على الرغم من انتشار الاستدلال بـ «حفظ النظام» في أكثر من مجال، سواء في علم الأصول أو الفقه، أو الكلام، لكن العلماء لم يخصّوا هذا الموضوع ببحث مستقل يتحدّثون فيه عن مدلول هذه القاعدة ـ أقصد قاعدة حفظ النظام ـ وأدلّتها ومضمونها وموارد تطبيقها.. مع أنّ موضوعة «حفظ النظام» لا تمثل مقصداً هاماً وأساسياً من مقاصد الإسلام فحسب، وإنما قاعدة فقهية يمكن استثمارها في بناء الكثير من النظم المستجدة في المجالات التنظيمية المتعدّدة، فضلاً عن الاستعانة بها لتبرير وتفسير العديد من الاجتهادات الفقهية المتنوّعة.
موقع الاجتهاد: قبل الخوض في أدلّة القاعدة ومفادها ودورها في العملية الاستنباطية، نرى من المناسب ملاحظة بعض الموارد التي استند فيها الفقهاء والأصوليون إلى هذه القاعدة بما يؤكّد ارتكازيّتها في الأذهان، وتلقّيها بالقبول والإذعان تلقّي المسلمات والبديهيات، والموارد التي سنوردها هي مجرّد نماذج وأمثلة لتأكيد الفكرة مع غضّ النظر عما قد يُثار حولها من نقاش تفصيلي.
1 ـ عيّنات من أصول الفقه الإسلامي
يلاحظ المتتبّع في علم الأصول أنّ الأصوليين شادوا أكثر من قاعدة أصولية على مبدأ حفظ النظام، معتبرين هذا المبدأ من الضروريات التي يستدلّ بها ولا يستدلّ عليها، ومن ذلك على سبيل المثال:
1 ـ قاعدة الاستصحاب: يرى بعض الأصوليين أنّ حجية الاستصحاب ـ بمعنى البناء على الحالة السابقة المتيقّنة ـ من متفرّعات قاعدة حفظ النظام وثمراتها؛ إذ «لو قُدِّر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال، فالشخص الذي يسافر مثلاً ويترك بلاده وأهله وكلّ ما يتصل به لو ترك للشكوك سبيلها ـ وما أكثرها لدى المسافرين ـ ولم يدفعها بالاستصحاب، لما أمكن له أن يسافر عن بلده، بل أن يترك عتبات بيته أصلاً، ولشلَّت حركتهم الاجتماعية وفسد نظام حياتهم»، ويضيف صاحب هذا الكلام ـ وهو السيد محمد تقي الحكيم ـ معلّقاً على كلام المحقق النائيني: «إنّ عملهم على طبق الحالة السابقة إنما هو بإلهام إلهي حفظاً للنظام» بأنه: «لا يخلو من أصالة وعمق»([1]).
2 ـ قاعدة الاحتياط: إن البناء على الاحتياط في موارد الشبهات ـ بناء على القول بالانسداد ـ لا يمكن المصير إليه؛ لأنه مستلزم لاختلال النظام النوعي والشخصي([2]).
3 ـ حجية الظواهر: إنّ حجية ظواهر الكلام من الأصول التي تلاقى عليها العقلاء على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، وقامت عليها المحاورات والمحاججات العرفية والقانونية، وقد افترض غيرُ واحد بحقّ أنّ هذه الحجيّة لا تحتاج إلى تجشم عناء الاستدلال، إذ بدونها يلزم اختلال نظام حياة الجماعة الإنسانية، ما يعني أن ضرورة حفظ النظام هي المدرك الأساس لحجية الظواهر، وبتعبير المحقق النائيني: «لولا اعتبار الظهور والبناء على أنّ الظاهر هو المراد لاختلّ النظام ولما قام للعقلاء سوق»([3]).
2 ـ عيّنات من القواعد الفقهية الإسلامية
هناك أكثر من قاعدة فقهية ترتكز على قاعدة حفظ النظام، وإليك بعضها:
1 ـ قاعدة الصحّة: إنّ حمل أعمال الآخرين ومعاملاتهم على الصحيح وترتيب آثار الصحّة، مع ما يتضمّنه ذلك من دفع احتمال الفساد ورفضه ما لم تظهر أماراته، هو من القواعد المتفق عليها عند الفقهاء، وقد اصطلح عليها بقاعدة الصحة، وعمدة الدليل على هذه القاعدة العقلائية أنّ رفضها وعدم اعتمادها سيؤدّي إلى اختلال نظام الجماعة، وقد رأى بعض الفقهاء أن «الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة الصحة أشدّ وأعظم من الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة اليد الآتية؛ لأنّ قاعدة الصحّة جارية في أغلب أبواب الفقه من العبادات والمعاملات»([4]).
2 ـ قاعدة الفراغ: وغير بعيدةٍ عن قاعدة الصحة، قاعدةُ الفراغ، ويراد بها: الحكم بصحّة العمل إذا حصل الشك فيه بعد الفراغ منه، فمن شك في صحّة الوضوء أو الصلاة أو الحج بعد الفراغ منه لا يعتني بشكّه ويبني على صحة العمل، والفارق بينها وبين قاعدة الصحة أنّ قاعدة الصحة تجري في عمل الغير، بينما قاعدة الفراغ تجري في عمل المكلّف نفسه، وكيف كان ومع غض النظر عن بعض الملاحظات حول الفارق المذكور، فقد ذكر بعض المحققين: «أنّ العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلّف على الصحيح هي السيرة القطعية، وأنه لولا ذلك لاختلّ نظام المعاش والمعاد، ولم يقم للمسلمين سوق»([5]).
3 ـ قاعدة اليد: من المعروف فقهياً أنّ اليد أمارة الملكية، فمن كانت يده على مال أو عين فَيُحكَم بأنها له ويتعامل معه معاملة المالك لجهة جواز الشراء منه وعدم جواز التصرّف فيها إلاّ بإذنه ونحو ذلك، ولا يعتني باحتمال عدم كونه مالكاً ما لم تقم عليه القرائن والأمارات، وقد استدلّ على هذه القاعدة ـ من جملة ما استدلّ به ـ أنّه لو لم تكن اليد أمارة الملكية «لزم العسر الأكيد والحرج الشديد، واختلّ النظام في أمور الدنيا والدين، وبلغ الأمر إلى ما لا يكاد يتحمّله أحد ولم يستقرّ حجر على حجر..»([6])، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق في رواية حفص بن غياث، قال له رجل: أرأيت إذا رأيتُ شيئاً في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: «نعم»، قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له، «فلعلّه لغيره، فقال له أبو عبد الله: «أفيحلّ الشراء منه؟» قال: نعم، فقال أبو عبد الله: «فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قِبَلهِ إليك؟!» ثم قال: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»([7]).
4 ـ قاعدة نفي العسر والحرج: قد يستدلّ على قاعدة نفي الحرج ـ مضافاً إلى الأدلة النقلية من الكتاب والسنّة ـ بأنّ التكليف الحرجي موجبٌ لاختلال النظام، لكن بعض الفقهاء أفاد بأنّ الحرج المرفوع بقاعدة نفي الحرج ليس ما كان الالتزام به موجباً لاختلال النظام، لأنّ ما كان كذلك وان لم يمكن التكليف به، لكنّه خارج عن مفاد القاعدة «لأنّ قبح التكاليف الموجبة لاختلال النظام مما لا يحتاج إلى مؤونة الاستدلال»([8]).
5 ـ قاعدة السوق: ويراد بها أنّ ما يؤخذ من سوق المسلمين مما يشكّ في حليته وذكاته من اللحوم والجلود ونحوها محكومٌ بالحلية، وقد استدلّ بعض الفقهاء على ذلك بأنّ عدم اعتبار القاعدة يؤدّي إلى اختلال النظام([9])، ويقصد نظام الجماعة المسلمة.
3 ـ عيّنات من الدراسات الفقهية الفرعية
إنّ الاستدلال بقاعدة حفظ النظام في الفروع الفقهية شائعٌ على ألسنة الفقهاء، وموارده كثيرة ويحتاج إحصاؤها إلى بحث مستقل، وهي ـ على العموم ـ منتشرة على مساحة الأبواب الفقهية، ابتداءً بالطهارة وانتهاءً بالديات، والملحوظ أنّ الاستدلال بمسألة حفظ النظام تارةً ينطلق من الجانب الإيجابي للقاعدة، بمعنى إثبات حكم ما، حفظاً للنظام، وأخرى ينطلق من الجانب السلبي منها، بمعنى نفي حكم ما، دفعاً لاختلال النظام، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج من النوعين:
أ ـ قانون حفظ النظام ودوره في تأسيس فتاوى فقهية: أما النوع الأول، فيكفي أن نذكر أنّ ثمّة مجموعة كبيرة من الأعمال والمهن والصناعات عرفت لدى الفقهاء بالواجبات النظامية؛ لأنّها إنما وجبت حفظاً للنظام، من قبيل مهنة الحدادة والبناء والزراعة والطبابة وغيرها من الواجبات الكفائية التي يتوقف عليها انتظام الحياة الإنسانية([10]).
ب ـ قانون حفظ النظام ودوره في إلغاء فتاوى فقهية: أما النوع الثاني، فإليك بعض نماذجه مما كان دفع اختلال النظام هو المدرك الوحيد أو الأساس فيها:
1 ـ عدم إلزام جميع المكلّفين بالاجتهاد([11]).
2 ـ عدم تنجيس المتنجس مع تعدّد الواسطة([12]).
3 ـ اعتماد قول ذي اليد في طهارة ما تحت يده أو نجاسته([13]).
4 ـ عدم الاعتناء بالوسوسة في قضايا الطهارة ونحوها([14]).
5 ـ حصر ممارسة العنف الجسدي في النهي عن المنكر بيد الحاكم([15]).
6 ـ عدم إناطة أمر الجهاد بيد آحاد المكلّفين([16]).
7 ـ إناطة إقامة الحدود بيد الحاكم([17]).
8 ـ عدم الترخيص في مزاحمة الحاكم لحاكمٍ آخر([18]).
9 ـ جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظامية([19]).
10 ـ جواز الرجوع إلى السلطان الجائر مع عدم تيسّر السلطان العادل([20]).
11 ـ جواز استلام ما يأخذه السلطان الجائر بعنوان الخراج والمقاسمة والزكاة، وكذا جواز قبالة الأراضي الخراجية واستيجارها منه([21]).
12 ـ حرمة احتكار ما يحتاجه الناس، ولو كان غير منصوصٍ على حرمته([22]).
13 ـ شرعية القسمة([23]).
14 ـ جواز الشهادة المستندة في إثبات المشهود به إلى الاستصحاب([24]).
15 ـ جواز توسعة الطرقات العامة بحسب الحاجة وتجاوز التحديد المنصوص([25]).
إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها الباحث بالتتبّع.
الهوامش
([1 ]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 459؛ ومحمد رضا المظفّر، أصول الفقه 2: 289.
([2]) راجع: العراقي، نهاية الأفكار 3: 153؛ والسيد الخميني، الرسائل 1: 121؛ والسيد الخوئي، الاجتهاد والتقليد: 175؛ والبجنوردي، القواعد الفقهية 1: 258.
([3]) النائيني، فوائد الأصول 3: 135.
([4]) راجع: البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 288؛ والشيرازي، القواعد الفقهية 1: 191؛ والعراقي، نهاية الأفكار 4: 93 ـ 80.
([5]) راجع: الهمداني، مصباح الفقيه 1: 210؛ وقد اعترض عليه السيد الخميني؛ فراجع: الرسائل 1: 315.
([6]) راجع: ناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 288 ـ 284؛ وبحر العلوم، بلغة الفقيه 3: 308.
([7]) الكليني، الكافي 7: 387.
([8]) الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 160.
([9]) بحر العلوم، بلغة الفقيه 3: 318.
([10]) الأنصاري، المكاسب 2: 138؛ والإصفهاني، الإجارة: 210؛ والنائيني، المكاسب والبيع 1: 42؛ والخوئي، مباني تكملة المنهاج 1: 4 ـ 6؛ والبجنوردي، القواعد الفقهية 7: 143.
([11]) الهمداني، مصباح الفقيه 2: 5؛ والخميني، كتاب البيع 3: 590؛ والقمي، القوانين المحكمة: 121؛ والحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 620.
([12]) مصباح الفقيه 1: 581؛ والخوئي، كتاب الطهارة 1: 322.
([13]) الخوئي، كتاب الطهارة 1: 322.
([14]) المصدر نفسه 2: 172.
([15]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 218.
([16]) الروحاني، فقه الصادق 13: 35.
([17]) الخوئي، مباني تكملة المنهاج 1: 255؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 219.
([18]) الهمداني، مصباح الفقيه 3: 315.
([19]) الأنصاري، المكاسب 2: 139؛ وبحر العلوم، بلغة الفقيه 2: 14؛ والإصفهاني، الإجارة: 210.
([20]) السيد مصطفى الخميني، ولاية الفقيه: 16.
([21]) المكاسب 2: 203؛ ودراسات في ولاية الفقيه 3: 225.
([22]) الفياض، منهاج الصالحين 2: 119.
([23]) الآشتياني، القضاء: 291.
([24]) الأنصاري، القضاء والشهادات: 279.
([25]) الأراضي: 154.
مقتبس من مقالة” مدخل إلى فقه النظام العام – محاولة تقعيد فقهية جديدة ” للباحث الشيخ حسن الخشن