الاجتهاد: نتناول في هذا البحث الأسلوب الاجتهادي للفقيه المتبحِّر والعالم العظيم آية الله البروجردي رحمة الله عليه، والذي يعدّ من مفاخر حوزة الاجتهاد الشيعية، وذلك حسب ما جاء على لسان تلامذته الذين لمع نجمهم على يديه. نتقدَّم بالشكر الجزيل من المرجع الديني آية الله الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي رحمة الله عليه*؛ الذي تجشَّم عناء المشاركة في هذا البحث.
بالنسبة إلى المعرفة التي تمتلكها عن السيد البروجردي، وما لك من وجهة نظر في بحث الرجال والدراية، وكذلك مكانتك بين أهل التأليف، فإنّ الأسئلة التي سنقوم بطرحها سوف تكون في هذا المجال. إلى أيّ حدٍّ كان البروجردي يهتمّ ويقدِّر علم الرجال على أنّه مقدّمة لاستنباط الأحكام الشرعية؟
الشيخ تجليل: كان للعلامة البروجردي”رحمه الله” طريقة خاصة في الاستنباط، على خلاف ما هو معمول به فعلاً بين الفقهاء، حيث كانوا يأتون بالحديث، ويجرون عليه الجرح والتعديل، وبعضها يتم قبوله، والبعض الآخر يرفض.
أما هو” ره” فكان يلقي نظرة على جميع الروايات، وكثيراً ما كان يؤكِّد على هذا الأمر، وهو أنه يوجد عدة أحاديث تتحدث حول موضوع واحد. وتعدُّد الأحاديث بالنسبة إلى موضوع يؤدّي إلى تأكيد توثيقه.
أحياناً تصل الروايات إلى حدّ التواتر، مما يفيد القطع بصدورها؛ وفي بعض الأحيان لا تصل حدّ التواتر، وإنّما توجب الوثوق، الذي هو معيار في حجّية خبر الثقة أيضاً. فالوثوق من أيّ شيء حصل فهو حجّة. والتعدّد وكثرة نقل الحديث بين الرواة منفرداً إنّما يفيد الوثوق. لذا كانت طريقته تعتمد على عدّ الروايات، ومن ثم إرجاعها إلى بعضها البعض؛ ليتأكد من أنًها فعلاً عشرة روايات تتحدّث عن هذه المسألة، ثم بعد ذلك يقوم بالاستنباط منها.
أما من الناحية الرجالية فإن السيد البروجردي يعطي أهمية لمعرفة «الأسانيد المعلولة». والأسانيد المعلولة هي أسانيد تُعرف إشكالاتها بالرجوع إلى «الطبقات». إذا ما لاحظت السند في (وسائل الشيعة) ترى أنّ الرواة ثقاتٌ، ولكنّه يقول: لا، هذا السند غير صحيح؛ حيث إن هذين الراويين لا يمكنهما أن ينقلا عن بعضهما؛ إذ إنهما ليسا من طبقة واحدة. وعليه فإن هذا السند يعتبر معلولاً، مع أنّ رواته ثقات.
هل تقصد أنّه يجب أن يكون الراوي والمروي عنه من طبقة واحدة؟
الشيخ تجليل: نعم، يجب أن تتّفق الطبقات مع بعضها من الناحية الزمانية. فعندما لا يمكن لراويين أن ينقلا من بعضهما؛ طبقاً للطبقات، فيكون معلوماً أنّ هناك راوٍ قد سقط، غير أنّه لا يُعرَف مَنْ هو الساقط. ومن هنا نلاحظ أنّ علم الرجال يشكِّل مقدّمة للاستنباط.
ما هو الابتكار الخاصّ للسيد البروجردي في علم الرجال؟
الشيخ تجليل: كان ابتكار السيد البروجردي في الطبقات، ولم يكن لدينا من قبل مثل هذا الترتيب في تصنيف الرجال. طبعاً كان هناك رجال الشيخ الطوسي في هذا المجال. فإنّ لديه كتابين: أحدهما: الفهرست؛ والآخر: الرجال. ورجال الطوسي له التفاتٌ إلى مسألة الطبقات،
فقد ذكر «مَنْ روى عن رسول الله “صلى الله عليه آله وسلم” في سجلٍّ منفرد عن الباقين من الرواة، أي إن كتابه كان بهذا الترتيب: «مَنْ روى عن أمير المؤمنين”عليه السلام”»، «مَنْ روى عن الحسنَيْن’”عليهما السلام”»، «مَنْ روى عن السجّاد”عليه السلام”»، إلخ، ويكمل بهذا الترتيب، وأخيراً له باب أيضاً تحت عنوان «مَنْ لم يَرْوِ عنهم”عليهم السلام” بلا واسطة». وهذا العمل يشبه ما قام به السيد البروجردي، ولكنْ في المرحلة الابتدائية من الطبقات. أمّا المرحلة النهائية فهو الترتيب الذي قام به السيد البروجردي.
ما هو معنى اصطلاح «الطبقة» في نظر البروجردي؟ وما هو الفرق بينها وبين الطبقة التي ذكرها الشيخ الطوسي؟
الشیخ تجليل: لم يرِدْ مصطلح الطبقة في رجال الطوسي، وإنّما هو من مصطلحات العلاّمة البروجردي.
وقد قسَّم الرواة إلى طبقات وفق الترتيب التالي:
الأولى: الرواة عن رسول الله”صلى الله عليه آله وسلم” مباشرةً.
الثانية: الرواة الذين لا يستطيعون الرواية عن رسول الله| مباشرةً، وإنّما يروُون عمَّنْ روى عن رسول الله مباشرةً، ويُقال لهم: (التابعون).
الطبقة الثالثة: الرواة الذين يروُون عن الطبقة الثانية.
ويكون الحديث المعنعن برواية كلّ طبقة عن سابقتها.
وقد بلغت الطبقات منذ هجرة رسول الله إلى زمن الشيخ الطوسي ـ أي في مدّة 460 سنة ـ اثنتا عشرة طبقة. ولو اعتبرنا أنّ العمر المعهود للإنسان هو 70 سنة فإنّ كلّ راوٍ يعيش 35 سنة معاصراً للطبقة التي قبله و35 سنة مع الطبقة التي بعده.
وبناءً عليه لو كان متوسط عمر الراوي سبعين سنة فإنّ عدد الطبقات منذ هجرة رسول الله إلى وفاة الشيخ الطوسي تبلغ 12 طبقة؛ وذلك أنّ كلّ طبقة تعيش سبعين سنة، منها 35 سنة مشتركة مع الطبقة المتقدّمة و35 مشتركة مع الطبقة المتأخِّرة،
فلو قسَّمنا السبعين إلى اثنين سينتج 35، ونضربه بـ 11 (وهي الحصص المشتركة بين كلّ طبقة وأخرى)، فسينتج 385، ونضيف إليها 35 سنة من عمر الطبقة الأولى، التي لم تشترك مع شيءٍ قبلها، و35 سنة من عمر الطبقة الثانية عشرة، التي لم تشترك مع شيءٍ بعدها، فيصبح المجموع: 455 سنة، وهو يساوي تقريباً سنة وفاة الشيخ الطوسي. هذا هو المعيار في تقسيم العلاّمة البروجردي للرواة إلى طبقات.
وهذا لم يذكره البروجردي، وإنّما استنبطناه، ويُعتبر من ابتكاراته.
ألا يوجد في كتب الرجال المتقدّمة شيئاً من هذا القبيل؟
الشيخ تجليل: عندما كنت منشغلاً بكتابة «معجم الثقات» كنتُ أبحث في الكتب الرجالية، فصادفت بينها كتاباً خطّياً لم يؤلَّف بصورة جيدة، أي إنه لم يكتب بطريقة منظَّمة.
ومن المعلوم أن هذا الكتاب كان مقدّمة للتأليف. هذه المقدّمة كانت عبارة عن كتاب يحمل اسم طرائف المقال في معرفة الرجال، مؤلّفه السيد علي أكبر بن محمد شفيع الموسوي، الذي كان معاصراً للشيخ الأنصاري”رحمه الله”. كُتب هذا الكتاب بخطّ صغير جدّاً، وهو نفس كتاب الطبقات الذي يعدّ كتاباً نفيساً.
والعمل الذي قام به العلامة البروجردي نفسه كان قد قام به هو أيضاً، ويختلف عن طبقات السيد البروجردي أنّه بدأ بها من نفسه، إلى أن أوصلها إلى رسول الله”صلى الله عليه آله وسلم”. وبهذا المعنى من التصنيف جعل الطبقة الأولى المؤلِّف نفسه، ثم الطبقة الثانية أستاذه، إلى أن يصل إلى أصحاب رسول الله”صلى الله عليه آله وسلم”، فيكون قد وصل إلى الطبقة الثلاثين.
ولكنّ المرحوم السيد البروجردي بدأ بالعكس، حيث جعل الطبقة الأولى أصحاب رسول الله، وقد رتَّبها إلى أن وصل إلى شيخ الطائفة، ومنه إلى الطرف الآخر، وقد صنَّفها طبقةً طبقة، ومكانه من بينهم في الطبقة الثانية والثلاثين.
وتتّضح فائدة هذه الطبقات في استخراج الأحاديث المعلولة. فعندما تقرأ الأسانيد تلاحظ أنّه يقول: إنّ السند خطأ، وإنْ كان كلّ رواته ثقات. وكان اصطلاحه الذي يستعمله في ذلك «معلول».
هذا السنّ المشترك، والذي قدر بخمس وثلاثين سنة على أقلّ تقدير، لا يمكننا احتساب عشرة إلى اثنتي عشرة سنة من النصف الأوّل على أنّها سنّ روائي. مع أنّه قيل في ابن عباس عند وفاة رسول الله”صلى الله عليه آله وسلم”: كان له من العمر بناءً على قولٍ إحدى عشرة سنة، وعلى قول آخر ثلاث عشرة سنة.
الشیخ تجليل: على أيّ حال بعد سنّ الثانية عشرة يحقّ له أن ينقل الحديث. أمّا مقدار الزمان فغير مهمّ. وعليه فإنّنا نحتسب الزمان في أربعمائة سنة وخمسمائة سنة، ويجب علينا أن نرى كم طبقة يكتنف هذا الزمان الذي قد احتسبناه.
إنّ وجهة نظرنا هي أنّ بين سنّ الثانية عشرة والخامسة عشرة لا يحتسب سنّاً روائياً. وبناءً على هذا فكلُّ راوٍ يعاصر الطبقة التي قبله عشرين عاماً كي يحتسب راوياً معاصراً.
الشیخ تجليل: ولكنّهما كانا متعاصرين في خمس وثلاثين سنة، والمفيد بالنسبة لنا هو عشرون سنة من عمرهم. وعلى أيّ حال يجب أن تنتهي الاثنتي عشرة سنة كي يصل إلى الوقت الذي يكون أهلاً لتحمُّل الحديث.
وهذا يعني أنّه على الفقيه أن ينتبه جيداً إلى ترجمة الراوي، وعلى سبيل المثال: «السكوني» ما هو تاريخ ولادته كي يروي الحديث عن الراوي الذي قبله؟ وعند نقله للحديث هل كان في سنيّ تحمّله للحديث؟
الشيخ تجليل: نعم، طبعاً في تعدّد الطبقات يكون الأمر كما أوضحت، وبهذا الترتيب.
ما سبب اعتبار الشيخ الطوسي أنّ الطبقات اثنتا عشرة؟
تجليل: السبب في ذلك أنّ الشيخ الطوسي آخر مَنْ كتب الكتب الأربعة، وأساس أحاديثنا في هذه الكتب الأربعة. فالكليني في الطبقة التاسعة، والصدوق في الطبقة العاشرة، والمفيد في الطبقة الحادية عشرة، والشيخ الطوسي في الطبقة الثانية عشرة.
قلتم: إنّ إحدى ميّزات السيد البروجردي هي إرجاع أكثر من رواية إلى رواية واحدة، إذا كان السند متعدّداً. والسؤال هو:
أوّلاً: ما هي الطريقة التي يتبعها في الإرجاع؟ وما هي معاييرها؟
وثانياً: إنّ تعدّد السند يستوجب تعدُّد الرواية بحسب العرف، أي إنّ تعدُّد السند يدلّ على تعدُّد الرواية، فكيف كان يجمع بينهما؟
الشيخ تجليل: هذا الأمر صحيح، ولكنّ إرجاعه كان مع ملاحظة السند. ولهذا نرى أحياناً أن جميع رواة السند من بدايته إلى نهايته مشتركين فيه، ومثل هذا الأمر قليلٌ جدّاً؛ وأحياناً يكونون مشتركين مع بعضهم البعض بمقدارٍ من السند؛ وأحياناً أخرى يشترك الرواة المتأخِّرون مع بعضهم أيضاً.
ويدلّ هذا كلّه على أنّ الرواية واحدة؛ وذلك لوجود اشتراك طبيعي في مقدار من السند؛ ولأنّ كُتّاب الكتب الأربعة، أمثال الشيخ والكليني والصدوق، كلّ واحد منهم لديه سند مستقل بالنسبة إلى المجاميع الأولية والأصول الأربعمائة، ولكن هل أنّ هذه الأسانيد المتعدّدة، والتي تنتهي بالمجاميع الأولية، يكون حديثها متعدّداً أيضاً؟ والحديث الذي نقله صفوان بن يحيى في كتابه يختصّ بنفس السند.
وقد دوَّن الشيخ الأعظم في كتابه التهذيب سنده. وكذلك الصدوق قد عيَّن في مشيخة مَنْ لا يحضره الفقيه أسانيده. والكليني نراه يكتب السند في المتن بشكلٍ واضح. ويختلف الكافي عن الثلاثة الباقين أنّه يكتب السند كاملاً دون أن ينقص منه شيئاً. فنحن عندما نفتح كتاب الوسائل نرى أنّ الأسانيد متعدِّدة، وهذا لا يدل على أنّها ثلاثة أو أربعة أحاديث، بل نلاحظ أنّه حديثٌ واحد، قد نقله كلّ واحد منهم بطريقته الخاصة.
كما نلاحظ أحياناً أنّ هناك فرقاً في السند ككلّ. والسند في الكافي من أوله إلى آخره نقله راويين اثنين فقط، أو أنّ الكافي والتهذيب ذكراه، ولكنْ كلٌّ على طريقته، ويختلف عن الآخر. ولكنْ لنفترض أنّ آخر راوٍ كان معاوية بن عمّار فهذا لا يعني أنّ الراوي فقط رجلٌ واحد، وهو معاوية بن عمّار، إنّما كان هو أحد أساتذة الحديث، وكثيرٌ من الرواة ـ كما أشارت كتب الرجال ـ قد أخذوا منه.
ففي الوقت الذي نقل فيه معاوية بن عمّار لأحدهم حديثاً في أحد المجالس قد يقابل في مجلسٍ آخر شخصاً ثانياً، وينقل إليه نفس ذلك الحديث، أو أنّ هناك مجموعة من الرواة مجتمعين في مجلسٍ واحد نقلوا الحديث مباشرة عن أستاذهم، فهل هذا دليلٌ على أنّ الأستاذ نطق بهذا الحديث أربع مرّات؟ ليس هذا بدليلٍ، إنما هو حديثٌ واحد نقله مجموعة من الرواة في مجلسٍ واحد.
لذلك فإنّ الاشتراك في جميع السند أو في بعضه (والبعض ينتهي بالمعصوم) إلى آخر راوٍ مشترك في ذلك السند ينفي التعدُّد. وبطبيعة الحال هذا لو كان المتن واحداً.
وأحياناً يوجد أيضاً متنٌ كامل منقسم إلى قسمين، وعندها يصبح من المؤكَّد أنّهما حديثان. جاء معاوية بن عمّار في أحد الأيام إلى الإمام الصادق”عليه السلام”، وأخذ منه حديثاً، وفي يوم آخر جاء وأخذ منه حديثاً آخر، وفي هذه الحالة يصبح الحديث متعدِّداً.
ولكنْ أحياناً يكون المتن واحداً، وإنّما يوجد اختلافٌ في كلمة واحدة منه، فيصبح معلوماً أن هذه الكلمة قد تجرّ على رأسه الويلات؛ فهي إمّا أن تكون قد اختلفت من نسخة إلى أخرى؛ أو أنّه قد وقع اختلافٌ عند تدوين الرواة للمتن. لذلك فإنّ وثوقنا بالنسبة إلى هذه الكلمة يعتبر سلبيّاً، فهل أنّ الإمام الصادق”عليه السلام” قد تلفّظها بهذا الشكل أم لا؟
وهذه الكلمة المختلفة من الجائز أن تسقط من الاعتبار، ولكنّ سقوطها لا يسلب منا العلم الإجمالي، إنما يصبح نفياً ثالث؛ أما تحديداً لا يثبت أيّ من الحديثين. فإرجاع الأحاديث له هذه الفائدة.
الفائدة الثانية للإرجاع هي أنّ تعدُّد الأحاديث يحصل منه الوثوق. فمن أجل أن نثبت التعدُّد يجب أن تكون لدينا هذه الإرجاعات؛ كي نثبت أنّ هذه الأحاديث متعدّدة أو لا.
إذا نقل أحد الرواة موضوعاً ناقصاً، ونقله راوٍ آخر كاملاً، كيف يكون عليه الحال عندئذٍ؟
الشيخ تجليل: لا يوجد هناك أيّ إشكال في هذا، بحيث إنّ أحد الرواة ينقل نصف الموضوع، وراوٍ آخر ينقل الأحاديث كاملة، حتّى وإنْ حدث هذا الأمر في مجلسٍ واحد. لذا نرى أنّ أكثر الأحاديث لا تسقط من الاعتبار. فنحن لا نأخذ الفقه فقط من الروايات، بحيث نقوم فقط بمراجعة الروايات، وعلى إثرها نستنبط الحكم، بل نعتقد أنّ علم الفقه مستمرٌّ لم ينقطع في وقت من الأوقات.
فقد تناوله الأصحاب يداً بيد منذ زمان المعصومين”عليه السلام”، وتتناقله الصدور إلى أنْ وصل إلينا. وهناك من الكتَّاب مَنْ دوَّن الحديث؛ ومنهم مَنْ لم يدوِّن، بل حفظه عن ظهر قلب، ولكنّ سلسلة الفقهاء لم تنقطع في أيّ زمن من الأزمان، وبعض المسائل مُسلّمةٌ، ولا تحتاج إلى دليل. والآن إذا استنبطتُ أنا شيئاً من إحدى الروايات فهناك رواياتٌ أخرى لديهم ما تزال باقية.
فالفتوى المستقرّة في فقه الإمامية من زمان المعصوم× إلى وقتنا الحاضر لا يمكن مخالفتها بواسطة إحدى الروايات ـ وإنْ كانت صحيحة ـ. والرواية المُعرَض عنها تُتْرَك وتسقط من الاعتبار.
تعدّ نظريّة اعتبار «الأصول المتلقّاة» من نظريّات السيد البروجردي المعروفة. فبرأيكم لماذا لا يوجد في بعض الأصول المتلقّاة رواية معتبرة، أي إنه لا يوجد لدينا رواية صحيحة أو موثّقة، مع أنّ هذه الأصول المتلقّاة موجودة أيضاً؟
الشيخ تجليل: الجواب عن هذا السؤال يتّضح بثلاث نقاط:
1ـ يقول العلامة البروجردي ـ والواقع هو كما يقول ـ: لم يكتب كتاب توثيق بين القدماء، والكتب الرجالية التي يُرى بها التوثيقات إنّما هي استطراديّة، قد كتبت ويقصد بها شيءٌ آخر غير التوثيق. فمثلاً: رجال شيخ الطائفة& كتبه من أجل توضيح الطبقات، وقام بتصنيف الرواة، ورتَّب أصحاب كلّ إمام^ في قسم من الأقسام بشكلٍ منفصل. وبناءً على هذا لم يكن هدفه من كتابة كتاب الرجال التوثيق، بل أراد أن يعين الطبقات.
أما فهرسته فمن الواضح أيضاً أنّه إنّما كان لتسجيل أسماء المؤلِّفين الشيعة، وفي بدايته قام بتسجيل أسماء المصنِّفين والمؤلِّفين فقط. واستطراداً قد يوجد تعبير (الثقة) في أحد الأماكن من كتابه. وبنفس الأسلوب سار النجاشي في كتابه الرجالي.
فهو عبارةٌ عن فهرست مؤلِّفين. طبعاً العادة المتَّبعة في فهارس أزمنة المتأخِّرين أن تفهرس أسماء الكتب بالترتيب المتَّبع في ذلك الوقت، ولكنْ في ذلك الزمان لم يكن هناك ترتيب بأسماء الكتب، بل كان الترتيب حسب أسماء المؤلِّفين. ومن الملاحظ أنّ هذا الأسلوب متَّبع في المكتبات الكبيرة؛ حيث إنهم قد أدرجوا أسماء المؤلِّفين مع أسماء الكتب.
في تلك الأزمنة أحياناً عندما يترجمون للمؤلِّفين فإنهم في نفس الوقت يدوِّنون توثيقهم. أمّا رجال الكشي فإنه يذكر الرواة الذين يروُون الأحاديث التي ينقلونها عن المعصومين^. وبناء على هذا لا يوجد لدينا بتاتاً كتاب توثيق، بحيث نقول: إن هذه توثيقات القدماء من الرواة. وفي هذه الحالة إذا لم يكن أحدٌ بين أولئك فهو غير موثَّق. وهناك الكثير من الثقاة الذين لم يصلنا توثيقهم.
في الطبقات بعد الشيخ كان المحدّثون عبارة عن العلماء والفقهاء أنفسهم. وقد رتَّبوا الأثر حسب الأحاديث المرويّة. ففي الوقت الذي لا يحرز أحدٌ بصورة مسلَّمة توثيق الفقهاء فلا يعملون بحديثه. فليس معنى الوثاقة أنه جاء حول فلان: هذا الرجل ثقة، فأحياناً الوثوق بالكلام وصدق القول يحصل من العَدْل وغيره، وهذا كافٍ لنا؛ لأنّ حجية خبر الثقة لدى العقلاء ليست تعبدية، وعليه فالوثوق أيضاً معيار للحجّية.
ومتى حصل الوثوق تمّت الحجّة، مهما كانت الجهة التي يحصل منها الوثوق. وقد ذكر صاحب الوسائل قرائن كثيرة تفيد في حصول الوثوق.
النقطة الثانية في الموضوع أنّ اصطلاح «صحيح» جاء بعد العلاّمة، الذي يعدّ من المتأخرين. كان المحقّق& رأس سلسلة المتأخِّرين، وهو أستاذ العلاّمة. فاصطلاح «صحيح» يقال للحديث الذي يكون جميع رواته عدولاً، فالمطلوب العدالة، لا مجرّد الوثاقة. طبعاً بعد الشيخ الأنصاري& تغيَّرت النظرة، فحلَّت الوثاقة محلّ العدالة.
وقيل: كلمة «الثقة» في كلمات القدماء أخصّ من كلمة العَدْل، وربما استفادوا من كلمة الثقة مكانة أسمى ممّا يستفيدونه من كلمة العدالة. لذلك في تحقّق العدالة يكفي للإنسان أن يجتنب عن الكبائر، ولا يصرّ على الصغائر، ولكنْ في الوثاقة بالإضافة إلى ذلك يعتبر وجود الضابط أيضاً، أي الذي له قدرةٌ جيِّدة على الحفظ، ويكون ضابطاً لما قد حفظ.
أما قبل العلاّمة فقد كان لكلمة «صحيح» في الحديث معنىً آخر. والصحيح هو الحديث المعتبر، والذي له حجّية، من أيّ جهةٍ كانت. ولا فرق بين أن يكون راويه عادلاً أم لا. فمن أيّ جهة تثبت حجّيته، ولو بعمل الأصحاب، حيث نقول: إن عملهم يجبر ضعف السند، من أي جهة تثبت لنا صحّة الحديث يكون صحيحاً. وغير مهمّ أن يكون هذا الحديث موثَّقاً أم لا.
النقطة الثالثة هي أنّ مبنى العلامة البروجردي حول «الأصول المتلقّاة» كانت بهذا الترتيب، وهو أنه قد قسَّم فتاوى الفقهاء إلى ثلاث مجموعات، هي:
الأولى: تتألّف من فتاوى الفقهاء الشيعة المتلقّاة من المعصوم× مباشرة، تناقلتها الأيدي يداً بيدٍ سالمةً لم يطرأ عليها تغيير. حتّى أنّهم لم يدخلوا شيئاً من تعبيراتهم على تلك الفتاوى، ولم يطرأ عليها أيّ تغيير. وقد قال عن هذا: كتب الشيخ& في أول المبسوط: لقد رأيتُ مَنْ ينتقد فقهاء الشيعة بأنّهم لا يبدون آراءهم في مؤلَّفاتهم، بل هم يذكرون فقط كلّ ما يأخذونه من المعصوم×، لذلك كي أجيب على هذا الانتقاد كتبتُ كتاب المبسوط، وقد بدأتُ بالتفريع.
نحن نعلم أنّ فقهاء الشيعة لا يعتقدون بالقياس والاستحسان كحجّة يؤخذ بها، ولذلك هم يأخذون مسائلهم التعبُّدية كما هي من دون تدخُّلٍ من المعصوم×. فعندما نرى في كتاب فقهيّ فتوى ممتدّة لعصور يتّضح أنّ هذه المسألة قد صدرت من المعصوم×. فهل من حديث من هذه الأحاديث التي بين أيدينا له دلالة على ذلك أم لا يوجد؟
إنّ فتاوى الفقهاء في المسائل التعبّدية لا تؤخذ من أيّ مصدر آخر غير المعصومين^، وهم ليسوا فقيهاً واحداً أو اثنين، وإنّما هذه حال الفتوى منهم في جميع العصور، وهي كاشفةٌ عن قول المعصوم×، وتعتبر لنا حجّة. ويعتبرُ هذا النوع من مسائل الشهرة حجّة.
وبالإضافة إلى هذا، من الأحاديث الفعلية المتداولة لا يوجد حديث موثَّق يدل عليها. أما الأحاديث غير الموثَّقة فمن الجائز أن يكون لها دلالة على ذلك. فمن أين لك أن تدَّعي أنّ هذا الحديث الذي لا توثيق لبعض رواته لا يكون أولئك الرواة ثقات واقعاً؛ لأن التوثيقات ليست هي الوحيدة التي وصلت إلينا.
وثانياً: إذا لم يكن الراوي نفسه ثقةً، وثبت من طريقٍ آخر أنّ كلامه كان صادقاً، فمن المسلَّم أنّه سوف يحصل الوثوق.
الثانية: وهي الفتاوى التفسيرية. فهي ليست كأسلوب اقتبس من نفس مأثور ألفاظ المعصوم×، ولكن هناك مستندات ونصوص في كلمات المعصوم× نعلم أن الفقهاء قد قاموا بتفسيرها. ومن البديهي أنّ تفسير هؤلاء ليس له حجّية لدينا.
مثلاً: عنوان (كثير السفر) ليس له وجود في الأحاديث. فبعض قدماء الفقهاء جاؤوا بتعبير كثير السفر، والبعض الآخر منهم قالوا: مَنْ كان سفره أكثر من حضره. وكلّ واحد منهم استنبطه بطريقته الخاصّة، ولكنّ الذي جاء في النصوص: شغله السفر، وكذلك يوجد فيها مَنْ كان بيته معه.
وعلى هذا الأساس فإنّ السيد اليزدي في العروة الوثقى ترك تعبير القدماء، ووضع المعيار العنوانين اللذين جاءا بعد ذلك. وهناك فقهاء آخرون اتّبعوا ما سار عليه السيد اليزدي. إذن القسم الثاني الذي هو عبارة عن التفسير ليس بحجّة لدينا أيضاً.
الثالثة: الفتاوى التفريعية. وهذا النوع لم يُؤْثَرْ عن المعصوم× نفسه، ولكنها استُنبطت من المسائل الأصلية، ثم فُرِّعت بعد ذلك. وفي هذا التفريع من الجائز أن يكون قد حصل خطأٌ أيضاً، لذا فإنّ التفريع الذي كان موجوداً في كتب القدماء لا يعتبر لنا حجّة، ويجب علينا أن نبحث في صحّته.
هل أنّهم اجتهدوا واقعاً؟
الشيخ تجليل: نعم لقد اجتهدوا.
بناءً على ذلك، وبعد الذي تفضَّلتم به في النقاط الثلاث، فإنّ إبداء رأيهم ينتهي عند الفتاوى الأصلية التعبُّدية، التي هي بمحلّ حكم العقل وبناء العقلاء، وهذه غير موجودة فيها.
تجليل: إنّ استقرار فتاوى الفقهاء في مسألةٍ ما كاشفٌ عن قول المعصوم×. ومن المسلَّم أنّ عدالتهم لا تسمح لهم أن يكذبوا عليه. وهم لا يعتبرون الاستحسان والقياس كحجّة يعتمدون عليها في علمهم، إلى هذا الحدّ كان تعبُّدهم، بالصورة التي جعلتهم موضع طعن فقهاء أهل السنّة بأنّه ليس لهم رأيٌ مستقلّ.
مع أنّ السيد البروجردي كان يهتمّ بشهرة القدماء، إلاّ أنّا نراه لا يهتمّ بشهرة المتأخِّرين، ولا حتى إجماعهم، فهل كان يتصوَّر الشهرة بين القدماء بعنوان الأصول المتلقّاة؟
الشيخ تجليل: نعم؛ وذلك لأنّهم أخذوا الأحكام عن المعصومين^ يداً بيد. أمّا المتأخِّرون فقد استنبطوها؛ إذ ليس لديهم شيء جديد يضيفونه. فالموجود هو نفسه الذي بين أيدينا. فإذا ما أردنا أن نستنبط يجب أن نرجع إلى الأزمنة السابقة، فنفترض أنفسنا في زمن العلامة وما قبله وزمان شيخ الطائفة. لذلك فإنّ الأدلة الموجودة هي هي التي كانت بيد المتقدِّمين. وعلى أساس ما تقدَّم فإنّ شهرة المتأخِّرين لا تعتبر حجّة لنا.
ما هو الفرق بين كتب الفهرست والكتب الرجالية؟ فكما تفضَّلتم أنّ هذه توضِّح الطبقات وتلك تذكر فهرست المؤلِّفين. ولكنْ بما أنّ بعض الأساتذة يميل أكثر إلى كتب الفهرست والتوثيقات، في مقابل كتب الرجال، فما هو برأيكم مبناهم في ذلك؟
الشيخ تجليل: الكتب الرجالية بين القدماء كانت من قبيل: رجال الشيخ الطوسي، وفهرست النجاشي، أما غير هذه الكتب فلا يوجد بين أيدينا شيءٌ منها.
يتردَّد في بعض الدروس أنّه يوجد فرقٌ بين الرجال والفهرست؛ حيث إنّه في الرجال رأي المؤلِّف مركَّز على الطبقات، ولكنْ في الفهرست بالإضافة إلى ذلك يتمّ شرح حال المؤلِّف أيضاً. وبناءً على هذا تكون الآراء المقدّمة في الفهرست أكثر دقّة من كتب الرجال.
الشيخ تجليل: في الفهرست لا يشرحون الحال، إنّما يفهرسون أسماء المؤلِّفين.
يعتني النجاشي كثيراً في أن يكون سنده متّصلاً بصاحب الكتاب. أما بالنسبة إلى التوثيق فغير موجود إطلاقاً. في الفهرست لا يبحث وثاقة الراوي، وإنْ كان أحياناً يذكر وثاقته استطراداً؛ إذ لم يكن هدف الكتاب التوثيق. وبناءً عليه لا يوجد لدينا كتاب رجال بهذه الصورة، فقط رجال الشيخ، وهذا أيضاً به توثيقاتٌ قليلة.
هناك أمور يكون الراوي فيها ـ بنظر كتب الرجال والفهرست ـ مجهولاً، مع أنّه يكون موجوداً في سند الروايات، ولكنْ عند مراجعة كتب الرجال نرى أنّه لا يوجد له فيها توثيق.
الشيخ تجليل: ذكرتُ سابقاً أنّ النجاشي قد دوَّن في كتابه أسماء المؤلِّفين فقط، وكثير من الرواة لم يكونوا من المؤلِّفين. أمّا الرجاليّون المتأخِّرون ـ بعد عصر العلاّمة ـ، كرجال الإسترآبادي، ورجال المامقاني، وحتّى الذين كانوا قبلهما، فقد كانت فكرتهم استيعاب جميع الرواة. وحيث إنهم كانوا يعدّون من الناحية الزمانية من المتأخِّرين فقد قاموا بتسجيل أسماء كثير من الرواة الذين وردت أسماؤهم في الأزمنة المتأخِّرة.
ثانياً: وبتتبّعهم للأسانيد قاموا باستخراج الأسماء؛ فمنهم المؤلِّفون؛ ومنهم غير ذلك. وعلى هذا الأساس، وبما يحضرني، فقد سجَّل المامقاني ما يقارب ستّة آلاف راوٍ في رجاله، في الوقت الذين كانوا في كتب القدماء أقلّ من هذا العدد بكثير. إذن من الرواة الذين قمنا بتدوين أسمائهم في كتب الرجال رواةٌ قد ذُكرت أسماؤهم في إسناد الروايات ولم يسبق أنْ كان لهم وجود.
فإذا ذكرت في كتب الرجال فهذه غنيمة مضافة إلى كتب الرجال. وهناك الكثير من الرواة الذين وردت أسماؤهم، ولكن لا يوجد شرحٌ عن أحوالهم. فقد كانت أسماؤهم في الأسانيد واضحةً للعيان، وكذلك وردت في كتب الرجال، ولكنْ في حال لم يذكر عنهم شيء فلا يمكن الجرح بهم؛ لعدم وجود ما يثبت الجرح.
من هنا؛ وحيث إنه يوجد نقلٌ بالمعنى واختلافٌ في النسخ بين الروايات والمتون، فهل يوجد حلٌّ للمشاكل الناتجة عن مثل هذه الأمور؟ ولتوضيح الأمر أكثر نقول: حيث إن اختلاف النسخ أحياناً يكون سبباً في تغيير المعنى فما الذي تقترحونه كي تكون هذه الروايات حجّة؟
الشيخ تجليل: لو كان هناك اختلاف في النسخ فسوف يصبح عندنا علمٌ إجمالي وشكّ في شخصيّة الراوي، مَنْ هو؟ والحلّ الذي من خلاله نستطيع أن نشخّص صحة الرواية من عدمها هي التمرُّس في دراسة الأسانيد، ومن خلالها تتّضح شخصية الراوي. فمن الجائز أن هذا السند يذكر في خمسين حديثاً من أبواب الفقه المختلفة. فبكثرة المراجعة والتمرّس في دراسة الأسانيد ربما يتمّ التوصل إلى تحديد النسخة الصحيحة.
وعلى سبيل المثال: نلاحظ أنّ هذا الأمر موجودٌ في عبد الله بن سنان ومحمد بن سنان. فكلاهما ابن سنان، ولهذا من الجائز أن يكتب مكان عبد الله بن سنان محمد بن سنان، أو بالعكس.
ولكنْ مع التمرُّس في دراسة الأسانيد نعلم أنّ الذي ينقل عن الإمام الصادق× من دون واسطة هو عبد الله بن سنان، وليس محمد. أمّا محمد بن سنان فإنّه ينقل عن الإمام الصادق× بواسطةٍ واحدة. وعلى أيّ حال هذه المسألة تعرف بالتمرُّس.
وهل يختلف الرواة؛ مثلاً: عبد الله بن سنان نوع أسئلته فقهيّة، وأسئلة محمد بن سنان في البحوث الفقهيّة والكلامية؟
الشيخ تجليل: مع أنه يوجد لمحمد بن سنان أحاديث كثيرة في أبواب الفقه، إلاّ أن بعض المتأخِّرين يضعِّفونه، وهو محلّ إشكالٍ لديهم. ولكنْ مع فحص الإسناد سوف لن يكون هناك مجالٌ للتضعيف.
أما إذا كان في متن الحديث اختلافٌ فأفضل طريقة لمعرفة الصحيح هي مراجعة فتاوى الفقهاء، فهم أوصلوا إلينا الأحاديث يداً بيد، ونحن على ضوء فتواهم نصدر فتوانا. وبهذا يتّضح أنّ النسخة التي كانت بأيديهم هي النسخة الصحيحة.
ما التغيير الذي يطرأ على المعنى جراء مشكلة النقل، وخصوصاً أنّه عندما نراجع الروايات نلاحظ أنّ الراوي إنْ كان عربياً ذا معرفة وعلم تكون عباراته منقَّحة، أمّا إذا كان أعجمياً، أو غير قادر على إيصال كلامه؛ لضعفه لغويّاً، فمن الطبيعي أنّ عبارته لن تكون منقَّحة. فكيف يمكننا حلّ هذه المشكلة، مع ملاحظة جواز نقل الحديث بالمعنى؟ وكيف يمكننا أن نعتمد على ألفاظ الروايات؟
الشيخ تجليل: يجوز نقل الروايات بالمعنى إذا لم يكن هناك إشكالٌ في النقل، ليس في الأحاديث فقط، بل بكلّ إخبارٍ عن مسألة يكون النقل بهذه الطريقة. فالذي يخبر عن روايةٍ ما لا يجب عليه أن ينقل ألفاظها حرفياً؛ فربما نقلها مترجمةً إلى لغة أخرى، أو أنه نقلها بنفس اللغة ولكنْ بألفاظ أخرى تكون متداولة بين الناس.
وفي هذا المجال جوَّز العقلاء الاكتفاء بترجمة الألفاظ، أي إنه نفس اللفظ، ولكنْ يستخدم معناه في لغة ثانية، لا أنّه يستنبط وينسب استنباطه إلى الإمام؛ إذ في هذه الحالة لا يجوز قطعاً. وكذلك في باب الشهادة يجوز عقلاً النقل بالمعنى.
مثلاً: في الشهادة نقول: لا بدّ أن تكون عن حسِّ، أي إنه يجب أن يكون قد سمعه بأذنَيْه، ومن ثم يقوم بنقله، لا أنّه يستنبطه، ويقوم بتكرار استنباطه. فالاستنباط خطأٌ. والنقل بالمعنى هو أنّهم يقولون: ماء ونحن نقول: آب. ففي باب الحجية ـ إنْ كان في باب الشهادة أو في باب آخر ـ هذا المقدار من النقل بالمعنى يجوِّزه العقلاء، ولكنْ يوجد احتمال الخطأ في نقل المعنى. وعلى أيّ حال أصل عدم الخطأ أحد الأصول العقلائيّة الجارية هنا.
المشكلة الأساسية هي أنّ الناس يختلفون في تحمُّل الحديث كما يختلفون في تحمُّل الشهادة. فالواقعة يراها عدّة أشخاص، ولكنْ عند نقل نفس هذه الواقعة الملموسة، ومع أنه لا يوجد فيها مجال للكذب؛ لتعدُّد الذين شهدوها، ونعلم بوثاقة الناقلين، ولكنّها كحادثةٍ واحدة نُقلت بطريقتين. وفي قضية تحمُّل الحديث أيضاً تجري الصورة نفسها. فمثلاً: زيد الشحام ومحمد بن مسلم يختلفان من ناحية تحمُّل الحديث.
الشيخ تجليل: من الطبيعي أنّه في حال وجود تعارض من الجائز أن نعوِّل على هذه الأمور. فمَنْ كان أوثق، وعنده قدرة على تحمُّل للحديث، يمكن الاعتماد عليه أكثر. مثلاً: عمار الساباطي كان أعجمياً، وأحياناً يُرى في حديثه اضطراب. مثل هذه الحالة موجودة، وإذا كان يوجد معارِضٌ له، ففي هذه الحالة يجب الترجيح.
بالالتفات إلى أنّه ليس جميع الرواة كانوا أصحاب ألواح، وكلّ واحدٍ منهم قد سمع مسألة في مجلسٍ من المجالس، وقام بنقلها، وفي سماعهم لتلك المسائل لم يقصدوا أن يكذبوا، وينسبوا ذلك الكذب أيضاً إلى الأئمة، فكيف ينبغي حلّ هذا المسألة الصعبة؟
الشيخ تجليل: لا، إنّ الرواة كانوا يدوِّنون جميع الأحاديث. فليس الأمر أنّ الإمام الصادق× كان يتكلَّم ساعة كاملة، وهم بدورهم يكتبون ما يقول في عدّة أوراق. فغالباً ما يأخذ الحديث الذي يتفضَّل به الإمام سطرين أو ثلاثة، فيقوم الأصحاب بتدوينه.
وكان من أصحاب الإمام الصادق”عليه السلام” أربعمائة نفر يكتبون الحديث، وبعده أصبحوا أصحاباً لثامن الأئمّة^؛ لأنّ الإمام موسى بن جعفر”عليه السلام” كان وقته لا يسمح أن يُكثر من الحديث. كما أنهم كانوا أصحاب مؤلَّفات وكتب. وبالإضافة إلى أنّها كانت أحكام الله، ودقّتهم فيها أكثر من
الأمور الأخرى، فإنهم يحاولون أن لا يجروا أقلّ تغيير على النصّ، وذلك بأن يدرجوه كما هو.
ولكنْ يوجد مثل هذا الأمر، وهو أن يقوم راوٍ بنقل مسألة من المسائل، ويأتي آخر ويسجِّل نصفها، ولا يوجد في هذه الأمر أيّ مشكلة. فالمقدار الذي نقلاه يعتبر حجّة، ولكنّ الجزء الذي لم ينقلاه لا نعلم إنْ كان قد قاله الإمام”عليه السلام” أم لا.
في أخبار الثقة بنى العقلاء على العمل بخبر الثقة، وينفي العقلاء هذه الاحتمالات ـ الخطأ والزلل والزيادة والتغيير ـ. ومن المؤكَّد أنّ احتمال النقص يبقى قائماً، ولكن لا ينبغي أن يكون عدم نقل جزء من الحديث مؤدّياً إلى خللٍ في المعنى، أمّا في احتمال الزيادة فإنّ العقل يقول: نجري أصالة عدم الزيادة.
بناءً على ما تفضَّلتم به يتّضح أنّ العقلاء لديهم شكٌّ في هذه المسائل؛ لأنّ موضوع الأصول يبتني على الشكّ. فهناك احتمالٌ للخطأ والنقص والزيادة، ومثل هذه الأشياء موجودة، ولكنّ العقلاء لا يعتنون بهذه النوعيّة من الاحتمالات.
الشيخ تجليل: نعم، الأمر كذلك، كحجّية الظواهر مثلاً. فمن المحتمل أنّ المتكلِّم يريد خلاف الظاهر، وهذا يحدث كثيراً، إلاّ أنّ العقلاء لا يرتِّبون على هذا الاحتمال أيّ أثر.
نسلِّم ببناء العقلاء على قبول خبر الثقة عندما تنقل نفس العبارة والألفاظ، ولكنْ عندما يكون النقل بالمعنى فإمّا أنّه لا يوجد بناءٌ من العقلاء، أو على الأقلّ لا نحرز وجود مثل هذا المبنى.
الشيخ تجليل: ليس الأمر بهذا الشكل؛ فإنّ بناء العقلاء يكون أوّلاً على جواز النقل بالمعنى، وثانياً على حجّية النقل، سواء كان النقل بالمعنى أم باللفظ نفسه. وفي النقل بالمعنى ليس لنا حقّ التصرُّف، والإنسان الثقة لا يستنبط شيئاً من أحكام المعصوم ومن ثم ينسبه إليه، بل يجب عليه أن ينقل نفس الكلمات التي قد تلفَّظ بها المعصوم”عليه السلام”.
إذن يمكننا تفسير النقل بالمعنى بطريقين: إحداهما أنّ المراد من النقل بالمعنى الترجمة.
الشيخ تجليل: لا يجوز أكثر من هذا الذي تفضَّلتم به.
الصورة الثانية أن يصاغ مضمون ومحتوى الجملة في قالبٍ آخر.
الشيخ تجليل: هذا يعدّ استنباطاً. ولا يمكن نسبته إلى المعصوم.
ليس من الضروري أن يستنبط. فعندما ينقل الجملة بالمعنى فإنّ رونقها الأصلي سوف يختفي. فمثلاً: كلمة «فـ» تصبح «ثمّ»، أو مكان «فـ» يضع «ثمّ».
الشيخ تجليل: الرواة أهل لسان فصيح وعرف. والمفهوم العرفي أنّه عندما ينقل اللفظ يجب أن يأتي بنفس معناه، لا أن يأتي بجزءٍ منه ويحذف الجزء الآخر ويأتي بقرينةٍ تدلّ عليه. فمثل هذه الأشياء لا يسمح بها العقلاء، ولا نعتبر مثل هذا الشخص ثقةً وعادلاً. كيف نتصوَّر أنّ شخصاً يغيِّر المسائل من نفسه بالصورة التي تؤثِّر في تغيير قصد الإمام”عليه السلام” من الحديث؟! هذا خلاف أصل العقلاء.
طبعاً الاستنباط غير ممنوع؛ حيث إن الإمام”عليه السلام” لم يمنعه، ولكنْ يجب أن لا ينسب إلى الإمام. والترجمة أيضاً أحياناً تكون بلغةٍ أخرى، وأحياناً بنفس اللغة، ولكن يتمّ التعبير عنها بألفاظ أخرى.
تعتبر الكتب الفقهية بالنسبة إلى متون الحديث مرجعاً ومستنداً، ويعتمد عليها في تشخيص متون الأحاديث، كما أنّ المستند في تشخيص نسخ الأسانيد المحرَّفة الكتب الرجالية.
إلى أيّ مدى بإمكان كتب مثل: جامع الرواة؛ ومعجم رجال الحديث؛ وأمثالها، أن تحلّ مشكلة إسناد الروايات في النسخ المحرَّفة؟
الشيخ تجليل: أحبّ أن أبيِّن هنا أنّ كتاب جامع الرواة من أفضل الكتب التي يقصد منها تعريف «مَنْ روى عنه الراوي» و«مَنْ يروي عنه». فكلّما جاء باسم راوٍ من الرواة يذكر عمَّنْ يروي، ويسلسل الأسانيد المأخوذ عنها من الأوّل إلى الآخر، ويذكر أيضاً الأشخاص الذين روَوْا عنه.
وهذا العمل نلاحظه بصورة أدقّ في كتاب معجم الرجال. لذا بعد أن تمَّت طباعة جامع الرواة أصبح هذا الأمر أسهل. بالإضافة إلى هذا فالظاهر أن السيد الخوئي كان قد كلَّف مجموعة بمتابعة هذا العمل، ولعلّ أهمّ فائدة لهذا الكتاب أنّهم قد استطاعوا فعلاً تمييز المشتركات.
فمثلاً: أحمد بن محمد هو عبارة عن شخصين في طبقةٍ واحدة، وهما: أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري؛ وأحمد بن محمد بن خالد القمّي. ولكنْ عندما نقارن بين الراوي والمروي عنه في كلا الراويين نعلم الذي يفرّق أحدهما عن الآخر. وكذلك الأمر في محمد بن يحيى. وأفضل فائدة لهذا العمل هي تمييز مشتركات الرجال، الذي يعتبر عملاً مهمّاً جدّاً.
طبعاً قام البروجردي أيضاً، ومن خلال بحث دقيق، بنفس هذا العمل الموجود في الأسانيد. كان يقول في وقت من الأوقات: أنا سابقاً لم أرَ كتاب جامع الرواة، ولكنّي سمعتُ أنّ هناك كتاباً بهذا الاسم، فظننتُ أنّه ما كان من الضروري أن أتكبَّد تلك المشقة، وعندما انتقلتُ إلى قم أحضرتُ نسخةً منه؛ لأطّلع عليها، فلاحظت أنّ المعلومات التي قد أوردتُها في رجالي غير موجودة في جامع الرواة. بعد ذلك أمر بطباعة ذلك الكتاب.
مع ملاحظة الكتابين اللذين ذكرا سابقاً يوجد لكم كتابٌ تحت عنوان معجم الثقات. فما هي الفوائد والمعلومات التي نستفيدها منه ولا نجدها في الكتب الرجالية السابقة؟
الشيخ تجليل: الغرض من كتابة (معجم الثقات) هو أنّ الذي يدرس الفقه يجب عليه أن يبحث في الأسانيد المتعلِّقة بالحديث. فالذي يريد أن يراجع خلال استنباطه الفقهي لا يوجد لديه مجال كي يراجع الشروحات المفصَّلة. ففكّرتُ كي أسهِّل العمل أن أضع فهرستاً بأسماء الثقات.
ولكي يصبح العمل أفضل أذكر بعض المعلومات عنهم بصورةٍ مختصرة. والعمل الثالث الذي أقوم بتدوينه هو كيفيّة تمييز المشتركات. وأفضل سبيل لذلك كان ترتيب الطبقات، وهي نتيجةٌ لما قام به معجم الرجال وجامع الرواة. ففي الوقت الذي كنتُ أكتب جامع الثقات لم يكن هناك معجم الرجال، فتأكّدتُ أنّ جامع الثقات مكمِّلٌ لعمل الخوئي، وأشمل من جامع الرواة. فالعمل الذي قام به الفاضلان كان الأساس لتحديد الطبقات، وقد نتج عن تحديد الطبقات كتابا جامع الثقات.
فمن خلال البحث عن الراوي والمروي عنه يظهر للعيان أنّ هذا الراوي من أيّ طبقة هو. وعندما يستنبط ترتيب الطبقات يتبيَّن مَنْ هو راوي الطبقة الأولى ومَنْ هو في الثانية والثالثة، وهكذا.
وهذا عملٌ ممتاز جدّاً، وينبغي أن يتمّ إنجازه بعد العمل الذي قام به هذان الفاضلان. وهذا العمل لم أقُمْ أنا بأدائه، بل الذي قام به هو العلامة البروجردي. وقد ذكرتُ سابقاً أنّني وفي أثناء تأليفي لكتاب طرائف المقال لاحظتُ أن هذا نفس العمل الذي سبق وقام به. ولكنْ للأسف لا توجد منه نسخةٌ، وهذه النسخة قد أخذتُها من الشيخ النجفي.
وبعد ذلك نويتُ السفر إلى الحجّ، ولم أشأ أن تبقى هذه النسخة النفيسة في بيتي، فقمتُ بتسليمها إليه. ولم أجدها في فهرست النسخ الخطّية الموجودة في المكتبة، ولا أعلم أين هي الآن! وعلى أيّ حال لم يكمل تأليفها. ومجموعة من الطبقات التي لم أجدها هنا استخرجتُها بنفسي.
وبعد أن طبع كتاب البروجردي تجريد الأسانيد هناك مجموعة من الطبقات قد كتبت في أوّله أضفتُها إلى الطبعة الثالثة من معجم الثقات، بحيث إذا كان هناك اختلافٌ في تنظيم الطبقات يتّضح في هذه الطبعة. فما كنتُ أتصوَّر أنّ كتاباً بهذا الحجم القليل، ككتاب معجم الثقات، يكون كاملاً في تسجيل أسماء الرواة.
في باب الشهادات يقبلون الشهادة الحسّيّة، ولا تقبل الشهادة «عن حَدْس». وبناءً على هذا كيف تكون شهادة أمثال النجاشي وابن الغضائري وبقية الرجاليين بالنسبة إلى الأئمة المعصومين”عليهم السلام” عن حسّ؟ وبالإضافة إلى هذا فإن النجاشي وأمثاله لم يذكروا سلسلة سندهم المتّصلة بالشاهد.
الشيخ تجليل: بما أنّ الشهادة عن حسٍّ تعدّ معتبرة فلا يوجد هناك مجال للشكّ. فيقال: إنّ الشهادة التي تكون عن حسٍّ إمّا أنها محسوسة أو قريبة من الحسّ. هناك بعض الأشياء باطنية لا تُرى بالعين المجردة، مثل: الشجاعة وحسن الخلق وغير ذلك؛ لأنها قريبة من الحسّ، وآثارها القريبة مشهودة، وبناء على ذلك فإنّها تحتسب أيضاً من قسم المشاهدات عن حسٍّ.
والسؤال هنا هو: حيث إن فاصلة زمانية تبلغ مئتين إلى ثلاثمائة سنة تقع بين النجاشي والرواة، والطوسي&، ومَنْ بعدهم، فكيف نعتمد على هذا التوثيق؟!
الجواب عن هذه الشبهة يكون بهذا الشكل: إنّ أصل مسألة اشتراط وثاقة الراوي هو أنّ الأئمّة نصّوا على أنه يجب الرجوع إلى الثقات. وفي بعض الروايات يُسأل الإمام”عليه السلام”: يا بن رسول الله، زكريا بن آدم ثقة؟ فيردّ الإمام”عليه السلام”: نعم، ثقة، قال: آخذ عنه معالم ديني؟ قال: نعم. وهكذا يجب أخذ معالم الدين عن طريق الثقات. وهذا الأمر هو بناءٌ عقلائيّ، وقد كان محلّ اهتمام الأئمّة”عليهم السلام”.
وعليه من الطبيعي أنّه في زمان الأئمة كان الرواة يُوَثِّقون بعضهم بعضاً. فهناك أشخاصٌ يعتبرونهم ثقة، يأخذون منهم الروايات؛ وربما كان هناك مَنْ لا يعتبرونهم ثقات، ويحجمون عنهم. مثلاً: يسألون الإمام عن الفطحيّة: يا بن رسول الله، كتبنا ملأى من أحاديثهم، فماذا نعمل بانحراف مذهبهم؟ قال الإمام”عليه السلام”: خُذوا ما روَوْا، وذَرُوا ما رأَوْا، أي اتركوا عقائدهم، ولكنْ خذوا رواياتهم، يعني بذلك أنهم ثقاتٌ يجوز لكم العمل برواياتهم.
وعلى أيّ حال كانت هذه المسائل موجودة بين أصحاب الأئمة^، وفي الأزمنة اللاحقة أيضاً. فمسألة التوثيق لم تكن وليدة الساعة في زمان الطوسي والنجاشي. ومن المسلَّم أنّ الذي يوثَّق في زمن الأئمّة فإنّ الطبقات تتوالى بعد ذلك على توثيقه، وبهذه الصورة على طول الزمان يتّصل عصرٌ بعصر إلى أن يصل إلى زمان الطوسي والنجاشي.
وهذا الاحتمال القريب هو أن النجاشي والطوسي كان لهما رأيٌ بتوثيقات الذين كانوا قبلهما، ولا يبديان اهتماماً بالذين لم يوثِّقهم المتقدِّمون؛ وذلك أنّ مسألة التوثيق لا تتأتّى إلاّ بالمعاشرة، ومن المسلَّم أنّ الشيخ والنجاشي لم يكونا في عصر الأئمّة “عليهم السلام” كي يعاشرا الرواة، وعليه فإنّ توثيقات الرواة تصبح بصورة يقينيّة مقبولة لدى أمثال الشيخ والنجاشي؛ لمعاصرتهم الأئمّة”عليهم السلام”.
وطبق ما ذكره الخوئي يحتمل أنّهم أخذوا الحديث كابراً عن كابر، كما سبق أن أخذوه من قبل، ومن ثم قاموا بدورهم بنقله إلينا. وبناءً على هذا لا يمكننا أن نقول بصورة جازمة: إنّ توثيقاتهم عن حدسٍ، لا عن حسّ، فمن المحتمل أن تكون هي نفسها توثيقات السابقين لهم. وفي مسألة الحجية يكفي هذا الأمر بالنسبة إلى العقلاء.
