الاجتهاد: جرت العادة أن يتم تناول الثورة الحسينية في مستوى الخطاب التربوي والأخلاقي إبرازاً للإخلاص والشجاعة والأريحية الكربلائية الحسينية، أو في مستوى الخطاب الفكري والثقافي لتحليل الموقف والكلمات الحسينية، أو في مستوى الخطاب الاجتماعي لفهم الرسالة الاجتماعية للثروة، أو في مستوى الخطاب السياسي والإعلامي لتحليل الرسالة السياسية والشعاراتية للتضحية الحسينية.
وبدون شك فإن الخطاب الحسيني وبمستوياته المختلفة تربوياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وعبر العقود المختلفة كانت له إشعاعات وعطاءات عميقة ومستوعبة استطاعت صياغة المجتمع الإسلامي وبأجياله المختلفة في فكره ومشاعره ومواقفه بصورة أصلية ومبدئية راسخة.
ومن دون شك كذلك، فإن مثل هذه المشاعر والعطاءات الفكرية والتربوية التي صنعها خطاب الثورة الحسينية العام، لابد أن يواكبه وبنفس مستواه خطاب حسيني خاص، أعني به الخطاب الحسيني (الفقهي)، فمن المعلوم أن أمور المجتمع وصياغة الموقف الجاد والقرار المؤثر لا تنطلق فقط من الحالة الثقافية والتربوية العامة، فإن مقتضيات الخطاب الاجتماعي العام تختلف عن مقتضيات الخطاب الفقهي الخاص.
فمن المعلوم أن الخطاب الاجتماعي العام ينطلق من مقتضيات المبادئ والقيم الإسلامية العامة الإجمالية، بينما ينطلق الخطاب الفقهي الخاص من مقتضيات الظروف والضرورات الموضوعية الجزئية الخاصة.
من الطبيعي أن خطر التناقض والازدواج بين الخطاب العام والخطاب الخاص هو خطر ممكن وارد إذا لم نحذر من أن يخرج الموقف الفقهي الخاص بصورة كاملة معه ومستمرة من إطار الخطاب الثقافي العام. فخطاب الثورة الحسينية في مستوى الفكر والثقافة هو (خطاب ثوري)، ولا يمكن أن يكون غير ذلك.
والموقف الفقهي أو الخطاب الخاص لا ينبغي أن يصنع لنفسه إطاراً مستقلاً نهائياً عن الخطاب الثوري العام. والأخطر من ذلك أن يتم تجبير وصياغة الخطاب الحسيني العام بما يتلاءم مع قناعات الموقف الفقهي الخاص،
هذه المقدمة كانت ضرورية للبدء بتناول كلمات الفقهاء حول الثورة الحسينية ومدى ضرورة مثل هذا التناول الفقهي لاستكمال إشعاعات الثورة الحسينية في خطابنا وواقعنا، فالخطاب الفقهي هو الحلقة الأخيرة التي تحول الثقافة والقيمة لموقف وحكم شرعي يصنع المشروع والإنجاز الموضوعي، ويوجد التناغم والانسجام بين المضمون الداخلي -بحسب تعبير السيد الصدر(ره)- أي الفكر والمشاعر والقناعات وبين المواقف الموضوعية، وإذا ما فُقِدَ الخطاب الفقهي – لا سمح الله – فإن جزءاً كبيراً من العطاء الحسيني يتجمد، كما أن حالة من التضارب واللاانسجام سوف تحدث.
سوف أتوقف عند كلمات بعض الفقهاء القدماء والمتأخرين والمعاصرين فيما يرتبط بالثورة الحسينية وذلك في محورين:
الأول: وهو حول تعامل الفقهاء القدامى مع الثورة الحسينية.
والثاني: حول تعامل الفقهاء المعاصرين مع الثورة الحسينية، مع ملاحظة أن بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن الأبواب الفقهية هو البحث الذي يمكن أن يتم تناول الثورة الحسينية من خلاله.
المحور الأول: كلمات الفقهاء القدماء حول الثورة الحسينية:
تناول السيد المرتضى علم الهدى(ره) في كتابه الذخيرة في علم الكلام مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الأمن من الضرر) ثم طرح سؤالاً وأجاب عليه بالصورة التالية:
(ثم اختلف الناس فقال قوم: إن الخوف على النفس في إنكار المنكر يزيل الحسن كما يزيل الوجوب، وقال آخرون: إنما يزيل الحسن مضاعفاً إلى الوجوب في الموضع الذي لا يكون في الصبر على القتل إعزازاً للدين، فأما إذا كان في الصبر على القتل إعزازاً للدين حسن الإنكار ولم يجب).
