إن المتتبع لأحكام الشريعة الغراء يجد أن الفقه الإسلامي فقه حضاري يتسم بالشمول، فهو إلى جانب عنايته بالتنمية البشرية روحيا وعلميا وخلقيا يعنى أيضا بالعمران المدني بمفهومه الواسع الشامل، فالعمران المدني يشمل المؤسسات الحيوية التي يحتاج إليها الإنسان لقضاء حوائجه المختلفة الروحية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها مما يكفل الحياة الهنيئة.
موقع الاجتهاد: جاء الإسلام الحنيف شرعا متكاملا شاملا مختلف جوانب الحياة, فقد تناول بأحكامه شتى الأمور التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وعلاقته ببني جنسه وعلاقته بمحيطه الذي يحيا فيه بجميع مكوناته من حيوان وشجر ومدر, وقد أرسى الشرع الحنيف القواعد التي تحقق مصالح الجميع بحيث تمضي قافلة الوجود متسقة متجانسة لا تضارب بين مكوناتها ولا نشاز بل تسير القافلة نحو النهوض الحضاري الذي تتحقق به السعادة المنشودة.
ومما لا ريب فيه أن الإسلام جاء بحلول لكل مشكلة من مشكلات الحياة وفي كل زمان ومكان، يقول المولى جل وعلا:”ما فرطنا في الكتاب من شيء” ،ويقول سبحانه:”ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين”.
إن ضيق الأفق وعدم التصور الصحيح لحقيقة الإسلام جعل الكثيرين يتصورون أن الإسلام دين محصور في بعض المناسك والعبادات كالصلاة والصيام ونحو ذلك، وأن الإسلام غير معني بالحياة العامة فلا علاقة له بالسوق أو الطريق أو البيئة، وهذا قصور بالغ في فهم حقيقة الإسلام الذي حكم الحياة بأسرها، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا بين محلها من منظومته المتكاملة، وأوضح صوابها من خطئها، مستمدا ذلك من القرآن والسنة أو ما يرجع إليهما بوجه من وجوه الاستدلال.
إن المتتبع لأحكام الشريعة الغراء يجد أن الفقه الإسلامي فقه حضاري يتسم بالشمول، فهو إلى جانب عنايته بالتنمية البشرية روحيا وعلميا وخلقيا يعنى أيضا بالعمران المدني بمفهومه الواسع الشامل، فالعمران المدني يشمل المؤسسات الحيوية التي يحتاج إليها الإنسان لقضاء حوائجه المختلفة الروحية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها مما يكفل الحياة الهنيئة؛ انطلاقا من مبدأ تسخير الكون للإنسان، فعليه أن يستغله الاستغلال الأمثل الذي يحفظ توازنه ورقيه على مختلف الأصعدة، بل يتسع مفهوم العمران فيشمل البيئة وضرورة الحفاظ عليها وصونها.
وبالنظر إلى اختلاف توجهات الناس وتباين مشاربهم واهتماماتهم تتبين أهمية وضع الضوابط والقواعد التي تنظم العمران المدني؛ فإن تفاعل الناس وتعاملهم مع بعضهم بعضاً ينتج تداخلا في المصالح وتباينا في تصوراتهم، ولا شك أن كل فرد يسعى إلى أكبر قدر يتأتى له من تحقيق مصلحته، فإن ترك أمر تسيير الأمور المعيشية بدون ضوابط وقواعد عمت الفوضى والظلم وطغى تغليب مصلحة الفرد على المصلحة العامة، وأحكمت نظرية المنفعة الضيقة ( البرجماتية ) قبضتها على ذوي الجاه والمال؛ فيقع الظلم في ظل طغيان المال الذي لا يقف عند حد، وإذا نشبت الرأسمالية مخالبها في المجتمع يتحول إلى مجتمع تحكمه شريعة الغاب، فهو وإن بدا لأول وهلة أنه تقدم حضاري إلا أنه يحمل في طياته وأركانه وأسسه عوامل هدمه واندثاره.
فالعمران إن لم يحكمه نظام رباني عم فساده جميع جوانب الحياة اجتماعيا واقتصاديا وعلميا بل يتعدى فساده ليصل إلى البيئة التي هي وعاء النعم ومهد الخيرات المسخرة لصالح الإنسان؛ من أجل ذلك وجب الأخذ بتوجيهات الشرع الحنيف؛ لأنه جاء من خالق الإنسان فهو أعلم بمصالحه .
ولا شك أن التطور الذي يشهده العالم على مختلف الأصعدة يحتم تركيز الاهتمام لتجديد وتأصيل فقه العمران وتأصيله ؛ ذلك لأن الطفرة المدنية الحالية تنتج الكثير من المستجدات التي لم تكن معهودة من قبل، فهي وإن كانت داخلة ضمن المنظومة الإسلامية العامة إلا أنها تحتاج إلى تجديد واجتهاد فقهي حديث يستلهم من روح الشريعة الحلول الناجعة لشتى القضايا المعاصرة، كما تحتاج إلى إعادة صياغة كي تكون أطروحة إسلامية عالمية تقدم حلا لمسلسل معاناة البشرية.
هذا وقد عني علماء المسلمين سلفا وخلفا بإبراز الجانب الحضاري المدني في الشريعة الإسلامية؛ وذلك لتطبيق الشريعة الإسلامية في شتى مجالات الحياة، وتبيين هدي الشريعة الذي يحمل في طياته الحلول الربانية لكل معضلات البشرية التي ينتجها تفاعل الإنسان وتعايشه في هذه البسيطة، ويتجلى ذلك في الإسهامات الفعالة للفقهاء في التنظير الفقهي والتأطير الشرعي للجوانب المدنية؛ فقد حوت مؤلفاتهم وموسوعاتهم الفقهية كثيرا من المواضيع التي تتناول الأحكام الشرعية المنظمة لسير العمران المدني ، بل أفرد بعضهم مؤلفات تتناول العمران ومختلف مؤسساته.
ومن الجوانب الحيوية التي تناولها الفقه الحضاري الإسلامي:
1- فقه المجتمع المدني:
مما لا ريب فيه أن الإنسان مدني بطبعه، اجتماعي بفطرته؛ فلا بد أن يتفاعل مع بني جنسه لكي يحيا على نحو طبيعي متوازن، فتفاعل الإنسان مع بني جنسه يشكل الركيزة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع مما ينتج منظومة من الأعراف والثقافات التي تتسم بالخصوصية لدى أي مجتمع من المجتمعات، وهذه الخصوصية تختلف بطبيعة الحال باختلاف النطاق الزماني والمكاني مما يجعل دراسة ثقافة المجتمعات والأعراف السائدة فيها ضرورية للفقيه كي يبين بدقة الحكم الشرعي فيها.
على أن اختلاف فئات المجتمع وتباين حاجاتها وحقوقها وواجباتها يحتم إدراك أهمية توفير الرعاية لجميع الفئات كل بحسب متطلباته، فالإسلام شمل برعايته الجميع صغارا وكبارا، فقد اهتم بالأطفال وحسن تربيتهم وتعليمهم وملاطفتهم وأوصى بالأيتام وأوجب مراعاتهم ماديا ومعنويا، واهتم بالشباب وحث على تثمير طاقاتهم وقدراتهم وتوجيهها إلى سواء الصراط، ولم يغفل كبار السن بل ركز على وجوب رعايتهم والعطف عليهم ومراعاة ما يولده كبر السن من تغير نفسي وعاطفي وعقلي.
وكل ذلك غير منحصر في الرجال بل النساء شقائق الرجال في جميع ما مر .
وقد كفل فقه المجتمع المدني حق المسافر وابن السبيل والجار وشرع من الأحكام ما أمن له الحياة الكريمة.
ومن أبرز المؤلفات التي كتبت في جانب العمران البشري والتنظير لعلم الاجتماع مقدمة ابن خلدون التي تعد من أهم روافد علم الاجتماع في الفكر الإسلامي، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
أمثلة لبعض التطبيقات الفقهية لفقه المجتمع المدني:
1- حث الإسلام على رعاية اليتيم وكفالته، والحرص على تحري الأصلح له، يقول المولى جل وعلا:”ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير”، وفي الحديث:”أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين” وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى.
2- أولى كبار السن عناية خاصة سواء أكانوا أبوين أم غير أبوين، يقول الله تعالى:”وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”، وفي الحديث:”ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا”
3- اعتنى بتربية الأطفال وتنشئتهم روحيا وعلميا ونفسيا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:”تعليم الصغار يطفئ غضب الرب”
2- فقه البيئة والكائنات:
لقد بين الإسلام حقيقة العلاقة بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، فهي علاقة تسخير ومنفعة كما نص عليها القرآن الكريم، يقول المولى جل وعلا:”وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه”
والتعبير بـ “ما” في الآية الكريمة يدل على أن علاقة التسخير عامة لجميع الكائنات التي تحويها البيئة بما في ذلك الحيوان والنبات والأرض بثرواتها الباطنية، ومقتضى ذلك وجوب العناية بها والحرص على إصلاحها؛ فإن تدميرها وتلويثها يدخل في مفهوم تبديل نعمة الله تعالى؛ والله عز وجل يقول:”ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب”.
إن نظرة الإسلام الحنيف تختلف تماما عن نظرة بعض الفلسفات الغربية المعاصرة التي تنظر إلى الكون نظرة عداء، فهي تصور الكون عدوا يجب قهره وإذلاله، وتتجلى هذه الفلسفة من خلال كلام أصحابها فقد شاع لديهم قول: قهر الطبيعة، غزو الفضاء، ونحو ذلك، إلا أن الإسلام أوضح أن الكون بجميع ما يحويه من كائن حي وجماد ليس فيه تضاد أو نشوز، وليس ثم تنافر بين الإنسان والبيئة بل الجميع يمثل منظومة الخلق التي جعلها الله تعالى متسقة متجانسة يخدم بعضها بعضا لتحقيق الهدف الرئيس للخلق ألا وهو عبادة الله تعالى.
ومن أجل ذلك عني الإسلام بالاهتمام بالبيئة وأوجب الحفاظ على ثرواتها وراعى حقوق الحيوان، ويتبين ذلك من خلال الكثير من الأحكام التي تحفظ صلاح البيئة وهذه بعض التطبيقات الفقهية التي تخص هذا الجانب :
1- نهى الإسلام عن قضاء الحاجة في الأماكن العامة لما يؤدي إليه من تلوث في البيئة وإيذاء للناس ففي الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اتقوا اللاعنين)) قالوا: وما اللاعنان؟ قال:((الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)) .
2- نهى عن قتل الحيوان لغير مأكلة؛ ذلك لأن الحيوان جزء من منظومة المخلوقات ما خلقت إلا لأهداف سامية كحفظ توازن البيئة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكله .
3- حث على زراعة الأرض والحفاظ على الأشجار، وقد ورد في الحديث:”من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار”.
3- فقه المهنة وأرباب المهن:
من البدهي أن المؤسسات الحيوية في المجتمع المدني تقوم على أساس العنصر البشري، لذلك يعتمد نجاح هذه المؤسسات على مدى كفاءة الأيدي العاملة وملاءمة مناخ العمل لتحقيق أفضل النتائج المرجوة؛ فإعداد الأيدي العاملة وتأهيلها وتهيئة ظروف العمل وضمان الحقوق والتحفيزات المادية والمعنوية من أهم الأمور لإنجاح دور هذه المؤسسات بشتى أنواعها واختصاصاتها.
من أجل ذلك اهتم الإسلام بالمهنة وأرباب المهن وشمل بذلك حسن إعداد الأيدي العاملة من جميع النواحي العلمية والنفسية والتطبيقية وبيان آداب المهن والحرص على تنوعها بما يلبي جميع حاجات المجتمع وضمان حقوق العمال.
وهذه بعض التطبيقات الفقهية فيما يخص فقه المهنة وأرباب المهن:
1- نهى الإسلام عن ظلم العمال والتفريط في أداء أجورهم وفي الحديث:”أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”.
2- قرر الإسلام وجوب التنوع المهني في المجتمع بما يحقق الاكتفاء الذاتي والاستغناء بالعاملين منه، وهو ما يدخل في دائرة الوجوب الكفائي، وذلك كالطب والهندسة وغيرها من المهن الضرورية.
3- جعل الأجراء والعمال أمناء في مهنتهم بحيث لا يلزمهم الضمان إن وقع ضرر ما على العمل ما لم يثبت عليهم تعد أو تقصير.
4- فقه الأسواق:
من الضروري لحياة الناس تبادل المنافع فيما بينهم وذلك من خلال مختلف العقود كالبيع والإجارة والاستصناع وغيرها من العقود؛ لذلك كان السوق من أهم المؤسسات الحيوية التي لا تنتظم حياة الناس بدونها، لذلك عني الإسلام بتنظيم السوق وبيان أحكامه كي يكفل حقوق جميع الناس، ووضع قواعد منظمة لجميع العقود والمعاملات التجارية، وهذه القواعد قادرة على استيعاب المستجدات المعاصرة فهي صالحة لكل زمان ومكان.
وقد أسهم الفقهاء قديما وحديثا بما دونوه من مؤلفات تحتوي على هذه الأحكام والقوعد المنظمة لسير السوق لضمان حقوق المتعاقدين.
وهذه بعض التطبيقات الفقهية فيما يخص فقه الأسواق:
1- احترام الإسلام للعقود ووجوب الوفاء بها، يقول الله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”.
2- نهى عن احتكار السلع الحيوية التي تشتد إليها حاجة الناس ففي الحديث:”لا يحتكر إلا خاطئ”.
3- أوجد نظام الحسبة الذي يمثل الهيئة الرقابية التي تضمن سير السوق على وفق الشريعة الإسلامية.
5- فقه الطريق:
نظرا لأهمية الطريق، ودورها الحيوي في أي مجتمع مدني فهي سبيل التواصل بين جميع مكونات المجتمع، أفرادا ومؤسسات؛ عني الإسلام بوضع ضوابط وأحكام تضمن مراعاة مصلحة الطريق بحيث حفظت لها حقوقه وسنت لها من الآداب ما يكفل لها تحقيق دورها الحيوي.
ولا شك أن مصلحة الطريق مصلحة عامة مقدمة على غيرها من المصالح؛ ذلك لأن صلاح الطرق يترتب عليه ازدهار المجتمع في مختلف الجوانب اجتماعيا واقتصاديا وعلميا، فضلا عما تمثله الطريق من انعكاس لتحضر المجتمع ورقيه الخلقي ومدى احترامه للمظهر العام.
وقد زخرت كتب الفقهاء بالأحكام الفقهية التي تبين حقوق الطريق ووآدابها العامة.
وهذه بعض التطبيقات الفقهية التي تخص فقه الطريق:
1- النهي عن الجلوس في الطرقات لما يؤدي إليه من مضايقة المارة؛ ففي الحديث “إياكم والجلوس في الطرقات . فقالوا : يا رسول الله ، ما بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه . قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر”
2- وجوب التزام قواعد المرور التي تنظم سير الطرق؛ لأن ذلك من باب المصالح المرسلة .
3- تعد مصلحة الطريق مصلحة عامة تقدم على المصلحة العامة، فلو عارضت مصلحة الطريق مصلحة فرد من أفراد المجتمع تقدم مصلحة الطريق لعموم منفعتها.
6- فقه المدينة والعمران، الواقع والمستقبل:
لا ينحصر دور الفقهاء في بيان الحلول الفقهية والأحكام الشرعية للمستجدات العصرية التي تنتجها الطفرة الصناعية التي شملت مختلف جوانب الحياة، بل يتعدى ذلك إلى استشراف المستقبل والتخطيط المستقبلي لنظم المؤسسات الحيوية؛ وذلك لتكييفها على النحو الشرعي الذي أذن به الله تعالى.
إن الكثير من التحديات والإشكالات التي تواجه الفقهاء عند محاولة التجديد والتأطير الشرعي في كثير من القضايا المعاصرة تتمثل في عدم التخطيط السابق وإعداد الأطروحات المضبوطة بالضوابط الشرعية، مما يجعل مهمة الفقيه عسيرة؛ فهو يتعامل مع نظام غير منسجم مع الشرع الحنيف، وقد تقتصر مهمته على إيجاد المخارج الشرعية والحلول الجزئية؛ وهذا بلا شك يحدث خللا في هيكلة مؤسسات المجتمع المدني.
من أجل ذلك كان من الضروري أن يستحضر الفقيه النظرة الاستشرافية لمسقبل المجتمع المدني لدراسة مصائر الأمور في ظل الحركة الدؤوبة لعجلة متغيرات الزمن، فكان فقه المدينة والعمران (الواقع والمستقبل) محورا من محاور ندوة الفقه الإسلامي مشتملا على القواعد والضوابط التي تحكم العمران وتنظم بناء مؤسسساته.