الاجتهاد: يتحدث الباحث السيد محمد الحسيني في مقالته هذه حول المنهج الفقهي عند الشهيد الصدر واختص بهذا الموضوع، ليعرف الطالب أو الباحث بالمنهج الفقهي عند الشهيد الصدر، لأن الطالب في الخارج أي بعد أن يكمل الدراسة يحتاج له ويرافقه أينما ذهب ولذلك هو بحاجة لمعرفته وللمزيد من التفقه حول مواضيعه، وتميز هذا الكتاب بسهولة الألفاظ وغير معقد وجاء ليكون لجميع المستويات العلمية، وضم الكتاب الحديث على أوجة محاور وبدأ بهموم الفقيه، وفقاهة فريدة ثم المنهج الفقهي كملامح عامة، وخصائص المنهج الفقهي عند الشهيد الصدر وغيرها.
تمهيد: في وقتٍ مبكر من حياته الشريفة حمل الإمام الشهيد محمد باقر الصدر مشروعاً نهضوياً متكاملاً لانبعاث الأمة الحضاري ووضعها في مسارها الصحيح، واستعادة دورها الريادي وفقاً لمتطلبات (المقولات) الإسلامية الأساسية في الفكر الإسلامي، من خلافةٍ وإشهادٍ وإعمارٍ للأرض.
وكما هي كلمات الإسلام متكاملة قوية وشاملة، جاء مشروعه الثقافي النهضوي متكاملاً قوياً وشاملاً، يحكي الترابط العضوي لمقولات الإسلام وقوانينه ومفاهيمه، ويجسّد القيمومة العامة لهذه المقولات على مناهي الحياة، حياة الفرد والمجتمع.
ومشروع من هذا القبيل لا يستوفي حقه عدد من السطور والكلمات وإن انتظمت بدقةٍ متناهية واختزلت مراحل الاستدلال والبرهان والشرح والبيان.
ووفقاً لهذه الملاحظة ــ المشار إليها آنفا ــ تكرس هذه السطور نفسها للحديث عن جانب مهمٍ من هذا المشروع الثقافي، وهو الجانب الفقهي والقانوني تحديداً.
لكن تجدر الاشارة إلى أنَّ هذه السطور وإن كانت تعنى بالدرجة الأساسية بالمشروع الفقهي للشهيد الصدر، إلاّ أنها لا تغفل المحيط الفقهي العام عبر مقطعٍ زمني طويل تطور فيه الفقه الإسلامي ــ وفقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام ــ تطوراً كبيراً، وقفز فيه الفقه قفزات هائلة، واجتاز مراحل فنية وفكرية عديدة، إنتقل فيها من (رحم) الحديث ولغته الخاصة المفعمة بالأسانيد والعنعنة إلى شيء من الانطلاق والتحرر من أسْرِ هذه القيود، ليعلن عن نفسه وذاته وإن أُبقي على متون الروايات والأحاديث في لغة الفقه وطريقة التعبير عن مسائله.
ومع تطور وتنامي الخبرات وتظافر الجهود أخذ الفقه يكتسب شخصية مستقلة وإطاراً خاصاً، ليتوفر على شيء من الاستدلال والبرهان بعد أن كان الفقيه يختزل هذه المراحل ليصل إلى النتيجة التي هي ــ في الغالب ــ متن الحديث نفسه.
وعلى خلفية إتساع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية وتنامي حاجات المجتمع والأفراد، أخذ الفقيه يفكر في كيفية استنطاق المصادر الأساسية وفقاً لما هو مأذون به شرعاً، فنشأت مدارس عديدة في دراسة الحجج وطرق التفكير الفقهي ووسائله وآلياته المشروعة.
ومع هذا التطور الكبير أنتجت الذهنية الفقهية عدداً من (الكتب) والدراسات شكّلت في يوم من الأيام معلماً واضحاً في مسيرة الفقه، بما تضمنته من إبداعٍ وابتكار. لكن مع خلو الميدان العلمي من عقليات كبيرة في وقتٍ من الأوقات كانت تظهر عمليات المحاكاة والتقليد، والتي مهّدت لانتشار ما عرف بـ(الشروح والحواشي والتعليقات على المتون) ثم تجاوز هذه المرحلة كلما بزغ نجم هنا وطلع آخر هناك.
