الإلحاد

الشباب ومشكلة الإلحاد (2): أسباب الإلحاد ودوافعه / فضيلة الشيخ حسين الخشن

الاجتهاد:  الدراسة الموضوعية تقودنا إلى أنّ وراء ظاهرة الإلحاد – بصرف النظر عن بعض الافتراضات العلميّة الحديثة – جملة من الدوافع أو العوامل المؤثّرة في انطلاقتها والمساعدة على انتشارها:

أ‌- الأُلفة بالمحسوس

ربّما كان الدافع الرئيس الذي يخلق في النفس البشريّة ميلاً نحو الإلحاد، أو يعزّز النزعة الماديّة هو أنس الإنسان بالمحسوس وأُلْفَتِه بالمرئي والملموس، بينما الله سبحانه موجود فوق المادّة لا يُرى ولا يُلمس ولا يُمسّ.

فأُلفة الإنسان بالمادّة وقوانينها تدفعه لا شعورياً إلى استبعاد فكرة الربّ الذي لا تدركه الأبصار ولا الحواس، وقد أشار الله تعالى إلى دور هذه النزعة الماديّة في الدفع نحو الشِّرك والإلحاد، وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: ٢١]، وقال سبحانه: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: ٩٠ – ٩٢]، وهكذا فقد قال قوم موسى (ع) له: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: ٥٥].

ولكن لا يخفى أنّ ربط وجود الأشياء بالإدراك الحسي لها، هو ربط ساذج وتخيّل هو أقرب إلى الوهم، فما كلّ موجود يمكن إدراكه بالحسّ، وبالتالي فليس من المنطقي في شيء نفي كل ما لا يخضع للحس والتجربة، إنّ عقولنا بمعناها المجرّد هي أئمة الأفكار والقلوب والحواس[1]، ومع ذلك فهي لا تدرك بالحس المباشر ولا تخضع للتجارب .

ب‌- الغرور العلمي

وإنّنا نلحظ في دراسة بعض النماذج التي يتبنّى أصحابها الإلحاد، أنّها تنطلق من حالة “غرور علمي”، أو سطحية علميّة، تدفع بعض الأغرار إلى التسرّع في إطلاق الأحكام ونفي وجود الله تعالى، قبل التأمّل التامّ والتدبّر الكافي، ودراسة المسألة بشكل معمّق من جميع جوانبها؛ ولذا تكثر هذه الادّعاءات عند بعض الشباب الذين لم تختمر بنيتهم المعرفية بشكل كامل.

إنّ التواضع العلمي يحتّم على الإنسان التروّي والتمهّل قبل أن يبتّ بمسألة بهذه الأهمية – أعني مسألة وجود الله تعالى – لمجرّد افتراض لم يرقَ إلى مستوى النظرية العلميّة، فضلاً عن أن يمثّل حقيقة علميّة. ومن هنا، فإنّ التجربة العلمية والخبرة المعمقة تعطي الإنسان درساً بليغاً في ضرورة التواضع العلمي والتروّي قبل المبادرة إلى إطلاق أحكام متسرّعة أو بناء تصورات “علميّة” على أسس وادعاءات فارغة.

د‌- ملاءمة هوى النفس

والإلحاد يلائم هوى النفس التي يستهويها التهرّب من التكاليف والإلتزامات، والتخفّف من المسؤوليّات التي يرتّبها الإيمان بالله، فما دام لا يوجد إله ولا حساب، فما الضير في أن يندفع الشخص إلى ممارسة اللّهو الحرام وينغمس في الشهوات، ويطلق العنان لغرائزه دون رادع من شرع أو خوف من حساب الله. إنّ الإيمان بوجود الله سيشكّل ضابطاً ورادعاً، وكذا الإيمان بيوم القيامة يفترض أن يخلق وازعاً رقابياً يدفع الإنسان إلى تحمّل مسؤوليّاته، ويفرض عليه نظاماً أخلاقياً واجتماعياً من نوع خاص. وأمّا من لا يريد أن يعيش حياته بمسؤولية وانضباط، فلا ضير عنده أن يتنكّر لوجود الله تعالى، أو لوجود يوم القيامة، كما قال الله بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: ٥ – ٦].

