الاجتهاد: إن المفهوم الحقيقي لرأي الأكثرية يعتمد على طبيعتهم، فإذا كانوا من المؤمنين الواعين الذين ينتهجون الحقّ ويرفضون الباطل، حظي رأيهم بالقبول والاحترام، أمّا إذا كانوا فئة جاهلة، فلا طاعة لها ولا رأي.
لقد استنكرت آيات القرآن الكريم «الأكثرية» من الناس، في حين نرى أنّ «الأكثرية» يقرّرون اليوم صلاح الشيء أو عدمه فهم معيار الحسن والقبح في المجتمع، وهذا يثير علامة استفهام كبيرة.
منهج الأكثرية
وليس الكلام في الآيات التي تذكر الأكثرية مع إضافة ضمير (هم) حيث يكون المراد منها أكثر الكافرين والمشركين وأمثالهم ، بل الكلام حول الآيات التي تذكر عنوان (أكثر الناس) من قبيل : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).[1]
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[2].
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)[3].
(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[4].
(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً)[5].
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)[6].
ومن جهة أخرى اهتمت بعض آيات القرآن بمنهج أكثرية المؤمنين باعتباره معيارا صحيحا للآخرين، فقد جاء في الآية الخامسة عشرة بعد المائة من سورة النساء: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).
ونجد في الرّوايات الإسلامية لدى تعارض الرّوايات أنّ أحد المعايير للترجيح هو الشهرة بين أصحاب أئمّة الهدى وأنصارهم وأتباعهم، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»[7].
ونقرأ في نهج البلاغة : «والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب»[8].
ونقرأ أيضا في نهج البلاغة: «والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة»[9].
وعلى هذا قد يتراءى للبعض تناقض بين هاتين المجموعتين من الآيات والأحاديث.
ومن جهة أخرى يمكن أن يتصوّر مخالفة الإسلام للديمقراطية التي تعتمد على آراء أكثر الناس، وهذا ما رفضه القرآن بشدّة.
المفهوم الحقيقي لرأي الأكثرية
ولكن بالتدقيق في الآيات والأحاديث السابقة ومقارنة بعضها ببعض يتّضح المفهوم الحقيقي، وهو أنّ الأكثرية لو كانت من المؤمنين الواعين الذين ينتهجون الحقّ ويرفضون الباطل، لاستحقّوا الاحترام، وحظي رأيهم بالتقدير والقبول.
أمّا إذا كانوا فئة جاهلة أو واعية لكنّها مستسلمة لرغباتها وشهواتها على علم منها، فلا طاعة لها ولا رأي. لأنّ اتّباعها يؤدّي إلى الضلالة والضياع، كما يقول القرآن المجيد.
وعلى هذا الأساس فلو أردنا تحقيق «ديمقراطية سليمة» لوجب السعي أوّلا لتوعية الناس وتكوين جماعة مؤمنة واعية، ثمّ الاستناد على رأي أكثريتهم كمعيار لسلامة الأهداف الاجتماعية، وإلّا فإنّ ديمقراطية الأكثرية الضّالة لا تنتج سوى ضلال المجتمع وجرّه إلى جهنّم.
ومن الضروري التنبيه إلى أننا نعتقد أنّ رأي الأكثرية الواعية المؤمنة إنّما يكون محترما ومقبولا فيما إذا لم يخالف الكتاب والسنّة والأحكام الإلهيّة.
رجوع الأمم إلى رأي العامة
ولجوء الأمم والشعوب في هذا العصر إلى رأي الأكثرية مبعثه انعدام المعيار الموثوق به في قياس ما ينفع المصلحة العامّة وما يضرّها، فهذه المجتمعات لا تستنير بكتاب ربّاني ولا تلتزم رسالة نبي كريم، وليس لديها سوى الرجوع إلى رأي العامّة.
وبما أنّ المتسلّطين لا يسعون لتوعية رعاياهم، بل يجتهدون في استدامة غفلة الناس وضآلة اطّلاعهم على ما ينهض بتقدّمهم وازدهار حياتهم، ليتسنّى لهؤلاء الاستمرار في الهيمنة على الناس والعبث بمصيرهم، لذلك جعلوا الأكثرية الكميّة معيارا لإسكات الأصوات المعترضة.
ولو دقّقّنا في وضع المجتمعات المعاصرة والقوانين والأنظمة السائدة، لوجدنا أكثر مصائبهم نابعة من اللجوء إلى ما يسمّى رأي الأكثرية.
فما أسوأ القوانين وأقبح المقرّرات التي جعلتها «الأكثرية»، وما أكثر الفتن والحروب التي اندلعت بسبب رأي الأكثرية الجاهلة، وما أعظم المظالم وأشكال العدوان التي قرّرت الأكثرية صحّتها ومشروعيتها!!
المصدر: موقع الأئمة الاثنا عشر/ مقتطف من كتاب تفسير الأمثل ج 10
الهوامش:
[1] البقرة ، 243.
[2] الأعراف ، 187.
[3] هود ، 17.
[4] يوسف 103.
[5] الإسراء ، 89.
[6] الأنعام ، 116.
[7] وسائل الشيعة ، المجلّد الثامن عشر ، صفحة 72 (كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي).
[8] نهج البلاغة ، الخطبة 127.
[9] نهج البلاغة ، الخطبة 151.