هموم الفقيه
إكتسب الفقيه ــ إسلامياً ــ وضعاً حقوقياً وسياسياً لا نظير له في أي مذهب أو إطار فكري غير الإسلام، خاصة على المستوى الإسلامي الشيعي الإمامي، حيث أصبح هذا الوضع من مسلّمات فقه الشيعة الإمامية، لتضفي عليه طابع القيمومة تارة والولاية والشهادة تارة أخرى، وإن إختلفت الصيغ القانونية الشرعية، في تصويرها ومداها وسعة دائرتها.
ولم يكن تكريس هذا المضمون الحقوقي والاجتماعي في شخص الفقيه محض رغبةٍ أو امتيازاً تاريخياً أهّل الفقيه لهذا المستوى المتقدم، وإنما هو عبارة عن موقف فكري حُمِّل على أساسه الفقيه مسؤولية التفكير في الشأن الإسلامي والعمل في سبيله والتضحية لأجله، وافترض أن تكون همومه كبيرة كما هي هموم الإسلام، وعطاءاته متواصلة كما هي عطاءات الإسلام حية ومتجددة وزاخرة.
وكلما إقترب الفقيه من مواقع الإسلام وتجسّدت فيه رؤى الإسلام والتحمت مع روحه وعقله وأفكاره ومبادئه كان الأقدر على تحقيق وانجاز مهامه المفترضة، والأجدر على اكتساب حقوق المركز القانوني للفقيه.
هذه الحقيقة أدركها الشهيد الصدر مبكراًً، ووعاها وعياً كاملاً قدر وعيه للإسلام وأهدافه وغاياته. كتب ــ رحمه الله ــ : «وبقدر عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شدَّدت عليهم وتوقعت منهم سلوكاً عامراً بالتقوى والإيمان والنزاهة، نقياً من كل ألوان الاستغلال للعلم، لكي يكونوا ورثة الأنبياء حقاً» [1]
وبغض النظر عن مصداقية الشهيد الصدر ــ كفقيه ــ من حيث توفرة على ما افترضته الشريعة من خصائص في الفقيه فثمة مهمة أساسية تتصدر مهام الفقيه، ونعني بها المهمة العلمية التي يفترض أن يتكفل بانجازها الفقيه في ضوء الضوابط الشرعية ومعاييرها.
وقد حدَّد الشهيد الصدر ــ فقهياً ــ هدف (الانتاج الفقهي) وعملية الاجتهاد إذ يقول: «وأظن أننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد معركة الاجتهاد
معالم النظرية وتفاصيلها»[2]، ولذلك لاحظ الشهيد الصدر على الفقهاء استغراقهم في التفكير الفردي وتقزيم الشريعة وتجزئة الاجتهاد وتضييقه.
وانطلاقاً من هذه الملاحظة شرع الشهيد الصدر في ملء الفراغ الذي تشكو منه المكتبة الفقهية، فكان كتابه (اقتصادنا) إنعطافاً كبيراً في حركة الاجتهاد والانتاج الفقهي، وكان كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) تحضيراً لاستنزال الفقه إلى الشارع وإلى حياة المجتمع البشري المسلم، في ظل المعطيات وتعقيدات الأوضاع الاقتصادية التي تخلَّف الفقه عن مواكبتها لفترة من الزمن ليست بالقصيرة، فيما كانت الفتاوى الواضحة) تجسيداً لهموم الفقيه المجاهد والدؤوب على الحركة، لخلق أكثر الشروط ملاءمة لانطلاقة حضارية جديدة، يتاح للإسلام فيها القيمومة على حياة الانسان.
وفي زحمة همومه (رحمه الله) كفقيه تنبَّه إلى حجم التحديات والاشكالات التي تعيق حركة الفقه كعلم وتشريع حاكم يمارس قيمومته أو يفترض أن يمارسها، وقد حدَّد وفقاً لحجم هذه التحديات معالم مشروعه الثقافي في إطاره الفقهي لترشيد الذهنية الفقهية وتعميقها من جهة، وتعميم المعطيات الفقهية التي انتجتها حركة الفقه ودورته العلمية والاجتماعية على أكبر قطاع اجتماعي، وتنمية فاعليته في الحياة.
تعميق الثقافة الفقهية:
كان من أبرز معالم مشروع الشهيد الصدر الثقافي خطواته الجريئة ودوره الكبير في تعميق التفكير الثقافي وتأصيله. ومعاناته في هذا المجال واضحة على مستوى طرق الاستدلال وقراءة النصوص بدقة متناهية وعقلية مرهفة وملاحظات متعاقبة، فضلاً عن البعد الاستثنائي الذي تميزت به دراساته في حقل الفقه، من عمقٍ وجدّة إلى درجة لا يترك معها لخلفائه ــ من فقهاء وباحثين ــ ما يمكنهم إضافته أو تجديده. وتلك خصوصية استثنائية تؤطر دراسات الشهيد الصدر على تنوعها، وتصنفها ضمن الابداعات التأريخية لا الرائدة وحسب.
وقد لا تسمح هذه السور بمواكبة إبداعه الفقهي تفصيلياً ودوره الريادي فيه لجهة الطابع الاختصاصي لهذا الحقل العلمي وما يفرضه من قراءة دقيقة ومتأنية للنصوص الفقهية وملاحقتها في ثنايا البحوث والدراسات العالية في هذا المجال. وربما نوفق فيما يأتي من بحوث في الاشارة إلى بعض معالم مدرسته الفقهية وملامحها الرئيسة، على مستوى المنهج وعلى مستوى الخصائص.
ومهما يكن من أمر، فلا يخفى على القرّاء على اختلاف وتباين ثقافاتهم واختصاصاتهم الدور الريادي للشهيد الصدر في كتابة البحث الفقهي المعمق والمعاصر في آنٍ واحد، والذي تمظهر في كتابيه (إقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام)، إلى درجة لم يظهر معها إلى الآن كتاب في المكتبة الإسلامية يوحي بشيء من المضاهاة لهذين الكتابين، في الوقت الذي لم يفكر فيه الشهيد الصدر أن يكونا كذلك، بل افترض فيهما ــ معاً ــ أنهما بداية الطريق، وأنهما مجرد اقتراحات فكرية ولبنات تأسيسية قابلة للتطوير والتأصيل.
وعوداً على بدء يمكن القول إنَّ (إقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام) هما الكتابان الفريدان من نوعهما في المكتبة الفقهية، اللذان توفرا على عنصري المعاصرة والوفاء بمتطلبات العصر والدقة العلمية فقهياً. ولاأجد أدنى مبالغة في تأكيد هذه الملاحظة، فما نتوفر عليه ــ اليوم ــ في المكتبة الإسلامية، إما أن يكون معاصراً خلواً من الاختصاص العلمي / الفقهي، وإما أن يكون وفياً للمنهج الفقهي التقليدي على نحو تغيب فيه روح المعاصرة ومعالجة الاشكاليات الحديثة غياباً تاماً.
أما على المستوى الفقهي ــ تقليدياً ــ فقد قُدّر للشهيد الصدر أن يلقي أبحاثه الفقهية العالية في ظرف زمني يقرب من العشرين عاماً تخرج من مجلسه عدد من الفقهاء ومن يقرب من درجة الفقاهة، وأنتجت هذه الممارسة الفقهية كتابه الفقهي المعروف بـ(بحوث في شرح العروة الوثقى) في أربعة أجزاء دون أن تكتمل، لتضيع أبحاثه الأخرى على خلفية همجية النظام الحاكم، وتشاغل طلابه عن مواصلة المسيرة والوفاء لمدرسة استاذهم.
ولو قُدّر ــ على الأقل ــ لكتابه ــ هذا ــ الاكتمال لأعطى للمكتبة الفقهية بُعداً لم تألفه الكتب الفقهية السابقة على قيمتها العلمية والتأريخية باعتبارها بحوثاً تعبّر عن ممارسة عملية فقهية كتبت بقلم الفقيه ــ الأستاذ ــ نفسه دونما اختزال أو حرقٍ لمراحل الاستدلال الفقهي كما هي عادة الفقهاء.
تعميم الثقافة الفقهية:
ولئن كان تعميق الثقافة الفقهية هو الأبرز في مشروع الشهيد الصدر الثقافي فقهياً، فإنه لم يمنعه من التفكير بتعميم الثقافة الفقهية في الوسط الاجتماعي، باعتبارها القانون (القيِّم) على حياة الانسانا لمسلم، والذي يحدد وفقاً لها موقفه تجاه الأشياء والأحداث.
وكما هو العلم بالقانون لا يختص بمواطن دون آخر، فالفقه كـ(القانون) لا يختص بمسلمٍ دون آخر، لأنه مشاع والناس فيه سواء. أما موضوع التخصص به فهو ينحصر بالاستدلال الفقهي وطرقه وحجيته ومستويات نتائجه ومعطياته، فضلاً عن الصناعة والتكييف الفنيين لأحكامه.
ووفقاً لهذه الملاحظة سعى الشهيد الصدر إلى تفعيل الفقه في حياة المسلم، وانفتاح الأخير على هذه الثقافة انفتاحاً مباشراً، بعيداً عن الاتكالية المطلقة.
وباعتبار أنَّ ما يعرف بـ(الرسالة العملية) هي النافذة الرئيسة لإطلالة المسلم على الفقه، فقد توجهت جهود الشهيد الصدر إلى إعادة النظر فى هذا الفن الفقهي ودرجة تفاعـل المسلم المقلِّـد ــ بكسر اللام ــ معه وانفتاحه عليه، وقد لاحظ أنَّ هذا النوع من الكتابة الفقهية لا زال تقليدياً إلى حد كبير من جهة، ووفياً إلى اللغة القديمة والتقسيم الموروث من جهة أخرى، كما لاحظ على هذا الفن الفقهي أنه لا يبدأ في كل مجال بالأحكام العامة ثم التفاصيل، ولا يربط كل مجموعة من التساؤلات بالمحور المتين لها، ولم تُعط فيه المسائل التفريعية والتطبيقية وصفها الصحيح بما هي أمثلة صريحة لقضايا أعم منها لكي يستطيع المقلِّد ــ بكسر اللام ــ أن يعرف الأشباه والنظائر، وبذلك فان المقلّد أن يكوِّن لنفسه الثقافة الفقهية المطلوبة على الأٌقل.
وقد تخطى الشهيد الصدر هذه الملاحظات في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة) حيث تكفل ذلك بتعديل كبير في اللغة الفقهية، وتغيير جذري للتقسيم الشكلي لمسائل الفقه وموضوعاته. ولم يأنف عن التخلي عن اللغة العلمية الاختصاصية ورموزها وطلاسمها لصالح المسلم المقلِّد، وحاول قدر الامكان تزويده بثقافة فقهية للأساس الشرعي لما اشتملت عليهالفتاوى من أحكام شرعية، والذي عنون له بـ(مصادر الفتوى)، كما تدرج في عرضه للمسائل لغة واصطلاحاً وقاعدة، لينتهي في التطبيقات المنتزعة من حياة المقلِّد نفسه.
وسيأتي الحديث مفصلاً في إنجاز الشهيد الصدر على مستوى تطوير (الرسالة العملية) على مستوى الشكل والمضمون واللغة.
تحديث الخطاب الفقهي:
وعلى صعيد الخطاب الفقهي لاحظ الشهيد الصدر غياب المنهج الواقعي الذي يجسّد حقيقة الترابط بين التشريعات الإسلامية وقيمومتها على حياة المسلم كفرد ومجتمع ودولة، ورفض ضمناً التقسيمات الشكلية الموروثة لمسائل الفقه، على خلفية ما توحي به من تجزيئية وتغييب لعدد كبير من التشريعات في أحايين كثيرة، فعمد إلى تقسيم جديد يقوم على أساس حضور الحقيقة المشار إليها ــ آنفاً ــ في حياة المسلم.
وانطلاقاً من النظرة الواعية لرسالة الإسلام وهدفها في صياغة الإنسان وضع تقسيمه الشكلي (الرباعي) للفقه كبديل عن التقسيم الموروث، والذي يبدو فيه الفقه أكثر حيوية وأكثر إنسجاماً مع الهدف والغاية، فشمل تقسيمه: العبادات والأموال بقسميها الخاص والعام، والسلوك الخاص والعام.
ومن أسف أن تتعثر جهوده في إكمال المشروع إذ صدر منه الجزء الأول فقط، والذي ضمّ القسم الأول منه.
وإنما عمد الشهيد الصدر إلى هذا التقسيم الجديد دون غيره من التقسيمات الموروثة والمتعارفة في الكتب الفقهية والرسائل العملية فذلك نظراً إلى ما تقدمه هذه الرسائل من إنطباع للشريعة وفقاً لهذه التقسيمات إذ أنَّ «أكثر الرسائل العملية تقدم عادة الصورة المحدودة لأنها تتعامل مع فرد متدين يريد أن يطبق سلوكه على الشريعة رغم تواجده في مجتمع غير ملتزم بالإسلام منهجاً في الحياة»[3] دونما إشارة إلى البعد المجتمعي للأحكام الشرعية والأبعاد الأخرى المرتبطة بفقه الدولة وحركتها.