وهكذا فإنّ هوى النفس يعدّ دافعاً من دوافع الشرك بالله تعالى؛ لأنّ التوحيد، لا سيّما التوحيد في العبادة والطاعة يرتّب على الإنسان مسؤوليات تدفعه إلى التخلّي عن العادات والتقاليد اللاتوحيدية التي ورثها عن الآباء والأجداد، ولهذا فقد يندفع صاحب الهوى، وفراراً من الالتزام بمقتضيات العبادة والطاعة إلى القول بوجود إله آخر لم يأمره بذلك، ولم يكلّفه بهذه التكاليف الشاقة!

هـ – الاحتجاج على الواقع الديني

وقد يكون تبنّي بعض الأشخاص للإلحاد هو مجرّد ردّة فعل ساخطة على بعض الرؤى الدينية المتزمّتة، أو هو صرخة احتجاج في وجه بعض الممارسات اللّاإنسانية التي تقوم بها بعض الجماعات الدينية. وقد لاحظنا من خلال التجربة، أنّ بعض الشباب المسلم الذي يعيش حالة ضياع ونفور من الدين عندما تتحدّث معه محاولاً رفع شُبهاته وتبديد هواجسه فإنّك سوف تكتشف من خلال الحديث معه أنّ أساس المشكلة عنده ليست في عدم قبوله للدين أو في رفضه للإيمان بالله تعالى، وإنّما هي في نفوره من هذه النسخة المشوّهة والفظيعة التي يُراد تقديمها عن الإسلام، لدرجة أنّ بعض الشباب المسلم أصبح لديه يأس من إمكانية التغيير، ولذا تراه يخجل من انتمائه الديني.

كما أنّ ثمّة فجوة كبيرة بين شريحة لا بأس بها (ولعلها الأكبر) من “رجال الدين” وبين الجيل الشاب، بحيث إنّ الكثير من “رجال الدين” بعيدون كلّ البعد عن هموم الشباب وهواجسهم، ولا يتفهمون قلقهم، ولا يستمعون إلى أسئلتهم، ولا يمتلكون الأسلوب الصحيح لمخاطبتهم والوصول إلى قلوبهم أو عقولهم، ولا يقتحمون منتديات الشباب ونواديهم وأماكن تجمعهم، بل يتعالون ويترفعون عن ذلك وينتظرون أن يأتيهم الشباب في بيوتهم ومساجدهم، معتبرين أنّه لا يليق بهم ولا يناسبهم كـ”رجال دين” أن يطرقوا أبواب الآخرين! مع أنّ الكثير من هذه الاعتبارات و”الشأنيات” لا أساس لها، بل هي مجرد أوهام وخيالات، فعالم الدين الذي يقتحم نوادي الشباب الرياضية والثقافية وأماكن تجمعهم للاستماع إلى همومهم وهواجسهم ويسعى إلى محاورتهم والإجابة عن أسئلتهم لن يضيره ذلك بشيء، ولن يوجب هتك حرمته، بل ربما نظر إليه الناس بعين الإكبار والاحترام على شجاعته وجرأته.

إنّ من واجب علماء الدين وحماته أن ينزلوا من بروجهم العاجية إلى أرض الواقع ليعيشوا مع الناس وبينهم ويدخلوا الأسواق ويمشوا في الطرقات، ويقتربوا أكثر فأكثر من هموم الفقراء وأوجاعهم.

وفي المقابل، فإنّ على الشباب المسلم أن يكون يقظاً بصيراً فلا يغترّ بالمظاهر والألقاب والشكليّات التي يحوط بها البعض من دعاة العلم وتجار الدين نفسه، فلا يرضى ( هذا البعض) أن يُذكر اسمه على المنابر أو غيرها إلا إذا سبقته وجرّته قافلة من الألقاب التبجيليّة، من قبيل: “صاحب السماحة والفضيلة، آية الله ، العلامة، المجتهد ..” مع أنّه لا يمتلك من حقيقة تلك الألقاب شيئاً، ما يذكرنا بموقف الشاعر الحسن بن رشيق الذي رفض دخول الأندلس في زمن تقهقرها برغم إلحاح صديقه ابن شرف عليه بذلك، ولكنه أصرّ على الرفض وأنشأ في بيان حال تلك الديار المقسّمة وملوكها الذين لايشبهون الملوك سوى بالألقاب قائلاً:

مما يزهدني في أرض أندلس * أسماء مقتدر فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها * كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد[2]

إنّ على الشاب أن يفتش ويبحث عن العلماء الربانيين الذين يروون غليله الروحي، ويشبعون نهمه المعرفي، وهؤلاء العلماء موجودون على الدوام، فالأرض لا تخلو من حجة صالحة.

وإنّنا نوجّه دعوة إلى كل شباب مسلم حريص على مستقبل الرسالة الإسلامية بأن يبذل – قدر المستطاع – جهده في الدرس الديني المركّز، لا ليمتهن مهمة “رجل الدين”، فربما كان له تخصص علمي آخر أو ظيفة أخرى، وإنّما ليتسنّى لجيل الشباب امتلاك ثقافة دينيّة ذات بعدٍ منهجي أصيل، بما يؤهله لفهم الإسلام ونصوصه، ويمكنّه من حمله والدفاع عنه، أو نقله إلى فضاء أوسع، بالاستناد إلى لغة العصر التي يفهمها الشباب جيداً، فإنّ الدرس الديني ليس حكراً على جماعة معيّنة، وليس في الإسلام طبقة كهنوتية تحتكر فهم النص وشرحه.

هل الله خَلَقَنَا أم نحن خلقناه؟

في ضوء هذه الأُسس المنهجيّة المتقدّمة، يلزمنا دراسة ظاهرة الإلحاد ومراجعة كلّ ما يتشبّث به المنظِّرون لها. ويقيني أنّهم لا يملكون سوى شبهات قابلة للرد والتفنيد. وإذا كان المقام لا يسع للتوسّع أكثر في متابعة كلّ الشبهات، ولا سيما ما يُطرح حول فرضيّات علميّة مؤيدة للفكر الإلحادي، فإنّ هذه الفرضيات – مع أنّها لا تزلزل اليقين بوجود الله تعالى – بحاجة ماسّة إلى دراسة علميّة متخصّصة، نأمل أن يقوم بها بعض أهل الخبرة من العلماء المؤمنين بوجود الله، بصرف النظر عن دينهم.

ولكنّنا نكتفي في هذه العُجالة ردّاً على ما يطرحه ويردّده بعض الملحدين، حول تسخيف فكرة الإيمان بالله تعالى، حيث يُقال لنا: ألا زلتُم تبحثون عن وجود الله وتضيّعون أوقاتكم في هذه المتاهات، فإنّ مسألة الخالق قد غدت فكرة قديمة عفا عليها الزمن، أو يقال: إنّ “الله” هو مجرّد فكرة ذهنيّة ابتكرها “بعض العباقرة لإقناع الجماهير بأنّ في السماء قوة أزلية أبدية ترى كلّ شيء، وتسمع كلّ شيء وتهيمن بحكمتها على كلّ شيء”[3]. إننا نكتفي في الرد على أصحاب هذه الكلمات والدعاوى بالقول: إنّ وجود الله – لو أنصفتم – هو أمر بديهي، بل من أبده البديهيات، وتقضي به الفطرة الصافية والعقل السليم، وإنّ براهين وجوده هي أكثر من أن تحصى.

وأصدقكم القول: إنّي لا أفهم ولا أتخيّل كيف يمكن لعقلٍ منصف وموضوعي أن يتقبّل فكرة أنّ كوناً بهذه العظمة والدقة، وبهذا النظم والإبداع المنقطع النظير، وبهذا الجمال الساحر يوجد بلا خالق ولا منظِّم أو ينبعث من العدم واللّاشيء!!

ولعلّ هذا هو السبب في أنّنا لا نزال نرى الغالبية السّاحقة من بني الإنسان تتبنّى القول بوجود الله، بالرغم من تقدّم الحياة والتطوّر العلمي وسيطرة الإنسان على الطبيعة، وسيادة القانون في كثير من دول العالم. إنّ غالب الأفكار تَبلى وتصبح جزءاً من الماضي والتاريخ إلاّ فكرة وجود الخالق، فإنّها حافظت إلى يومنا هذا على حضورها وفاعليتها لدى مختلف الشرائح الاجتماعية وعلى اختلاف مستوياتها الفكرية، الأمر الذي يؤشّر ليس على فطريّة الاعتقاد بوجود الله تعالى وحسب بل وبداهة ذلك، بما يحتّم على كلّ عاقل أن يدرس هذه الفكرة ويلاحظ ما يساق لها من أدلّة وبراهين.

ثمّ كيف نفسّر ظهور هذا الاعتقاد والميل الفطري عند الأحداث، وربما الأطفال في سنّ التمييز، حيث نلاحظ أنّهم يتوجّهون إلى الآخرين بالسؤال عن بدء الخلق، وكيف وجد الإنسان وكيف خلقت السماوات والأرض؟ ومن الذي نظّمها ورتّبها؟ وإذا قيل لهم: إنّ كل ذلك وجد هكذا من دون موجد ولا خالق ولا منظّم، فإنّ فطرتهم وعقلهم القاضييْن بأنّ وراء كلّ مسبب سبباً يدفعانهم إلى الاستغراب والتعجب. إنّ هذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على فطريّة هذا الميل وأنّه مغروس في الوجدان الإنساني.

وكيف لنا أيضاً أن نفسِّر ظهور هذا الميل عند بني الإنسان عامّة في الصعاب والشدائد؟ فالقضايا الفطريّة قد تغيب وتحتجب عنا بسبب الانغماس والانهماك في مشاغل الحياة وهمومها، ولكن سرعان ما تستيقظ وتصحو، وغالباً ما يصحو هذا الإحساس بوجود إله ذي قوة قادرة عندما نواجه بعض الصعاب التي يفقد فيها المرء الأمل بقدرته وإمكاناته الذاتية، أو بقدرة غيره على إنقاذه ممّا هو فيه، فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: ٦٥].

هذا ولكن ربّما يفسِّر البعض ظهور هذه الأسئلة عند الأحداث والفتية، بأنّ هذا لا علاقة له بالفطرة، بل إنّ مرده إلى التربية التي غرست هذا المفهوم في الأذهان، وأنّ ظهوره لدى الإنسان في الشدائد والصعاب مردّه إلى ما يقال من أنّ الغريق يحاول التمسّك بالقشّة أملاً في النجاة وخوفاً من احتمال المؤاخذة والمساءلة.

إلا أنّ هذين التفسيرَين غير مقنعَين، أمّا إرجاع الخوف عند الشدائد والصعاب إلى الأمل وخوف المساءلة، فإنّها حتّى لو كانت صحيحة فهي لا تنافي ما نقوله.

وأمّا إرجاع الميل المذكور لدى الأطفال إلى التربية حصراً، فهو تفسير مرفوض؛ وليس مقنعاً، لأنّ انتشار الإيمان بالله تعالى عند معظم بني الإنسان منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا لا نعتقد أنّه أمر يسهل تفسيره بالتربية فقط، لأنّنا نجد ظهور هذا الميل عند أشخاص لم يعمل أحد على تربيتهم على الدين والمعتقدات الإيمانية.

ثم إذا كان هذا الأمر، وهو الإيمان بالخالق ليس فطرياً وإنّما منشأه التربية، فإنّنا نسأل: لِمَ لم تستطع التربية المعاكسة إقناع ملايين الناس بالإلحاد، مع أنّ الفكر الإلحادي الذي كان مهيمناً في الاتحاد السوفياتي – مثلاً – عمل على التبشير بالإلحاد والدعوة إليه في المدارس والجامعات، مستخدماً كلّ وسائل الثقافة والتوجيه لمدّة سبعين عاماً تقريباً، وسعى إلى تسخيف الدين ومنع التبشير به، ومع ذلك كلّه لم يستطع أن يُجذّر الإلحاد أو يُزيل الإيمان من النفوس، ولذا فإنّه وبمجرد انهيار النظام المذكور وجدنا أنّ ملايين الناس عادت إلى فطرة الإيمان بالله تعالى!

ولك أن تسأل أيضاً: إنّه إذا كانت التربية هي التي غرست فكرة الإيمان بالله في أذهان الأجيال اللاحقة، فمن غرس هذا المفهوم عند أبناء الجيل الأول من بني الإنسان؟ إننا لا نجد توجيهاً مقبولاً لذلك سوى فطريّة الإيمان.

ربما يقال: إنّ الجهل هو الذي دفع الإنسان الأول ونتيجة خوفه من بعض الظواهر الطبيعية التي لم يجد لها تفسيراً علمياً إلى ربطها بقوة غيبيّة أسماها الإله، متوهّماً أنّ بعض هذه الظواهر كالمطر أو الشّمس أو الأنهار أو الكواكب كائنات حيّة ولها شعور، وهي عندما تغضب فإنّها تنتقم وترسل غضبها وتعبّر عن سخطها من خلال الزلازل والفيضانات، أو عبر الكسوف أو الخسوف، أو غيرها من الكوارث الطبيعية، لذا حاول اتقاءها بتقديم القرابين إليها، أو عبادتها، أو ما إلى ذلك، هكذا انطلقت فكرة وجود الخالق وهكذا انتشرت وتطورّت.

إلاّ أنّ هذا التفسير أيضاً لا يمتلك قوة إقناع، ولا حجة إثبات، لإنّ مفاده أنّ الإيمان بالخالق والإله فكرة انطلقت من حالة الجهل بالطبيعة وعدم القدرة على تفسير بعض ظواهرها المخيفة، وهذا معناه أنّ الإنسان عندما استطاع أن يفسّر الطبيعة ويفهم ظواهرها ويعثر على تفسير علمي لأسرارها لم يَعُدْ بحاجةٍ إلى مثل هذا الإيمان أو الاعتقاد.

مع أنّ الأمر بالعكس كما نلاحظ، فإنّ الإيمان بالله يزداد قوة وحضوراً كلّما ازداد فهم الإنسان للطبيعة، وتكشفت له أسرارها المذهلة وخباياها العجيبة ونظامها الدقيق، حيث يزداد العالم والعاقل يقيناً أكثر من ذي قبل بأنّ مثل هذه الطبيعة على ما عليه من الدّقة والتنظيم والروعة، ما كانت لتوجد عبثاً ولا أن تبتدع نفسها بنفسها.

وختاماً يمكننا القول: إنّ الإنسان إذا تجرّد من الهوى والعناد وغيرها من المؤثرات اللّامنطقية ونظر إلى الأمور نظرة ثاقبة، فإنّ ذلك سيقوده إلى الله تعالى، وإلى الاعتراف بأنّ وجوده تعالى ليس ممّا يحتاج إلى براهين وأدلّة يقيمها غيره عليه، فهو أشدّ وضوحاً من غيره، فكيف يكون غيره هو المظهر له، وكما جاء في الدعاء المنسوب للإمام الحسين(ع): “كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظْهِر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بَعُدْتَ حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك، عميت عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً”[4]. ولكن ربّما يخفى الشيء لشدّة نوره وظهوره، وكما قال السبزواري في المنظومة:

يا من هو اختفى لفرط نوره * الظّاهر الباطن في ظهوره[5].

الهوامش

[1] من أجمل وأروع ما روي عن أمير المؤمنين علي (ع) في هذا المجال قوله:” العقول أئمة الأفكار ، والأفكار أئمة القلوب ، والقلوب أئمة الحواس ، والحواس أئمة الأعضاء”، أنظر: كنز الفوائد للكراجكي ص 88، وعنه: بحار الأنوار ج 1 ص 96.

[2] أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي ج 1 ص 155، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي ج 19 ص 38.، ونسب بعضهم البيتين المذكورين أعلاه إلى محمد بن عمار المهري الأندلسي.

[3] انظر: الدين، تأليف: محمد عبد الله دراز، نقلاً عن بعض من أسماهم السوفسطائية ص81.

[4] بحار ألأنوار ج64 ص142.

[5] هذا البيت هو ممّا استهل به السبزواري منظومته الفلسفية الشهيرة، انظر: شرح غرر الفرائد – قسم الأمور العامة والجوهر والعرض، تحقيق: مهدي محقّق، انتشارات جامعة طهران، 1369هـ، ص3.

 

المصدر: من كتاب “مع الشباب، في همومهم وتطلعاتهم” http://www.al-khechin.com/article/440  نُشر على الموقع الرسمي للشيخ حسين الخشن

 

الإلحاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky