الاجتهاد: يمكن القول بأنّ العقليّة المسيطرة على ذهنية هذا الدفاع عن هذه الكتب هي العقلية الاحتياطية من جهة والاستصحابية ـ كما كان يسمّيها السيد الصدر ويئنّ منهاـ من جهة ثانية، أمّا أنها استصحابية فلأنّها تريد البقاء على ما كان حتى يأتي قاطع البرهان بخلافه، فيصدق عليها أنها تريد أن تؤسّس أصالة عدم التغيير. وأما أنها احتياطية فلأنها تنطلق من أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة. بقلم الشيخ الدكتور حيدر حب الله
من الواضح أنّ الكتب الدرسية في الحوزات والمعاهد الدينية تعبّر عن مراحل تاريخية من تطوّر أو سيرورة علمي الفقه والأصول، ومن ثم فهذه الكتاب كما تشتمل على نقاط قوّة كذلك تحوي نقاطاً من الضعف، الأمر الذي يعني أنّ الدعوة إلى استبدالها أو تطويرها ليست دعوةً إلى التخلّي عن نقاط قوّتها بقدر ما هي دعوة في واقع الأمر لتجاوز نقاط ضعفها، وهي نقاط ضعف لا ترجع كلّها بالضرورة إلى ضعف كتّابها بل قد ترجع لأسباب حافّة كما تقدّم، كعدم كون هذه الكتب قد وضعت للتدريس.
ورغم ما تقدّم، ظلّت بعض الأوساط في الحوزات العلمية ترفض إجراء تعديل في الكتب الدرسية، وترى ذلك دعوةً إلى تراجع المستوى العلمي في الحوزات الدينية.
ولعلّ التأمّل في الأسباب الداعية إلى تحفّظ بعضهم عن تغيير الكتب الدرسية يوصلنا إلى أمور أهمها:
الأوّل: ما أشار إليه السيد علي الخامنئي([17])، من أنّ هذه الكتب قد خرّجت العلماء والفقهاء والأصوليين الكبار، وهذا يعني أنها قد أثبتت جدارتها وفعاليتها، ومن ثم لا يصحّ لنا أن نستبدلها بأيّ كتاب قبل إثبات جدوائيّة هذا الكتاب الجديد. ويذهب الشيخ بشير النجفي المعاصر إلى أنّ كتب الفصول والقوانين والرسائل والكفاية لم يأت بديل لها حتى الآن([18]).
وقد أجاب السيد الخامنئي عن هذا التصوّر بأنّ وصول هؤلاء العلماء إلى ما وصلوا إليه لم يكن نتيجة هذه الكتب وحدها، وإنما كانت له عوامله ومؤثراته الأخرى أيضاً.
وكأنّ السيد الخامنئي يريد أن يبدّد تصوّر أنّ هذه الكتب وحدها هي التي صنعت هؤلاء، وإلا فقد يشكل المدافعون عن هذه الكتب بأنها أثبتت جدارتها في الإسهام النسبي في ظهور شخصيات رفيعة من هذا النوع، الأمر الذي لا نتأكّد من توفّره في غيرها.
وهنا يمكن القول بأنّ العقليّة المسيطرة على ذهنية هذا الدفاع عن هذه الكتب هي العقلية الاحتياطية من جهة والاستصحابية ـ كما كان يسمّيها السيد الصدر ويئنّ منها([19])ـ من جهة ثانية، أمّا أنها استصحابية فلأنّها تريد البقاء على ما كان حتى يأتي قاطع البرهان بخلافه، فيصدق عليها أنها تريد أن تؤسّس أصالة عدم التغيير.
وأما أنها احتياطية فلأنها تنطلق من أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة، وهي قاعدة مثبّطة في المجال التطوّري والتغييري والمجتمعي، وتساعد على فشل المشاريع التنموية؛ لأنها دائماً تعيش حسّ القلق والخوف من الآتي بدل أن تستشعر الأمل منه، في مؤشر على فقدانها الروح الشبابية في العمل والصيرورة.
وعلى هذا الأساس، فإننا نوافق على ضرورة عدم التخلّي عن كتاب قبل إثبات جدوائيّة بدائله، لكنّ السؤال: كيف نثبت جدوائية البديل ما دمنا لا نسمح له بخوض التجربة؟ لقد عثرنا على مشاكل في الكتب القائمة نريد تفاديها: كيف يمكن أن يقع ذلك؟
إنّ توقف القبول بالكتاب الدرسي على إثباته لجدوائيّة نفسه، ثم توقف إثباته لجدوائيّة نفسه على القبول به، يلزم منه الدور، فالمفترض وضع معايير لجدوائيّة كتاب درسي، ثم عرض هذه الكتب الجديدة على هذه المعايير لقياس درجة نجاحها، ثم إحالتها إلى فترات تجريبية([20])، ثم تبنّيها. أما اتخاذ موقف سلبي مسبق من أيّ مبادرة تغييرية بحجّة أنه لم يعرفها السابقون فهذا هو الجمود عينه، فمن قال بأنه لن يظهر كتاب أفضل؟ وما هو الدليل على ذلك؟
هذا كلّه، فضلاً عن أنّ السابقين أنفسهم لم يكن عندهم هذه الكتب الدرسية ومع ذلك بلغوا ما بلغوا، إضافة إلى أنهم خاضوا تجربة تغيير الكتب الدرسيّة، فقد رأينا كيف كانت هناك كتب درسيّة هجرت في عصور لاحقة كالفصول والقوانين والرياض وزبدة الأصول والعدّة وغيرها، فلنقتدِ بهؤلاء العلماء في تغييرهم المتكرّر لما اعتمدوه من كتب درسية.
الثاني: كانت الإشكالية الأولى في أصل وجود البديل، أما الآن فإنّ الإشكالية تكمن في العجز عن التوفّر على علماء مثل الشهيد الثاني والشيخ الأنصاري والشيخ الخراساني والسيد الصدر و.. فمن يريد التصدّي عليه أن يكون أفضل من هؤلاء جميعاً، ومن أين نحصل عليه؟! فالمشكلة في المُبْدِل لا في البديل أو المُبْدَل.
وقد ألفت الإمام الخامنئي([21])النظر إلى هذه المسألة، وأجاب عنها بأنّ كثيراً من المتأخّرين قد يكون أفضل حالاً ـ من الناحية العلمية ـ من المتقدّمين، وذو ثقافة أوسع وأشمل؛ لأنهم علموا ما علمه السابقون وزيادة.
وهذا حقّ، لولا مجرّد الهالة القداسية والصور الخيالية السورياليّة التي ينسجها الطلاب بمساعدة كثير من الأساتذة حول العلماء السابقين، حتى تجد الطالب قد رُبّيَ تربيةً انهزامية استسلامية أمام هؤلاء العلماء، وهناك من يرغب على الدوام في عدم كشف نقاط ضعف العلماء والتعمية عليها، فينشأ الطالب على التعرّف على عناصر القوّة فقط، الأمر الذي يكوّن لديه صوراً غير واقعيّة، ولعلّ هذا ما يجعل الأموات عندنا أفضل وأعظم من الأحياء، فلا نتعرّف على عظمة المصلحين والمجدّدين ـ كما يقول بعض الباحثين المعاصرين([22])ـ إلا بعد وفاتهم، كما حصل مع غير واحد من كبار العلماء المتأخرين كالسيد الصدر والعلامة الطباطبائي.
وأحد أسباب ذلك غياب الدرس التاريخي الراصد لتطوّرات العلوم والنظريات، والذي يكشف عن الحجم الحقيقي للإضافات التي قدّمها هذا العالم أو ذاك، وما أخذه ممّن سبقه، وقد فصّلنا الكلام في هذا الأمر في موضع آخر([23]).
وبناءً عليه، يمكن أن نقوم بإعداد فريق عمل من العلماء، بعضهم يمتاز بعمقه ودقّته في المباحث الفقهية والأصولية، وبعضهم يمتاز بجودة بيانه وسهولة تعبيره، وبعضهم بروعة تنظيمه للموضوعات وتنسيقها بما يجعلها كتاباً درسياً، وبتعاضد هذا الفريق ثم مراجعة جملة من كبار العلماء الآخرين لما قدّم، نحصل على درجة وثوق أكبر.
الثالث: ما يمكن عدّه إشكالاً أساسياً، أطلق قبل مشروع تطوير الكتب الدرسية الأخير في حوزة قم، وتعمّق بعد خوض هذا المشروع، وهو ما أشار إليه السيد الخامنئي([24])، حيث ذكر أنّ هناك من يخشى من مشروع تطوير الكتاب الدرسي حتى لا نصنع علماء سطحيين غير متعمّقين، وقد تأكّدت هذه الإشكالية عند كثيرين بعد تجربة العقدين الأخيرين، إذ ذهبوا إلى أنّ ما سمّي بخطوات تطوير المناهج اعتمد المنهج العرضي دون الطولي، بحيث زاد من عدد الموادّ الدرسية بغية توسعة أفق الطالب، على حساب العمق الذي تأخذه كلّ مادة، ويقال لك هنا بأنه تمّ حذف كتاب كفاية الأصول لصالح كراريس صغيرة سطحية، لا تنتج اجتهاداً ولا عمقاً علمياً.
لقد أجاب السيد الخامنئي هنا ـ قبل خوض تجربة تطوير المناهج الأخيرة ـ بعبارة تمثيلية بالغة الجودة، وهي أنّ ما نريده هو صنع صفائح معدنية أرقّ من الورق لكن أقوى من الحديد. وهذا الكلام مهم وجيّد، كما أن تطبيقه صعب؛ حيث يلاحظ أنّ تجربة العقدين الأخيرين تورّطت ـ بعض الشيء ـ في هذه المشكلة، لكنّ هذا لا يعني صحّة أصل الإشكال أو الاستسلام للواقع، بل يفرض تفادي هذه المشكلات لتحقيق الغايات المنشودة.
يضاف إلى ذلك، أنّه لا تلازم بالضرورة بين تبسيط العبارات مثلاً وتسطيح المعنى، نعم إذا ظلّ العقل الحوزوي يربط بين تعقيد اللفظ وعمق المعنى ـ كما يشير بعض العلماء([25])ـ فلن يمكن إصلاح مناهج الدراسة.
إنّ أحد أسباب بعض أشكال الفشل الذي حصل في مشروع تطوير المناهج الأخير في حوزة قم، هو تخلّي كبار العلماء عن المساهمة في هذا المشروع، فلو أنّهم ساهموا وتدخّلوا وآمنوا بهذه الفكرة لما تركت المناهج الدرسيّة في يد أشخاص غير قادرين ـ بحسب وجهة نظر العلماء ـ على تقديم بدائل قويّة ومناسبة.
الهوامش
([17]) انظر: مشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية، خطاب الإمام الخامنئي نموذجاً: 124 ـ 125، تدوين مراجعة وترجمة: معهد الرسول الأكرم العالي للدراسات الإسلاميّة، نشر مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى.
([18]) راجع الحوار الذي أجرته معه مجلّة (حوزة وبجوهش) الفارسية، في عددها الخاص حول النجف الأشرف: 128.
([19]) محمد باقر الصدر، ومضات: 452 ـ 454، ج17 من موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، نشر مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية، إيران، الطبعة الأولى، 1430هـ.
([20]) حول الإخضاع للتجربة، راجع: الفضلي، في الحوار الذي أجراه معه حسين منصور الشيخ، ونشر في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 205.
([21]) مشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية: 125.
([22]) راجع: خالد توفيق (جواد الكسار)، كتاب الأسبوع (دروس في فقه الإماميّة)، وهو مقال منشور في كتاب: قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 76.
([23]) راجع: حيدر حب الله، مسألة المنهج في الفكر الديني، وقفات وملاحظات: 91 ـ 124، وبالخصوص: 113 ـ 116، مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.
([24]) مشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية: 127.
([25]) انظر: ناصر مكارم الشيرازي، الحوار الذي أجري معه، ونشر في مجلة فقه أهل البيت، العدد 35: 174.
المصدر: قسم من مقالة بعنوان: الحوزة العلمية ومناهج الدراسات العليا – مطالعة عابرة في أساليب التعلّم والتعليم وقواعد الإدارة التعليمية للشيخ الدكتور حيدر حب الله
تحميل المقالة
الحوزة_العلمية_ومناهج_الدراسات_العليا
إصلاح الكتب الدرسية الحوزية