فإذا ما أدلى أحدٌ بشهادته لدى قاضٍ من القضاة موثِّقاً أحداً فلا يسأله من أين لك هذه المسألة؟ فعندما يكون الشاهد عادلاً يرتِّب القاضي على كلامه الأثر، مع أنّه يوجد احتمال أنّ الشاهد الذي قد شهد بوثاقة راوٍ من الرواة لم يكن قد عاشره، ولكنْ هناك مَنْ قد عاشره ممَّنْ يثق بكلامه، فأخذ منه توثيقه. وهذا الاحتمال لا يقدح في حجّية الشهادة، بحيث نقول: إنّها ليست عن حسٍّ.
وبناءً على هذا فإنّنا نعتبر توثيقات الرجاليين، أمثال: النجاشي؛ والطوسي، حجّة. أما التوثيقات التي قد جاء بها مَنْ جاء بعدهم، أمثال: العلاّمة الحلّي؛ وابن الغضائري؛ والآخرين، فقد أخذوها من هذين الفاضلين، أو عن طريق الحدس. مثلاً: ينقل الكشّي والآخرون ما ذكرته بعض الروايات من أحوال بعض الرواة، أو أنّهم يستنبطون حالهم من الروايات الواردة، أو أنّه يعرفون حالهم من سيرتهم وأوضاعهم، أو لأنهّم من شيوخ الرواية، فيستفيدون منها في توثيقهم.
يوجد هنا سؤالان حول هذا الموضوع: نطرح هذا السؤال حول القسم الأوّل من جوابكم: إذا كان النجاشي أو شيخه قد بيّنا الشهادات فيكونان قد بيَّنا سلسلة الشهود، أو أنّ تلك الشهادات كانت موجودة في الكتب والأصول.
.إلى هنا كان الأمر جيداً، ولكن نرى أنهما لم يبيِّنا تلك الشهادات، ولا نحن وجدنا مثل هذه الشهادات في كتب الأصول والجوامع، على فرض أنهم عدول، ومن أهل الخبرة، ومبنى العقلاء ينطبق أيضاً على ذلك، بمعنى أن خبر الثقة حجة إذا عُلمت الوثاقة بطريقةٍ ما، ونحن لا نعلم هل أنّ الذي وصلهما كان عن حسٍّ أو حدسٍ؟
وثانياً: على فرض أنّ الشهادة كانت عن حسٍّ فإذا ما تمّ لنا توضيح تلك الشهادات فمن الجائز أن نستفيد من تلك العبارة ما يخالف رأي الطوسي والنجاشي.
على سبيل المثال: ابن قولويه في أوّل كتاب كامل الزيارات يشهد أن الرواة الذين ينقل عنهم جميعهم من المشايخ والفضلاء، ويوثّقهم. وهنا نسأل: هل هو توثيقٌ للرواة المباشرين فقط أو يشمل الرواة غير المباشرين؟ وقد وقع الاختلاف بين العلماء في هذا المجال.
مثلاً: السيد الخوئي، في البداية ولمدّة ثلاثين سنة، كان رأيه أنّ شهادة ابن قولويه تشمل جميع المشايخ (المباشرين وغيرهم)، وفي أواخر عمره كتب رسالةً إلى وكيله في طهران يقول فيها: إني قد عدلت عن هذا القول، وهذه الشهادة تشمل المشايخ المباشرين لا غير. والمقصود من هذا هو أنهم لو وضَّحوا لنا الشهادة فمن الجائز أن نستفيد منها غير ما استفاده النجاشي أو الطوسي.
الشيخ تجليل: إنّ سبب عدم النقل هو أنه لم يكن قبل النجاشي والطوسي كتاب رجاليّ مألوف، وإنّما كانوا يسجِّلون متون الأحاديث فقط. ولم يكن هناك شيء آخر يدوّنونه يختصّ بالرجال. فكلّ الموجود كان نفس الأحاديث المسجلة، وإذا كان هناك شيء حول الراوي فهو ما يكون قد دُوِّن في الحديث.
مثلاً: إذا كان هناك مدح أو قدح فإنّهم يقومون بتدوينه، لكنّه لم يكن مألوفاً أن يكتبوا كتاباً لإثبات التوثيقات، بل كانوا يتناقلون الرواية من صدرٍ إلى صدر. وعلى سبيل المثال: أحد الشيوخ قد عاشر شيوخه 10 ـ 15 سنة فأخذ منهم أشياء كثيرة لم يسجِّلها في كتاب، ولكن هي معلومات قد تلقّاها من شيخه. بهذه الطريقة جاءت الأحكام والتوثيقات.
فمبنى العقلاء ينصبّ على أن لا يتتبَّعوا أمر الشهادات. فعندما ينقل المخبر العادل عن أمرٍ محسوس يقبلونه، وكذلك إن كان يحتمل أنّه قد استنبطه، فالخبر المحسوس والقريب من الحسّ مقبولٌ عندهم.
نعم، إذا كان الأمر غير محسوس لا يقبله العقلاء بعنوان شهادة. وفي مسألة غير المحسوس إذا كان الراوي خبيراً، أي ممَّنْ لديه خبرة في الرواية، لا شهادة، يُقبَل كلامه.
وثانياً: لو لم يُتقبَّل مثل هذا الكلام ففي آخر الأمر ينجرّ الموضوع كلّه إلى الانسداد, ونحن في الانسداد نصبح مضطرّين، ولا يوجد لدينا غير هذه الروايات التي بين أيدينا. فنضطرّ إما أن نخلط الغثّ والسمين ببعضه، أو على الأقلّ نضع كلامهم في ميزان التمييز. فعند باب الانسداد يجب علينا أن نرتِّب الأثر على توثيقاتهم. وما هو الأفضل للشيء، أن يكون أو لا يكون؟ فإذا كان هناك شيءٌ أفضل من هذا فهو، ولكنْ لم يوجد. فالموجود بين أيدينا حالياً هو هذا لا غير.
البعض بسبب الشبهات وصلوا إلى باب الانسداد. وهم لهذا السبب على الأقلّ قبلوا الانسدادالسندي.
الشيخ تجليل: الانسداد عبارة عن مراحل، ولا ينبغي أن نتبع الظنّ المطلق مباشرة.
لقد ذكرنا انسداد السند. فإذا لم يكن مألوفاً بين القدماء تدوين التوثيقات فستبقى مشكلةٌ وشبهة، وهي أنّه إذا دوَّنوا لنا لحن الشهادة ففي هذه الحالة قد يكون استنباطنا غير الذي استنبطه الشيخ والنجاشي، ما لم نقُلْ ـ كما قلتُم أخيراً ـ: إنّ هذا هو بناء العقلاء.
الشيخ تجليل: كلّ يوم يحضر مجموعة من الرواة في المجلس، وهذا الشخص تصدر منصب «شيخ الرواية» خمسين سنة، فكيف يجهل شخصه؟!
هناك جماعة من الرواة كانت لهم معرفة شخصيّة بإبراهيم بن هاشم، فكيف يمكن أن يعقل أنّه إنسان غير معروف. لذلك نقول: إنّ أحد مآخذ توثيقنا هي هذه. ولربما كانت هذه الطريقة من أهمّ الطرق المتَّبعة لدى القدماء.
شيخ الرواية ـ وليس هو نفسه شيخ الإجازة ـ هو الذي يذهب إليه الرواة كلّ يوم، ويأخذون منه الرواية. وهناك مجموعة من رواتنا كانوا هكذا.
وعلى أيّ حال فالنقطة التي تستحقّ التوقُّف عندها هي أنّ فقهاءنا ومحدّثينا اعتمدوا على هؤلاء، وملأوا كتبهم ممّا استقَوْه من أحاديثهم. فمثلاً: أورد الكليني أحاديث كثيرة نقلها عن الراوي الفلاني، وذكر في أوّل كتابه يقول: إن الأحاديث التي جئت بها صحيحةً. واعتماده هذا يكون مستند استنباط الوثاقة.
كان مبنى البروجردي يقوم على أنّه لا ينبغي أن نكتفي بمقدارٍ معين من التوثيقات، كالتي أُدرجت في رجال الشيخ والنجاشي وأمثالهم. إنّ اعتماد القدماء، أمثال: الكليني& على أحاديث بعض الرواة، وقد أفتى على ضوئها، لهو أفضل الطرق لإحراز الوثاقة.
رفضتُم قبول شهادة المتأخِّرين عن عصر الطوسي والنجاشي، كشهادة العلاّمة الحلّي. وهنا نسأل: إنّ العلاّمة مثل الطوسي، فقيهٌ وعادل وثقة، وقد قلّ نظيره بين العلماء عموماً، وهو من أهل الخبرة والثقة والفنّ وغير ذلك، وعندما يدلي بشهادة عن حسٍّ تُقبل شهادته، وإنْ أدلى بها عن حدسٍ فلا تُقبل، فكيف نتصوَّر أنّ هؤلاء الفضلاء يدلون بشهادتهم بوثاقة الراوي عن حدسٍ، وهذا يختلف عن موقفهم في الفقه؟
الشيخ تجليل: لا يقول: إنّ شهادتي حجة؛ كي لا يقال: قد سلكتَ على خلاف مبناك. فقد كتب في الرجال لقد ثبتَ عندي أنّ هذا الشخص موثَّق، قد فهمتُ الأمر بهذا الشكل، لا أن يكون لك حجّة. بالضبط مثلما كتب في الكتب الفقهية: إنّ الذي ثبت عندي أنّ حكم الله هكذا.
وفي النهاية في كتابه الرجالي ما الذي دوّنه: نفس الشهادة أم الفتوى والرأي؟
الشيخ تجليل: يجب أن نرى هل بالإمكان احتساب الذي ذكره في كتابه الرجالي من قسم الشهادات أم لا؛ حيث إنّ كلّ الذي يملكه من معلومات استنباطي. فوثائقه محصورة في الأشياء التي بأيدينا، وليس لديه شيءٌ جديد يضيفه.
من المحتمل أنه يوجد لديه شيء.
الشيخ تجليل: لا، لا يوجد لديه شيء، ولو كان لديه شيءٌ لكتبه. نعم، توجد هناك كتبٌ غير متوفِّرة لنا، ولكنْ وصلت إلى أيدي الفقهاء الكبار، كابن إدريس. فكتاب «مدينة العلم» للصدوق ضاع، ولم يصل إلينا، والظاهر أنّه لم يصل إلى العلاّمة الحلّي أيضاً.
وعلى أيّ حال إذا وثّق العلامة أحداً فإنّه يكون من المؤيِّدين، أي إنّه يؤدّي إلى حسن ظننا. وإذا جمعنا حسن الظنّ هذا لربما يوجِد الوثوق. ليس مثلما يتصوّر أن هذا الظن ليس له قيمة، بل له قيمة، ولكن لا يجب على الفقيه أن يكتفي به، ويصدر فتوى على ضوئه، بل يجب عليه هو أيضاً أن يتتبَّع الموضوع.
بالإضافة إلى هذا، لا نذكر أنّ العلامة كان ينفرد بتوثيق أحدٍ، بل كان دائماً ما يقتدي بالطوسي والنجاشي في هذا الأمر. المتأخِّرون، كالمامقاني والإسترآبادي والبهبهاني وغيرهم، كانوا يستنبطون أحياناً، وإلاّ فإنّ مبنى الرجال ينصبّ على المتابعة في التوثيق. وكلّ واحد منهم في توثيق الرجال يتابع الذي قبله.
طبعاً توثيق رجال العلاّمة له فائدةٌ أخرى، وهي إثبات أنّ نسخة رجال النجاشي ورجال الطوسي التي وصلت إلينا صحيحةٌ؛ وهذا التصحيح والتوثيق يكشف أيضاً عن أنّ نسخة العلاّمة هي نفسها النسخة التي بين أيدينا.
عقلاً يمكن الاعتماد على قول الثقة، والشارع يمضيها أيضاً. ولأجل هذا فإنّ كيفية الوثوق عقلائية أيضاً. فالإنسان الساذج لا يجب الاعتماد على وثوقه وتوثيقه، وكذلك الإنسان كثير الشكّ أيضاً إذا لم يحصل له اليقين يجب أن يُتحقّق هل يحصل للآخرين اليقين ممّا قيل أم لا؟
وعلى هذا المستوى نستطيع أن نستنبط وثاقة كثير من الأشخاص الذين لم ينصّ على وثاقتهم. وهذا لا ينكره أحدٌ. فكيف يمكن التصديق أنّ شخصاً تعاشره عشرين سنة، وفي كلّ يوم تأخذ منه حديثاً، فإذا ما كذب على الإمام الصادق× ووضع الأحاديث لا يُعرف؟
فبهذه الأوصاف الفريدة التي كان عليها شيخ الرواية يعتبر ثقةً بلا إشكال، وهذه المسألة ليست مورداً للقدح والطعن.
_ إذا لم يكن للطوسي والنجاشي توثيقٌ، هل نستطيع إذا كان المترجَم شيخَ رواية أو شيخَ إجازة أن نوثِّقه لذلك؟
الشيخ تجليل: نعم، وخصوصاً أنّ الشيخ والنجاشي عندما أرادا أن يجمعا الثقات جمعا معهم أيضاً بعض الأشخاص الآخرين.
إذن يمكننا أن نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنه لا يمكننا توجيه الجمود في ألفاظ الرجاليين على الشهادة والوثاقة توجيهاً آخر.
الشيخ تجليل: لا يوجد أحدٌ من الفقهاء عمل بالجمود، من الجائز أن يكون هناك شخصٌ واحد كان كذلك.
_ توقُّف الأساتذة الموجودين عندنا في قم في مسألة إبراهيم بن هاشم.
تجليل: لم يكن من ابتكاراتهم. هذا الكلام قد قاله آقا رضا الهمداني من قبل في مصباح الفقيه، حيث إنّه في أيّ مكان يصل فيه السند إلى إبراهيم بن هاشم نراه يتردَّد. يقول: صحيحته أو حسنته موضع شكّ، ولهذا لم يأتِ توثيقٌ بالنسبة إليه، ولكنْ لا يوجد أيّ مجالٍ للشكّ.
والشاهد على هذا نظر فقهائنا الذين هم على مرّ العصور يعملون طبق أحاديثه. وينقل المامقاني في فلاح السائل الفصل 19 أو 20 حديثاً عن ابن طاووس كان سند الرواية فيه إبراهيم بن هاشم، وبعد أن نقل هذا الحديث قال: ورواة هذا الحديث ثقاتٌ بالاتّفاق. وعندما كان البروجردي يصحِّح الأسانيد كان يصحِّح السند الذي يأتي فيه إبراهيم بن هاشم. نحن لا نستطيع أن نرفع اليد عنه فقط بمجرّد أنّ اسمه لم يرِدْ في رجال النجاشي، ولم يكتب إلى جانب اسمه (ثقة).
المقصود من الجمود نفس هذا المعنى الذي يقول: في حال لم يوثَّق الراوي في كتب الرجال يصبح لدينا شكٌّ فيه.
الشيخ تجليل: نعم.
وإنْ كان تعبير «أوّل مَنْ نشر حديث الكوفيّين بقُم» لم يكتمل حول إبراهيم بن هاشم؟
الشيخ تجليل: نعم، ليس للأمر علاقة بالاكتمال، ولكنّ هذه المسألة توصل إلى المشيخة، وقد ذكرتُ أنّ منصب شيخ الرواية كان مهمّاً. فلقد كان القمّيون دقيقين جدّاً، فبمجرد أنّ أحد أولئك الأفاضل قد نقل حديثاً من راوٍ ضعيف أخرجوه من قُم. كيف يسوغ لهم أن يتقبَّلوه. فقبوله معناه الوصول إلى ثقتهم به.
عليّ بن إبراهيم بن هاشم نفسه في أوّل كتاب التفسير يوثِّق جميع الذين نقل عنهم الأحاديث. وفي الوقت نفسه كثير من أسانيد تفسير عليّ بن إبراهيم تحتوي على إبراهيم بن هاشم. وثلث أحاديث ذلك الكتاب نقلها عن والده. فكيف لا يكون والده ثقةً وهذا الشخص بدوره يوثِّقه؟! فجميع الذين نقل من كتبهم الأحاديث بدون أيّ إشكال كانوا ثقات.
بما أنّنا في باب الطبقات نقول بالتواتر بالصورة التي تجعل التواطؤ على الكذب محالاً، فهل يجب أن نأخذ الطبقة على ضوء اصطلاح البروجردي أو بالصورة التي ذكرها العلاّمة الأميني في حديث الغدير من أنّها قرن عن قرن. فهو يقول: إنّ التواتر لخلافة أمير المؤمنين في الأحاديث يجب أن يؤخذ قرناً بعد قرن. فهل يعتبر التواتر مكتملاً بهذه الطريقة أم لا؟
الشيخ تجليل: تعريف التواتر هو أنه يفيد القطع. ففي حالة تعدُّد الأسانيد بحيث إنها تنتهي بشخصٍ واحد، سواءٌ كان في وسط السند أو في آخره، لا يفيد القطع؛ لأنه يرجع إلى خبر الواحد. فعلى سبيل المثال: هناك مائة شخص نقلوا الحديث عن خمسين، وهؤلاء جميعهم نقلوه عن شخصٍ واحد، وهذا بدوره نقله عن آخرين، حتّى وإنْ كان هذا الشخص ينقله عن خمسين شخص أيضاً، يكون الحديث خبر واحدٍ. التواتر الذي يفيد اليقين هو الذي تكون كثرة أسانيده وتعدُّدها تورث العاقل اليقين، لا أن يحصل عنده اليقين من قرائن أخرى.
وهذه الكثرة يجب أن تكون بالصورة التي تفيد اليقين، بحيث إنّها لا تنتهي بشخصٍ واحد، فإذا ما انتهت بشخصٍ واحد، سواءٌ كان في وسط السند أم في آخره، يصبح خبر آحاد، وليس تواتراً.
والمسألة الأخرى هي أنّ للتواتر أقساماً؛ أحدها: التواتر اللفظي، وهو عبارة عن لفظٍ معيَّن يصدر عن الإمام× في جلسةٍ واحدة. فعلى سبيل المثال: في اليوم الفلاني وفي ساعة معيَّنة في غدير خمّ قال رسول الله| حديث الغدير أمام جماعة من أصحابه.
هذا قسمٌ من أقسام التواتر. وإثبات التواتر لمثل هذه المسألة يحتاج إلى نطاق واسع. فالأميني&؛ من أجل أن لا يطيل العمل في كتابه، أخذ بدراسة الرواة مائة سنة مائة سنة.
وفي كلّ قرن سجَّل أسماء الأشخاص الذين نقلوا حديث الغدير. وفي اعتقاده أنّه ينبغي لضبطهم جميعاً التدقيق في كلّ مائة سنة على حدة، وإلاّ فإنّ كلّ مائة سنة تشتمل على ثلاث طبقات؛ لأن كتابة التاريخ لوفاتهم من أجل تسهيل عمل القرون، لا أن مبناه كان هكذا.
النوع الآخر من التواتر لفظي أيضاً، وهو عبارة عن لفظ معيَّن ينقل متواتراً ولكنْ ليس في جلسةٍ واحدة. كالحديث الذي نقله أهل السنّة أنّ رسول الله| ذكر حديث الثقلين ثلاث مرّات في أماكن مختلفة في أوقات متفرِّقة. آخر مرّة كانت عندما أراد أن يودِّع الناس، فحضر إلى المسجد لآخر مرّة في حياته الشريفة، وقد كرَّر هناك حديث الثقلين أيضاً. وهذا أحد أنوع التواتر الذي يثبت أنّ صدور هذا الحديث عن الرسول الأكرم| متواترٌ ولو على نحو الإجمال، أي يصبح من المسلَّم أنّه في مرّة من هذه المرّات الثلاث ذكر مضمون الحديث.
القسم الثالث: التواتر المعنوي. وهو عبارة عن حكمٍ متواتر، لا عن إمام واحد، بل نقل عن أئمّة مختلفين، وفي جلساتٍ وتواريخ، وبعبارات وألفاظ مختلفة أيضاً. ولكنّنا عندما نضع كلّ هذه الأمور إلى جانب بعضها نقطع بأصل الصدور من الإمام المعصوم×.
القسم الرابع: التواتر الإجمالي. وهو عبارة عن أنّ الروايات التي تنقل ليست بمعنى واحد، وكل واحد منها له معنى، ولكنْ عند جمعها مع بعضها يحصل لنا يقينٌ أنّ بعضها قد صدر عن الإمام، وهذا تواترٌ للمشترك بينها لا لما تتفرَّد به كلّ مجموعة من الروايات. وكثيراً ما نجد أمثال هذا التواتر في كتب الحديث.
فمثلاً: وجد أخيراً مَنْ يدّعي أنه يستفيد من ظاهر القرآن بهذا الشكل، وهو أن صلاة القصر تختصّ بالمواضع التي يكون فيها المصلّي خائفاً، وفقط في الأوقات التي يحسّ فيها المصلي بالخوف بإمكانه أن يصلّي قصراً. ومهما طال السفر العادي فلا يستوجب قصر الصلاة.
وأحد الردود أنّ أحاديث التقصير التي نقلها في كتاب الصلاة في الأبواب المختلفة من صلاة المسافر تقدَّر بمئتين وخمسين حديثاً تقريباً، وتواترها إجمالي، وعليه يحصل عندنا يقين أنّه يجب على المسافر أن يقصر في صلاته، في الوقت الذي توجد رواياتٌ مختلفة؛ بعضها تتحدث عن قصد الإقامة؛ والبعض عن المسافة؛ وقسم منها مستثنيات جاءت مع بعضها، وجميعها تشترك في أنّ الأصل في قصر الصلاة مسلَّمٌ للمسافر. وأضيف إلى هذا أنّه يُستفاد ذلك من ظاهر القرآن الكريم.
في الأسئلة السابقة ذكرنا اختلافاً بين مبنى البروجردي ومبنى الخوئي، وهو أنّ مبنى البروجردي قائمٌ على أنّ إعراض الأصحاب يوجب ضعف الحديث، وعملهم يجبر ضعف السند: كلّما ازدادت صحّته ازداد وهنه، وكلما ازداد وهنه ازدادت صحّته.
ولم يقبل الخوئي بهذه المسألة، فهو لا يعتبر أنّ إعراض الأصحاب يوجب وَهْناً أو أنّ عملهم يكون جابراً. والبعض من طلبة الخوئي يقول بالتفصيل، ولكنَّهم يعتبرون أنّ إعراض الأصحاب يوجب وهناً، لكنّهم لا يعتبرون أنّ عملهم يجبر ضعف السند. نريد أن توضِّحوا لنا نظريّة البروجردي بالنسبة إلى مبانيه، والمقدّمات التي يحتوي عليها.
الشيخ تجليل: من النجفيّين فقط ينفرد الخوئي بمثل هذا المبنى، وإلاّ فالسيد الحكيم وصاحب الجواهر وآقا رضا الهمداني وجميع الفقهاء المشهورين، والذين كانوا في النجف الأشرف، لم يكن لديهم مثل هذا الرأي. وحسب علمي فإنّه ليس هناك من الفقهاء مَنْ قد تبنّى مثل هذا المبنى.
هذه الشبهة قد جاءت في رأي الخوئي، ومن ثم تبعه الآخرون. طبعاً في بداية المسألة يعدّ كلامه مقبولاً. فعندما نرى أنّ هناك سنداً ضعيفاً قد ثبت لدينا ضعفه، وقد قُبِلَ من فقيه آخر، فليس بإمكاننا اتّباع ذلك الفقيه.
فمثلاً: في المسائل الفقهية إذا ما استنبطتَ مسألةً من المسائل، وبعد ذلك وجدْتَ مَنْ استنبط خلاف ما قمتَ به، فلا يعتبر استنباطه حجّة لك أو عليك. ومن الطبيعي أنّ الخبير ليس بإمكانه أن يرجع إلى الخبير، بل يجب عليه أن يقوم بالاستنباط بنفسه.
ولكنْ عندما ندقِّق أكثر في جهات حصول الوثوق نلاحظ أنه يحصل وثوق للعقلاء من عدّة جهات، ومن جملتها: توثيق الآخرين. فعندما نرى أحداً من أهل الخبرة والمعرفة بالرجال والدراية فإنه يصبح موضع اعتمادنا، ويحصل لنا منه وثوق أيضاً.
وقد ذكرت سابقاً أنّ الفقهاء بدون حجّة لا يفتون في حكم الله: «مَنْ أفتى بغير علمٍ فليتبوّأ مقعده من النار». ومن وجهة نظري أنّ الفتوى من غير علم من أكبر الكبائر. ففي وقتٍ من الأوقات يرتكب الإنسان معصية، وتبقى بينه وبين الله، ولا يجرّ أحداً آخر معه في تلك المعصية، أما إذا جرّ معه الآخرين في المعصية فهذا من الصعب أن يغفر له الله.
وبما أنّ فقهاءنا، ولقرون طويلة، قد أفتَوْا طبق هذا الحديث نكتشف أنّه كان محلّ وثوق لهم ؟
وبناءً على هذا فالفقهاء الذين كتبوا عن السند: ضعيف، وعلى أساسه أفتَوْا، فهذا كاشفٌ عن أنّه يوجب لهم التوثيق، وعلى الأقلّ بإمكانهم أن يكون لهم توجيه معيَّن من أجل قبول هذا الحديث.
أمّا بالنسبة إلى مسألة الإعراض فيجب القول: إنّ الإعراض أيضاً بنفس الطريقة. من الجائز أن يكون الإنسان صادقاً، ولم يتعوَّد الكذب طول عمره، ولكن من الممكن أن يخطئ مرّة واحدة في حياته، وهذا الخطأ عن غير عمد، إنّما نقله سهواً، كما لو أنّه لم يسمع الحديث جيّداً، وحواسه كانت منشغلة بأمر آخر، والإمام”عليه السلام” يتحدَّث، فلم يسمع جيداً،
وبعد ذلك لا عن عمد أيضاً، بل كان معتقداً أنّ الإمام”عليه السلام” قد قال هكذا، وهو عكس ما قاله الإمام”عليه السلام”، ولكنْ عندما يقول المحيطون بالإمام، وحسب تعبير العلاّمة البروجردي: بطانة الإمام وأصحابه المقرَّبون، يقولون: ليس القول كما يُقال، وبما أنّهم يعدّون من أهل السرّ، وعلى علمٍ تامّ بفحوى كلام الإمام يقولون: لا، ليس الأمر بهذا الشكل، أنت مخطئ، يتحصَّل بالنتيجة النهائيّة أنّ الموضوع شيءٌ آخر.
مهما أمكن، وبكلامٍ مختصر، وضِّحوا لنا وجهة نظركم حول كتاب كامل الزيارات.
الشيخ تجليل: عندما بدأت بكتابة معجم الثقات كنت مصمِّماً أن أجمع جميع الثقات. وعلى هذا الأساس نقلتُ رواة كامل الزيارات وتفسير عليّ بن إبراهيم. علاوة على هذا فإنّ الشيخ الطوسي في عدة مواضع من كلامه جاء بأسماء ثلاثة رواة هم: صفوان بن يحيى؛ وابن أبي عمير؛ وأحمد بن أبي نصر البزنطي، وقال عنهم: عرفوا بأنّهم لا يروُون إلاّ عن ثقة. وكلمة «عُرفوا» ليس معناها أني أراهم «لا يروُون إلاّ عن ثقة».
«عرفوا» أي بين الفقهاء بهذا الوصف. وهذا رأي مشهور الفقهاء بالنسبة إلى الذين نقل عنهم هؤلاء الثلاثة الأفاضل. ولا نرى هذا الكلام في النسخة الحالية من عدّة الأصول. وقد شهد صاحب وسائل الشيعة بهذا الأمر، ونقله بنفسه، وهو مطمئن به، وعليه فهو يفتح أمامنا طريقاً للسير على منهاجه.
وعلى هذا المبنى فقد استقصيتُ مَنْ يروي عنه صفوان بن يحيى ومَنْ يروي عنه ابن أبي عمير ومَنْ يروي عنه البزنطي. عند ذلك فإنّ تلك الأسانيد المنتهية بصفوان وابن أبي عمير والبزنطي يجب أن يكون الرواة فيها ثقات. ويجب أن تكون سلسلة السند إلى صفوان صحيحة.
بعد ذلك يأتي دور مستنبطي الوثاقة، أي إنهم أوجدوا للمتأخِّرين دليلاً يستنبطون الوثاقة على أساسه. فالذي يوجد في حقّه رواية أو مدح، أو أنّ هناك جهة معيّنة بحيث يمكن استنباط الوثاقة منها، وإنْ كان هناك مَنْ لا يمكنه الاستنباط ومَنْ يمكنه الاستنباط، كلّ أولئك قمتُ بجمعه على حِدة. وأولئك الذين قد وثِّقوا على الخصوص قد جُمعوا أيضاً، بحيث إنّهم شكَّلوا أربع مجموعات.
وبالرجوع إلى الفقهاء فإنّ لهم طبعاً آراءً مختلفة على حسب المباني الموجودة في الرجال والدراية. فمن الممكن أنّ هناك مَنْ لا يقبل أصلاً توثيقات كامل الزيارات، ومنهم مَنْ يقبلها، ودوّنتُ كلّ فئة منهم بشكلٍ منفصل.
القسم الأوّل: الذين تم توثيقهم بالخصوص وهم بحدود مائة ونيف.
القسم الثاني: أولئك الذين روى عنهم صفوان والبزنطي وابن أبي عمير. وقد سجَّلتهم بصورةٍ مختصرة، مع السند والدليل. طبعاً اكتفيتُ من الكتب الأربعة بكتاب الوافي؛ وذلك لأنه قد جمعها جميعاً، ولم يجمعها الوسائل كلّها، جمع الفروع فقط، ولم يجمع الأصول؛ ولأنّ أسانيد الوافي قد رتِّبت بجانب بعضها، ممّا أدى إلى سهولة مراجعتها، لذا جعلت الوافي هو المقياس.
القسم الثالث: أولئك الذين روى عنهم كامل الزيارات؛ لأننا لا نعتمد على استنباط وثاقته، لذلك قمنا بكتابته بخطّ رفيع.
وكذلك بالنسبة إلى تفسير عليّ بن إبراهيم كتبناه بنفس الطريقة.
القسم الرابع: أدلة استنباط وثاقة الأشخاص الذين لم يصرَّح بوثاقتهم. وبهذه الأوصاف التي قدمناها من الممكن أن تستنبط وثاقتهم. وكذلك قمنا بجمع أدلّتهم.
فوجهة نظري حول كتاب كامل الزيارات هي حيث إنه من المحتمل أنّ الخوئي قام أخيراً بانتخاب مشايخه وأساتذته المباشرين فقط، ووثَّقهم، فإني أستبعد هذا الأمر؛ لأنه يجب أن نرى ما الذي يريد أن يقوله ابن قولويه في مقدّمته. فعندما ندقِّق في مقدّمته نلاحظ أنّه يريد أن يثبت أنّ الكتب والأحاديث التي قام بجمعها معتبرة، وهذا لا يمكن تصوُّره، حيث إنّ كلّ حديث يصلنا نجمعه من دون تحقيق. يريد ابن قولويه أن يثبت اعتبار كتابه، ولكنْ بمجرّد أن ينقل راوٍ ثقة عن ضعاف فما هي الفائدة والثمرة التي تترتَّب على هذا العمل؟
ومن ناحية أخرى نرى أنّه يوجد رواةٌ ضعاف أيضاً في أسانيد كامل الزيارات، من الذين قد تمّ تضعيفهم صراحةً، والمشهورين بالفسق أيضاً، وهم غير خافين على ابن قولويه، فما العمل بهذه؟
وفي نظرنا أنّه ليس الأمر كما قال الخوئي. فالمراد من الوثاقة كما جاء به صاحب كامل الزيارات هي الوثاقة في نقل الحديث، بحيث تثبت له بالقرائن. فافرض أنّ واحداً من مبغضي آل محمد| نقل عنهم فضيلةً يصبح من المعلوم أنّه صادقٌ في هذا القول.
أما في مسألة محمد بن سنان وجماعة على شاكلته، ممَّنْ يضعفهم بعض العلماء، فلنا هنا توضيح أيضاً. يقال في محمد بن سنان: إنّه كذّاب، فكيف يمكن أن يعمل بأحاديثه؟ وقد استبعدوها، ولكنْ من جهة أخرى نرى أنّ القدماء، مثل: الكليني، الذي يقول في أول الكافي: إنّي أنقل أحاديث صحيحة (معتبرة)، قد نقلوا عن محمد بن سنان أحاديث كثيرة.
الطريف في الأمر أنّ الأشخاص الذين هم مثل محمد بن سنان، والذين يوجد في مذهبهم خللٌ، كالغلاة مثلاً، يوصف غلوّهم بالكَذِب. والكذّاب هنا ليس بمعنى كثير الكذب، بل بمعنى أنّ كذباته التي يطلقها كبيرةٌ لا تحتمل، لذلك فهم يقولون أشياء عن الأئمّة لا نقولها نحن.
وعندها هل من الإنصاف أن نقول: إنّه نقل موضوعاً كذباً؟ نحن نعرف مَنْ هم الأئمّة، فلذلك نخاف أن نكذب عليهم، فكيف يجوز لهم أن يأتوا بأشياء كذب عنهم. طبعاً توجد هناك أشياء تثبت الغلوّ، أشياء وُضعت للمصلحة، ولا نقبلها.
(*)توفّي الشيخ تجليل التبريزي ( قدس سره ) في الأوّل من شعبان ۱۴۲۹ هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة ( عليها السلام ) بمدينة قم المقدّسة.
ترجمة: كاظم خلف العزاوي