الاجتهاد: إنّ المعنى اللغوي للطهارة هو التنزُّه. كما أنّ المعنى اللغوي للنجاسة هو القذارة، التي لها تحقق خارجي وتكويني. فهل المراد في القرآن الكريم والسنة الشريفة بلفظ الطهارة والنجاسة هو ذات المعنى اللغوي أم لا؟ على مَنْ يريد ممارسة الاجتهاد أن يعمل أوّلاً على تنقيح هذه المسألة؛وذلك لوجود الاختلاف بين الفقهاء بشأنها. إعداد: ص. ن* ترجمة: حسن علي حسن
إنّ مسألة الطهارة والنجاسة تدخل في الحياة اليومية لكلّ مسلم، وتترتَّب عليها مجموعة من الأحكام. فالمسلم يتعاطى يومياً مع طهارة بدنه وثيابه في الصلاة، وطهارة الأطعمة والأشربة، وطهارة ماء الوضوء والغسل، وطهارة الماء الذي يراد منه تطهير البدن والثوب وغيرهما من النجاسة. وكذلك المنع من نجاسة هذه الأمور المذكورة آنفاً.
من هنا يجب على مَنْ يسعى إلى استنباط أحكام الطهارات والنجاسات من الأدلة الفقهية والاجتهادية أن يحدِّد مفهوم الطهارة والنجاسة في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة. وعليه أن يثبت هل الطهارة والنجاسة في مصادر التشريع الإسلامي يراد منها نفس معناها اللغوي والعرفي، أم أنها من المفاهيم المنقولة في الشرع، وأنّ الشارع قد استعملها في معانٍ جديدة خاصة؟
إنّ المعنى اللغوي للطهارة هو التنزُّه. كما أنّ المعنى اللغوي للنجاسة هو القذارة([1])، التي لها تحقق خارجي وتكويني. فهل المراد في القرآن الكريم والسنة الشريفة بلفظ الطهارة والنجاسة هو ذات المعنى اللغوي أم لا؟ على مَنْ يريد ممارسة الاجتهاد أن يعمل أوّلاً على تنقيح هذه المسألة؛ وذلك لوجود الاختلاف بين الفقهاء بشأنها كما يلي:
هناك مَنْ ذهب إلى القول: إنّ الطهارة والنجاسة لم تُستعملا في القرآن والسنّة في معناهما اللغوي، بل استعملتا في معنىً اعتباري واصطلاحي، لا وجود له إلاّ في عالم الاعتبار، دون التكوين والحقيقة الخارجية. مثلاً: إذا تنجَّس سطح زجاجة بالدم، وغسلناه بماء الملح يبقى الزجاج نجساً؛ إذ لا يصحّ تطهير النجاسة بسائلٍ غير الماء المطلق.
فليس هناك لنجاسة الزجاجة واقعية تكوينية وخارجية، بمعنى أنه لا وجود تكوينيّاً للدم على الزجاجة، وليس هناك من قَذَر خارجي بعد غسله بماء الملح، ولا بأس باستعماله من الناحية الصحّية، ومع ذلك يصرّ الشارع على بقائه على النجاسة، فلو أمسكت بالزجاجة وكانت يدك نديّة فسوف تتنجَّس. وأما إذا غسلت الزجاجة بالماء فسوف تطهر.
وعليه ليس هناك لأيٍّ من الطهارة والنجاسة واقعية خارجية وتكوينية، وإنما هي موجودة في عالم الاعتبار فقط. فالشارع هنا هو الذي يعتبر النجاسة إذا تمّ الغسل بماء الملح، وهو الذي يعتبر الطهارة إذا تمّ الغسل بالماء المطلق. هذا رأيٌ.
وبناءً على هذا الرأي إذا قلنا: إنّ بول الإنسان نجس لا يعني ذلك أنّ لقذارته واقعية خارجية، بل يعني أنّ الشارع هو الذي اعتبر نجاسته وقذارته. من هنا يقول صاحب هذا الرأي: إنّ الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعية، أي إنها أحكام تكون بوضعٍ من قبل الواضع، واعتبارٍ من قبل المعتبر، فهي أحكامٌ قائمة بالوضع والاعتبار.
وقال آخرون: إنّ الطهارة والنجاسة مستعملتان في القرآن الكريم والسنّة الشريفة في معناهما اللغوي، ولكنّ الشارع يعمد أحياناً إلى تخطئة العرف في تحديد المصداق.
فمثلاً: في المثال المذكور آنفاً يقول العرف: إنّ الزجاج الذي لاقى الدم إذا غسل بماء الملح يكون نظيفاً، ويغدو طاهراً، ولكن الشارع يقول: لا يزال الزجاج نجساً، ولكنّ العرف لا يدرك ذلك. وهذا يعني أنّ نجاسة وقذارة الزجاج بعد غسله بماء الملح لا تزال لها واقعية تكوينية وخارجية، ولكنّنا لا نراها، ولا يمكن للناس أن يدركوها.
وهناك رأيٌ ثالث يقول: إنّ الطهارة والنجاسة في القرآن والسنّة مستعملتان في معناهما اللغوي. فالنجاسة تعني القذارة، والطهارة تعني النزاهة. وكلما كان هناك قذر فهو محسوسٌ وملموس، وله واقعية خارجية وتكوينية، كالدم على الزجاج. وعندما تزول هذه القذارة تتحقَّق الطهارة؛ لأنّ الطهارة تعني النزاهة، والنزاهة تعني عدم القذارة، التي هي بدورها أمرٌ محسوس. وعليه فإنّ الدم الواقع على الزجاجة يطهر بغسله بماء الملح، لأنّ الطهارة تعني زوال النجاسة القذارة.
وهذا الرأي هو المنقول عن الشيخ المفيد والسيد المرتضى. فقد نقل عنهما الشيخ النجفي صاحب الجواهر أنهما قالا: «مذهبنا جواز تطهير الأشياء بغير الماء من السوائل والمائعات». وقال الشيخ المفيد: «إنّ هذا هو المرويّ عن الأئمة^»([2]). وقال السيد المرتضى في معرض الاستدلال على ذلك: «تطهر الثياب المتنجّسة بغسلها بغير الماء؛ لأنّ الطهارة ليست سوى زوال النجاسة، وليس في الأدلة العقلية ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة، ولا ما يوجبها. ونحن نعلم أنه لا فرق بين الماء والخلّ في الإزالة، بل ربما كان غير الماء أبلغ، فحكمنا حينئذٍ بدليل العقل»([3]).
يفهم من كلام السيد المرتضى أنّ للطهارة والنجاسة ـ من وجهة نظره ـ واقعية تكوينية وخارجية، وليست أمراً اعتبارياً ووضعياً. وإننا إذا غسلنا الزجاجة الملاقية للدم بماء الملح ستطهر. وإنّ ماء الملح من السوائل التي يقول السيد المرتضى بأنها أفضل من الماء في إزالة النجاسة. وعليه فإنّ النجاسة في رأيه مستعملةٌ في معناها اللغوي، أي القذارة، وإنّ الطهارة تعني النزاهة.
وقد تمسّّك السيد المرتضى لرأيه برواية غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادق×، أنه قال([4]):«لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق»([5]). وكذلك برواية الحكم بن حكيم الصيرفي، أنه سأل الإمام الصادق×: «أَبُول فلا أصيب الماء، وقد أصاب يدي شيءٌ من البول، فأمسحه بالحائط وبالتراب، ثم تعرق يدي، فأمسح وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي؟ فقال: لا بأس به»([6]).
يتّضح من استدلال السيد المرتضى وتمسُّكه بهاتين الروايتين أنّ النجاسة واقعية تكوينية وخارجية، وهي نفس الدم والبول، وأنّ الدم عندما يزول بالريق، وعندما يزول البول بالتراب أو الجدار، لا تبقى هناك نجاسةٌ. وعندما تزول النجاسة تحصل الطهارة؛ لأنّ الطهارة تعني زوال النجاسة.
وعليه فإنّ الطهارة والنجاسة ـ كما قال بعضٌ ـ ليست اعتبارية أو وضعية، بل هي تكوينية وخارجية. وكذلك كما قال بعضٌ آخر فإنّ الشارع هنا لم يخطِّئ العرف؛ لأنّ العرف يرى ويقول: إن الدم يزول بالريق، والبول يزول بالتراب أو الجدار. وإن الشارع طبقاً لهاتين الروايتين قد صوّب العرف ولم يخطِّئه. وعليه من البديهي أن يطهِّر ماء الملح الدم من الزجاج، فيطهر الزجاج. ولو زرق المريض بإبرة فخرج الدم من الموضع، ثم زال الدم بالقطنة المنقوعة بسائل التعقيم أو اللعاب، سيطهر موضع الإبرة.
وعلى هذا المبنى تكون الطهارة بمعنى النظافة والنزاهة. وإنّ نظافة الزجاج بماء الملح، ونظافة موضع الإبرة بالتعقيم أو الريق، أمرٌ محسوس وملحوظ. إذن فالقول بأنّ الزجاج الملاقي للدم إذا غسل بماء الملح فإنه سيغدو نظيفاً، ولكنه لا يكون طاهراً، ليس صحيحاً. وإنّ الطهارة بمعنى النظافة، وإنّ الطهارة والنظافة بمعنىً واحد.
إذا قبلنا ذلك ستكون طهارة أبدان الحيوانات بزوال عين النجاسة طِبْق القاعدة، وليست استثناءً. فلو أنّ سنّوراً أكل فأرةً ميتة، وتلطّخ فكّاه بالدماء، ثم لعق هذه الدماء بلسانه حتّى زالت، تقوم فتوى الفقهاء على طهارته. فلو غمس فمه بعد ذلك في وعاء ماءٍ لن ينجس الماء. وطبقاً للرأي المذكور ستكون طهارة فم السنّور وعدم تنجّس الماء مطابقاً للقاعدة، وليس تعبُّداً واستثناءً. ومقتضى ذلك أنّ شفة الإنسان إذا تشقَّقت وخرج منها الدم، فأزاله بلسانه، ستطهر شفته، ولن تكون هناك حاجةٌ لغسلها بالماء.
فعلى الذي يروم الاجتهاد في الطهارة والنجاسة قبل كلِّ شيء أن يحدِّد معنى الطهارة والنجاسة الواردتين في القرآن الكريم والسنّة الشريفة من طريق الاجتهاد، ويطمئنّ إلى صحّة واحدٍ من الآراء الثلاثة المتقدِّمة، ثم يعمد إلى بحث مسائل الطهارة والنجاسة وفق المبنى الذي يذهب إليه، مع الالتفات إلى الأدلّة الاجتهادية.
تحميل المقالة
(*) لم ينشر اسم الكاتب سوى بهذه الطريقة في مجلّة (نقد ونظر العدد الأول) الفارسية. وإننا نرجِّح أنه الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي&.)
ترجمة: حسن علي حسن
عناوين البحث:
مسألةٌ
الاجتهاد المفتوح، والاجتهاد المغلق
نموذج من الاجتهاد المغلق
قول عموم الفقهاء
صحّة قول العلاّمة
الاجتهاد المفتوح على أساس الملاك
قانون الغَلَبة في الروايات
قانون الكثرة في الروايات
مسائل
مسألةٌ دقيقة
الاشمئزاز الناشئ من القوّة الواهمة
الهوامش
لتحيمل المقالة باللغة الفارسية راجع الرابط التالي
المصدر: نصوص معاصرة