الاجتهاد: قد وقع الخلاف في في تاريخ إلزام المسلمين بأداء الحج، والمذكور في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر “عليه السلام” (1) أن التكليف بأداء الحج كان بعد التكليف بأداء الصوم.
وقد نصت مصادر كثيرة (2) على أن الصوم شرع في السنة الثانية من الهجرة، وعليه فإن تشريع الحج أو الإلزام بأدائه كان متأخراً عن الهجرة، فما حكاه ابن حجر عن بعضهم من أن تشريع الحج أو الإلزام به تم قبل الهجرة غير صحيح، وقد نبّه ابن حجر نفسه على شذوذه.
ولكن هذا يبتني على الاعتماد على رواية أبي الجارود، مع أنها غير تقية السند، فإن أبا الجارود – الذي هو رئيس فرقة من الزيدية – لم يوثق بوجه معتبر، وورود اسمه في أسانيد تفسير القمي أو کامل الزيارات لا يجدي في إثبات وثاقته – كما هو محقق في محله – وأما عد الشيخ المفيد إياه في الرسالة العددية من الأعلام الرؤساء الذين لا طريق إلى ذم واحد منهم فهو أيضأ مما يشكل الأخذ به كما أوضحته في موضع آخر.
نعم ذكر ابن الغضائري في ترجمته (3) أن (حديثه في حديث أصحابنا أكثر منه في الزيدية. وأصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الأرحبي)، فربما يقال: إن هذا الكلام يدلّ على أن أبا الجارود نفسه كان مقبول الرواية، ولذلك كان الأصحاب يعتمدون ما رواه عن الأرحبي دون ابن سنان لضعف الأخير دون الأول.
ولكن يمكن أن يناقش هذا الكلام …
اولا: بأن أقصى ما يدل عليه اعتماد الأصحاب على روايات الأرحبي عن أبي الجارود هو أن أبا الجارود لم يكن من الضعفاء جداً الذين لا يعتدّ بشيء من رواياتهم اصلاً – بل كان مقبول الرواية في الجملة – وأما كونه ثقة فلا دلالة في ما ذكر عليه، فليتدبر.
وثانيا: أنه يحتمل أن يكون الوجه في ما ذكره ابن الغضائري من التفريق بين ما رواه الأرحبي عن أبي الجارود، وما رواه ابن سنان عنه هو اختلاف حال ابي الجارود نفسه، فقد قال النجاشي(4): إنه (روي عن أبي عبد الله “عليه السلام” وتغير لما خرج زید) في الإشارة إلى صيرورته زیدیاً وتزعمه فرقة من فرق الزيدية ، وهي الجارودية.
فلعل كراهة أصحابنا لما كان يرويه محمد بن سنان عنه هي من جهة أنه ادرکه بعد تغيّره، بخلاف محمد بن بكر الأرحبي إذ كانت روايته عنه قبل ذلك، فليتأمل (5).
وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من التفصيل في روايات أبي الجارود بعدم الاعتماد على الروايات المروية عنه بطريق من هم من طبقة محمد بن سنان للسبب نفسه، أي لا يعتمد على رواياتهم عنه، لأنهم رووها عنه بعد التغيّر.
وأما ما رواه عنه من هم في طبقة الأرحبي فيؤخذ بها لأنها رويت عنه قبل تغيّره.
وكيفما كان فإن عمدة الأقوال في تاريخ فرض الحج وإيجابه اثنان أو ثلاثة:
القول الأول: أن الحج فرض في السنة السادسة من الهجرة. نسبه ابن حجر إلى المشهور بين الجمهور، قائلاً(6): ( لأنها نزل فيها قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ثم قال: (وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض.
ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وابراهيم النخعي بلفظ وأقيموا).
وسياتي أن الشيخ الطوسي “قدس سره” فسر أتموا بأقيموا في موضع من تفسيره، وقال (7): (وهو المروي عن علي “عليه السلام” وعن علي بن الحسين مثله).
ولكن القراءة المذكورة – إن صحت نسبتها إلى أحد – فهي شاذة ولا يعتد بها. كما أنه لا دليل على تفسير الإتمام بالإقامة، فإن ما نسبه الشيخ “قدس سره” إلى علي والسجاد “عليهما السلام” مرسل. ورواياتنا في المسألة مختلفة، وسياتي التعرض لها في بحث لاحق إن شاء الله.
هذا مضافاً إلى أنه لم يثبت أصل ما ادعاه ابن حجر من نزول الآية الكريمة في السنة السادسة للهجرة، بل المستفاد من كلام الشيخ المفيد(8) نزولها في حجة الوداع.
القول الثاني: أن فرض الحج كان في السنة التاسعة من الهجرة، وذلك لنزول قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) في هذه السنة، وهذا هو ما اختاره العلامة الحلي “قدس سره وابن حزم وابن القيم(9)، قال الأخير: (إن الصحيح أن الحج فرض في أواخر سنة تسع، وأن آية فرضه هي قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وهي نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع).
القول الثالث: أن فرض الحج كان في السنة العاشرة من الهجرة، أي في نفس السنة التي حج فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الآية المذكورة نزلت فيها، اختاره الجصاص قائلاً: (10) (وهذا أشبه بالصحة لأنا لا نظن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تاخير الحج المفروض عن وقته المأمور فيه).
ولكن ما ذكره مجرد ظن لا قيمة له. ومن قال إنها نزلت في السنة التاسعة فهو يقول بنزولها بعد موسم الحج فلا تأخير في أداء الحج على كل حال، مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد حج الحجة الواجبة كما ورد في النصوص، فلا إشكال من هذه الجهة. اللهم إلا أن يقال: إن عدم تأخير النبي إنما هو بالنسبة للمسلمين الذين لم يحجوا، لأن بعض المسلمين مثله كان قد حج قبل ذلك.
فالنتيجة: أن تاريخ الإلزام بالمسلمين بأداء الحج ليس بذلك الوضوح، إذ لا توجد رواية معتبرة يمكن الاعتماد عليها في ذلك. ولكن أغلب الظن أن الإلزام كان في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة.
بقي أمران ..
الأول: أن حج الإفراد والقران كان هو الحج الذي شرعه الله سبحانه وتعالى من قبل، وإنما شرع حج التمتع في حجة الوداع كما ورد في صحيحة معاوية بن عمار وصحيح الحلبي(11).
الثاني: ورد في صدر صحیح معاوية المشار إليه آنفاً(12): «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج، ثم أنزل الله عز وجل عليه: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ .. ) فأمر المؤذنين أن يؤذنوا ..)).
ونظير ذلك ما ورد في رواية أخرى مروية في إرشاد القلوب وغيرها من المصادر(13)، ولكن مضمون الروايتين لا يخلو من غرابة فإن الآية الكريمة المذكورة إنما تتضمن حكاية ما خوطب به إبراهيم (عليه السلام)، وليس الخطاب موجهاً فيها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلاحظ.
الهوامش
(1) الكافي ج:۱ ص:۲۹۰
(2) راجع الدر المختار ج:۲ ص:407، وروضة الطالبين ج:7 ص:409،ومغني المحتاج إلى معرفة معانی ألفاظ المنهاج، ج:1،ص: 420 وشرح مسلم للنووی ج:۱ ص:۱۷۸، وغيرها.
(3) الرجال لابن الغضائري ص:61
(4) رجال النجاشي ص:۱۷۰
(5) وجه التأمل: أن الشيخ ذكر في رجاله: أن محمد بن بكر الأرحبي مات سنة احدى وسبعين ومائة وله سبع وسبعون سنة وخروج زيد كان سنة (۱۱۸هـ)، فيستبعد أن تكون رواية الأرحبي عن أبي الجارود قبل تغيّره خاصة.
(6) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:۳ ص:۳۰۰ .
(7) التبيان في تفسير القرآن ج:۲ ص: 155.
(8) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ج:۱ ص: ۱۷۳.
(9) تذكرة الفقهاء ج:۲ ص: ۱۹، الأحكام ج:۳ ص۳۰۰. لاحظ حاشية رد المختار ج:۲ ص : 500.
(10) أحكام القرآن ج:3 ص:۳۰۲
(11) الكافي ج:4 ص:245، 248.
(12) الكافي ج:4 ص:245.
(13) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ج: ۲۸ ص: ۹۵.
المصدر: موسوعة ” بحوث في شرح مناسك الحج”، تقرير أبحاث السيد محمد رضا السيستاني – بقلم أمجد رياض و نزار يوسف.
المجلد الأول، ص: 37.