أما على مستوى (النص الفقهي) نفسه فإنه يفتقر إلى تغيير كبير يأخذ بنظر الاعتبار تطور أساليب التعبير اللغوي من جهة، وتعقد الحياة وأساليبها ونشوء أوضاع جديدة من جهة أخرى، لذلك افترض الشهيد الصدر في الرسالة العملية أن تكون قادرة على (مواكبة التطور الشامل في مناهج ووقائع الحياة) وهو ما أخذه بنظر الاعتبار في رسالته (الفتاوى الواضحة)، وان كان قد تردد في أخذه في بحوثه ودراساته العليا، واعتذر عن مثل هذا التحديث على أمل توفر الشروط الموضوعية لانجازه.[4]
تأصيل التفكير الفقهي:
وقد نبَّه الشهيد الصدر في وقت مبكر إلى ضرورة إعادة النظر في مناهج الفقه، في مقام استنباط الحكم الشرعي والكشف عنه من أدلته المعتبرة شرعاً. وهي مناهج تتحدد ــ أساساً ــ طبقاً لهدف الاجتهاد نفسه، الذي يمكن تلخيصه برفد حركة المسلمين أفراداً ومجتمعاتٍ ودولة.
وكمدخل لهذا التفكير لاحظ الشهيد الصدر على الفقيه بشكل عام إنصرافه إلى تغطية حاجات الفرد المسلم فقهياً، والاستغراق في تلبية هذه الحاجات على حساب الجانب المجتمعي وفقه الدولة، وهو انصراف أملته الظروف التاريخية، حيث أدت إلى انكماش هدف الاجتهاد في وعي الفقيه ليختزله في المجال التطبيقي الفردي، فضلاً عن تسرب الفردية إلى النظرة الفقهية نحو الشريعة نفسها، لتسود عدة قواعد فقهية مطلقة من قبل (الاحتياط) و (لا ضرر ولا ضرار)، دونما تمييز بين المجال الفردي والمجتمعي.
كما أدى ذلك إلى غياب الضابط الموضوعي للتمييز بين الأحكام الشرعية وبين الأحكام الولايتية.
وربما تساعد هذه الرؤية على حلِّ بعض الاشكاليات القائمة لفهم بعض النصوص وفي المجالات الحيوية تحديداً. وعلى سبيل المثال نشير إلى مسألة حصر الزكاة في (الغلات الأربع)، وهي مسألة خطيرة جداً، إذ تستثني الغلات الأخرى على أهميتها ودورها الاقتصادي والمالي في رفد الميزانية العامة.
ومن المعلوم أنَّ الموقف الفقهي السائد يميل إلى حصر الزكاة في هذه (الغلات الأربع) دونما تعدٍّ إلى غيرها إلاّ بالعناوين الثانوية ــ إن أمكن ذلك ــ كما لو فرض الحاكم الشرعي الزكاة على ما سوى الغلات الأربع، وهو موقف تبنّاه الشهيد الصدر نفسه.[5]
وفي إطار الملاحظة السابقة حذَّر الشهيد الصدر من محاولات تقزيم الشريعة تبعاً للاتجاه النفسي للفقيه، عندما يتجه نفسياً نحو الأحكام التي تتصل بالسلوك الخاص للأفراد على حساب الجانب الاجتماعي وما يتصل بالدولة، وهو منهج لم يقتصر تأثيره على إخفاء بعض (المعالم التشريعية) بل أدى ــ أحياناً ــ إلى التضليل في فهم النص التشريعي.
ومن جهة أخرى، لاحظ الشهيد الصدر على المنهج الفقهي السائد أنه يميل إلى التجزئة في مقام فهم النصوص الشرعية، على خلفية الابتعاد عن الواقع وعلاقة هذه النصوص به، من حيث أنها تطبيقات له وفيه،
وقد كتب الشهيد الصدر في تقرير هذه الملاحظة ما نصه: «.. ومن ناحية أخرى لم تعالج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتخاذ قاعدة منه، ولهذا سوَّغ الكثير لأنفسهم أن يجزئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له. وأستعين على توضيح الفكرة بمثال من كتاب الإجارة، فهناك مسألة هي: أن المستأجر هل يجوز له ــ بدوره ــ أن يؤجر العين بأجرة أكبر من الأجرة التي دفعها هو حين الايجار. وقد جاءت في هذه المسألة نصوص تنهى عن ذلك، والنصوص ــ كعادتها ــ في أغلب الأحيان جاءت لتعالج مواضيع خاصة، فبعضها نهى عن ذلك في الدار المستأجرة، وبعضها نهى عن ذلك في الرحى والسفينة المستأجرة.
وبعضها نهى عن ذلك في العمل المأجور، ونحن حين ننظر إلى هذه النصوص بروح التطبيق على الواقع وتنظيم علاقة إجتماعية عامة على أساسها سوف نتوقف كثيراً قبل أن نلتزم بالتجزئة، وبأنّ النهي مختص بتلك الموارد التي صرحت بها النصوص دون غيرها، وأما حين ننظر إلى النصوص على مستوى النظرة الفردية لا على مستوى التقنين الاجتماعي فاننا نستسيغ هذه التجزئة بسهولة».[6]
وقد جاءت تعليقة الشهيد الصدر على هذه المسألة من كتاب الاجارة في (منهاج الصالحين)[7]منسجمة إلى حد كبير مع هذه الملاحظة، فعمَّم الحكم على سائر الأعيان، ولم يقتصر على الأعيان المشار إليها في النصوص.
وقد نبَّه رحمه الله إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تسهم به هذه النظرة في تذليل بعض المشاكل الفقهية وفي مقدمتها ما يمكن أن نسمِّيه بـ«تشظي» الأحكام الشرعية وذلك لأن «كثيراً من الأحكام بُيِّنت عن طريق الجواب على أسئلة الرواة ولم تبيّن بصورة إبتدائية وبلغة تقنينية، والرواة إنما يسألون في الغالب عن الحالات الخاصة التي يحتاجون إلى معرفة حكمها فيجئ الجواب وفقاً لحدود السؤال مبيناً للحكم في الحالة المسؤول عنها،
فإذا اقتصرنا في استنباط الحكم من النص على الفهم اللغوي فحسب، كان معنى ذلك أن نجعل تلك الأحكام في أكثر الأحيان وقفاً على الحالات الخاصة التي مُني بها السائل في حياته العملية وأبرزها في سؤاله، مع أننا قد نكون واثقين بأنَّ بيان الأحكام على تلك الحالات الخاصة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها، وإنما نشأ عن إختصاص السؤأل بتلك الحالات، وأما إذ أفهمنا النص فهماً إجتماعياً فسوف نكون أقرب إلى واقع الحدود المحتملة لتلك الأحكام».[8]
وربما تكون هذه الفكرة التي أشار إليها الشهيد الصدر هي أول مساهمة علمية من فقيه كبير لتذليل بعض الصعوبات الكبيرة التي تعترض عملية الاستنباط والبحث الفقهي، وقد جاءت ــ تاريخياً ــ كتعليق على ما كتبه الفقيه المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «فقه الإمام الصادق» والذي دعى إلى فهم إجتماعي للنص الفقهي، مستثنياً فقه العبادات.
ويمكن أن تخف هذه الفكرة من غلواء الطابع التعبدي وتعميمه ــ فقهياً ــ لجميع الأحكام الشرعية العبادات منها والمعاملات على السواء.
وفي هذا الاطار يمكن أن نشير إلى الجمود الحرفي على النصوص الشرعية خارج حقل العبادات، وكمثال على ذلك نذكر مسألة (بيع العبد الآبق) الذي ورد فيه نص خاص أجيز بمقتضاه بيعه مع الضميمة مباحثات فقهية بين الفقهاء حول مدى مشروعية التعدي إلى غيره في البيع، بل في الاجارة أيضاً. والرأي المعروف ــ فقهياً ــ هو عدم جواز التعبدي.[9]
لكن يلاحظ على الشهيد الصدر قوله بالتعدي من المورد الخاص إلى غيره، وقد علّق على (منهاج الصالحين) وبالتحديد على مسألة عدم جواز بيع غير المقدور على تسليمه ولو بالضميمة بقوله: «المنع عن بيعه مع الضميمة مشكل، بل لا يبعد الجواز بمعنى ان كل ما كان يجوز جعل الثمن بازائه ابتداءً، يجوز جعله بازاء المجموع منه ومن غير المقدور على تسليمه».[10]
وربما يكون الشهيد الصدر أول من نبّه إلى دور المفاهيم الإسلامية في الاشعاع على بعض الأحكام الشرعية وتيسير مهمة فهم النصوص الشرعية، وهذا ما أشار إليه في كتابه «اقتصادنا» بشكل واضح.[11]
لكن تحسن الاشارة إلى أن دور المفاهيم الإسلامية في هذا الاشعاع إنما يمكن خارج إطار فقه العبادات وخارج إطار النظرة الفردية للأحكام الشرعية.[12]
محتويات بحث المنهج الفقهي عند الشهيد الصدر
1 تمهيد
2 هموم الفقيه
2.1 تعميق الثقافة الفقهية
2.2 تعميم الثقافة الفقهية
2.3 تحديث الخطاب الفقهي
2.4 تأصيل التفكير الفقهي
2.5 فقاهة فريدة
2.6 وعوداً على بدء، يمكن القول إنَّ الفقاهة إنما تتحقق بالتوفر على التالي
2.6.1 السمة الأولى ـ الاحاطة والشمول
2.6.1.1 وعوداً على بدء يمكن القول
2.6.2 السمة الثانية ـ الدقة والتأني
2.6.2.1 وقد علّق الشهيد الصدر على ما ذكره استاذه السيد الخوئي قائلاً
2.6.2.2 ويمكن أن نشير إلى عدد من هذه الدعاوى التي ناقشها في هذا الاطار
2.6.2.3 وثمة عدد من التطبيقات
2.6.3 السمة الثالثة ـ قوة الشخصية
2.6.3.1 وسرد بعض هذه المسائل قد يدعّم الاستنتاج المشار إليه أعلاه، ومن هذه المسائل
2.6.3.2 الشريف يقول
2.6.4 السمة الرابعة ـ التواضع العلمي
2.6.4.1 المنهج الفقهي عند الشهيد الصدر: ملامح عامة
2.7 مرحلة التوثيق
2.7.1 البحث الصغروي
2.7.2 البحث الكبروي
2.7.3 يمكن أن نحدّد شرائط تطبيق نظرية (التعويض) بما يلي
2.7.4 مرحلة فهم النص
2.7.5 مرحلة الموازنة بين النصوص
2.7.6 مرحلة استخلاص النتائج
2.7.6.1 ثانياً ـ الطابع العرفي
2.7.6.2 ثالثاً ـ مرجعية الكتاب (القرآن الكريم)
2.7.6.3 رابعاً ـ روح الإسلام كمبدأ أعلى
2.7.6.4 خامساً ـ النزعة التاريخية
2.7.6.5 سادساً: المعطى العلمي
الهوامش
1 الصدر، محمدباقر، الفتاوي الواضحة ص93 ط دار التعارف / الثامنة / 1992 ــ بيروت.
2 الصدر، محمدباقر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، (بحث) نشر في مجلة الأضواء النجفية، راجع (الاجتهاد والحياة) حوار على الورق، ص153، محمد الحسيني ط مركز الغدير، ط اولى / 1996 ــ بيروت.
3 الصدر، محمدباقر، الإسلام يقود الحياة ص65 ط دار التعارف / بيروت 1990.
4 الصدر، محمدباقر، بحوث في شرح العروة الوثقى ج1/المقدمة ط2/ايران/ 1408هـ .
5 الصدر، الإسلام يقود الحياة، المرجع السابق، ص52.
6 الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، المرجع السابق، ص158.
7 الصدر، محمدباقر، منهاج الصالحين، ج2 / 126 ط 2 بيروت / دار التعارف ــ 1976.
8 الصدر، محمدباقر، الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق عليه السلام (بحث) في الاجتهاد والحياة، المرجع السابق، ص166.
9 الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى ج12 / 8 قم / 1404هـ ، مكتبة المرعشي.
10 الصدر، منهاج الصالحين، المرجع السابق، ج2 / 27.
11 الصدر، محمدباقر، إقتصادنا ص374 ط / العشرون ــ 1987 دار التعارف / بيروت.
12 الصدر، محمدباقر، الإسلام يقود الحياة، المرجع السابق، ص64.
تحميل البحث