علماء المسلمين

إسهامات علماء المسلمين في الحضارة المعاصرة و تأسيسهم للعلوم

الاجتهاد: إنَّ ما يتحدثونَ عنهُ من كشفِ القارة الأمريكية بواسطةِ كريستوفر كولومبُس وآخرين ليسَ صحيحاً، فقد أشارت آثارُ المُسلمين إلى ذلكَ، وتمَّ وصفُ القارة الأمريكية قبلَ خمسمئةِ عام من كشفِ كولومبُس. كما هوَ معلومٌ أنَّ البحَّارة المسلمين كانوا ينطلقونَ من إسبانيا الأندلس إلى تلك القارة. وكانوا يتعاملونَ مع أبنائها وفقاً للأصول التجارية ويعودونَ أدراجهم دونَ حادثٍ يُذكر.

 ألقى الأستاذ حسن رحيم بور أزغدي محاضرة تحت عنوان إسهامات العلماء المسلمين في الحضارة المعاصرة و تأسيسهم للعلوم، وتطرق فيها إلى مقدمة حول مصطلح الإنسان القديم والجديد، ثم تحدث عن العلوم التجريبية، وجهود علماء المسلمين في تقديم تقسيمات حول العلوم التي وصلت إلينا حديثاً.

الإنسان القديم والإنسان الجديد

عندما طرحتُ هذا الموضوع كانَ القصدُ أن أقولَ إنَّ الذينَ يُشكِلونَ على الشهيدين مُطهَّري وشريعتي في أنهُما لم يدرُسَا علمَ الاجتماع بشكلٍ أصولي، كانوا يمنحونَ الشهادة الكاملة لكُلِّ من كان أنيقاً ويحفظُ عدداً من المعلومات عن ظهرِ قلب. لقد أخطأ البعضُ الفهم، لم نكن نعني عِلمَ الرجُلين بل كانَ إشكالاً على الجامعة في تصرُفاتها.
السؤال الثاني المطروح هوَ: ما الفرقُ بينَ الإنسان القديم والإنسان الجديد؟ هل أنَّ الأخيرَ أهلٌ للسيطرة على الدُنيا ويتسلح بالعلوم الجديدة؟ والإنسان القديم لم يكن كذلك؟

لقد أشرتُ سابقاً إلى أنَّ البعضَ صنعَ أسطورةً باسم الإنسان المعاصر والإنسان القديم. صحيحٌ أنَّ الإنسانَ يتكاملُ في العلمِ والتجربة والصناعة وطريقة الحياة وهوَ تحولٌ في حدِ ذاتهِ، ورُغمَ أنَّ البعضَ يُعارضُ إطلاقَ كلمة التكامل على الأمر، إلا أنهُ في بعض النواحي تكاملٌ لا محالة.

لكنَّ الاختلافَ التاريخي والتجريبي والمدني لا يعني اختلافاً ذاتياً في ذاتِ بشر اليوم عن ذاتِ بَشَرْ الأمس أو قبلَ ألفِ عام أو الاختلاف في حد التعارُف. علينا التدّقيقُ في هذه الناحية هل هيَ على هذا الحال؟ وهل يعني ذلكَ أننا أمامَ بشرٍ قديمٍ وآخر جديد؟

وهُما مختلفان ومُتباينان ذاتاً وأصلاً؟ وهل أنَّ الإنسانَ القديم، ولنفترض قبل ألفِ عام لم يكن يُفكر في السيطرةِ على الطبيعة ومواردها؟ وهل أنَّ ما حدثَ مع الإنسان الجديد كانَ عبارةً عن قفزةٍ نوعية جرّتهُ إلى هذه الأفكار؟ وهل مثلُ هذه التساؤلات صحيحةٌ أساساً؟

لقد طُرحت هذه التساؤلات في القرن التاسع عشر أي بعدَ قرنين من الثورة الصناعية، لكن هذا الأمر لم يكن على هذه الحالة بعدَ عشرات السنين من الطرح الأولي لها اليوم. أي أنَّهم اليوم باتو يتراجعونَ عِدةَ كيلو متراتٍ عن هذه الأقوال في المحافل العلمية، اللهمَ إلا في المحافل السياسية والمباحث اليومية وعليه فلا أصلَ علمياً للأمر.

إنَّ المباحث العلمية في عالم اليوم تؤكدُ عَدَمَ صحةِ هذه المقولات وتذهبُ الدراسات الحديثة إلى أنَّ الكثيرَ من الحوادث التي شهدها العالم كانت عفوية، أي لا دليلَ علمياً لما توصلَ إليه الإنسان. ولم تكن هناك طريقةٌ منهجيةٌ في الاكتشافات، وليسَ هناكَ في الغرب من يقول اليوم إنَّ ما تمَّ التوصل إليه هوَ عبارةٌ عن علومٍ جديدةٍ واكتشافاتٍ مُبرمجة.

لقد أشرتُ سابقاً إلى أنَّ الاستقراءَ كانَ بمثابة العصا المُسلطة على رأس الفلسفة والسيف المُشرع على النصوص الدينية التي نُعتت لفترةٍ زمنية أنها ضدَّ العلم. وكذلك رُفعَ ضدَّ كُلِ تجربةٍ جديدةٍ وما وراءَ الإدراكِ والمشاعر حتى باتت مُكفَّرةً ومدعاةً للسُخرية.

لكنَّ الأوضاعَ تغيرت وفقدت أصالةُ التجربةِ مُناصيرها، ولم يبقى هناكَ من يدعمُها. ويُقال اليوم ألّا فائدةَ من تجربةٍ دونَما نظريةٍ ذهنيةٍ ودونَ مُساعدة العقل. إنَّ القوانين العلمية والاكتشافات هيَ نتاجُ النشاطات العشوائية غير المُنظمة، وتعّد النَظمُ والترتيبُ عاملاً مُساعداً لا أكثر، لأنَّ التجربة في حدِّ ذاتها ليست قانوناً علمياً.

لقد تراجعت نظريةُ التجربة المادية، فقد تراجعَ أولئكَ الذين كانوا يشترطونَ الإثباتَ في القولِ بعلميةِ الأمور، وقالوا إنَّ الإثباتَ لا يحتاجُ إلى التجربة بل النفي والِإبطال بحاجةٍ إلى تجربة.

لكننا نواجهُ اليوم صرعةً جديدة تقول: إنَّ النفيَ بالتجربةِ غيرُ ضروريٍ، لأنهُ لا يُعَدُّ شرطاً علمياً لشيء، لأنَّ العلومَ لا تمتلكُ ملاكاً في الأساس.

فأولئكَ الذين قالوا خلالَ القرنين الماضيين إنَّ الكمية الدينية والفلسفية والعقلية والأخلاقية غيرُ ممكنة، لأنهم كانوا يرونَ أنَّ هذه المباحثَ مشكوكٌ فيها. يقولونَ إنَّ الحكمية العلمية والتجريبية غيرُ ممكنةٍ أيضاً. عن أي بشرٍ جديد يتحدثُ هؤلاء؟

العلوم التجريبية

لقد أذعنوا اليوم أنَّ العلومَ التجريبية لا يمكنها أن تكونَ قاعدةً صُلبةً أو هراوةً فوقَ المعارف والمفاهيم، وعليها أن تكونَ أكثرَ تواضُعاً وأقلَّ ضجةً.

يقولونَ ليسَ هناكَ في العلوم الجديدة أمرٌ علميٌّ قطعي، أمَّا اليوم فلسانُ حالهم يقول: إننا نقومُ بعمليةِ حدسٍ ونقومُ بالإبطال حتى إشعارٍ آخر، ليسَ لنا علمٌ بالأمر، يكفينا أن يقومَ العلمُ بحلِ مشاكلِ الحياة، ليس مهماً أن يكونَ الأمرُ صحيحاً من عدمه، وعلى كلِّ أمةٍ أن تُقدِمَ على حل مشاكلها وهكذا يُصبح َالعلمُ مناطقياً.

وهكذا فإنَّ كُلَ أمةٍ تُفكرُ بصورةٍ علمية، سيمكنها التغلب على مشاكلها، بل على الإنسان أن يقولَ قولَهُ ويفعلَ فعلتهُ، والأمورُ ليست بمقدسةٍ وليست هناكَ خطوطٌ حمراء.

العلوم التجريبية الطبيعية منها والإنسانية تختلفُ عن بعضها البعض. كان أصحابُ المذهب الوضعي يقولونَ إنَّ العلومَ هيَ مثلُ العلوم التجريبية وهيَ كالعلوم الجديدة، وكلُ عُلمٍ قائمٌ على الميتافيزيقية.

هذه آخر النظريات التي نالت رضاهم، أي أنَّ للعلوم التجريبية أصولَ ما بعدَ الطبيعة، وهم يمنحونَ كُلَ علمٍ اعتباراً نسبياً وفقاً للأصول الميتافيزيقية أولاً، ويسوقونهُ إلى ما يُريدونَ ثانياً. وهكذا ارتضوا أن العلومَ الإنسانية التي ولِدت أو أُستُنسخت في الغربِ على أنها علومٌ طبيعية، لم تكن ذاتُها العلوم الإنسانية، وللعلوم الطبيعية نظريتُها حتى إشعارٍ آخر.

ومن خلال ما تقدمَّ يتبينُّ أنهُ ليس هناكَ معنىً لرُقيّ العلمِ أو تكامُله. يقولونَ ذلكَ أيضاً، وأصبحوا اليوم يقولونَ: إننا نواجهُ أزمةً في العلومِ في المعارف، وقَبولُ مبدأ النسبيةِ والتاريخية. أي أنَّ كافةَ النظريات باتَ لها تاريخُ استهلاك وليست هناكَ نظريةٌ صحيحةٌ بالمفهوم العام في العلوم الجديدة. وأذعنوا أنَّ كلَ النظريات في مُختلف مجالات العلوم مقبولةٌ حتى إشعارٍ آخر.

أي أنَّ لها تاريخٌ مُجددٌ وهيَ نسبيةٌ ومُرتبطةٌ بالنتائج. وعليه فإنَّ العلومَ الطبيعية الجديدة تعرضت للكوارث الطبيعية هي الأخرى، وبعدَ أن كانت الإلهياتُ مشكوكاً بها، باتت الطبيعياتُ كذلك. وهكذا بدأت وحدةُ العلومِ تفقد معناها، وهكذا يفقد الارتباط المنطقي بينَ العلومِ معناه. وهناك الكثيرُ منَ الأمورِ المطروحةِ في الدُنيا والجامعات لا يُعرفُ مدى ارتباطها بالعلوم المختلفة، لأنَّ حُدودَ العلوم قد تغيرت وباتت مُعرضةً للتساؤل.

بالطبع هذا ليسَ عيباً في العلوم ولا أقصدُ هُنا إهانة علمٍ ما، لكننا عندما نتحدثُ عن الإنسان الجديد والعلم والعلوم الجديدة، ينبغي علينا التوقف لمعرفة الأمور التي يتمُّ الحديثُ عنها أولاً، وينبغي آلا نُكرِّرَ أقوالَ القرن الثامن عشر والتاسع عشر ثانياً، وعلينا أن نُدركَ أنَّ الأكاديميات في عالم اليوم لا تعترفُ بالعلوم دونَما تطبيق، سواءٌ كانَ التطبيقُ علمياً أو غيرَ علمي.

إنَّ الأسلوبَ العلمي كانَ يوماً ما أسطورةً ودلالةً على الحداثة والبشر الجديد، لكنها اليوم زالت وباتت في خبر كان. وأمَّا ما يوصف اليوم بالبشر القديم، فهي دلالةٌ على أنهُ غيرُ عارفٍ بالعلوم الجديدة، وليسَ له في السيطرة على العالم. هنا يتبادرُ إلى الذهن هل كانَ الإنسان القديم غيرَ قادرٍ على السيطرة على العالم حقاً؟

أثر العلماء المسلمين على العلوم وتقسيماتها

بتصوري أنَّ معانيَ البشر الجديد والقديم ماهيَ إلا أسطورة، لأننا لانعرفُ شيئاً بهذه الأوصاف. بشرٌ قديمٌ وآخر جديد! فإنَّ ذاتَ البشر لم يتغيَّر، يمكن أن تكونَ العوارضُ قد تغيَّرت وليست ذاتُ البشر.

نعم فإنَّ تجارب البشر قد تغيَّرت، وكذا الآليات والتقنية، حتى أنَّ جانباً منها يُعدُ بتصوري تكامُلاً وهؤلاء يقولون: إنَّ تكامل العلم أدَّى إلى ظهورِ أزمةٍ باسمِ العلم، لأنَّ التكامل يعني المُضي في خطِ سيرٍ ثابتٍ مُتحد الموضوع بارتباطٍ منطقي يأخذُ منحاً تصاعُدياً، وعندما يتعثرُ الارتباطُ فإنَّ التكامل سيكون بلا معنى.

يقولونَ إنَّ التكامل يعني أنهُ عندما تمضي الأمور وفقَ جدولٍ زمنيٍّ نحوَ الرُّقي، تبلغُ حداً ليسَ معلوماً فيهِ أيُّ شيء، عندها يشكونَ في أصلِ التكامل من عدمه. لذا نراهم يقولون أننا نواجهُ أزمةً في المنهجية العلمية المُعاصرة وليسَ أمامنا مُشكلةٌ في المُضي صوبَ تكامل المباحث العلمية.

دعوني أضرِبُ لكم مثلاً لِتلاحظوا هل أنَّ الحضارة الإسلامية تخصُّ العصر التقليدي القديم أم عصرَ الحداثة والعصرَنة؟ أي هل أنَّ مُفكري و علماء المسلمين هم من البشر القديم أم الجديد؟ وطبقاً للتقسيمات الموجودة فهم من البشر التقليديينَ القُدامى.

والسؤال المطروح، أنَّ ما أقوله هوَ من كتب التاريخ العلمية للغربيين أنفُسهم، لم يكتب المسلمونَ ذلك، لقد دوَّنتُ بعضَ الملاحظات من كتب الغربيين تقول أنَّ أساسَ العلوم التجريبية والعلوم الحديثة وكذا السيطرة على الطبيعة كانَ من نتاجات العلماء المسلمين الذين عاشوا إبانَ الحضارة الإسلامية والفارقُ أنَّ المسلمينَ لم ينفوا الإلَهيات أو الدين.

لكننا في الغربِ نلاحظ أنهُ كُلما ازدادت حرارة محرّك العلوم التجريبية خفت حِدةُ الإلهيات المسيحية لا بل حُذفت، لكنَ الأمرَ كانَ معكوساً في المجتمع الإسلامي، وعليه فإنَّ الالتفات إلى العلوم الجديدة والسيطرة على الطبيعة كانَ موائماً للاتجاه الديني ومُسايراً له.

وعليه فإنَّ البشرَ لم يتغير وذاته القديم والجديد لا فرق بينهما. نعم هناكَ فروقٌ في الاستفادة من العلوم، فالتجارب العلمية الجديدة تغيرت عما كانَ عليه الوضعُ سابقاً، وعليه نصلُ إلى أنَّ مُحرّكَ الحداثة والتطور العلمي كانَ عندَ المسلمينَ الأوائل أو ما يصطلحونَ عليه مع التقليديين.

بالطبع فإننا نرفضُ هذه التسمية التي ابتدعوها للمسلمين بالتقليديين، ولأنفسهم بالحداثويين والمعاصرين فهذه أسطورةٌ جديدة من نتاجات الغرب. وحتى الساعة طرحَ الغربيون عشرات الأقوال المُتناقضة وليسَ في أحدها أيُّ استدلالٍ أو إثبات.

وبتصوري كلُ هذه المقولات إنما طُرحت للتأثير على قدرة الذهن وسأتناولُ بعضَ الموضوعات الواردة في كُتبهم حولَ علماء المسلمين ، ومكانتهم من العلوم الجديدة وسيطرة المسلمين على الطبيعة، لنُبينَ هل أنَّ النعتَ الدائم للمسلمينَ من أنهم أُناسٌ تقليديونَ وقدماء يتطابقُ مع ما هوَ واردٌ في كتبهم أم لا؟

إنهم يقولونَ: إنَّ تصنيفَ العلوم الجديدة تَمَّتْ في أول مرة على يد المسلمين، ولو نظرنا إلى آثارٍ غيرَ إحصاء العلوم للفارابي والذي كانَ له الحظُ الأوفر في تقسيم وتدويل العلوم في العالم، مثلُ تصانيف غوندو سالينوز والذي يُعرَّفُ في الغربِ على أنهُ المنعطف في تصنيف العلوم الحديثة، لوجدنا أنَّ كتابَ الأخير عبارةٌ عن اقتباس وإعادة كتابةٍ لإحصاء علوم الفارابي.

على أيةِ حال فإنَّ تقسيمَ العلوم الجديدة تمَّ على أيدي المسلمين بقرونٍ قبلَ الغربيين. بالطبع مع عدم نسيانِ ما وراءَ الطبيعة، وأنَّ الإنسان الجديد المُعاصر والمُتحضر في الغرب وصلَ إلى هذه العلوم متأخراً بقرونٍ بعدَ وصول البشر التقليدي المُسلم والقديم لها.

وهنا أُحاولُ أن أمُرَّ مرورَ الكرام قُبالةَ بعضِ كتاباتهم بخصوص ِ المسلمين وتأليفاتهم، حيثُ ذكروا أنَّ أُسُسَ الرسم على السطح الكُروي وعلم المساحة والتسطيح وحساب السرعة والمسير وسرعة حركة القمر وصور الكواكب على سطحٍ مستوٍ والحسابات الكروية وحساب سطح الكرة الأرضية في وقتٍ لم تكن الأقمار الصناعية موجودة. وفي وقتٍ كانَ العالم يظنُّ أنَّ الأرضَ مُسطحةٌ غيرُ كُروية، أي أنَّ المُسلمينَ وصلُوا إلى كُلِ هذه العلوم قبلَ خمسة أو ستةِ قرونٍ قبلَ الغربيين.

وقامَ العلماء المسلمون وغالبيتُهم من الإيرانيين بصُنعِ نماذجَ تُشيرُ إلى الفضاءِ والأجواء والنجوم. وهكذا فإنَّ المُسلمينَ ضالعونَ ومُتَبحِّرونَ في الفيزياء والميكانيك والنجومِ والهيئة. وكانت الثورة العلمية قد حَصلت في العالم الإسلامي أولاً ثُمَّ ما لَبِث الغربُ أن قامَ بالترجمة.

وبعدَ قرونٍ طُرِحَتْ هذه العلوم بأسماء العلماء الأوروبيين. ولو رَجعنا إلى أبو ريحان لوجدنا أنَّهُ أقدمَ على اكتشافاتهِ قبلَ أربعة أو خمسةِ قرون مما وصلَ إليه الأوروبيون في علم المِساحة والتسطيح. تُضافُ إلى ذلكَ دراساتٌ سياحيةٌ طرحها المُسلمونَ قبلَ قرونٍ مما ذَكَرهُ الغربيون، أي أنَّ العلماء المسلمين كانوا كاشفينَ للأراضي والأماكن الجديدة في العالم وكاشفي أحوال التيارات وغيرها.

وإنَّ النظرية التي طرحها البيروني في باب التصاعُد الهندسي والبيوت الشطرنجية الشكل، كانت بمثابة التطور الكبير الشكل في عالم الرياضيات والهندسة، وأنَّ آرائهُ قريبةً اليوم من آراء العلماء المُتأخرينَ في العالم. لقد توصلَ المسلمونَ إلى الحركة في البحار بواسطةِ البوصلة واستطاعوا بواسطة ذلكَ صناعةَ السّفُن التي تطوي المُحيطات والبحار، وكانَ المُسلمونَ أولَ من وضعَ خارطة اليابسة والمُحيطات في الكرة الأرضية.

إنَّ ما يتحدثونَ عنهُ من كشفِ القارة الأمريكية بواسطةِ كريستوفر كولومبُس وآخرين ليسَ صحيحاً، فقد أشارت آثارُ المُسلمين إلى ذلكَ، وتمَّ وصفُ القارة الأمريكية قبلَ خمسمئةِ عام من كشفِ كولومبُس. كما هوَ معلومٌ أنَّ البحَّارة المسلمين كانوا ينطلقونَ من إسبانيا الأندلس إلى تلك القارة.

وكانوا يتعاملونَ مع أبنائها وفقاً للأصول التجارية ويعودونَ أدراجهم دونَ حادثٍ يُذكر. أمَّا بالنسبة للغربيين فقد ذهبوا إلى مناطق الهنود الحُمر وقاتلوهم بُغية السيطرة على أراضيهِم لذلكَ تأخروا عن المُسلمين في الوصول إلى هناك.

وكما هو معلوم فإنَّ البعضَ كانَ يتحدثُ عن كشف القارة الأمريكية باعتبارهِ بدايةَ عصر الحداثة في تاريخ الحضارة الغربية، حيثُ بدأت حركةُ الملاحة البحرية، لكنها في حقيقة الأمر جاءت مُتأخرةً عن حركة الملاحة الإسلامية بقرون. لقد كانَ المُسلمونَ أولَ من عبرَ منطقة (رأس الرجاء الصالح) ورسموا الخارطة الجغرافيةَ وأوردوا ذلكَ في تصانيفهم، وبعدَ قرون توصلَ الأوروبيون إلى ذلك.

العلماء المسلمون والرياضيات

أمَّا في باب الهندسة الفضائية، فهم يعتبرون أنَّ (السّير لانوفشيري) في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي هو واضعُ أُسُسِ هذه الهندسة. لقد تحدثَ ذاتُ السّير في تصانيفه عن نظريات الخواجة نصير الدين الطوسي ومنها الأساسُ الخامس من أسُس الهندسة المُسطحة للخواجة نصير، والتي اعتبرت فيما بعد أساسٌ للهندسة الفضائية، وهم لا يتردَّدونَ في قولِ إنَّ تأريخ هذه الهندسة يعودُ إلى القرن الثامن عشر، لكن الحقيقة ليست كذلك.

لو عُدنا إلى الهندسة التحليلية في تاريخ العلوم الجديدة لوجدنا أنَّهم ينسبونها إلى ديكارت، لكنَّ الحقيقة أنَّ اسمَ هذه الهندسة وكذلكَ علمَ الجبر هوَ من اختراع المسلمين، فالرياضيات والهندسة هيَ من ابتداع المُسلمين.

وبعدَ أن تمَّ تلفيقُ الجبر بالهندسة أصبحَ اسمُها الهندسة التحليلية، ولم يكن هناك وجودٌ للحضارة الإسلامية وعلم الجبر والهندسة التحليلية قبل ذلك أي قبلَ الحضارةَ الإسلامية. وهكذا فقد وصلَ المسلمونَ إلى هذه الهندسة قبلَ خمسةِ قرونٍ من ديكارت.

ونرى هذا الأمر يتكرر في كل أنواع العلوم، حيثُ يقومُ الأوروبيونَ بنسبها إلى أنفسهم بكلِ وقاحةٍ، ولو راجعتم التاريخ المُدوَّن لـلاحظتم أنهم حذفوا منهُ تاريخَ الحضارة الإسلامية، وإبداعات المُسلمين في مُختلف العلوم مثل الطب والجراحة والنجوم وأمثالها. إنَّ ما نقوله اليوم طبقَاً لما هوَ موجودٌ في تاريخهم، هو في الواقع نذرٌ يسير مما بقيَ من الحقيقة.

لقد أقدم الخوارزميُّ على اختراع علم الجبر، وجاءَ ذلكَ في كتابٍ مُستقلٍ حملَ عنوان (الجبر والمُقابلة)، وكانَ بمثابة العلم المُستقل عن الهندسة، هكذا وردَ في النصوص الغربية. وعندما يقول الفرنسيونَ ما هو الخوارزمي، لكنَّ لفظهُ تغير لقد وصلَ إلى مُحاسبة المخروطِ وحلِ معادلات الدرجة الثانية.

وحتى أوائل القرن السابع عشر كانَ كتابُ الخوارزمي نصاً أصلياً لتدريس مادة الجبر والمُقابلة في الجامعات الأوروبية، حيثُ قامَ روبرت جِسري بترجمتهِ في أواخر القرن السابع عشر إلى اللغة الإنكليزية وطُبعَ في لندن.

وكمثالٍ آخر فإنَّ مُعادلةَ السرعة والمُعادلات المرتبطة بتعيين مواقعِ ومنازل القمر هي َمن اختراعِ أبي الوفاء وهوَ عالمٌ إيراني. وهيَ نظريةٌ ينسبونها اليوم إلى تُفك راها في القرن السابع عشر الميلادي، لكنَّ أبا الوفاء ذكرَ ذلكَ في تصانيفهِ وتصانيفِ طلبتهِ قبل ستمائةِ عام.

وعندما يسألُ الإنسان عن العلوم الجديدة، يطرحُونَ أمامه عدداً من الأسماء الأوروبية تعودُ إلى القرون الميلادية السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، لكنها في الأصلِ تعودُ إلى علماء مُسلمين كانوا في القرون الميلادية الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.

على سبيل المثال انظروا إلى علم المثلثات من آثار الخواجة كتاب (شكلُ القِطاع) وهوَ كتابٌ تمَّت ترجمتهُ إلى الإنكليزية والفرنسية قبلَ عدة قرون وباتَ مرجعَ الأوروبيينَ في المُثلثات المستوية والكروية وكشف المُعادلات الستة للمثلث الكروي القائم الزاوية.

إنَّ اتساعَ رُقعة الرياضيات مدينةٌ لكشوفٍ كبيرة في الرياضيات قامَ بها المُسلمون وقد نُسبت إلى آخرينَ جاؤوا بعدَ مئات السنين، وهنا أودُّ أن أذكُرَ لكم عبارةً أوردها أحدُ المؤرخينَ في مجال العلوم والحضارة وهو بريطانيُّ الجنسية حيثُ يقول: لقد حلَّ المسلمونَ في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي أكثر المسائل الهندسية والرياضية تعقيداً، وأقدموا على حلِّ مُعادلات الجبر من الدرجة الثالثة بواسطة المقاطع المخروطية. وأبدعوا أيَّما إبداعٍ في المُثلثات الكروية.

ويُضيفُ هذا المؤرِّخ البريطاني، في ظلِّ هذه الظروف كانت الرياضياتُ لدى أوروبا لاتعدُ كونها حسابَ جدول الضرب والجمع والتفريق والتقويم والأمور الابتدائية، في حين أنَّ المُسلمينَ في ذلك الوقت كانوا ينقدونَ الرياضيينَ اليونان وهندستهم ورفضوا أصولَ إقليدس وبطليموس.

وبعدَ ثلاثة قرون تمت ترجمةُ هذا الكتاب من العربية إلى الإنكليزية، وهناكَ تتعرفُ أوروبا على أصلِ هندسة إقليدس، في حين أنَّ المسلمينَ كتبوا نقداً على ذلك قبلَ مئات السنين. وهناكَ الكسور العشرية واكتشافاتٌ رياضيةٌ أخرى بحدودِ نحو ثلاثينَ مسألةً رياضية وهندسية.

لقد أوردوا أسماءَ العشراتِ من علماء المسلمين من أمثالِ (غياث الدين الكاشاني)، و (ابن هيثم)، و (أبي سهل)، و(ابن نجدين)، و(أبي الحسن الهروي)، وغفلوا أو تغافلوا عن أسماء العشرات أو المئات الآخرين من العلماء في الرياضيات، ولم يوردوا أسمائهم في تاريخ العلم الجديد. حتى أنَّ بعضَ الأسماء لم تردْ على خواطرهم ومسامعهم من قبل.

وهنا لابدَّ من الإشارةِ إلى إبداع علامة الصفر واستخدامات العدد، والذي تمَّ على يد (محمد بن أحمد)، حيثُ اقترحَ دائرةً صغيرةً لمساواة طرفي المعادلة، ومن ثمَّ وضعوا اسمَ الصفر له. وقد تمت ترجمتهُ إلى النصوص المترجمة بكلمةِ صفر بالإنكليزية.

ولو رجعنا أكبرَ نظريات الضوء في العالم لوجدنا أنفسنا أمامَ (ابن الهيثم) والمعروفِ في الغرب باسم الهازم. والأخيرُ من أكبر المبدعينَ في علم الضوء، ووضعَ أسساً مهمةً في باب الأجرام الفلكية.

وقد أوجدَ علماً جديداً باسم معرفة الضوء، وهو عبارةٌ عن تركيبٍ من الرياضيات والفيزياء، وقد أثبتَ حركة الضوء المستقيمة وحلَّل خصوصيات الظل واستخدام العدسات، وطريقة انتاج العدسات المختلفة ولأغراضٍ متعددة.

وهو صاحبُ نظرية الغرفة المُظلمة والتحليل الرياضي لحركة النور وكانَ قابَ قوسين أو أدنى من صناعة المُكبرات، وبعدَ ثلاثة قرونٍ من دراساته ظهرت مجموعةٌ من العلماء في الغرب أُطلقَ عليهم اسمُ مُخترعي المُكبرة وواصلَ هؤلاء البحثَ واتجهوا صوبَ اختراع الميكروسكوب والتليسكوب واختراعاتٍ أخرى أدت إلى ظهور العلم الجديد.

والطريفُ أنَّ هؤلاء ذكروا في تحقيقاتهم وأبحاثهم أنهُ لولا دراساتُ وأبحاثُ ابن الهيثم لما كانوا وصلوا إلى ما وصلوا إليه. وهناك الكثيرُ من الاكتشافات والاختراعات التي توصل لها العلماء المسلمون، حيثُ كانوا أولَ من استخدمَ الأسطوانة المُدرجة في المُختبرات، وقد أجروا التجارب الكثيرة لتحديد زاوية انكسار النور في الماء والهواء والأجسام الشفافة، وقد واصلَ تلامذةُ العلماء المسلمين المسير.

وهناكَ (جابر ابنُ حيان) وهو من الأسماء اللامعة، وعلماء المسلمين لم نسمع بهم، عملوا على قانون مُحاسبة الزوايا الصغيرة وقانون معرفة تكبير العدسات المُسطحة والمُحدبة. ويقول بعضُ المؤرخين والناقدين الغربيين: إنَّ ما حصلَ في القرن السابع عشر والثامن عشر لم يكن ثورةً علميةً ولا تقنيةً ولا ثورةً صناعيةً في أوروبا وهو ما يُصطلحُ عليه اسمُ:

بداية العهد الجديد والبشر الجديد والعصرية والحداثوية، وأنَّ الأمرَ لم يكن يتمَّ لولا مطالعةُ وترجمةُ المكتبات العلمية للمسلمين، ودونَ استنساخِ آثارهم والصناعات الموجودة.

بعدها جاءت أسرةُ (موسى بنُ شاكر)، حيثُ كانت هذه الأسرة أهلَ معرفةٍ بالميكانيك والفيزياء فرداً فرداً، حيثُ دوَّنَ أبناؤه فيما بعد كتاب (الحيل)، وكانت هذه المؤلفات مرجعاً في باب صناعة الأدوات والأجهزة الميكانيكية والرافعات، والتي أخذت فيما بعد أبعاداً جديدةً بمرور الأزمنة، وكانت الأساس في خلق الثورة الصناعية في أوروبا.

ولو عُدنا إلى المقولة التي تتحدثُ عن البشر الجديد والقديم، لوجدنا أنَّ كُلَّ العلوم تطورت بفعل الأساس الذي طرحهُ المسلمون، وعليه فإنَّ ما يُطلقُ عليه الغرب اسمَ البشر التقليديين، هم من قامَ بكلِ هذه الابداعات والاكتشافات والاختراعات أو وضعَ لبنتها الأساسية.

هنا لابُدَّ من الإشارةِ وبما أنني من نُقاد النظرية الغربية، فإنني هنا لا أريدُ أن يخرُجَ الإنسانُ بنتيجةٍ مؤداها أنَّ الدفاع عن الأمور الدينية لا يعني إنكارَ البشر الجديد ونموهُ وتكاملهُ وعصريتهُ. أنا أحاول القول: إننا ينبغي أن نوجدَ تعريفاً مُتقناً وصحيحاً. نعم ينبغي أن نوجدَ تعريفاً صحيحاً ومُتقناً للعلم.

وينبغي أن يتضحَ هل أنَّ معرفةَ الإنسان هي حقيقةُ معرفةٍ تفي بالغرضِ لما للإنسان من مكانةٍ كبيرة؟ أو علينا حذفُ هذه المقولة العلمية التجريبية وعلينا الأخذُ بيدها نحو التكامل؟

إنَّ ما نقوله في هذه العُجالة هو أنَّ ما يطرحونهُ تحتَ شعار انجازات الإنسان المعاصر ليست سقفاً بل هو القاعُ والسطح، وعلينا أن نمضي إلى الأمام أكثر فأكثر. ثمَّ علينا أن نعرفَ أين هي البداية؟ وأن نُدقَّقَ في التفسير المطروح حولَ كلِ قضية، هل هو صحيحٌ أم لا؟ كما هو معلومٌ فإنَّ أفضلَ طريقٍ لتعطيل الفكر والعقلانية في أمةٍ ما، هو اختلاق الأساطير.

وأفضلُ طريقٍ لتعطيل إرادة ومضي هؤلاء نحو التنمية هو الإيمان بالجبرية. كلنا يعرفُ ولا أحدَ يُنكرُ أنَّ الحياةَ المكررة دون تطورٍ وتحول ستكون مُملة وغير قابلة للتحمُّل، والبشر لا يمكن له أن يظلَّ بلا تطور، والأمرُ لا بُدَ منه وغير قابل للاجتناب، وعليه فإننا على ما يبدو لا نُريدُ طرحَ قضية التطور والتحول وظهور العلوم الجديدة، بل نريدُ طرحَ مُغالطةٍ بين كل هذا الكلام الصحيح والصائب المطروح. وعلى ما يبدو وللأسف فإنَّ هذه الأفكار تسيطر على الكثير من الأذهان وعلينا السعي لإزالة هذه المُغالطة وتعريتها.

سلسلة محاضرات الأستاذ حسن رحيم بور أزغدي – ۷

المصدر: رابطة الحوار الديني للوحدة

 

# علماء المسلمين

إسهامات علماء المسلمين في الحضارة المعاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky