرف النظر عن جملة القضايا الحقيقية التي ترتبط بكيان المواطن والإنسان، وتتعلق بحقوقه المهدرة، وكيانه المهدور.
لا يمكن التعارف على المبادئ التأسيسية التي تتعلق بالشريعة إلا في إطار منظور عام وكلي يرتبط أول ما يرتبط بالمقاصد الكلية العامة للشريعة، وبما يحدد العلاقة بين الديني (الشريعة) والسياسي (المواطنة)، والشريعة في مبادئها (مرجعية النظام العام)، والمواطنة في جماعتها السياسية (جماعة المواطنين عبر الوطن)، هذه الرؤية هي التي تكشف مسار ووسط العلاقة بين حقائق التأصيل ومداخل التزييف، والذي يتخذ مسارات عدة، وتوجهات تحمل في طياتها أحكام وتعميمات تحتاج في حقيقتها إلى مراجعة وتأمل، من مثل أن الديني لا علاقة له بالسياسي، الخلط بين تأثير الديني الجوهري والحقيقي في الاجتماع الإنساني وعمليات تسييس الدين وتوظيف قدراته، الشريعة بين الفرض والرفض، الشريعة ومداخل الأقلية والطائفية، الدستور بين الوحدة الكيانية وصراع الموارد وفكرة التوازنات.
قد تكون هذه القضايا جميعا خاصة في حال تشوشها وتشوهها، تعاني ضمن سياق عام من التضمينات السلبية والتي تولد كثيرا من تلك الهواجس، هذا السياق قد يؤثر تأثيرا سلبيا أو إيجابيا في سياق تراكمات معينة على النظر للجماعة الوطنية والسنن التي تؤدي إلى تماسكها والنظر في تلك الأمور التي تؤدي إلى تفككها، وهو يشكل سياقا تاريخيا يجب النظر فيه، والتعامل معه بدقة وحساسية وروية، كذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار ذلك السياق الإعلامي ولغة الخطاب السائدة التي تحتوي على مفجرات ومفخخات، وكذلك البحث في السياق عن تلك المداخل التربوية والتثقيفية التي تحيط بهذه العملية التي تشكل شروطا لتأسيس الجماعة الوطنية وتشكيل وعيها.
كما أن هناك من بعض المهتمين بهذا الأمر من أضاف إلى ملف الطائفية معالجة جديدة لا تقل خطرا عن المعالجة الأمنية السائدة في التعاطي مع هذا الملف، فبعد أن كانت المعالجة الأمنية هي فقط التي تسيطر على معالجة ملف الفتنة الطائفية أضاف البعض المعالجة الفتنوية والتي قد تزيد الأمور اشتعالا، ومن هنا وجب علينا أن نضع الأمور في أحجامها الحقيقية من دون إقحام الدين من غير ميدان واللجوء إلى خطاب الاستنجاد والاستغاثة وكأننا نولول على انتهاك حق هنا أو حق هناك بسبب الديانة أو ما شابه ذلك، أصبح هناك ما يمكن تسميته معالجة فتنوية لكثير من الأحداث والتي يمكن أن تنتمي إلى دائرة العلائق الاجتماعية والاقتصادية يقحم الدين فيها ومن أقرب طريق(11)
يتبع الجزء الثاني من الدراسة
الهامش
(1 ) ـ سيف عبد الفتاح، عواقب الدولة القومية، في حولية أمتي والعالم، تحرير وإشراف: د. نادية مصطفى، سيف عبد الفتاح، القاهرة
(2 ) ـ سيف عبد الفتاح، هندسة الاجتهاد المقاصدي،
(3 ) ـ سامر مؤيد عبد اللطيف، المعالجة الإسلامية لإشكاليات المواطنة: رؤية تحليلية معاصرة، العراق : جامعة كربلاء، كلية القانون،2009.
(4 ) ـ نزيه نصيف الأيوبي، كتابَه “العرب ومشكلة الدولة”، نشرته دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1992، سلسلة بحوث اجتماعية (10)
(5 ) ـ سيف الدين عبد الفتاح، “مقدمات أساسية حول عملية بناء المفاهيم”، فى د. على جمعة، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف)، بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، الجزء الأول، المعهد العالمى للفكر الإسلامى، الطبعة الأولى 1998، ص 27 وما بعدها.
(6 ) ـسيف عبد الفتاح، هندسة الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق.
(7 ) ـ سيف عبد الفتاح، المدخل المقاصدي واعتبارات السياق،
(8 ) ـ قرب إلى هذا ورقة إطارية للشيخ عبد الله بن بيه، ورقة استرشادية أُرسلت للمؤتمرين.
( 9) ـ سيف الدين عبد الفتاح، تجديد الخطاب الديني من الحملة الفرنسية الى الحملة الأمريكية،
(10 ) ـ طارق البشري، الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الثانية، 2005، ص 140 .
( 11) ـ طارق البشري، المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الثانية، 1988، ص5 .
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
المصدر: المعهد المصري للدراسات