أصول الفقه

أصول الفقه بين التأسيس و التأصيل.. محمد عابد الجابري أنموذجًا

الاجتهاد: إن أصول الفقه هو ذلك العلم الذي يدرس طرائق الاستدلال واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها النظرية والتطبيقية. ويعني هذا أن أصول الفقه يُعنى باستخراج القواعد التي تساعد المجتهد على فهم النص الشرعي واستخلاص أحكامه الشرعية.  بقلم: يوسف اغزيل المجاهد

تناول الدكتور محمد عابد الجابري أصول الفقه في كتابه (بنية العقل العربي)[1] ضمن مبحثي البيان والبرهان، على أساس أن الفكر العربي قد تكوّن من ثلاثة نظم رئيسة هي: البيان، والبرهان، والعرفان. ومن ثم يرتبط البيان بالأدب، والبلاغة، والنقد، واللغة، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام. في حين، يقترن البرهان بالفلسفة، بينما يقوم العرفان على التصوف والولاية.

وقد رجّح الجابري قيمة البرهان الاستدلالي المنطقي الأرسطي على البيان والعرفان؛ لأن الفلاسفة ينطلقون من مقدّمات يقينية، ويصلون إلى نتائج يقينية.

وما يهمنا في هذه الدراسة هو التوقّف عند منظور محمد عابد الجابري إلى علم أصول الفقه؟ وكيف عالج الجابري إشكالية التأسيس والتأصيل؟ هذا ما سوف نبرزه في المباحث التالية:

المبحث الأول: مرحلة تأسيس علم الأصول

لقد كان هَمُّ علماء أصول الفقه هو الاجتهاد والاستنباط والبحث عن الأحكام الشرعية، واستكشاف قوانين تفسير الخطاب الشرعي، والبحث عن تقنيات تحليله. لذا، كان هَمُّ العقل عندهم هو استثمار النص ضمن آلية الاجتهاد، وصار المعقول هو معقول النص. وقد انصبَّ الاجتهاد الأصولي على أحكام التكليف، والدلالات اللغوية، ومصادر التشريع الإسلامي، واستجلاء مقاصد الشريعة الإسلامية.

وقد بدأ تأسيس أصول الفقه، في الثقافة العربية الإسلامية، بدراسة الدلالات اللغوية في ضوء رؤية بيانية محضة. ويعني هذا أنه من الصعب أن نجد كتابًا أصوليًّا لا يتناول الدلالات اللغوية؛ لأن الاستنباط والاجتهاد مرتبطان بالنص الشرعي من جهة، وبلغة الخطاب الشرعي من جهة ثانية.

ويعني هذا أن الدلالات اللغوية الأصولية ذات طبيعة لغوية ومنطقية وسيميائية على حدٍّ سواء، ما دامت تدرس علاقة الدالّ بالمدلول، والمطابقة بين الدلالة والاستدلال، أو بين طرق دلالة اللفظ على المعاني، وطرق تصرّف العقل فيها[2].

وفي هذا الصدد، يقول محمد عابد الجابري: «إذا تصفّحنا أيَّ كتاب من الكتب المؤلّفة في أصول الفقه، قديمة كانت أو حديثة، فإننا سنجد أبواب الخطاب أو المبادئ اللغوية حسب تعبير القدماء، أو القواعد اللغوية حسب تعبير بعض المعاصرين، تشغل عادة ما لا يقل عن ثلث حجم الكتاب.

وهذا شيء يجد تبريره في تصورهم لموضوع عملهم ذاته. ذلك لأنه إذا كان علم أصول الفقه يدرس، أساسًا، وجوه دلالة الأدلة على الأحكام الشرعية، والأدلة هنا هي أساسًا النصوص: القرآن والسنة، فإن الشاغل الأول والرئيسي لأصحاب هذا العلم سيكون، بالضرورة،

هو ضبط العلاقة بين اللفظ والمعنى في الخطاب الذي يتعاملون معه، الخطاب الشرعي. وبما أن هذا الخطاب قد ورد بلسان عربي فإن عملية الضبط تلك، ستمتد بالضرورة إلى هذا اللسان ككل»[3].

ويعني هذا أن الأصولي سيكون همُّه الأول هو التسلُّح باللغة العربية، والتمكُّن من أساليب العرب من أجل فهم النصوص الشرعية، وبناء علم أصول الفقه نظريةً وتطبيقًا.

وهنا، يمكن الحديث عن مجموعة من أمهات أصول الفقه التي لا يمكن الاستغناء عنها في المجال الأصولي، ومن بين هذه المؤلّفات كتاب (العمد) للقاضي عبدالجبار (415هـ) أستاذ الحسن البصري، وكتاب (البرهان) لإمام الحرمين عبدالله الجويني النيسابوري (478هـ) أستاذ الغزالي، وكتاب (المستصفى من علم الأصول) للشيخ الغزالي (505هـ)، و(المعتمد في أصول الفقه) للحسن البصري (436هـ)،

و(المحصول) لفخر الدين الرازي (606هـ)، و(الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي (630هـ)، و(روضة الناظر في جنة المناظر) للحافظ ابن قدامة الحنبلي، وكتاب (الرسالة) لمحمد بن إدريس الشافعي، و(الأحكام في أصول الفقه) لابن حزم الأندلسي، و(اللمع في أصول الفقه) لأبي إسحق الشيرازي، و(قواطع الأدلة في الأصول) لأبي المظفر السمعاني، و(المختصر في أصول الفقه) لابن اللحام، و(الواضح في أصول الفقه) لأبي الوفاء عليِّ بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي، و(جمع الجوامع في أصول الفقه) لعبد الوهاب بن علي السبكي تاج الدين، و(الإشارة في أصول الفقه ويليه الحدود في الأصول ويليه تقريب الوصول إلى علم الأصول) لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي الذهبي المالكي ومحمد بن أحمد بن جزي الكلبي، وغيرها من المصادر الأصولية القيمة والثمينة.

ولقد أشاد ابن خلدون بعلم أصول الفقه، وقد استعرض تاريخه ورجاله ومؤلّفاته بشكل مقتضب؛ حيث يقول في كتابه (المقدمة): «اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدرًا وأكثرها فائدة، وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتآليف. وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبينة له.

فعلى عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) كانت الأحكام تتلقّى منه بما يوحى إليه من القرآن وبينه بقوله وفعله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر. وأما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولًا أو فعلًا بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه. وتعيّنت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار،

ثم ينزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلَّا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلًا ثابتًا في الشرعيات. ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما. ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض في ذلك.

فإن كثيرًا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسوها بما ثبت وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق. تصحّح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلًا شرعيًّا بإجماعهم عليه. وهو القياس وهو رابع الأدلة واتّفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة، وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس….

ثم بعد ذلك يتعيّن النظر في دلالة الألفاظ وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقّف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة. والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علومًا ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذٍ يحتاج إليها لأنها جبلة وملكة.

فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجرّدون لذلك بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة وصارت علومًا يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام وهي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام وهو الفقه.

ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقّف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها تُستفاد الأحكام بحسب ما أصَّل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك، وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أن اللغة لا تثبت قياسًا، والمشترك لا يراد به معنياه معًا، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة فيما عداها، والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي، والنهي يقتضي الفساد أو الصحة،

والمطلق هل يحمل على المقيّد والنص على العلّة كافٍ في التعدّد أم لا، وأمثال هذه. فكانت كلها من قواعد هذا الفن. ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علّق به في الأصل من تبيّن أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلها قواعد لهذا الفن.

واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد ممّا عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصًا فمنهم أخذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم.

فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة -كما قرّرناه من قبل- احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنًّا قائمًا برأسه سمَّوه أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلَّم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس.

ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحقّقوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلّمون أيضًا كذلك إلَّا أن كتابة الفقهاء فيها أمسّ بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلّمون يجرّدون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم،

فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمّم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذّبت مسائله، وتمهّدت قواعده، وعُني الناس بطريقة المتكلّمين فيه.

وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلّمون كتابه البرهان لإمام الحرمين، والمستصفى للغزالي، وهما من الأشعرية، وكتاب العهد لعبد الجبار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه.

ثم لخّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلّمين المتأخّرين وهما الإمام فخز الدين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج، فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل»[4].

ومن جهة أخرى، يرى الجابري أن الشافعي هو المؤسّس الحقيقي لأصول الفقه. في حين، يعدّ ابن حزم أول من انزاح عن التقليد البياني، واجتهد في بناء أصول الفقه وفق قواعد العقل من جهة، ووفق خطاب نقدي تجاوزي من جهة أخرى.

وفي هذا، يقول الجابري: «بخصوص أصول الفقه يجب التذكير بأن هذا العلم الذي أسسه الشافعي، كان قد نضج واكتمل عندما ظهر ابن حزم. وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن ثلاثة من الكتب الأربعة الأمهات في هذا العلم (كتاب العمد للقاضي عبد الجبار، وكتاب البرهان للجويني،

وكتاب المعتمد لأبي الحسين البصري) كانت قد ظهرت في ذات الفترة التي عاش فيها ابن حزم. أما الكتاب الرابع، وهو المستصفى، فإن أهميته ترجع إلى أنه يلخص الكتب الثلاثة المذكورة تلخيصا منظما واضحا وبأسلوب تركيبي يمتاز به الغزالي مؤلفه. وإذن فيجب النظر، بادئ ذي بدء، إلى كتاب الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم على أنه من جيل هذه الكتب الأمهات، ولكن لا بوصفه واحدا منها يقرر نفس الأصول والمسائل كما قررها الأصحاب،

انطلاقا من الشافعي أو من أبي حنيفة أو من مالك، بل بوصفه يقع خارجها يشجب التقليد، تقليد الأئمة حتى ولو كانوا من الصحابة، ويقترح طريقة جديدة تماما في إعادة تأسيس الأصول وتأصيلها.[5]»

ويضيف الجابري مشيدًا بدور الشافعي في تأسيس أصول الفقه من جهة، ومنوّهًا بالنقد الأصولي التجاوزي عند ابن حزم من جهة أخرى: «لقد حصر الشافعي الأصول كما رأينا في أربعة هي: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، ودشّن القول في تأسيس هذه الأصول،

وهذا ما سينكبّ الأصوليون من بعده على تعميقه وتفريعه من خلال آرائهم ومناقشاتهم حول طرق دلالة الألفاظ وأنواعها وشروط الخبر وأنواعه وحجية الإجماع وصوره وأركان القياس وإشكالية التعليل فيه، وهي الآراء والمناقشات التي أجملنا القول فيها في الفصول الأربعة الأولى من قسم البيان من هذا الكتاب.

ويأتي ابن حزم ليعود بعلم الأصول، هذا العلم الذي نما وترعرع ونضج واكتمل، إلى نقطة الصفر ليستأنف النظر لا فيما قرّره الشافعي وحسب، بل فيما قرّره أساتذة هذا الأخير وتلامذته»[6].

ومن هنا، يشير الجابري إلى مرحلتين أساسيتين في تطوّر علم أصول الفقه: مرحلة تأسيس علم أصول الفقه من الشافعي إلى الغزالي، ومرحلة تأصيل أصول الفقه مع ابن حزم من جهة، والشاطبي من جهة أخرى.

ويرى الجابري أن أبا الحسن البصري قد ركّز، في كتابه (المعتمد في أصول الفقه)، على الدلالات اللغوية، والبحث في طرائق الاستدلال التي توصل الفقيه أو الأصولي إلى استنباط الأحكام الشرعية، بمعرفة الآليات اللغوية والنحوية الدالة على الأحكام الشرعية. وبعد ذلك، تناول الأحكام الشرعية من إباحة، وكراهية، وحرمة، وندب، وحلال.

كما خصّص جزءًا من كتابه في المفتي والمستفتي والإصابة في الاجتهاد، دون أن ينسى الإشارة إلى مصادر التشريع كالقرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. وفي هذا الصدد، يقول أبو الحسن البصري في مستهل كتابه: «اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وما يتبع كيفية الاستدلال بها،

وكان الأمر والنهي والعموم من طرق الفقه، وكان الفصل بين الحقيقة والمجاز تفتقر إليه معرفتنا بأن الأمر والنهي والعموم ما الذي يفيد على الحقيقة وعلى المجاز، وجب تقديم أقسام الكلام وذكر الحقيقة منه والمجاز وأحكامهما وما يفصل به بينهما على الأوامر والنواهي، ليصحَّ أن نتكلّم في أن الأمر إذا استعمل في الوجوب كان حقيقة.

ثم الحروف، لأنه قد يجري ذكر بعضها في أبواب الأمر فلذلك قدّمت عليها. ثم نقدّم الأوامر والنواهي على باقي الخطاب، لأنه ينبغي أن يعرف فائدة الخطاب في نفسه. ثم نتكلّم في شمول تلك الفائدة وخصوصها وفي إجمالها وتفصيلها. ونقدّم الأمر على النهي لتقديم الإثبات على النفي،

ثم نقدّم الخصوص والعموم على المجمل والمبيّن؛ لأن الكلام في الظاهر أولى بالتقديم من الخفي. ثم نقدّم المجمل والمبيّن على الأفعال؛ لأنهما من قبيل الخطاب، ولأن المجمل كالعموم في أنه يدلّ على ضرب من الإجمال، فجعل معه. وتقدّم الأفعال على الناسخ والمنسوخ؛ لأن النسخ يدخل الأفعال ويقع بها كما يدخل الخطاب.

ونقدّم النسخ على الإجماع؛ لأن النسخ يدخل في خطاب الله سبحانه وخطاب رسوله (صلى الله عليه وسلم) دون الإجماع. ونقدّم الأفعال على الإجماع؛ لأنها متقدّمة على النسخ، والنسخ متقدّم على الإجماع، ولأن الأفعال كالأقوال في أنها صادرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم).

وإنما قدّمنا جملة أبواب الخطاب على الإجماع، لأن الخطاب طريقنا إلى صحته، ولأن تقديم كلام الله سبحانه وكلام نبيه أولى. ثم نقدّم الإجماع على الأخبار؛ لأن الأخبار منها آحاد ومنها تواتر. أما الآحاد فالإجماع أحد ما يعلم به وجوب قبولها، وهي أيضًا أمارات، فجاورنا بينها وبين القياس.

وأما المتواتر فإنها وإن كانت طريقًا إلى معرفة الإجماع، فإنه يجب تأخيرها عنه كما أخّرناها عن الخطاب لما وجب أن نعرف الأدلة. ثم نتكلّم في طريق ثبوتها، وإنما أخّرنا القياس عن الإجماع، لأن الإجماع طريق إلى صحة القياس… ثم يأتي بعد ذلك الكلام في الحظر والإباحة، ثم أخيرًا الكلام في المفتي والمستفتي والإصابة في الاجتهاد، وبذلك تختم أبواب أصول الفقه عادة»[7].

ويتبيّن لنا أن أبا الحسن البصري قد نظم أبواب أصول الفقه، بالتركيز أولًا، على مبحث الدلالات اللغوية الذي يسعف الفقيه والأصولي في استنباط الأحكام الشرعية، والاهتمام ثانيًا، بمبحث الأدلة الشرعية من قرآن، وسنة، وإجماع، وقياس، والاعتناء ثالثًا، بمبحث الأحكام الشرعية من إباحة، وحظر، والاختتام بمبحث الاجتهاد والفتوى والمفتي والمستفتي.

بيد أنه قد نسي مبحث المقاصد الشرعية، وهو مبحث مهم في أصول الفقه لمعرفة الأغراض من الأحكام الشرعية، كما هو مثبت في القرآن والسنة معًا.

ومن هنا، يتّضح لنا أن أصول الفقه لها مستند لغوي وبياني، مادام هذا العلم يركّز كثيرًا على الدلالات اللغوية، ويبحث عن العلاقة بين الدالّ والمدلول، أو بين اللفظ والمعنى من أجل استثماره في بناء الخطاب الشرعي الأصولي. وبهذا، يكون منهج الأصولي بياني بشكل خاص، مادام يستثمر الدلالات اللغوية في بناء الحكم الشرعي والتكليفي.

ويرى الجابري أن علم أصول الفقه يقوم على ثنائية اللفظ والمعنى من جهة، والأصل والفرع من جهة أخرى. وفي هذا، يقول الباحث: «إذا نظرنا إلى البحث الأصولي من الزاوية الإبستمولوجية المحض، وفي ضوء هذا الوصف الذي قدّمناه لبنية علم الأصول، أمكن القول -بدون تردّد-: إنه -أساسًا- بحث في الدلالة، دلالة النص ودلالة معقول النص.

أما البحث في دلالة النص فقوامه عملية استقراء واسعة لأنواع العلاقات التي تقوم بين اللفظ والمعنى في الخطاب البياني قصد ضبطها وصياغتها في قواعد. وأما البحث في دلالة معقول النص أو معنى الخطاب، حسب تعبير بعض الأصوليين، فيدور حول محور رئيسي واحد هو القياس.

والقياس الفقهي هو تمديد حكم الأصل ما ورد فيه نص إلى الفرع ما لم يرد فيه نص، باعتماد معقول ذلك النص نوعًا من الاعتماد. وإذًا، فهناك مستويان متمايزان، ولكن متكاملان، في البحث الأصولي: المستوى الذي محوره اللفظ/ المعنى في علاقتهما الثنائية كزوج، والمستوى الذي محوره الأصل/ الفرع والذي يحتلّ فيه الزوج اللفظ/ المعنى موقع الأصل»[8].

ويعني هذا كلّه أن علم أصول الفقه، عند الجابري، يستند إلى ثنائيتين بنيويتين هما: ثنائية اللفظ والمعنى المتعلّق بالدلالات اللغوية التي تساعد الأصولي على استنباط الأحكام الشرعية، وثنائية الأصل والفرع التي تحيلنا على القياس من جهة، والاجتهاد من جهة ثانية.

وبما أن عمل الأصولي لغوي محض، مادام يُعنى بدراسة الدلالات اللغوية للوصول إلى الأحكام الشرعية، فعمله، إذًا، بياني بامتياز. على عكس الفلاسفة الذين يعنون بالبرهان والاستدلال المنطقي في بناء المعرفة الميتافيزيقية، في حين يعتمد أصحاب الولاية والتصوف على القلب والعرفان الوجداني واللدني.

ويرى عابد الجابري أن تناول الأصوليين للدلالات اللغوية والقياس على حدٍّ سواء كان من منطلق لغوي بياني محض، سواء أكان ذلك من الناحية النظرية أم من الناحية التطبيقية. وفي هذا يقول الجابري: «يتناول البحث الأصولي العلاقة بين اللفظ والمعنى من ناحيتين، نظرية وتطبيقية.

يدور النقاش من الناحية النظرية حول ثلاث مسائل رئيسة:

1- أصل اللغة هل هو توقيف أم اصطلاح.

2- جواز أو عدم جواز القياس في اللغة.

3- الأسماء الشرعية مثل الصلاة والصيام والزكاة… إلخ.

وإذا كانت أبحاث الأصوليين حول أصل اللغة إنما هي امتداد لمناقشات اللغويين والمتكلّمين، ولا شيء يبرّر الانشغال بها في ميدانهم، إذ لا تتعلّق بها مسائل علمهم تعلّقًا مباشرًا، فإن مناقشاتهم حول المسألة الثانية المتعلّقة بجواز أو عدم جواز القياس في اللغة لها ما يبرّرها داخل حقل تفكيرهم؛ ذلك لأن القول بثبوت اللغة بالقياس قد ينجم عنه استغناء الفقيه عن استعمال القياس الفقهي في بعض المسائل»[9].

ويضيف الباحث قائلًا: «وهكذا، فالقول بثبوت القياس في اللغة (تسمية الشيء باسم شيء آخر لاشتراكهما في علّة التسمية) يمكن أن تترتّب عنه نتائج فقهية. ولذلك كان البحث فيه مبرّرًا -كما قلنا- داخل أصول الفقه. وقد اختلف الأصوليون في هذا الموضوع اختلافًا كبيرًا.

والظاهر أن الغالبية العظمى منهم لا يجيزون هذا النوع من القياس لأنه يؤدّي في نظرهم إلى التقوّل على العرب وبالتالي إلى إفساد اللغة التي نزل بها القرآن. وهم يحتجّون بأن العرب لم يراعوا مثل هذا القياس في تسميتهم الأشياء، فقد سمّوا الفرس أدهم لسواده، وكُميتًا لحمرته، ولكنهم لا يسمّون الثوب الأسود أدهم ولا الثوب الأحمر كُميتًا.

أما بخصوص المسألة النظرية الثالثة في البحث اللغوي الأصولي، وهي تتعلّق بالأسماء الشرعية، فإن النقاش حولها يرجع في أصله إلى تمييز المعتزلة والخوارج وبعض الفقهاء بين ثلاثة أصناف من الأسماء: الأسماء اللغوية التي تدلّ على ما وضعت له أول مرة كرجل وحجر إلخ،

أو على ما خصّصت له بالعرف والاستعمال مثل الدابة التي تدلّ في أصل الوضع اللغوي على كل ما يدبّ على الأرض، ثم خصّصها العرف والاستعمال على ذوات الأربع. والأسماء الدينية أي التي تحمل معنى دينيًّا كلفظ الإيمان، ولفظ الكفر، ولفظ الفسق، إلخ… والأسماء الشرعية كالصلاة التي تدلّ لغة على الدعاء وشرعًا على جملة الأفعال والأقوال المعلومة.

ويبدو أن الذي أثار المشكل أول مرة هو القاضي الباقلاني أحد أقطاب الأشاعرة. لقد اعترض على القول بأن الشارع نقل الأسماء الشرعية هذه من معناها الذي تواضعت العرب عليه، وهو المعنى اللغوي إلى معنى آخر شرعي، محتجًّا بأن هذه الأسماء وردت في القرآن، والقرآن نزل بلغة العرب كما نصّ على ذلك هو نفسه، وبالتالي فلا بد أن تكون معاني هذه الأسماء الشرعية ممّا كان يعرفه العرب من لغتهم وإلَّا لم تكن عربية.

والشارع لم ينقل هذه الأسماء من معنى إلى معنى آخر، بل أبقاها على معناها اللغوي الأول، ثم شرط أمورًا أخرى تنضم إلى ذلك المعنى، وبه أصبحت شرعية. فالصلاة لغة: الدعاء، وفي الشرع دعاء اشترط الشارع فيه الركوع والسجود وقراءة الفاتحة … إلخ، هذا ويبدو أن المسألة في أصلها مسألة كلامية، أعني تنتمي إلى علم الكلام. فالمعتزلة الذين يقولون بالتأويل.

أي: بضرورة نقل المعنى اللغوي في الآيات المتشابهات التي تفيد التجسيم إلى معناها اللغوي إلى معنى شرعي خاص. أما الأشاعرة الذين يعارضون التأويل كما يمارسه المعتزلة، فقد كان عليهم أن يفسدوا حجة خصومهم تلك، وقد تولّى الباقلاني ذلك كما رأينا»[10].

ومن الناحية التطبيقية، يرى الجابري أن الأصوليين كانوا ينطلقون من عقل بياني في تناول القضايا التي تتعلّق بالخطاب الشرعي. وفي هذا يقول الباحث: «أما الجانب التطبيقي من هذه الأبحاث، وهو يتعلّق مباشرة بتفسير الخطاب الشرعي، فيتناولون فيه أنواع الدلالة، دلالة اللفظ على المعنى، كما استخلصوها بالاستقراء من كلام العرب.

وهذا في الحقيقة ما يشكّل العمود الفقري في البحث الأصولي. وبما أن ما يهمنا في موضوعنا ليس استقصاء ما يقرّره الأصوليون في هذه المسألة أو تلك بل أخذ فكرة عامة، ولكن واضحة، عن نوع القضايا التي وظّفوا فيها تفكيرهم والتي من خلالها تشكل وتقولب عقلهم، العقل البياني جملة»[11].

ومن هنا، فلقد اهتم الأصوليون، على مستوى التطبيق، بقضايا الخاص والعام والمشترك التي تتعلّق باللفظ، باعتبار المعنى الذي وضع له أصلًا.

وقد تحدّث الأصوليون عن اللفظ باعتبار المعنى الذي استعمل فيه، فقسّموه إلى حقيقة صريحة ومكنية من جهة، ومجاز صريح وكناية من جهة أخرى.

وقسّموا اللفظ باعتبار درجة وضوح معناه إلى محكم ومفسّر ونصّ وظاهر من جهة، والخفي والمشكل والمجمل والمتشابه من جهة أخرى.

وينقسم اللفظ، باعتبار طريق دلالته على المراد منه، إلى أربعة أقسام -حسب الحنفية- إلى دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ودلالة النص[12]، ودلالة الاقتضاء.

أما الشافعية، فيقسّمون الدلالة إلى صنفين: دلالة المنظوم ودلالة المفهوم، وهي قسمان: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، ويسمّى هذا الأخير بدليل الخطاب، وهو أنواع عدّة: مفهوم الصفة، ومفهوم الحصر، ومفهوم الشرط، ومفهوم الغاية، ومفهوم العدد.

ويمكن إدراج القياس ضمن أصناف الدلالة، أو ما يسمّى بالدلالة بالمعقول أو دلالة معنى الخطاب كما يفعل كثير من الأصوليين.

ويخلص الجابري إلى النتيجة التالية: «الواقع أن الشيء الأساسي الذي لا بد أن يلفت نظر الباحث الإبستمولوجي في علم أصول الفقه، وهو أن النشاط العقلي داخله نشاط وحيد الاتجاه: يتّجه دائمًا من اللفظ إلى المعنى كما في علم اللغة وعلم النحو وعلم البلاغة. صحيح أن الأحكام الشرعية إنما تؤخذ من أدلتها، وأهم هذه الأدلة وأصلها جميعًا القرآن.

غير أن الأصوليين انساقوا انسياقًا كبيرًا مع إشكالية اللغويين والنحاة، إشكالية اللفظ والمعنى، فجعلوا من الاجتهاد اجتهادًا في اللغة التي نزل بها القرآن، فكانت النتيجة أن شغلتهم المسائل اللغوية عن المقاصد الشرعية[13]. فعمّقوا في العقل البياني، وفي النظام المعرفي الذي يؤسسه،

خاصيتين لازمتاه منذ البداية: الأولى هي الانطلاق من الألفاظ إلى المعاني ومن هنا أهمية اللفظ ووزنه في التفكير البياني، والثانية هي الاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات (الاهتمام باللفظ وأصنافه إلخ… على حساب مقاصد الشريعة). إنهما نفس الخاصيتين اللتين كرّسهما اللغويون والنحاة في العقل البياني»[14].

ومن هنا، تأسّس علم أصول الفقه على العقل البياني من جهة، وانبنى على ثنائية اللفظ والمعنى من جهة أخرى. ويعني هذا أن علم الأصول لم تُبنَ أسسه ومنطلقاته التقعيدية على مقاصد الشريعة كما فعل أبو إسحق الشاطبي، بل أسس على منطلقات لغوية وبيانية؛ ممّا ساهم ذلك في إغلاق باب الاجتهاد.

وفي هذا يقول الجابري: «أما في مجال الفقه، فلقد كان من نتائج إعطاء الأولوية للفظ على المعنى أن أخذ الفقهاء يشرعون للفرد والمجتمع انطلاقًا من تعقّب طرق دلالة الألفاظ على المعاني، أي من المواضعة اللغوية على مستوى الحقيقة والمجاز معًا فأهملوا، أو على الأقل همّشوا إلى درجة كبيرة،

مقاصد الشريعة كما لاحظ ذلك الشاطبي، فأصبحت مقاصد اللغة -إذا جاز التعبير- هي المتحكّمة. وهكذا فعوضًا عن بناء التشريع على قواعد كلّيّة تستخلص من الأحكام الشرعية الجزئية وتعتمد توخّي المصلحة العامة، التي تتطوّر بتطوّر العصور، كما نادى الشاطبي بذلك، بدلًا من سلوك هذا المسلك العقلي رهن الفقهاء التشريع بقيود العلاقة بين اللفظ والمعنى،

وهي علاقة محدودة مهما يكن من اتّساع لسان العرب، فكان لا بد أن يتقوقع التشريع ضمن حدود معينة لا يتعدّاها، ممّا جعل من اللفظ وطرق دلالته على المعنى-الطرق المحدودة المحصورة بالمواضعة التي أُقرّت في فترة معينة- كان لا بد أن ينتهي إلى استنفاذ جميع الإمكانيات التي تتيحها اللغة، وهي إمكانيات محدودة،

خصوصًا واللغة المعتمدة هنا لغة محدودة، لغة العرب قبل وقوع الاختلاط. هذا في حين أنه لو أسّس التشريع أصلًا على مقاصد للشريعة، وهي مقاصد تؤسّسها المصلحة العامة والمثل العليا، وليس المواضعة اللغوية، لما انغلق باب الاجتهاد سيصبح معناه حينئذٍ تحجيم مقاصد الشريعة وتجميدها،

وبالتالي تركها والخروج عنها، وهذا ما حصل بالفعل لأنه لم يكن من الممكن تجميد تطوّر الحياة ضمن قوالب اللغة، لأنه لم يكن في وسع دلالة الألفاظ على المعنى تغطية جميع ما يستجد من تطوّرات عبر العصور والأجيال، فكانت النتيجة اللجوء إلى اتّخاذ الفروع أصولًا والقياس عليها والسقوط بالتالي في إشكالية لا حل لها، إشكالية التعليل في الفكر البياني»[15].

ويعني هذا أن أصول الفقه لم يجدّد، بشكل كبير، مواضيعه النظرية والتطبيقية، مادام يستند إلى مباحث اللغة من جهة، ويعتمد كلّيًّا على العقل البياني من جهة أخرى.

وبالتالي، لم يؤسّس العلماء أصول الفقه على مقاصد الشريعة الإسلامية التي تتجدّد بتجدّد العصور والأمكنة والأجيال، كما يتبيّن ذلك بشكل جلي عند أبي إسحق الشاطبي في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة)[16].

ويرى الجابري أن بناء أصول الفقه على البيان خطأ منهجي وإبستمولوجي جسيم، وفي هذا الإطار، يقول الباحث: «والخطأ الذي وقع فيه البيانيون، فيما نعتقد، هو أنهم جعلوا من وسائل التنبيه التي يستعملها القرآن قواعد للاستدلال ومنطقًا للفكر،

ولكن لا باتخاذ النص القرآني سلطة مرجعية وحيدة بل بقراءته بواسطة سلطة مرجعية أخرى هي عالم الأعرابي عالمه الطبيعي والفكري الذي تحمله معها اللغة العربية التي جعلوا منها مرجعية حكمًا، بدعوى أنها اللغة التي نزل بها القرآن»[17].

وهكذا، ينتقد الجابري المنظور البياني الذي اعتمده أغلب الأصوليين الأوائل الذين قيّدوا علم أصول الفقه بمبحث الدلالات اللغوية، بتمثّل لغة العرب من جهة، والاقتداء بأساليب العرب في كلامهم وتواصلهم من جهة أخرى.

المبحث الثاني: مرحلة تأصيل الأصول

يمكن الحديث عن عَلَمين من أعلام الأندلس ساهما في إغناء أصول الفقه وإثرائه وتأصيله وفق طرائق جديدة تخالف ما تعارف عليه الأصوليون منذ القاضي عبد الجبار، والجويني، وأبي الحسن البصري، والغزالي، والآمدي،

والشافعي… الذين أرسوا دعائم أصول الفقه على البيان اللغوي، وقياس الأصول على كلام الأعراب بدل تشريح القرآن الكريم بطريقة مباشرة من أجل استكشاف الأحكام الفقهية والشرعية التي تتعلّق بالمكلف. وهذان العلمان هما: ابن حزم من جهة، والشاطبي من جهة أخرى.

المطلب الأول: ابن حزم وتأصيل الأصول

يعدّ أبو محمد علي بن حزم الظاهري الأندلسي (384-456هـ) من أهم الدارسين العرب الذين أعادوا النظر في علم أصول الفقه من منظور عقلاني برهاني، بعد أن كان هذا العلم يدرس من منظور لغوي بياني قائم على القياس اللغوي، والاستنباط التخميني.

وغالبًا، ما ينظر الباحثون إلى ابن حزم على أنه مؤسّس للمذهب الفقهي الظاهري الذي كان داود الأصبهاني (202-270هـ) قد أسّسه في الشرق. ومن ثم، فابن حزم مجرّد تابع للمذهب الظاهري المشرقي. في حين يعدّ ابن حزم أول من أسس علم أصول الفقه على أسس عقلانية برهانية كالشاطبي في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة).

يهتم ابن حزم بحجج العقول، ورفض التقليد والاتّباع، ويعني هذا أن ابن حزم يعتدّ بحجّة العقل، ويتسلّح بحجج العقل من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولاسيما في حقل الشريعة.

يقول الجابري: «يصدر ابن حزم عن رؤية للعالم ترفض جميع العناصر الأساسية في الرؤية البيانية العالمة التي شيّدها المتكلّمون. وبعبارة أخرى: يرفض ابن حزم الفيزياء الكلامية، ويتبنّى طبيعيات أرسطو ومفاهيمها ونظرياتها البرهانية، ولكن لا في إطار من التداخل والتلفيق، بل في أفق تأسيس البيان على البرهان، على صعيد المنهج كما على صعيد المفاهيم والرؤية»[18].

ويعني هذا أن ابن حزم يريد أن يؤسّس الشريعة البيانية وعقيدتها على أساس برهاني يعتمد على الاستقراء من جهة، والاستنتاج المنطقي من جهة أخرى، يقول الجابري: «يذهب ابن حزم أبعد ممّا سيذهب الغزالي بعده بما لا يقل عن نصف قرن، فهو لا يقتصر على الدعوة إلى اعتماد المنطق الأرسطي في العقليات وحدها بل يدعو إلى اعتماده في الفقهيات أيضًا.

وأهم من ذلك هو لا يريده كمجرّد سلاح للجدل كما أراده الغزالي بل يريده آلة للبرهان، يريد أن يؤسّس البيان عقيدة وشريعة على البرهان، وليس على الجدل والظن كما ارتضى الغزالي ذلك. وبما أن طرق الاستدلال ثلاثة كما حصرها أرسطو: الاستنتاج = القياس الجامع، والاستقراء والتمثيل = القياس الفقهي، وبما أن هذا الأخير باطل في نظر ابن حزم كما رأينا فلا يبقى إلَّا الاستنتاج والاستقراء»[19].

وهكذا، يؤسّس ابن حزم أصول الفقه على البرهان المنطقي الأرسطي القائم على الاستنتاج والاستقراء والتمثيل، ويبتعد عن المنظور البياني اللغوي الذي سيّج أصول الفقه في الجمود، والتكرار، والتقليد، والتبعية المدرسية.

المطلب الثاني: الشاطبي والمقاصد الشرعية

يعدّ أبو إسحاق الشاطبي من الأصوليين الذين جدّدوا علم أصول الفقه، وبلغوا به مبلغ النضج العقلي، بتركيزه على نظرية المقاصد الشرعية. وبذلك يكون من العلماء الذين أصّلوا أصول الفقه تجديدًا وإبداعًا وابتكارًا.

يقول الجابري: «هناك شخصية علمية أندلسية عاشت بعد ابن رشد بنحو قرنين، وعاصرت ابن خلدون لم تحظَ بعدُ بما تستحق من الاهتمام، على الرغم من أنها ترقى إلى مستوى هذين الرجلين. والحق أنه إذا كان ابن رشد يمثّل قمّة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الفلسفة،

وإذا كان ابن خلدون يمثّل أوج الفكر التاريخي والاجتماعي والسياسي في الثقافة العربية الإسلامية، فإن الشاطبي (أبو إسحق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المتوفى سنة 780هـ، قبل وفاة ابن خلدون بثمانية عشر عامًا فقط) يمثّل قمّة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الأصول.

ولا يجمع بين هذه الشخصيات الثلاث كون كل منها قد بلغ بمادة اختصاصه أوجها في الفكر العربي الإسلامي وحسب، الشيء الذي يجعل المقارنة بينهم نسبية لا غير، بل إن ما يجمع بينهم في نظر الباحث الإبستمولوجي هو أنهم يقعون على مستوى واحد من النضج العقلاني، على درجة واحدة في مجال التجديد والإبداع العقليين»[20].

ويعني هذا أن ابن حزم والشاطبي ينطلقان من عقلانية نقدية رامية إلى تأسيس البيان على البرهان[21].

وتتمثّل العقلانية البرهانية عند الشاطبي -حسب الجابري- أنه اعتمد على ثلاث خطوات منهجية فيها إبداع وتجديد في مجال أصول الفقه، منها اعتماده، أولًا، على الاستنتاج أو القياس الجامع، والاستعانة بالاستقراء ثانيًا، واعتبار مقاصد الشرع ثالثًا.

ويعني هذا أن فكر الشاطبي يقوم على أن «كل دليل شرعي مبني على مقدّمتين، إحداهما نظرية تثبت بضرورة الحس أو بضرورة العقل أو بالنظر والاستدلال، أما الثانية فنقلية تثبت بالنقل عن الشارع نقلًا صحيحًا.

الأولى ترجع إلى تحقيق مناط الحكم في كل جزئي فهو مقدّمة صغرى، والثانية ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، وهو يعمّ سائر الجزئيات التي من نفس النوع، فهي مقدّمة كبرى. ومن خاصية المقدّمة النقلية أن تكون مسلمة، نظيرها في العقليات المقدّمات المسلمة وهي الضروريات وما تنزل منزلتها، وأما خاصية الأخرى فأن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه.

مثال الأولى، تحريم الخمر (=نص)، ومثال الثانية التحقّق من أن هذا المشروب المعيّن هو خمر فعلًا (=نظر عقلي). وينبّه الشاطبي إلى أن كون الدليل الشرعي يبنى على مقدّمتين لا يجب أن يلزم عنه أن الأدلة الشرعية يجب أن يطبق عليها ما يقرّره أهل المنطق في شأن القضايا من اعتبار التناقض والعكس وما يقرّرونه في شأن أشكال القياس الجامع، وإنما المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون وعلى وفق ما جاء في الشريعة.

وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيًّا في الإنتاج وما أشبهه من (قياسي جامع) اقتراني أو استثنائي، إلَّا أن المتحرّي فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها معهود كلامها»[22].

ومن جهة أخرى، لقد اعتمد الشاطبي على التأويل في استخلاص معنى اللفظ من النص القرآني ككل، باعتماد هذا النوع من الاستقراء، فإنه قد اعتمد هذا الاستقراء نفسه في استخلاص إحدى مقدّمتي القياس البرهاني الذي يركبه للاستدلال على ما يريد البرهنة عليه، أي يهدف الشاطبي إلى استخلاص كليات الشريعة وهي كليات استقرائية.

وقد استفاد الشاطبي من ابن رشد فيما يخص بناء أصول الفقه في ضوء مقاصد الشرع. وفي هذا، يقول الجابري: «وقد أخذ الشاطبي هذه الفكرة [يقصد مقاصد الشرع] عن ابن رشد الذي وظّفها في مجال العقيدة، ونقلها إلى مجال الأصول فدعا إلى ضرورة بنائها، أعني الأصول،

على مقاصد الشرع بدل بنائها على استثمار ألفاظ النصوص الدينية كما دأب على العمل بذلك علماء الأصول انطلاقًا من الشافعي، وبذلك يكون الشاطبي قد دشّن قطيعة إبستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي وكل الأصوليين الذين جاؤوا بعده. ولقد كان الشاطبي واعيًا بهذا تمام الوعي،

وبذلك لم يتردّد في التصريح بأنه بصدد تأصيل أصول علم الشريعة. والهدف هو إعادة بناء هذا العلم بالصورة التي تجعل منه علمًا برهانيًّا، علمًا مبنيًّا على القطع وليس على مجرّد الظن، وهذا ما يصرّح به في أول مقدّمة من المقدّمات الثلاث عشرة المنهجية التي استهل بها كتابه، حيث نقرأ له أول ما نقرأ بعد خطبة الكتاب قوله: «المقدمة الأولى في أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة على كلّيّات الشريعة، وما كان ذلك فهو قطعي.

بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما على الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضًا، ولا ثالث لهذين إلَّا المجموع منهما. والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه»[23].

وهكذا، يتبيّن لنا أن الشاطبي يحاول تأسيس علم أصول الفقه وفق منهج عقلاني برهاني يقيني بامتياز، يعتمد على التجريد والتقعيد وبناء القواعد الأصولية وفق منطق الكلّيّات الذي يحوي الجزئيات في طياته.

وبهذا، يعتمد على الاستدلالين العقلي والشرعي في بناء القواعد الأصولية، بالسعي نحو بناء منهجية أصولية رصينة قائمة على العموم والاطّراد، والثبوت من غير ظن أو شك، وجعل العلم حاكمًا لا محكومًا عليه.

في حين كانت المساهمات الأصولية السابقة خاضعة للعقل البياني القائم على تبيان العلاقات بين الألفاظ والمعاني اللغوية، أو كما قال الجابري: «وبما أن الأصوليين قد اعتمدوا منذ الشافعي على الاستنباط -استنباط المعنى من النص الديني- والقياس -قياس ما ليس فيه نص على ما فيه نص-، وبما أن الاستنباط اجتهاد في المعنى أي تأويل،

وبالتالي فهو يقوم على الظن -يظن الفقيه أن المعنى المقصود هو كذا-، وبما أن القياس الفقهي إنما يقوم في أقوى أنواعه على العلّة التي يظن الفقيه أنها المقصودة بالحكم فإن الشريعة في مجملها إنما تقوم على الظن، وهذا باعتراف الفقهاء أنفسهم. وما يريده الشاطبي هو، كما قلنا، بناء الشريعة كلّها على القطع وذلك بإعادة صياغة أصولها بصورة تجعل منها علمًا برهانيًّا»[24].

وهكذا، يجرّد الشاطبي الكلّيّات من جزئياتها الفقهية، ويسمّيها بالمقاصد التي تتنوّع إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلّف،

ومن ثَمَّ فقصد الشارع أربعة أنواع:

أولًا: قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء، وهو في المرتبة الأولى؛ فالقاعدة الكلية فيه هي أن الشريعة إنما وضعت لحفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وهذه المصالح لا تعدو أن تكون ثلاثة أقسام هي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات.

والضروريات تعني أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. ومن ثَمَّ فمجموع الضروريات خمسة هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.

وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة، مثل الترخيص للمسافر بالإفطار في نهار رمضان بسبب ما يلحقه من المشقّة.

ومن جهة أخرى، فإن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي. والثاني أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق.

والثالث أنه لا يلزم من اختلال الباقيين اختلال الضروري.والرابع أنه يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما. والخامس أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري[25].

وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنُّب الأحوال المدنّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، مثل إزالة النجاسة وستر العورة، ولكل واحد من هذه الأقسام ما هو كالتتمة والتكملة.

ثانيًا: قصد الشارع في وضعها للإفهام، بمعنى ضرورة مراعاة اللغة العربية، وتفهُّم أساليب العرب من أجل استيعاب مقاصد الشرع الإسلامي.

ثالثًا: قصد الشارع في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومعنى ذلك أن ما لا قدرة للمكلّف عليه لا يصحّ التكليف به شرعًا، وإن جاز عقلًا.

رابعًا: قصد الشارع في دخول المكلّف تحت حكمها، معنى ذلك أن المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلّف من داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد الله اضطرارًا، وبالتالي فلا يصحّ لأحد أن يدّعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهّي العباد وأغراضها، إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة التي هي: الواجب، والمحرّم، والمكروه، والمندوب، والمباح.

وعليه، نلاحظ أن الشاطبي قد أسّس أصول الفقه على أساس عقلاني برهاني بامتياز. ومن ثَمَّ تعتمد منهجية الشاطبي على مفهوم المقاصد، ومفهوم الكلي، والطريقة التركيبية. ويعني هذا أن الشاطبي قد أراد أن يؤسّس الشريعة (البيانية) على البرهان الكلي والاستقرائي.

يقول الجابري: «لقد كان الفكر الأصولي منذ الشافعي إلى الغزالي يطلب المعاني من الألفاظ، حسب عبارة هذا الأخير معرضًا إعراضًا يكاد يكون تامًّا عن مقاصد الشرع، وكان مفهوم الكلي غائبًا تمامًا عن الحقل المعرفي البياني، وقد أدّى غيابه إلى مشكلة الأحوال في علم الكلام، المشكلة التي أوقعت النظام المعرفي البياني في أزمة خانقة كما أبرزنا ذلك في حينه.

أما في أصول الفقه، فلم يكن من الممكن أن يتبلور مفهوم الكلي في أرجائه؛ لأن ما كان يؤسّس أصول الفقه هو القياس، والقياس هو حمل جزء على جزء حملًا يبحث له عمّا يبرّره بالسبر والتقسيم، أي بتحليل الجزء المقيس والجزء المقيس عليه إلى أجزاء هي صفات كل منهما،

والبحث فيها عن جزء واحد يصلح أن يكون هو المعنى أو الإمارة أو العلّة -والكل بمعنى واحد- الذي يصلح أن يكون مبررًا للحكم. وأما الطريقة التركيبية التي قوامها الانتقال من جزئيات إلى الكلي الذي ينتظمها، وذلك بواسطة الاستقراء، فإنها لعمري الطريقة العلمية حقًّا. إنها الخطوة التي يتجاوز بها الفكر العلمي مرحلة المماثلة بمختلف أنواعها بما فيها قياس الفقهاء.

وإنه لمما يثير التقدير والإعجاب معًا أن الشاطبي قد انتبه إلى نقطة الضعف في هذه الطريقة، الطريقة الاستقرائية التركيبية، فألحَّ على ضرورة مراعاة العلاقات الجدلية بين الكلي وجزئياته، وذلك باعتبار الكلي عند الحكم على الجزئيات التي يتكوّن منها، واعتبار الجزئيات عند الأخذ بالكلي الذي ينتظمها، كما أبرزنا ذلك آنفًا.

لقد دشَّن الشاطبي نقلة إبستمولوجية هائلة في الفكر الأصولي البياني العربي، نقلة كانت جديرة حقًّا بأن تحقّق المشروع الحزمي الرشدي: تأسيس البيان على البرهان، وذلك انطلاقًا من مركز الدائرة البيانية نفسها، علم الشريعة، ولكن النقلة التي بشّر بها الشاطبي في ميدان علم الشريعة بقيت مثلها مثل النقلة التي بشّر بها ابن رشد في ميدان الحكمة بدون قابلة،

بدون مستقبل، تمامًا مثل النقلة التي بشّر بها ابن خلدون في ميدان ثالث بقي ينظر إليه داخل الثقافة العربية الإسلامية على أنه يقع خارج شجرة العلوم النقلية منها والعقلية، إنه ميدان الأخبار غير الشرعية، ميدان فن التاريخ»[26].

وعليه، فلقد كان ابن حزم والشاطبي مؤسّسين حقيقيَّين لأصول الفقه تأصيلًا وتجديدًا وإبداعًا، وفق منظور برهاني منطقي أرسطي.

الخاتمة

وخلاصة القول يتبيّن لنا، مما سلف ذكره، أن أصول الفقه هو ذلك العلم الذي يدرس طرائق الاستدلال واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها النظرية والتطبيقية. ويعني هذا أن أصول الفقه يُعنى باستخراج القواعد التي تساعد المجتهد على فهم النص الشرعي واستخلاص أحكامه الشرعية.

بيد أن علم أصول الفقه كان يدرس مجموعة من القضايا من منظور بياني لغوي محض، كقضية الأحكام التكليفية، وقضية الدلالات اللغوية، ومصادر التشريع. بيد أن ابن حزم حاول أن يعقلن علم أصول الفقه وفق منهجية برهانية قائمة على الاستنتاج والاستقراء والتمثيل، متأثرًا في ذلك بالمنطق الاستدلالي الأرسطي.

ويعدّ الشاطبي أيضًا، في كتابه (الموافقات في أصول الفقه)، من كبار الأصوليين الذين أصَّلوا علم أصول الفقه، ببنائه من جديد على أسس عقلانية برهانية ومنطقية من داخل البيان الشرعي نفسه. ويعني هذا أنه قد اعتمد على الاستقراء من جهة أولى، والاستنتاج من جهة ثانية، ومقاصد الشرع من جهة ثالثة.

الهوامش

[1] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، سنة 1986م.
[2] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص48.
[3] محمد عابد الجابري، المرجع نفسه، ص48-49.
[4] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الثالث، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دمشق – سورية: دار البلخي ومكتبة الهداية، الطبعة الأولى 2004م، ص:1031.
[5] محمد عابد الجابري، نفسه، ص528-529.
[6] محمد عابد الجابري، نفسه، ص529.
[7]أبو الحسن البصري، المعتمد في أصول الفقه،تحقيق: محمد حميد الله، دمشق – سورية: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، طبعة 1984م، ص13-14.
[8] محمد عابد الجابري، نفسه، ص:51.
[9] محمد عابد الجابري، نفسه، ص51.
[10] محمد عابد الجابري، نفسه، ص52-53.
[11] محمد عابد الجابري، نفسه، ص53.
[12] تعني دلالة النص دلالة الدلالة، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، وقياس الأولى، والقياس الجلي، أو القياس في معنى النص.
[13] يجب أن نستثني من ذلك كتاب: الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحق الشاطبي الذي سلك مسلكًا خاصًّا أراد به إعادة تأصيل الأصول. انظر: الجابري، بنية العقل العربي، ص72، الهامش 25.
[14] محمد عابد الجابري، نفسه، ص58.
[15] محمد عابد الجابري، نفسه، ص103.
[16] أبو إسحق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز ومحمد عبد الله دراز، بيروت – لبنان: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004م.
[17] محمد عابد الجابري، نفسه، ص252.
[18] محمد عابد الجابري، المرجع نفسه، ص535.
[19] محمد عابد الجابري، نفسه، ص536.
[20] محمد عابد الجابري، نفسه، ص552.
[21] محمد عابد الجابري، نفسه، ص552.
[22] محمد عابد الجابري، نفسه، ص553.
[23] محمد عابد الجابري، نفسه، ص554.
[24] محمد عابد الجابري، نفسه، ص555.
[25] أبو إسحق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، الجزء الأول، ص11-14.
[26] محمد عابد الجابري، نفسه، ص561.

المصدر: مجلة الكلمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky