باقر الصدر

الشهيد السيد محمد باقر الصدر مثال العلم والأخلاق.. حوار مع الشيخ حسن عبد الساتر

الاجتهاد: قرأت لرجل دين مسيحيّ مارونيّ في جامعة القدّيس يوسف، وهو مشهور وحقوقيّ، يحكي عن السيّد الشهيد فيقول: “فقط رجل واحد في تاريخ الإسلام كتب ما يليق أن يكون دستوراً لإمبراطوريّة إسلاميّة، هو محمّد باقر الصدر”، وقد ساهم في ترجمة كتب السيّد الصدر إلى اللغات العالميّة.

“باقر الصدر منّا سلاما
أيّ باغ سقاك الحِماما

أنتَ أيقظتنا كيف تغفو
أنتَ أقسمتَ أنْ لنْ تناما”

هي المرثيّة التي وُدّع بها آية الله الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره بعد شهادته،فكانت نشيد الولاء والبيعة للمجاهدين الأوائل، حتّى حُفظت كلماتها ورُدّدت على مدى عشرات السنين إلى يومنا هذا.

في هذا الحوار يروي سماحة العلّامة الشيخ حسن عبد الساتر (وهو أحد تلاميذ الشهيد الصدر قدس سره الذي تأثّر به ونهل من علمه) بعض من مشاهد الصدق والحبّ والإخلاص لرجل ذاب في الإسلام.

•بحر العلوم
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على المسلمين وعلى هذه الأمّة بالعلماء بعد أهل البيت عليهم السلام، الذين نهلوا من كتاب الله ومن سنّة المعصومين عليهم السلام. وقد أثنى الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم على العلماء، فقال في محكم كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران: 18)، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9).

وقد يُنعم الله تبارك وتعالى على العلماء أو على عالِمٍ بكثير من العلم حتّى يصبح موسوعة معرفيّة، وهو ما ينطبق على الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره. لقد كان السيّد الشهيد بحراً من العلوم؛ لو سألته في أيّ فرع من فروع المعرفة، لأجاب من دون تردّد أو تلكّؤ وكأنّه يتدفّق علماً ومعرفةً وتفصيلاً وتدقيقاً في أيّ شيء. كان الشهيد السيّد يتمتّع بذكاء خارق؛ فهو لم يكن بحافظ لموسوعة وسائل الشيعة فقط، وإنّما لأبوابها أيضاً، بكلّ ما يختصّ بالطهارة والنجاسة والزكاة والخمس والجهاد، وغيرها من العناوين.

•أوّل لقاء
كنت قد التقيته أوّل مرّة أثناء زيارتي لأحد الطلبة المرضى في النجف الأشرف، فأشار إليّ أحدهم أنّ الجالس مقابلي هو السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره. عندها، قدح في رأسي سؤال وجّهته إليه: “سيّدنا، على الرغم من النعم الكثيرة في هذه الحياة، إلا أنّنا نعزب عنها، وإذا قايسنا أنفسنا بالأوّلين من علمائنا، نرى فارقاً شاسعاً كبيراً بيننا وبينهم في هذا المجال. ما سبب ذلك؟”.

فأجابني لنحو نصف ساعة عن هذه المسألة، وخلاصة قوله إنّ الأوّلين من علمائنا وكبارنا كانوا ينظرون إلى السماء بمقدار ما كانوا ينظرون إلى الأرض، أمّا نحن فشغلتنا الأرض والدنيا بمباهجها. كان كلامه نافذاً جدّاً، دخل مباشرة إلى روحي، وقبض على قلبي وسمعي، وشعرت أنّني بحاجة إلى البقاء بقربه ولا أستطيع مفارقته. لا يمكن لإنسان أن يجالس هذا المخلوق العفويّ، دون أن يتعلّق به؛ فروحه كانت تتكلّم، وكذلك عقله.

•”أنا مرتاح هكذا”
حدّثني الشيخ محمّد، أمين سرّه والمشرف على بيته، أنّه شاهد السيّد الصدر قدس سره أثناء وضوئه، أنّه يرتدي ثياباً رثّة تحت عباءته لم تكن ظاهرة للناس، فطلب منه أن يقبل أن يشتري له غيرها، لكنّ سماحته رفض، وقال: “ما دامت هيئتها صالحة للاستخدام، فلا داعي إلى شراء غيرها”.

أتذكّر أنّه طلب منّي أحد التجّار في النجف، أن أقنع السيّد ليوافق على أن يشتروا له البيت الذي كان يسكن فيه، والذي يعود للمرحوم المقدّس المرجع الشيخ عبد الله المامقاني، وفعلاً، حدثت السيّد، كما فعل قبلي الكثيرون، ولكنّه رفض الفكرة أيضاً، قال لي حينها: “كلّ أفراد عائلتي كانوا يستأجرون ولا يملكون، وأنا مرتاح هكذا”. وقد عاش السيّد الشهيد فقيراً، لدرجة أنّه كان يوزّع الحقوق الشرعيّة التي يحصل عليها على بعض الطلبة الفقراء، وأنا كنت واحداً منهم، إذ عشت عشرين سنة في النجف فقيراً، حتّى إنّني كنت أحلم أن أمتلك مروحة للتخفيف من شدّة الحرّ هناك.

•كتلة مشاعر وعواطف
كان السيّد كتلةً من الأخلاق، والعواطف، والأحاسيس، والوجدان، وإذا تكلّم في أيّ مجالٍ، كنت تشعر أنّه يتكلّم بصدق، وأخلاق، وجدّيّة، وتفانٍ.

في مقدّمة كتابه حلقات الأصول، يُهدي سماحته ثواب جهده إلى روح السيّد عبد الغني الأردبيلي (رحمة الله عليه)، الذي كان رفيقنا في الدرس، وهو ابن بنت المرجع الكبير السيّد الشهرودي، وقد توفّي إثر حادث سيّارة. كان السيّد شديد التأثّر إذا ما أصاب أحداً أيّ ضرر أو أذى، لدرجة أن يبكي. وعندما استشهد أربعة من الطلبة، ما عاد السيّد يملك قدرة على الحركة وعلى الكلام!

كان السيّد الشهيد يتفقّدنا نحن الطلبة، بشكل يوميّ، في الأمور كافّة: في المأكل، والمشرب، والمسكن، والملبس، والراحة، والتعب، والوفاة، وولادة طفل، وغيرها الكثير من التفاصيل. فالسيّد الشهيد كان لا يترك هذه المفردات تغيب عن باله، وأنا لامست ذلك بنفسي.

•غيرته على الإسلام
منذ هجمة التيّار الشيوعيّ في العام 1956م-1957م، والسيّد يشعر بغيرة كبيرة على الإسلام ووظيفته؛ لأنّ وظيفة الإسلام ليس فقط أن نصلّي ونصوم ونحجّ،… بل الإسلام نظام اجتماعيّ متكامل يعالج جميع مشاكل الحياة، وفي جوانبها كافّة، وهكذا كان فكره. قرأت لرجل دين مسيحيّ مارونيّ في جامعة القدّيس يوسف، وهو مشهور وحقوقيّ، يحكي عن السيّد الشهيد فيقول: “فقط رجل واحد في تاريخ الإسلام كتب ما يليق أن يكون دستوراً لإمبراطوريّة إسلاميّة، هو محمّد باقر الصدر”، وقد ساهم في ترجمة كتب السيّد الصدر إلى اللغات العالميّة.

•أريد أن أجدّد إسلامي على يديك
كان السيّد خلال أيّام العطل في الحوزة، يُحاضر فينا في مقبرة خاله، أحد المراجع المسلمين الكبار، الشيخ راضي آل ياسين. في المقبرة، ثمّة غرفة ولها ساحة فيها بعض الحصر من القصب.

كنّا يوماً بحدود 20 – 30 شخصاً، عندما دخل علينا الشيخ أحمد الباقوري، وهو أحد علماء الأزهر الكبار الذين كانوا يجيبون عن المسائل الإسلاميّة على أثير إذاعة لندن، ومعه وكيل السيّد الشهيد في مصر السيّد الرفيعي، ودخل معهما الدكتور زكي نجيب محمود، الملقب بفيلسوف العرب، وكان ملحداً وله كتاب في المنطق يقول فيه: “سأجتهد في تحطيم جميع قواعد الميتافيزيقا”.

انتهى درس السيّد، وانفضّ الجميع، فبقي منّا نحو 3 أو 4 أشخاص، ثمّ رافقنا السيّد إلى البيت. وصلنا مع الجماعة، فقال السيّد: “أريد أن أجدّد وضوئي، فلتصعدوا معي”. كان لديه غرفة صغيرة أرضها مفروشة ببطّانيات، جلسنا جميعاً، ثمّ قال الشيخ الباقوريّ: “كنت أقرأ لهذا البَرَكة (في مصر يُقال للمعمّم: البركة)، وكنت أتصوّر أنّ جميع العقول العربيّة تطوف حول هذا الإنسان كما يطوف المسلمون حول الكعبة، وإذا به رجل فقيه بسيط”.

عندها، أتى السيّد، فقام الدكتور نجيب محمود وانحنى احتراماً بين يديه، وقال: “سيّدنا، لي عندك مسألتان، الأولى: أنّني أريد أن أجدّد إسلامي على يديك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، والمسألة الثانية: أريد أن تُجيزني في ترجمة كتبك إلى اللغات العالميّة”. كان الكثيرون يطلبون من السيّد ترجمة كتبه إلى اللغات العالميّة، فأجازه بذلك.

•ما دام حلمي قد تحقّق
حضر يوماً أحد القادة مع مجموعة من قِبل صدّام حسين، فقام بجولة على كلّ من السيّد الخوئيّ والسيّد الشهيد الصدر قدس سره، وكنّا نحو سبعة أو ثمانية تلامذة في الديوان. أتى هذا الرجل بستّة شروط من صدّام بمثابة تهديد. ألقى السيّد الشهيد كلمة بحدود ثلاثة أرباع الساعة، ومن جملة ما قال: “منذ وعيت الحياة ووعيت إسلامي، كنت أسعى لترجمة هذا الإسلام على الأرض، والآن قد تحقّق هذا الحلم الذي لطالما قضيت عمري وأنا أجاهد في سبيله -يقصد الثورة الإسلاميّة المباركة- فأنا من هنا أُحمّلك كلاماً إلى صدّام، أنّ بإمكانه أن يفعل ما يريد ما دام حلمي قد تحقّق”.

•موعظة الوداع
عندما حضرت في اليوم التالي، لم يكن هناك درس، بل وداع، وخلاصته في مسألتين:

– الأولى: بشّرنا بسقوط آخر قلعة من قلاع الطاغوت في إيران.

– الثانية: كانت موعظة طويلة طُبعت في كرّاس صغير بعنوان “حبّ الدنيا”، يقول فيها: “متى عُرضت علينا دنيا هارون وملكه ولم نقتل موسى بن جعفر؟!”. هذه من المواعظ التي أثّرت حتّى في عناصر مخابرات البعث الذين كانوا بيننا، فبكى كلّ الحضور حينها. كانت موعظة بليغة، صوّر لنا كم أنّ الدنيا سخيفة ورخيصة وصغيرة وتافهة، واستشهد بكلام كثير للإمام عليّ عليه السلام: “الدنيا دارُ ممرٍّ، لا دارُ مقرّ”، “إليكِ عنّي يا دنيا غُرّي غيري”. لقد ودّعنا السيّد بهذه الموعظة.

•الرحلة الأخيرة
في أحد الأيّام، أخبرني السيّد محمود الهاشمي رحمه الله أنّ السيّد الصدر قدس سره يطلب رؤيتي إذا جئتُ إلى النجف، فذهبت إلى السيّد يوم الجمعة بعد الظهر، في 24 رجب على ما أذكر. جلسنا معاً، وسألني بعض الأسئلة وهنّأني ودعا لي؛ لأنّ الله تعالى وفّقني في الكوت إذ كنت وكيله هناك، وقد قمت بعمل جيّد، ثمّ توجّهنا إلى كربلاء.

وفي الطريق، ثُقب إطار السيّارة في منطقة تدعى (خان النص)، فأراد السائق إصلاحه. ترّجلت والسيّد من السيّارة، وكان الطريق صحراويّاً، فخلعت عباءتي وطويتها ووضعتها أرضاً حتّى يجلس عليها السيّد، وقلت له: “تفضل يا سيّد”. وبسرعة البرق، خلع السيّد عباءته ووضعها أرضاً، ثمّ طلب منّي الجلوس، ولكن كلّ منّا راح يرفض طلب الآخر، ويبادر إلى إجلاسه. كان هذا اللقاء الأخير.

•الفكر الخمينيّ والصدريّ
أنا لا أُخفي صراحة أنّنا نعيش مدّاً فكريّاً ووعياً مهمّاً جدّاً؛ إنّه الوعي الذي نشرته مدرسة السيّد الشهيد، وزادته نشراً وترجمةً وتحقيقاً مدرسة الإمام الخمينيّ قدس سره. ونحن نعيش الآن إن شاء الله تمام وكمال هاتين المدرستين الصدريّة والخمينيّة.

فعندما نقرأ عند الإمام الخمينيّ قدس سره عن الحكومة الإسلاميّة نقرأ عزماً وتصميماً وإدراكاً عميقاً، وعندما نقرأها عند الشهيد الصدر قدس سره، نقرأ إخلاصاً وحبّاً غير متناهٍ للإسلام. وقد تعلّمنا منه قدس سره أنّ أيّ سؤال يجب أن يُجيَّر لمصلحة الإسلام الذي هو نظام متكامل للحياة؛ فالإسلام أخلاق وحياة، وهو العدل الإلهيّ الذي يُترجم على الأرض.

 

المصدر : مجلة بقية الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky