موقع الاجتهاد: إنّ علينا أن نتعلم أن يكون لدينا رحابة قبول الاختلاف ورجوع كل مكلف إلى مرجعه. وعلى أهل العلم أن يعملوا هم قبل غيرهم بهذه البديهة الفقهية ويطبقوها على أنفسهم، قبل أن يدعوا الآخرين إلى تطبيقها، ومن مسؤوليتهم أن يبتعدوا عن إثارة معارك غير مبررة في هذا الإطار، وعليهم أيضاً أن الناس ويرشدوهم إلى ضرورة التعامل في قضايا الاختلاف بهذه الرحابة والأريحية.
في كل عام وفي ذكرى الأربعين، يتقاطر الملايين من المؤمنين على زيارة أبي عبد الله (ع) يشدُّهم عشق وحنين ويقودهم شوق كبير إلى ذاك الإمام العظيم الذي فدى الدين بنفسه وأبنائه وضحّى بأعزّ ما يملك، وأقدم على الموت بجرأة منقطعة النظير فصرع الموت بدل أن يصرعه الموت، ويعمد الكثيرون من الزوار إلى الذهاب مشياً على الأقدام إلى زيارته (ع).
وقد أثير في الآونة الأخيرة جدل واسع حول شرعيّة زيارة الأربعين، وحول شرعيّة المشي إلى الزيارة، الأمر الذي يدفعنا إلى تسليط الأضواء على هذا الأمر، محاولين تلمس ضوابط إدارة الاختلاف في هذه القضايا، وهذا ما نبينه من خلال النقاط التالية:
1- مشروعيّة الاختلاف
إنّ الشعائر الحسينيّة كغيرها من الشعائر الدينية أو الأحكام الفقهية قد تقع في بعض جوانبها محلاً للاختلاف وتعدد وجهات النظر، وهذا الأمر ليس سلبياً، فليس علينا أن نَضِيقَ بالاختلاف، كيف والحال أنّ الاختلاف في وجهات النظر يثري الفكر ويغنيه، كما يشير الحديث المروي عن علي (ع):”
أمخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء”[2]، كما أنّ الاختلاف يفتح أمام العقل أفاقاً للمعرفة وأبواباً للتفقه، ولهذا فهو – من حيث المبدأ – نعمة وحالة صحية فلا يجوز أن نحوّله إلى نقمة وسبباً للتنازع.
على أنّ الاختلاف في الرأي من جهة أخرى حقٌّ من حقوق الإنسان، وقد كفله الله له عندما أعطاه عقلاً وأمره بأن لا يجمِّده بل يحركه، تفكراً وتدبراً وتأملاً، ولا يمكن لأحد أن يسلب الإنسان هذا الحق الذي منحه الله تعالى إياه، وهذا يعني أنه لا بدّ أن يتاح المجال لكل أحدٍ أن يعبّر عن رأيه ويطرح أفكاره بكامل حرية، بعيداً عن الإرهاب الفكري ولغة التضليل والتبديع والتكفير.
ثمّ إنّ المساحة التي يتاح فيها الاختلاف وإبداء الرأي واسعة ولا تنحصر بنطاق خاص، فهي تمتد إلى الفضاء الديني فضلاً عن غيره، فهذا الفضاء ليس مقفلاً على التفكير والمراجعة والتأمل وإعادة النظر فيما طرحه السابقون، وهذا أمر طبيعي، لأنّ القضايا الدينية – عقدية كانت أو تشريعية أو تاريخية – هي في غالبيتها العظمى ليست من الضرويات المقفلة على النقاش، وإنما هي من النظريات[3]، التي قد تتعدد فيها الأنظار وتختلف الآراء.
ولكن السؤال: كيف ندير الاختلاف في هذه القضايا ولا سيما في الأمور الشعائرية بما يجنب واقعنا الانقسام والتشظي؟
2- العاطفة ودورها الإيجابي والسلبي
وعلى الرغم من أنّ معايير إدارة الاختلاف الفقهي هي معايير عامة ولا تنحصر بفقه الشعائر، بيد أنّ للشعائر الحسينية خصوصية تفرض نفسها على طريقة تناول الموضوع في الفضاء العام، ومردّ تلك الخصوصية إلى الحساسية العاطفيّة لموضوع الشعائر الحسينيّة لجهة الحماس الجماهيري في التفاعل معها والانخراط في الدفاع عنها. ولا سيما في هذه المرحلة الخطيرة التي يعمل فيها التكفيريون على استهداف الشعائر.
وفي الواقع فإنّ الحساسية العاطفية المشار إليها له وجهان:
الوجه الأول: هو الوجه الإيجابي في المسألة، حيث نرى حماساً منقطع النظير يتمثّل في هذا التفاعل الحي مع كل ما يتصل بالإمام الحسين (ع) وزيارته وشعائره، وهذا الأمر لا بدّ أن نقدره تقديراً عالياً، لأنه من نعم الله علينا، وربما كان تجلياً من تجليات تلك المأساة التي حفرت عميقاً في الوجدان الإسلامي الشيعي، وجعلت الحسين (ع) يتربع على عرش القلوب بلا منازع، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع):”إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً”[4].
الوجه الثاني: وهو الوجه السلبي في المسألة، وذلك لأنّ العاطفة قد تتجاوز حدودها كتعبير إنساني مقبول، فتسيطر على صاحبها وتخرجه عن حالة التوازن الفكري والسلوكي فيندفع إلى ظلم الآخرين، وقد تتحول أو يحوّلها البعض إلى سيف مسلط على رقاب الآخرين، فيرميهم ببعض الاتهامات محاولاً إرهابهم ومنعهم من إبداء الرأي المخالف، وهذا أمر غير مقبول وليس له ما يبرره، ولا سيما في الفضاء العلمي والحوزوي.
ومن باب المثال على ما نقول: أذكر لكم مثالاً حدثنا به أحدُ أساتذة العقيدة في الحوزة، يقول: إنّه عندما وصل في بحثه العقدي إلى قضيّة الإمامة وتناول مسألة “علم الإمام (ع)” طرح رأياً رافضاً أو مشككاً في علم الإمام (ع) بالموضوعات، فثارت ثائرة بعض الطلاب ممن لا يحيطون بأبعاد القضايا العلميّة! انتصاراً منهم لمقام الإمام (ع)! يقول هذا المدرس: ومهما حاولت إقناعهم بأنّ هذه المسألة تعالج بطريقة علميّة وليس بطريقة انفعالية، وأنكم – أي طلابه – تنطلقون في دفاعكم من منطلقات عاطفية، فإنّهم لم يتقبلوا الأمر، فما كان منّي – كما يقول هذا المدرس – إلا أن ذكّرتهم بمطلب قد مرّ
بحثه في دروس سابقة، قائلاً: ألا تذكرونا أنّه أثناء بحثنا حول “علم الله” تعالى قد طرحنا هناك رأياً لبعض كبار الفلاسفة ينفي فيه علم الله بالجزئيات، فلماذا لم تثر ثائرتكم حينها؟! أليس المفروض أن تكون غيرة المسلم على ما “يمس” خالقه لا توازيها غيرة على أمر آخر؟! أيستفزكم رأي مخالف في “علم الإمام” ولا يستفزكم رأي مخالف في “علم الله”! إنّها الانفعالات العاطفية هي التي تتحكم بمنطقكم وليس الغيرة على العقيدة والدين. ولا ينبغي بطلبة العلوم الدينية أن تسوقهم العاطفة أو تتحكم بعقولهم، لأن تحكم العاطفة قد يعمي عن رؤية الحقيقة والوصول إليها.
وهذه الالتفاتة صحيحة، وهي قد تعبّر عن مشكلة عقدية في واقع الأمر، لأن الله تعالى هو قدس الأقداس بالنسبة إلينا وكل قدسيّة أخرى هي مستمدّة من قدسيته، فهو المقدس بالذات وغيره مقدس بالعرض وبمقدار قربه من الله تعالى، ولذا فإنّ مقتضى التوحيد الكامل لله تعالى أن يكون حبنا له مقدماً على كل شيء، وأن تكون غيرتنا على ما يمس قداسته عزّ وجل مقدمة على غيرتنا على ذواتنا وأعراضنا وعلى كل من عداه.
وقصارى القول: إن الاختلاف على الصعيد العلمي مطلوب ومحمود، فهو يعطي حيوية وحراكاً يتمخض عنه تقديم الرأي الأفضل، ولا يمكن ولا ينبغي أن تشكِّل العواطف حاجزاً عن البحث والاجتهاد.
أجل، على مستوى الخطاب الجماهيري العام، لا بدّ أن يراعي الإنسان الذي لديه قناعة مغايرة لما هو شائع وسائد – ولا سيما ما يتصل بأمرٍ شعائري معين – الحكمة في الطرح وفي نقد هذه الشعيرة أو تلك، على قاعدة: “إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم”[5].
3- معايير إدارة الاختلاف
والاختلاف – كما ألمحنا – في قضية الشعائر أمر موجود وطبيعي، ولكن علينا أن نعرف كيف نديره؟ وأستطيع في هذا المجال أذكّر بمعيارين ينبغي اعتمادهما في إدارة هذا الاختلاف ونظائره:
المعيار الأول: وهو يتصل بإدارة الاختلاف في النطاق العلمي، وهذا المعيار معلوم وليس جديداً، وخلاصته أنّ الفيصل في إدارة الاختلافات العلمية هو البرهان والحجة وليس الأهواء والعواطف أو المزاج الخاص أو الاستحسانات، وفقاً لقول الحق تعالى: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [ ].
إنّ الاختلاف قائم وموجود وقد يستمر إلى ما شاء الله في أمر الشعائر، إنْ على مستوى الدائرة الإسلامية الكبرى أعني ما بين الشيعة والسنة، والحَكَمُ في إدارة هذا النوع من الاختلاف وفصل الخطاب فيه هو البرهان والدليل، أو على مستوى الدائرة الإسلامية الأصغر، أعني فيما يتصل بالدائرة الشيعية،
فالاختلاف هنا أيضاً قائم وموجود ليس في مبدأ الشعائر، وإنما في بعض جوانبها التفصيلية، وهنا أيضاً لا يمكننا إلا أن نعتمد الدليل والحجة في إدارة هذا الاختلاف، فمن حقك أن تخالف في شعائرية عمل معين، لأنه لم ينهض – بنظرك – دليل على شعائريته، ولا يملك أحدٌ حق تخوينك أو إسقاط حرمتك أو النيل منك بطريقة أو بأخرى، فهذا الأسلوب ليس إسلامياً ولم يعد مجدياً، كما أثبتت التجربة.
وفي المقابل، فإنّه لا يحق لك إذا كنت لا تؤمن بشعائرية عمل أو بمشروعيته أن تُبدِّع الآخرين أو تسخّف آرائهم أو أن تستهزأ بهم، أو تسخر من أعمالهم، فهذا الأسلوب ليس إسلامياً ولا يجدي نفعاً على الإطلاق.
نقول لضيقي الأفق: إنّ الفضاء الشيعي يسع الجميع تحت خيمته، والاختلاف في هذه القضايا وإبداء رأي آخر فيها مباح ومسموح، لأنه ليس خلافاً في الأسس والضرورات، بل في بعض التفاصيل العقدية أو الشرعية أو التاريخية التي تخضع للدليل الاجتهادي.
ولكننا نؤكّد على أنّ المطلوب في هذه المقام أمر أساسي وهو التعامل في تناول هذه القضايا بطريقة علمية تقوائية، بعيدأ عن هتك الأعراض وتجاوز آداب النقد وأخلاقيات التخاطب والتراشق بالاتهامات المتبادلة التي توتر الساحة الداخلية.
لقد بتنا نشهد عودةً للصراع الشيعي القديم الذي كان قائماً بين المدرستين القميّة والبغدادية، حيث كانت الأولى تتهم أتباع الثانية بالغلو، وفي المقابل كانت الثانية تتهم أتباع المدرسة القمية بالتقصير في حق الأئمة (ع)، لكن مع فارق بين النزاع في أيامنا وذاك النزاع، وهو أن الصراع في الزمن السابق كان – في الأغلب – يبقى محصوراً في الإطار العلمي، وأما في زماننا فقد امتد إلى الساحات الشعبية التي أصبحت تتجادل في هذه الأمور عبر الفضاء الإلكتروني الطلق وبأساليب غير علمية، فتنقسم الساحة بطريقة يصعب ضبطها، الأمر الذي قد يؤدي إلى نتائج غير محمودة.
المعيار الثاني: وهو يتصل بإدارة الاختلافات حول الشعائر في الفضاء الشيعي الشعبي العام، وهنا تكمن الحساسية، حيث قد يثير الرأي المخالف لما هو سائد حساسية معينة، والمعيار الذي أعتقد أن اعتماده يخفف الوطء في المقام ليس هو الكف عن إبداء الرأي المخالف بل هو عبارة عن النقاط التالية:
1- القبول بواقع تعدد الآراء وأن يعذر بعضنا البعض الآخر في حالات الاختلاف. وتكريس مبدأ رجوع كل مكلف إلى مرجع تقليده، مع الحرص على تربية الناس على قبول التعدد واختلاف وجهات النظر. فكل مكلّف يأخذ برأي مرجعه الذي قامت عنده الحجة على تقليده فليس من حقي الاعتراض عليه.
2- عدم توجه العلماء والباحثين في الخطاب إلى عامة الناس في القضايا الشعائرية الخلافيّة، فضلاً عما ينفرد فيه الباحث من رأي، وإنما التوجه إلى المحافل والمنتديات العلمية مع الحرص على استخدام اللغة العلمية، وليس اللغة الخطابية العاطفية، والوجه في ذلك أن عامة الناس لا يقلدونك فلماذا تتوجه إليهم بطريقة خطابية تحاول تشكيكهم فيما هم يفعلونه مما قامت الحجة عليهم عندهم من خلال تقليدهم.
إنّ علينا أن نتعلم أن يكون لدينا رحابة قبول الاختلاف ورجوع كل مكلف إلى مرجعه. وعلى أهل العلم أن يعملوا هم قبل غيرهم بهذه البديهة الفقهية ويطبقوها على أنفسهم، قبل أن يدعوا الآخرين إلى تطبيقها، ومن مسؤوليتهم أن يبتعدوا عن إثارة معارك غير مبررة في هذا الإطار، وعليهم أيضاً أن الناس ويرشدوهم إلى ضرورة التعامل في قضايا الاختلاف بهذه الرحابة والأريحية.
فقد لا يثبت عندك – اجتهاداً أو تقليداً – أن غداً هو عيد الفطر مثلاً، بينما يثبت ذلك لدى المرجع الآخر فيرتب مقلدوه آثار العيد على ذلك اليوم، فعليك في هذه الصورة أن تحترم تقليدهم، كما تتوقع منهم أن يحترموا رأيك ، ولا يحقُّ لك التجريح بمرجعهم، الذي هو من أهل الاختصاص والعلم والاجتهاد. إنّ من الضروري أن نتعامل بروحيّة إيجابية ورحابة عالية في هذا المجال.
4- مراعاة ضوابط النقد
ربما يقال: إنه وفي ضوء ما قدمتم، فأنتم تدعون إلى إقفال باب النقد حتى فيما يتصل بالظواهر الشاذة والمسيئة للدين أو المذهب، لأن البعض ممن يمارسها يرى لها مستنداً يثبت شرعيتها بنظره.
والجواب على ذلك هو أننا لا نلتزم بهذا اللازم، ولسنا نقبل بسد باب النقاش والبحث العلمي في شتى الأمور، ونحن من دعاة فتح باب النقد، ونقول لكل من يملك ثقافة النقد والقدرة التخصصية عليه: أنقدْ وناقشْ، ولكن انقدْ بعلم، وكنْ حكيماً في نقدك، فبعض القضايا قد يكون من الحكمة في بعض الأحيان أن لا تناقشها في الفضاء العام والهواء الطلق بسبب حساسيتها الخاصة، وبعض القضايا الأخرى يمكن مناقشتها لكن بأسلوب علمي رزين بعيدٍ عن اللغة التخوينية التي تستخف بالآخر وتستهين به.
إنّ الحكمة في إدارة الأمور مطلوبة، لأنّ تجييش الجماهير ولا سيما في القضايا الجزئيّة والتفصيلية قد يؤدي إلى نتائج غير محمودة، ويوقعنا في صراعات نحن بغنى عنها.
إنني وإن كنت على المستوى الشخصي أنتمي إلى المدرسة الإصلاحية التي تدعو إلى تهذيب الشعائر الحسينية من كل ما يشين، وأرفض العبث باسم الحسين (ع)، ولا أقبل أن يُدخِلَ البعض علينا كل عام بدعة جديدة تحت عنوان الشعائر، وذلك من قبيل “المشي على الزجاج” أو “تلطيخ الثياب والأجساد بالطين” أو ما إلى ذلك، ولكنني في الوقت عينه أحرص على أن يكون نقدي لهذه الظواهر أو غيرها نقداً هادفاً لا عابثاً، نقداً رسالياً وليس شخصياً، نقداً يركّز على تفنيد الفكرة وليس مهاجمة أصحابها أو الأشخاص البسطاء الذين اقتنعوا أو أُقنعوا بها فاندفعوا إلى ممارستها.
والتفكيك في النقد بين الشخص والفكرة نستلهمه من حديث رسول الله (ص) فيما نقله الإمام علي (ع) عنه قال على ما جاء في الرواية: “إنّ الله يحب العبد ويبغض عمله”[6]. إنا نستوحي من هذا الكلام النبوي قاعدة عامة في مجال النقد بأن نركز على نقد الأفكار لا الأشخاص.
على النقد – في الإسلام – تنطلق شرعيته من انطباق عنوان النصيحة أو الإصلاح عليه، فينبغي لنا أن ننقد الآخر، لكن إنما ننقد لنصلح لا لنهدم، وننقد لننصح الآخر ونسدد خطاه ونرشده، لا لنسجل نقطة عليه، علينا أن ننقده نقد الحريص عليه المهتم بأمره الذي يسعى إلى احتوائه، وليس نقد من يريد معاداته، وهذا يحتّم عليك أن تعيش همّ انقاذ المنقود مما ترى أنه أخطاء يرتكبها وتبتعد قدر المستطاع عن معاداته وإثارة حفيظته.
5- زيارة الأربعين والمشي
أما الجدل الذي أثير في هذه الآونة حول شرعية زيارة الأربعين بعنوانها، وحول شرعية المشي إلى الزيارة، فإنّ أسجل عليه تعليقين:
التعليق الأول: إنّ استحباب زيارة الأربعين بعنوانها الخاص، هو مورد نقاش فقهي، وهو نقاش مشروع، وليس لنا أن نحجر على أحدٍ أن يتبنى رأياً مخالفاً قام عليه الدليل عنده. بل من حقه علينا احترام رأيه وعدم قمعه، وفي المقابل فمن حق القائل بالاستحباب – تقليداً أو اجتهاداً – على النافي أن يحترم رأيه حتى لو كان مبناه في الاستحباب هو “قاعدة التسامح في أدلة السنن”، مع أنّ هذه القاعدة ليست تامة وهي محل نقاش كبير كما هو معلوم. وفي ضوء ذلك وبالاستناد إلى ما قدمناه سابقاً، فليس لي أن أدعو الآخر المؤمن بزيارة الأربعين إلى تركها فضلاً عن أن أسخر منه لقيامه بها، أو أنفي ثواب زيارته، والحال أنّ الثواب بيد الله تعالى.
على أننا حتى لو استشكلنا في استحباب زيارة الأربعين بعنوانها الخاص، فليس ثمة مجال للتشكيك باستحباب الزيارة بالعنوان العام لاستحباب الزيارة، وعليه فيمكن أن يؤتى بالزيارة امتثالاً لهذا الاستحباب العام، وعليه فلا داعي لإثارة الغبار وتشكيك الناس بالزيارة، مع أنّهم لا يقلدونك وإنّما يقلدون من يرى استحباب هذا العمل.
التعليق الثاني: فيما يتصل بالمشي إلى الزيارة فإنّ أدلته الروائية موجودة، وقد يناقش البعض في سند الروايات أو في دلالتها، وهذا حقه، وقد يصححها البعض الآخر وهذا حقه أيضاً، وعليه فلا بدّ أن تدار المسألة برحابة علمية بعيداً عن الاتهامات المتبادلة، فمن لم يثبت عنده استحباب المشي فليذهب ركوباً أو يبقى في بيته، ولكن لا يحقّ له خدش مشاعر الآخرين الذين يمشون أو يرميهم بالتخلف أو ما إلى ذلك، كيف والمشي ليس غريباً على الثقافة الإسلامية، فقد كان الأئمة (ع) يحجون إلى بيت الله الحرام مشاة والمحامل تساق أمامهم، كما ورد في الأخبار الصحيحة.
وأخيراً لا بدّ لي أن أقول: إنّنا في الوقت الذي لا ننكر فيه الحاجة إلى تهذيب هذه الشعائر وترشيد الأداء فيها في بعض الجوانب، ولا ننكر أيضاً أنها قد تتعرض للاستغلال من قبل بعض الناس كما قد يستغل البعض تواجده في مكة المكرمة في موسم الحج للقيام ببعض الأعمال المنافية للأخلاق والحشمة، إنّ هذا لا ينكر.
ولكننا ذلك لا يبر لنا أن ندعو إلى سدّ باب هذه الشعائر، فهذه دعوى تعبّر عن سذاجة علميّة وعن ضعف حظ قائلها في الفقه، إننا نرى في هذه الشعائر عنصر قوة ولا بدّ من الحفاظ عليها ودعمها. وأمّا استغلالها السيء من قبل البعض فلا يؤثر على مشروعيتها بقدر ما يحملنا مسؤولية العمل على تنقيتها من الشوائب، ويحتّم علينا نحن الذين نتقن فنّ النقد أن ننزل من بروجنا العاجية ونترك تخيلاتنا بأننا أوصياء على هذا الدين وننخرط مع هذه الملايين التي تتدفق بحماسة عالية ويشدها الشوق إلى سيد الشهداء الحسين بن علي(ع)، ومن هذا الموقع وعلى أرض الواقع وفي طريق كربلاء نمارس عملية الإصلاح فيما يحتاج إلى الإصلاح.
نُشر على الموقع الرسمي في 24-11-2016
[1] محاضرة ألقيت في المعهد الشرعي الإسلامي في بيروت في ذكرى أربعين الإمام الحسين (ع)، بتاريخ 20 صفر 1438هـ.
[2] عيون الحكم والمواعظ ص 91.
[3] أنهى بعض الفقهاء المعاصرين نسبة النظريات إلى الضروريات إلى ما يصل إلى 95 % في كافة المنظومة الدينية العقدية والتشريعية.
[4] مستدرك الوسائل، ج1، ص 318.
[5] الكافي، ج1، ص 23.
[6] نهج البلاغة ج 2 ص 44.