الاجتهاد: يقسم آية الله الشيخ علي كاشف الغطاء في كتابه ” أدوار علم الفقه وأطواره ” علم الفقه إلى سبعة أدوار التي تبدأ من دور التشريع للأحكام الشرعية في من زمن بعثة الرسول (ص) وينتهي بالدور السابع والذي يبدأ من أواخر القرن الحادي عشر الهجري. ويرى الشيخ علي كاشف الغطاء أن مبدأ تدوين علم الفقه عند الشيعة يبدأ بعد غيبة الكبرى وأنه لم يدون الشيعة إلى زمن الغيبة الكبرى سنة 329هـ علم الفقه على النهج المعروف فعلا من تحرير المسائل الفقهية.
يقول آية الله الشيخ علي كاشف الغطاء في مقدمة الكتاب: إن علم الفقه لما كان من العلوم التي ترتبط بواقع الحياة و صميمها لأنه تعالج فيه الوقائع و الحوادث الداخلية والخارجية حيث انه العلم بالأحكام الإلهية لأفعال المكلفين فكان و لا بد أن تصقل مسائله العقول و تنقح مطالبه الأفكار و يناله التطور الذي ينال كل علم من العلوم التي يكون لها هذا الشأن.
كيف لا و موضوعه هو أفعال المكلفين و هي تتغير بتغير الزمن و تتطور بتطور الحياة و كم كان الفرق بين الحياة في صدر الإسلام و بينها في هذه الأيام فان في هذه الأيام قد صارت استفادة قوانينه و تطبيقها على الحوادث النازلة و الوقائع المتجددة و استنباط الوظائف الدينية في الحياة العملية، و استلهام الأحكام الشرعية منها تحتاج إلى مهارة علمية و مقدرة فنية لانقطاع زمن الوحي و هذا أمر يتجدد بتجدد الحوادث و يختلف باختلاف الافهام و سعة الاطلاع،
فكان تطور علم الفقه بتطور الزمن و تجدده بتجدد الأحداث أمراً لازماً لطبيعة موجوديته و لنفس حيويته و ان تمر به أدوار مختلفة منذ نشأته حتى اليوم.
وعلى الفقيه الاطلاع على هذه الأدوار و تاريخ تطورها باختلاف الظروف و الأحوال و تعدد مظاهرها الناتج عن اختلاف المذاهب و الأنظار و تفاوت العقائد و الأفكار، بل يكاد أن يكون من المحتم على من أراد زيادة البصيرة في هذا العلم التعرف بما قطعه هذا العلم من الخطوات و العقبات في مضمار رقيه و تقدمه الذي أبرزه بهذه الصورة في هذه الحياة،
فان في ذلك عرضاً للأسس العامة للثقافة الدينية و بياناً لمناهج دراستها العلمية الفقهية و هو ما يزيد الفقيه معرفة و خبرة و اطلاعاً و بصيرة،
والذي حصلناه من بطون الكتب المحررة في هذا الموضوع و استخرجناه من المؤلفات في هذا العلم انه قد مرت بهذا العلم أدوار متعددة.
الدور الأول: دور التشريع للأحكام الشرعية و هذا الدور يبدأ من زمن بعثة الرسول (صلّى الله عليه و آله و سلّم).
الدور الثاني: ان الدور الثاني للفقه يبدأ من وفاة الرسول (صلّى الله عليه و آله و سلّم) سنة 10 هـ و ينتهي بخروج معاوية عن طاعة خليفة المسلمين علي (عليه السلام) سنة 36 هـ.
الدور الثالث: ثمّ يبدأ الدور الثالث من حيث ينتهي الدور الثاني أي من سنة 36 هـ إلى خلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99 فان في هذا الدور أعلن معاوية الخروج عن طاعة أمير المؤمنين وانشق المسلمون نصفين بعد أن كانوا في الدورين السابقين يداً واحدة يرجع بعضهم لبعض في تفهم المسائل الشرعية و كانت الشيعة متفقة مع السنة لا يجرأ أحدهم على مخالفة الآخر في الظاهر للمحافظة على وحدة الصف وجمع الكلمة و الاخوة الدينية الإسلامية.
أما في هذا الدور فقد عصفت بهم ريح عاتية مزقتهم شر ممزق و فرقتهم أيدي سبا بالخروج على خليفة المسلمين الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلن معاوية العصيان و جمع جموعه على خليفة المسلمين و كان ذلك أول حدث في الإسلام شق عرى وحدتهم و فرق ما اجتمع من صفوفهم و أثارها فتنة شعواء ليوم المحشر تقذف علينا بحمم كأنها جمالة صفر غيرت الاتجاهات الروحية و بلبلت الأفكار الدينية و سببت التطاول على مركز الخلافة الإسلامية التي هي رمز الوحدة و الاخوة في ذات الله.
الدور الرابع: و هو يبتدئ من زمن خلافة عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم سنة 99 هـ الذي كانت خلافته سنتين و خمسة اشهر و ينتهي هذا الدور بأفول نجم الدولة العباسية بأوائل القرن الرابع الهجري و القرن العاشر الميلادي حيث أن باب الاجتهاد انسد عند أهل السنة في آخر هذا الدور لتصريحهم بأنه لم ير مجتهد منهم بعد محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310 هـ.
الدور الخامس: دور التقليد عند أهل السنة. يبدأ هذا الدور بما انتهى إليه الدور الرابع أي انه يبدأ من أوائل القرن الرابع إلى سقوط الدولة العباسية سنة 655 هـ بزحف التتر على بغداد و سقوطها بأيديهم فان هذا الدور قد جاء و قد تفككت عرى الوحدة الإسلامية بخلافات طائفية ومذهبية وانقسامات عنصرية و طبقية و تمزق شمل المسلمين فالبويهيون في فارس و الفاطميون في شمال إفريقيا و الامويون في الأندلس و الاخشيديون في سورية ومصر والساسانيون في خراسان والقرامطة في البحرين و الحمدانيون في الموصل هذا و بغداد عاصمة الدولة العباسية منقسم بعضها على بعض تعصف بها الزوابع السياسية والفتن الداخلية لنيل التاج أو الصولجان لا للصالح العام و يغار عليها من كل جانب و مكان.
الدور السادس: وهو يبدأ من أواخر القرن السابع الهجري وينتهي بأواخر القرن الحادي عشر حيث بدأ فيه النهوض من أهل السنة بالخروج عن التقليد والتحرر من الجمود على آراء المتقدمين تدريجاً بشكل دوائر ضيقة ثمّ أخذت تتسع شيئاً فشيئاً حيث أن تبدل الظروف والأحوال و تطور الأوضاع والحوادث وتجدد المصالح والمفاسد والمسايرة لركب الحضارة كان الناس من فقهائهم في حرج وضيق من الجمود على التقليد للمجتهدين المتقدمين واصبح من المحتم عليهم الرجوع للمصادر الفقهية الأصلية ومنابعه الأولية و الخروج من التقيد بفتاوى السابقين.
فكان ممن استبق الباب في هذا المضمار و خرج عن التقليد و رجع لأدلة الأحكام من الكتاب و السنة و نحوها من المصادر تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة 683 هـ و نجم الدين أبو ربيع الطوني المتوفى سنة 716 هـ و ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ و الذي اعتقلوه في القاهرة حتى كتب السلطان إلى دمشق ان من اعتقد اعتقاد ابن تيمية حل ماله و دمه. و تلميذه ابن القيم المتوفى سنة 751 هـ الذي نكبوا به بألسنتهم و خليل بن اسحاق الكردي المصري المتوفى سنة 776 هـ.
الدور السابع: يبدأ هذا الدور من أواخر القرن الحادي عشر الهجري إلى ما نحن فيه فقد أدرك المسلمون و العرب ما وصل إليه حاضرهم و استيقظ الوعي الديني و القومي فيهم و قاموا بنهضة واسعة بحركات باسم الدين و الرجوع للكتاب و السنة و الخروج عن التقليد بشكل دوائر واسعة.
مبدأ تدوين علم الفقه عند الشيعة
لم يدون الشيعة في هذا الدور الخامس إلى زمن الغيبة الكبرى سنة 329 هـ علم الفقه على النهج المعروف فعلا من تحرير المسائل الفقهية.
وبيان الدليل عليها إذا لم تكن بديهية و بيان اصح الأقوال فيها أو أظهرها أو ظاهرها إذا كانت مختلف فيها بل كانت فتاواهم المدونة هي نصوص الأحاديث إلى أن جاء ابن أبي عقيل الحسن بن علي بن أبي عقيل أبو محمد العماني الحذاء شيخ الشيعة و وجهها و فقيهها فإنه أول من حرر المسائل الفقهية و ذكر لها الأدلة و فرع عليها الفروع في ابتداء الغيبة الكبرى
وقد أثنى الشيخ المفيد على كتابه (المتمسك بحبل آل الرسول) في الفقه و قد ادرك زمان السيمري آخر السفراء و زمان الكليني و عاصر الصدوق علي بن بابويه و استجازه جعفر بن قالويه صاحب كتاب كامل الزيارة المتوفى سنة 369 ه أو سنة 368 ه وجاء بعده الشيخ الفاضل أبو علي محمد بن احمد بن جنيد الإسكافي المتوفى سنة 381 هـ صاحب كتاب تهذيب الشيعة في عشرين مجلداً يشتمل على جميع أبواب الفقه.