ثم قدم رأيه قائلاً: ومن هذا الوجه يعلم قبح الصبر على القتل وإن كان فيه إعزاز للدين لأن القتل ظلماً مفسدة فلا يخرج من القبح لحصول إعزاز الدين فيه)(1) فالسيد المرتضى (ره) يرى حرمة إنكار المنكر بترتب الضرر على النفس مطلقاً، ولذا فقد اعتبر أن الإمام الحسين(ع) لم يكن عالماً بما آلت إليه مصيره، بل غلب على ظنه صدق أهل الكوفة معه ونصرتهم له وهذا حاصل ما ذكره في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة(ع)). وأما المفسر المعروف الشيخ الطبرسي وفي تفسيره مجمع البيان وعند تفسير قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوْا فيِْ سَبِيْلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوْا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوْا إِنَّ اللهَ يحُِبُّ المحُسِنِيْنَ}(2).
قد ذكر أن (وفي هذه الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأن في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة وفيها دلالة على جواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين كما فعله رسول الله(ص) عام الحديبية وفعله أمير المؤمنين(ع) بصفين وفعله الحسن(ع) مع معاوية من المصالحة لما تشتت أمره وخاف على نفسه وشيعته، فإن عورضنا بأن الحسين(ع) قاتل وحده فالجواب أن فعله يحتمل وجهين، أحدهما أنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله(ص)، والآخر أن غلب على ظنه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً كما فعل بابن عمه مسلم، فكان القتل مع عز النفس والجهاد أهون عليه)(3)
فالشيخ الطبرسي يحرم الإضرار بالنفس لأجل إنكار المنكر وينفي أن يكون الإمام الحسين(ع) أقدم على الشهادة عالماً مختاراً فهو إما لم يكن عالماً باستشهاده أو كان مضطراً لذلك.
وأما صاحب الجواهر وفي سياق حديث عن شرطية الأمن من الضرر بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: (لا بل في الوسائل أو على وجوب تحمل الضرر اليسير، أو على استحباب تحمل الضرر العظيم، وإن كان لا يخلو من نظر بل منع في الأخير ضرورة ثبوت الحرمة حينئذ كما صرح به الشهيدان والسيودي، وما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليهما غيرها)(4)
فصاحب الجواهر يعتبر حرمة تعريض النفس للضرر في سبيل إنكار المنكر وأن موقف مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما -وهو ما يشمل الإمام الحسين(ع)- هو موقفٌ خاصٌّ لا يستفاد منه موقف شرعي عام.
ومن العلماء المعاصرين يقف في نفس السياق الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه فقه العنف المسلح في الإسلام حيث يقول: (ولقائل أن يقول: إن ما ورد في رسالة الإمام الحسين(ع) إلى أخيه محمد بن الحنفية (ره) -على تقدير صحة سندها- يدل بصراحة على أن التكليف بالأمر والنهي يشمل القضية السياسية وتكوين الدولة… فالتكليف بالأمر والنهي في هذه القضية من مختصات عصر الظهور -كالجهاد الابتدائي عند مشهور الفقهاء- وأما في عصر الغيبة فيختص التكليف بالأمر والنهي بالمنكرات الفردية)(5)
فالشيخ شمس الدين يرى أن تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اجتماعياً وسياسياً كما نهض بها الإمام الحسين(ع) تختص بعصر الظهور علماً بأن للشيخ شمس الدين العديد من الكتابات التنظيرية للخطاب الثقافي والاجتماعي للثورة الحسينية!
وعند تتبع كلمات الفقهاء الأعاظم منذ الشيخ المفيد والطوسي وروداً بفقهاء مدرسة الحلة وحتى الفقهاء المتأخرين تجدهم يقيدون وجوب الأمر والنهي مطلقاً بالأمن من الضرر دون أن يتوقفوا بالتأمل في الثورة الحسينية! وكيف تحمل الإمام الحسين(ع) الضرر على نفسه وعياله وأنصاره ونسائه في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
والخلاصة إن موقف الفقهاء القدماء من الثورة الحسينية -بصورة إجمالية- يتلخص في اتجاهات ثلاثة هي:
1- أن الإمام الحسين(ع) لم يتعمد الإضرار بنفسه، إما لعدم علمه بوقوع الضرر عليه أو كونه تحصيل حاصل.
2- إن حالة الإمام الحسين(ع) خاصة لا يقاس عليها.
3- تقييد وجوب الأمر والنهي بعدم الضرر المطلق والاعتماد على أدلة عدم الضرر دون أي إشارة للثورة الحسينية وهو موقف الغالبية العظمى من الفقهاء!
والسؤال المهم هنا أنه لماذا لم يتعرض أكثر الفقهاء -قدس سرهم- للثورة الحسينية باعتبارها تشكل معارضة مستقرة للقول بحرمة أو سقوط الأمر والنهي بمجرد العلم أو توقع الضرر؟
وبعد تأمل الموضوع يمكن تقديم المبررات التالية:
1) ربما يرى بعض الفقهاء أن الإمام الحسين(ع) لم يتعمد إيقاع نفسه في الضرر أو كان مضطراً لذلك.
2) ربما يرى بعض آخر أن تحمل الضرر للأمر والنهي مختص بالإمام المعصوم(ع).
3) من الأسباب الوجيهة كذلك هو رسوخ قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) و(رفع الحرج) في الواقع الفقهي وشمولها للأبواب المختلفة، والتعامل مع فريضة الأمر والنهي باعتبارها عمل فردي كالوضوء والصيام يسقط وجوبه بالضرر أو الحرج.
ويؤيد هذه القاعدة وتطبيقها على الأمر والنهي ورود روايات تشير صراحةً لسقوط الأمر والنهي بترتب الضرر، وقد ذكرها صاحب الوسائل ضمن باب الأمر والنهي، فمن هذه الروايات ما عن أبي عبد الله(ع) قال: قال لي:(يا مفضل من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها)(6).
4) وكذلك تأثير روايات التقية وظروف الاضطهاد والتضييق وغيرها من الأسباب التي أعرض عن ذكرها.
ثانياً: كلمات العلماء والفقهاء المتأخرين حول الثورة الحسينية:
وأبدأ مع الشيخ المطهري والذي تعرض في كتابه (اللمعة الحسينية) لموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشار لتأثير الثورة الحسينية على البعث الفقهي في هذه الفريضة بقوله (وما أقصده هو أن النهضة الحسينية إنما رفعت من إمكانيات الاستنباط والاجتهاد لعلماء الإسلام والمسلمين بشكل عام، في دائمة أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(7)،
وتعرض الشيخ المطهري لمسألة تقيد الأمر والنهي بالضرر بقوله (إن بعض علماء الإسلام -ومع شديد الأسف ينبغي علي أن أقول- إن بعض كبار علماء الشيعة أيضاً، والذين لم ننتظر منهم مثل هذا الموقف يقولون بأن حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقف عند نقطة عدم حصول الضرر بالمطلق، وليس عدم حصول المفسدة)(8)،
ثم يقرر الشيخ المطهري قائلاً (وبناءً عليه نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجال القضايا الكبرى لا يعرف الحدود، وليس هناك أمر محترم في هذه الحالة يمكن مقارنته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يمكنه أن يعيق تأدية هذا الواجب)(9).
وقد ناقش الشيخ المنتظري في كتابه (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية) الأدلة التي استدل بها لتقييد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعدم الضرر مطلقاً بقوله:
(وأما الأخبار التي مرت فمضافاً إلى ضعف أكثرها تحمل على صورة عدم القوة والقدرة وهي شرط عقلي، أو تحمل على صورة عدم إعداد المقدمات بحيث يقع عمله لغواً لا يترتب عليه أثر إهلاك نفسه، أو على كون المورد جزئياً لا يجوز بسببه إيقاع النفس في المهالك أو نحو ذلك من المحامل، وبالجملة فالواجب في المقام إجراء باب التزاحم، وتقديم ما هو الأهم ملاكاً، وهكذا كانت سيرة أصحاب النبي(ص) والأئمة(ع) الملتزمين بموازين الشرعية أمثال أبي ذر وميثم التمار وحجر بن عدي ورشيد ومسلم وهاني وقيس بن مسهر وزيد بن علي وحسين بن علي شهيد فخ، وقد استشهدوا في طريق الدفاع عن الحق، فما في الجواهر هنا من قوله: (وما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها) كلام بلا وجه، فتدبر)(10).
وأما الشيخ محمد أمين زين الدين (ره) وفي كتابه كلمة التقوى فقد أشار لكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحول لعنوان (الجهاد) في الحالات التي تقتضي المصلحة الأهم تحمل الضرر الشديد مستشهداً بالمواقف المشهورة وهي إشارة لا تخفى للثورة الحسينية والمواقف المشابهة، يقول الشيخ في ذلك:
(وإن كان تأثير أمره ونهيه في ذلك الشخص أكثر فائدة وجدوى للإسلام، وجب عليه أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وإن أوجب ذلك الضرر الشديد، وكان ذلك من الجهاد في سبيل الله، وليس من مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تأريخ الإسلام أمثلة معروفة ومشهورة لذلك)(11).
وأما السيد الصدر(ره) فله مع الإمام الحسين(ع) قصة خاصة، فالسيد الصدر المفكر والمؤرخ استطاع أن يحل لغز الثورة الحسينية حينما قرر أن الإمام الحسين(ع) قرر الاستشهاد عالماً مخططاً ومختاراً للشهادة منذ بداية ثورته، ليهز بدمه الطاهر وجدان الأمة هزاً عنيفاً، وليحرر إرادة الأمة من مرض (فقدان الإرادة) والصدر (المفكر) لم يكن بعيداً عن الصدر (الفقيه) ولم يكن التنظير الفكري عند الصدر إلا إطاراً للعمل، فاعتبر أن وضع العراق والأمة في عصره يشابه وضع الأمة في عصر الإمام الحسين(ع) لذلك قرر التضحية بنفسه ودمه ليهز إرادة الأمة والعراق!
هكذا هو الصدر مفكراً وفقيهاً وشهيداً، استطاع بفكره تجاوز الفهم الضيق للقضية الحسينية، واستطاع بفقهه تجاوز حدود الضرر والتقية المبالغة، واستطاع بدمه وشهادته أن يصنع فجراً متألقاً للإسلام ومدرسة أهل البيت(ع)،
ولنستمع للسيد الشهيد الصدر(ره) وهو يتحدث بهذا الصدد: (لا، سوف أظل أتكلم وأتهجم على السلطة، وأندد بجرائمها، وأدعو الناس إلى الثورة عليها، إلى أن تضطر قوات الأمن إلى قتلي في الصحن الشريف أمام الناس، وأرجو أن يكون هذا الحادث محفزاً لكل مؤمن وزائر يدخل الصحن الشريف، لأنه سيرى المكان الذي سوف أقتل فيه فيقول: (ها هنا قتل الصدر)، وهو أثر لا تستطيع السلطة المجرمة محوه من ذاكرة العراقيين)(12).
وأما الإمام الخميني(ره) فقد فجر ثورته ونهضته على قاعدة الثورة الحسينية، ومشهورة هي قولته (كل ما لدينا من عاشوراء)، بل صاغ من نهضة سيد الشهداء(ع) نهجاً سياسياً واجتماعياً وفكرياً متكاملاً وشاملاً ورضياً ليس له نظير في عالم اليوم.
ولم يكن بمقدور الإمام الخميني(ره) أن يحقق هذه المنهجية الحسينية المتكاملة لو ظل أسيراً ومحبوساً للخطاب الثقافي والعاطفي للثورة الحسينية، فالخطاب الحسيني العام يكفي لتحقيق الأهداف الحسينية المقدسة على أرض الواقع، وقد وفق الإمام الخميني(ره) توفيقاً كبيراً في تحقيق المشروع الحسيني العظيم على مستوى المنهج والواقع لأنه تلقى واستوعب المشروع الحسيني بشموليته وتكامله (تربيةً وعرفاناً وتوحيداً) و(فكراً واجتماعياً) و(فقهاً ثورياً) و(منهجاً سياسياً جهادياً).
ويقول الإمام الخميني(ره) حول فلسفة عاشوراء: (يجب الوقوف بوجه الظلم (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) وهي عبارة كبيرة تفهم بشكل خطأ. إنهم يتصورون معنى تلك العبارة أنه ينبغي البكاء في كل يوم لكن المحتوى غير ذلك، ماذا فعلت كربلاء؟ وماذا كان دور أرض كربلاء في يوم عاشوراء؟
يجب أن تكون جميع الأراضي كذلك. كان دور كربلاء أن قدم سيد الشهداء(ع) مع نفر معدود إلى هذه الأرض، ووقفوا أمام ظلم إمبراطور زمانهم، أي يزيد، وضحوا وقتلوا، لكنهم لم يقبلوا بالظلم، وهزموا يزيد، يجب أن تكون جميع الأماكن على هذه الشاكلة، يجب أن يشعر شعبنا بهذا المعنى يومياً وهو أن اليوم عاشوراء، ويجب علينا أن نقف بوجه الظلم وهنا كربلاء، وينبغي أن نقوم بدور كربلاء)(13).
ويعتبر الإمام الخميني(ره) أن نهج القرآن والأنبياء(ع) وهو نهج ثوري وجهادي، يقول في ذلك: (ماذا عمل موسى بن عمران؟ ماذا عمل في حياته؟ ماذا عمل النبي إبراهيم في حياته؟ إنهم انتفضوا جميعاً بوجه الجور، وقاموا بوجه الظلم، يجب أن نقتدي بهؤلاء ونقوم ضد الظلم، على المسلمين أن ينتفضوا بوجه الجور والظلم والمنكرات)(14).
ونحن بمطالعة فتاوى الفقهاء المعاصرين، فسوف نلاحظ أن تغيراً جذرياً طرأ في الموقف من اشتراط وجوب الأمر والنهي بعدم الضرر المطلق حيث كان هذا الاشتراط محل تسالم الفقهاء السابقين تقريباً، أما الآن فإن الغالبية الساحقة -في حدود تتبعي- تربط وجوب الأمر والنهي بالمصلحة الأهم وتزاحم الملاكات، وأن تحمل الضرر البالغ ربما وجب في بعض الظروف الخاصة حينما يكون في تحمل الضرر الكبير مصلحة أكبر للإسلام والمسلمين، ومن دون شك فإن تطور البحث الفقهي والاجتهادي في شموليته القرآنية والروائية والعقلية وتنقيح باب التزاحم وتعمق النظرة للثورة الحسينية، ووصول العلماء لإجماع حول خطأ الفكرة القائلة بخصوصية التضحية الحسينية أو عدم علم الإمام مسبقاً بشهادته أو اضطراره للشهادة لحفظ عزته الشخصية، حيث إن هذه الأفكار لم يعد لها حالياً أي قبول، أضحت جزءاً من الماضي ولا يقول بها من له أدنى معرفة بمجريات الثورة الحسينية (يمكن لمتابعة الأقوال حول هذه القضية مطالعة كتابي نظرية النهضة الحسينية).
من الضروري الالتفات إلى أن الثورة الحسينية هي ثورة للتصحيح المفاهيمي والمعنوي، وقد كانت الصرخة الحسينية المدوية في سماء الأمة بجيلها المعاصر للإمام وأجيالها اللاحقة تهدف لرفع شعار التضحية لأجل الإسلام ومستقبل الأمة، وأن تحمل الأضرار والتضحية لأجل الأهداف الإلهية هو النهج الإسلامي القرآني النبوي الأصيل، فكيف تنسجم هذه الرسالة الحسينية مع الرأي القائل بسقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرمته بمجرد الضرر ولو اليسير؟ أنت ينبغي أن تعمل على صياغة فكر ونهج وخط إسلامي متكامل في مستوى المعنوية والثقافة والرؤية الفقهية والسياسية يرقى للخطاب والرسالة الواقعية للثورة الحسينية باعتبارها تجسيداً للنهج النبوي القرآني الثوري المبدئي.
فالإسلام مع الثورة الحسينية هو إسلام الجهاد والمبدأ والمواجهة والثبات والتضحية لأجل المظلومين والمستضعفين، وأما الإسلام حينما يعزل عن الثورة الحسينية ويصبح مربوطاً بصورة عاملة بهواجس التقية وعدم الضرر، فإنه يكون ـ ولو من دون قصد ـ معزولاً عن قضايا إقامة الشريعة والعدالة وحقوق المستضعفين ومنسلخاً عن جوهر الأهداف القرآنية والنبوية وواقعاً في ذات المشكلة التي أرادت الثورة الحسينية تخليص وتحرير المسلمين منها.
ولنختم هذه المقالة المتواضعة بهذه الكلمة الحسينية الخالدة والمدوية في وجدان الزمن، حيث يقول الإمام الحسين(ع) معلناً أهداف ثورته المقدسة: (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنرى المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسنتك وأحكامك، فإنكم إلا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلم عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا الله). والحمد لله رب العالمين.
* الهوامش:
(1) ص557 -558 الذخيرة- السيد المرتضى.
(2) سورة البقرة، الآية 195. (3) ص516 مجمع البيان الجزم الشيخ الطبرسي.
(4) ص683 جواهر الكلام- الشيخ محمد حسن النجفي.
(5) ص80 -81 فقه العنف المسلح في الإسلام- الشيخ شمس الدين.
(6) ص128 الوسائل الجزء السادس عشر، الشيخ الحر العاملي.
(7) ص106 اللمعة الحسينية الجزء الثاني- الشيخ المطهري.
(8) ص112 م، س.
(9) ص114 م، س.
(10) ص256 دراسات في ولاية الفقيه الجزء الثاني الشيخ المنتظري.
(11) ص308 كلمة التقوى الجزء 2، الشيخ محمد أمين زين الدين.
(12) ص309 الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار- الشيخ محمد رضا النعماني، 424 منهجية الثورة الإسلامية.
(13) ص421 م، س.
(14) ص421 م، س.
المصدر: مجلة رسالة القلم العدد التاسع