وكتاب المختصر في الفقه الأحمدي اختصر به كتابه التهذيب و هو الذي وصل لأيدي المتأخرين و منه انتشرت مذاهبه و أقواله فقد قام رضي الله عنه بتحرير المسائل الفقهية على وجه الاستدلال و قد أدرك زمان السيمري و الكليني صاحب الكفاية، و رأيت بخط والدي رضي الله عنه أن الإسكافي هو الذي دون الأصول على مذهب الامامية و كذا تحرير الفتاوى في الكتب الفقهية.
قال العلامة المجلسي في كتابه: مرآة العقول (و هو المتبحر و المطلع على كثير من أصول القدماء و كتبهم): إن الإفتاء لم يكن شائعاً في زمن الكليني (رحمه الله) و ما قبله بل كان مدارهم على نقل الأخبار و كانت تصانيفهم مقصورة على جمعها و روايتها و بالطبع مراده (رحمه الله) عند الشيعة الاثني عشرية و إلا فالسنة كانت الفتاوى عندهم اكثر من أن تحصى،
ثمّ جاء من بعد ابن جنيد و الإسكافي تلميذهما الشيخ محمد الملقب بالمفيد رضي الله عنه المتوفى سنة 413 ه فألف ما يقارب المائتي كتابٍ و منها كتابه المسمى (بالمقنعة) الذي بين مصادره و ذكر أدلته من الأخبار و الأحاديث الشيخ الطوسي و أسماه (بالتهذيب) أحد الكتب الأربعة و من جلالة قدر المفيد (رحمه الله) في الأوساط الدينية انه كان يزوره عضد الدولة.
ثمّ جاء من بعده تلميذه علم الهدى الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 ه فألف كتبه في أصول الدين كالشافي و في أصول الفقه كالذريعة و يقال انه أول كتاب صنف في هذا الباب للشيعة و لم يكن لهم في علم أصول الفقه قبل هذا إلا رسائل مختصرة و ألف (رحمه الله) في فروع الفقه الناصريات و الانتصار و غيرهما.
ثمّ جاء من بعده في هذا الدور الشيخ محمد الطوسي المتوفى سنة 460 ه صاحب كتاب التهذيب و الاستبصار فألف كتاب الخلاف في الفقه الاستدلالي و كتاب المبسوط المملوء بالفروع الفقهية و الذي ذكر فيه بأنه لا يزال يسمع من معاشر مخالفينا من المتفقهين يستحقرون فقه أصحابنا الامامية و إن هذا جهل منهم بمذهبنا و قلة التأمل لأصولنا.
و ألف كتاب النهاية الذي هو موضع العناية من الفقهاء و كان الفقهاء يتبعون طريقة الشيخ الطوسي و منهجه في الاستدلال و الاستنتاج و لم يخرجوا عن ذلك مدة تقارب القرن من الزمن لحسن ظنهم بالشيخ بل قيل أنهم كانوا مقلدين له حتى أن البعض لقبهم بالمقلدين له فيما استنبط و مقتفين أثره فيما اجتهد و استنتج لا يتعدون عما قال و لا يخرجون عن رأيه في البحث و المقال
إلى أن جاء في هذا الدور محمد بن إدريس الحلي المتوفى سنة 598 هـ فهاجم طريقة الشيخ الطوسي في الاستنتاج و شن الحملة على آرائه الفقهية في كتابه السرائر و فتح باب التمسك بالأدلة العقلية بينما كان المعتمد عليه في الأزمنة السابقة الإجماع و النص و الظاهر دون الأدلة العقلية
ثمّ تبع ابن إدريس رضي الله عنه تلاميذه و من جاء بعده من فقهاء الشيعة في حرية الرأي و مناهج الاستدلال و الاستنتاج ضمن نطاق الأدلة الأصولية الصحيحة لديهم التي قام عندهم على حجيتها القطع أو القطعي، و اتسع أفق البحث و النظر فيها حتى اليوم و أوجب ذلك ثروة فقهية عند الشيعة لا تكاد تجدها عند غيرهم.
المصدر كتاب : أدوار علم الفقه وأطواره المؤلف: كاشف الغطاء، الشيخ علي قراءة الكتاب (هنا)