جولة في أفكار الشهيد المطهري حول الملحمة الحسينية

الاجتهاد: كربلاء قضية متجذرة في الوعي الإسلامي، ساهمت في تشكل الوعي الحركي الثائر على الظلم والفساد، وباتت مع تقادم الزمن أكثر رسوخاً في وجدان الأمة .

وبعبارة أخرى إنها تلك الواقعة التي قفزت فوق الزمان والمكان مستمدة من نور مشكاة النبوة رمزيتها، ومن لون البذل عنفوانها، فاستحالت نهجاً يحمل شعلة متوقدة تسمو بالإنسان في آفاق العزة والكرامة، وتعبر في مدلولاتها عن محورية الصراع الدائر بين الاستكبار والاستضعاف، وبين رمز العدالة والتفاني في الله ورمز الاستغراق في حطام الدنيا الفانية.

تجلى التعبير عن عاشوراء بأساليب وأشكال مختلفة، لعلّ من أبرزها المجالس العاشورائية، حيث يقوم الخطيب أو العالم بسرد وقائع هذه الحادثة والإسهاب في عرض موضوعاتها، وللاستزادة في التشويق والانجذاب كان يطلق العنان لخياله الروائي ليحلّق في آفاقها دونما حسيب أو رقيب، فيدخل عليها الكثير من الزيادات والمبالغات.

ما دفع ببعض العلماء إلى التصدي لهذه الظاهرة، ولعل كتاب “الملحمة الحسينية” للشهيد مطهري، وهو مؤلف في ثلاثة أجزاء من الكتب التي عالجت هذه الظاهرة معالجة وافية، وانطلاقاً من رؤية عميقة، ولذلك سنحاول التوقف عند أهم المحطات التي ذكرها الشهيد في كتابه.

ألانحرافات في السيرة وسبل مقاومتها

يحذّر الشهيد في مستهل كتابه من الإنحرافات التي أدخلت على عاشوراء، باعتبار ما ينطوي على هذا السلوك من سلبيات في حركة الأمة والشعب، وما تخلفه من تداعيات في النظرة إلى شخصية الإمام الحسين(ع)، حيث يقول: “وحادثة كربلاء شئنا أم أبينا حادثة اجتماعية كبرى بالنسبة لشعبنا وأمتنا، أي أنها حادثة مؤثرة للغاية في تربية أهلنا وعاداتهم وسلوكهم”

ولذلك ترى الناس يندفعون لإحياء هذه الذكرى بشكل طوعي ومن تلقاء أنفسهم، وفوق ذلك يصرفون الكثير من الجهد والمال من أجل الاستماع إلى هذه الحادثة وما يرتبط بها من قضايا “إنها الحادثة التي تدفع بشعبنا بشكل آلي ودون تدخل أية قدرة خارجية إلى أن يتوجه الملايين منه لصرف ملايين الساعات من جهدهم وإنفاق الملايين لسماع ما يرتبط بها من قضايا..”

وانطلاقاً من أهمية هذه الواقعة وخشية الانحراف عن مسارها الحقيقي، يدعو الشهيد إلى التمسك بمضمون هذه الحادثة وعرضها كما هي بكل مفرداتها الواقعية، ويحذر من الانزلاق في خيالات الوهم لما يجلب من ضرر على الأمة، فيقول: “إن هذه القضية ينبغي عرضها كما هي دون زيادة أو نقصان لأنه في حالة أي تدخل أو تصرف في اللفظ أو المعنى مهما كان بسيطاً سيرتب بلا شك حرف اتجاه الحادثة عن مسارها، وبالتالي إلحاق الضرر بأمتنا بالتأكيد بدلاً من إفادتها منها”محملاً مسؤولية ما يحصل للعلماء والرواة وحتى عامة الناس، حيث يقول و” بكل مرارة: إن التحريفات التي أصابت هذه القضية على أيدينا كانت كلها باتجاه التقليل من قيمة الحادثة ومسخها وتحويلها إلى حادثة لا طعم لها ولا معنى، والمسؤولية هنا تقع على الرواة والعلماء، كما تقع على العامة من الناس”.

ولم يقتصر المطهري في حديثه على مظاهر التحريف المعاصرة بل يعود بالذكرى إلى الميرزا حسين النوري أستاذ المرحوم الشيخ عباس القمي، الذي يتطرق إلى ما ألصق بكربلاء من أكاذيب دون أن يقوم أحد بفضحها، ولفت إلى المنحى الخطير الذي لحق بهذه الواقعة نتيجة تلك الالصاقات، فالميرزا النوري يدعو إلى البكاء على الحسين، ولكن ليس بسبب ما ناله جسده الطاهر من سيوف ورماح، بل بسبب الأكاذيب التي ألصقت بالواقعة.

وكما ذكرنا يحمّل (الشهيد) مسؤولية ما يحصل في هذه الذكرى للناس بإعتبارين:

الإعتبار الأول: إن النهي عن المنكر واجب على الجميع، وعليه فإن من يعرف بأن ما يقال على المنابر كذب وافتراء ـ وأكثر الناس تعرف ذلك ـ فإن من واجبه عدم الجلوس في هذه المجالس، لأنه عمل حرام والواجب يتطلب منه مقاومة هذا الكذب وفضحه.

الإعتبار الثاني: لا بد لنا جميعاً من قهر هذه الرغبة اللامسؤولة المنتشرة بين الناس والخطباء، والتي تتوقع من المجالس الحسينية أن تصبح مجالس حارة وحماسية، أو كما يصطلح عليها البعض “كربلاء ثانية”، فالخطيب المسكين تراه أحياناً يقع في حيرة إذا ما تكلم الصدق وقال الحقائق دون زيادة أو نقصان من على المنبر الحسيني، إذ إن نتيجة ذلك ستكون نعت مجلسه بالمجلس البارد وغير الحماسي، وبالتالي عدم رغبة الناس بدعوة هذا الخطيب مجدداً، مما يضطره إلى اختراع بعض القصص الخيالية لإدخال الحرارة إلى مجلسه”.

وهنا يدعو الشهيد مطهري الناس إلى مقاومة هذه الرغبة اللامسؤولة وإثبات ذلك بسلوكهم، فلا يقوموا بتشجيع مثل هذا الخطيب الحسيني الذي يريد تحويل مجلسه إلى كربلاء ثانية بأي ثمن كان.وتكمن معالجة ذلك في استماع الناس إلى المأتم الحسيني الصادق حتى تتسع معارفهم وينمو مستوى التفكير لديهم ويعرفوا بأن اهتزاز روحهم مع أية كلمة من كلمات المأتم الحسيني يعني تحليقها وانصهارها مع روح الحسين بن علي(ع)، وبالتالي فإن دمعة واحدة إذا ما خرجت من مآقيهم كافية لمنحهم ذلك المقام الكبير الذي ناله أنصار الحسين(ع)، أما الدموع التي تخرج من خلال العرض المأساوي ورسم المجزرة وتشريح الذبح والمذبحة فلا تساوي شيئاً حتى لو كانت بحراً من الدموع!.

وباختصار يمكن القول إن هذه الرغبة اللامسؤولة لرؤية واقعة كربلاء بشكلها المأساوي من طرف الناس كانت هي الدافع لاختلاق الأكاذيب، ولذلك فإن أغلب التزوير والكذب الذي أدخل في مواعظ التعزية كان سببه الرغبة في الخروج من سياق الوعظ والتحليق في خيال الفاجعة. ومن الواضح أن الشهيد لم يقتصر في إلقاء تبعات ما وصلت إليه المجالس الحسينية على الناس فحسب، بل يغمز من قناة الخطباء والعلماء، حيث يقول: “فمن أجل شدّ الناس إلى صورة الفاجعة التاريخية وتصويرها المأساوي ودفع الناس إلى البكاء والنحيب ليس إلا، كان الواعظ على الدوام مضطراً للتزوير والاختلاق”.

ولذلك يعتبر أن اختلاق الأكاذيب وإطلاق العنان للخيال إنما يخفضان من شأن الإمام الحسين(ع) ومقامه، ولا يرفعان من شأنه.

ومن اللافت أن الشهيد يُخضع ما كان يدور في كربلاء إلى المنطق والعقل، فيجري العمليات الحسابية، ويعرض الحادثة أولاً ثم يبيّن معايبها، بأسلوب منطقي عقلاني مدعم بالوثائق التاريخية والبحث الجاد عن المكان والزمان لدحض المزاعم والاختلاقات التي دخلت إلى صلب عاشوراء.

وهنا ينتقد الشهيد هذه الظاهرة، مستشهداً بكلام الحاج نوري الذي يرى أن الأمور وصلت إلى وضع مأساوي، فيدعو إلى البكاء على الحسين(ع) لكثرة الأكاذيب والاختلاقات التي تنسب إلى واقعة عاشوراء، حيث يقول: “إذن لا بد أن نصدق كلام الحاج نوري عندما يقول: إذا أراد أحد أن يبكي أبا عبد الله الحسين اليوم ويذكر مصائبه فعليه أن يبكي مصائب الحسين الجديدة، أن يبكي حسيناً لكثرة الأكاذيب والاختلاقات التي نسبت إلى واقعة عاشوراء وشخصية الإمام”.

وهذه الأكاذيب ـ كما يقول الشهيد ـ لم يكن مردها إلى ضعف الأسانيد وإلى النقص في الوثائق:”إن الشيء الذي يحزّ في القلب هو كون واقعة كربلاء من أغنى الوقائع التاريخية المدعمة بالوثائق الأسانيد المعتبرة. في السابق كنت أتصور أن سبب كل هذه الأكاذيب التي ألصقت بهذه الحادثة يكمن في عدم معرفة الوقائع الصحيحة للواقعة، ولكنني بعد المطالعة والتدقيق لاحظت أنه ربما كانت واقعة كربلاء واحدة من أندر الوقائع التاريخية المدعمة بكل تلك الأسانيد التاريخية الباقية منذ ذلك التاريخ البعيد، أي منذ أربعة عشر قرناً خلت”.

دوافع التحريف

أما عن دوافع التحريف فيرجعها الشهيد إلى نوعين، وهي إما أن تكون دوافع عامة لا تخص عاشوراء بالذات، وغالباً ما يكون العدو هو الذي يحرك هذه الدعايات ويروّج الاتهامات، لتحقيق أهدافه والوصول إلى مراميه باتباعه بعض الأساليب الملتوية، حيث تراه “عادة ما يتوسّل إيجاد التغيير والتبديل في سير حوادث التاريخ، وإذا لم يتمكن فإنه يتدخل في تفسير وشرح حركة التاريخ بما يتلاءم ووجهة نظره المفترضة” .

ولم تكن الثورة الحسينية بمنأى عن هذه الدعايات والتحريفات، وذلك في قوله: “..لكنني أؤكد بأن حادثة كربلاء كان لها نصيب أيضاً من هذا العامل، أي أن الأعداء صمموا منذ البداية على تحريف وتزييف النهضة والثورة الحسينية”.

وهناك دوافع خاصة لهذا التحريف تتعلق بميل الإنسان لخلق الأساطير، وهذا أمر يتكرر في كل تواريخ العالم ـ حسبما يرى الشهيد ـ فالبشر على العموم يمتلكون حس عبادة الأبطال وتقديسهم، الأمر الذي يدفعهم إلى خلق الأسطورة من أبطالهم القوميين أو الدينيين، والدليل الواضح على ذلك ما يتداول بين الناس من أساطير متعددة حول ابن سينا والشيخ البهائي وما إلى ذلك.. إلا أن اختلاق الأساطير أمر لا ينحصر في موقع معين، وإنما يمتد إلى مختلف المواقع، مميزاً بين نوعين من المواقع، فتارة لا يلحق بالموقع الذي دخلته الأسطورة أي ضرر، كما هو الحال في الحديث عن ابن سينا، وموقع آخر يلحقه الضرر لا محالة، وهذا “يكون في الأفراد الذين يمتلكون شخصية طليعية، والذين تعتبر أقوالهم وأعمالهم ونهضتهم وثورتهم سنداً وحجة ووثيقة تاريخية لا يجوز تحريف أحاديثهم ولا شخصيتهم ولا تاريخهم”.

وفي هذا المجال يرفض الشهيد تلك التحريفات، فيقول: “حقاً إن بعض التحريفات التي حصلت في واقعة كربلاء سببها وجود حس الأسطورة لدينا، والذي كان له دور كبير في تشكيل حياتنا”. ويحذر من ترك خيالات الأسطورة تفعل فعلها، لذلك لا يجوز لنا أن نُسلم أمر مثل هذه القضية التاريخية الهامة لأيدي صنّاع الأساطير، وقد ورد في الحديث: “فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.

ورب قائل إن تعليمات أئمة الدين منذ زمن النبي الأكرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) تؤكد على ضرورة إحياء اسم الحسين بن علي(ع) وتجديد عقد الولاء معه سنوياً وذكر مصيبته كل عام..، هذا صحيح ولكن هذه الإحياءات لمجالس العزاء الحسينية ـ حسب رأي الشهيد ـ “لا يكون كيفما اتفق أو عبثياً أو لمجرد البكاء على الحسين بحد ذاته، بل من أجل التعرف على أهداف المدرسة الحسينية والتعرف على فلسفة النهضة الحسينية ومعرفة شخصية الحسين التاريخية..”.

ويعتبر أن إقامة المجالس الحسينية والبكاء على الحسين(ع) كوسيلة للتكفير عن الذنوب هو أمر مرفوض إسلامياً، وفي حين ينطلق هذا الفهم من رحم “المدرسة الميكيافيلية”صاحبة شعار “الغاية تبرر الوسيلة” التي تقول بأنه ما دامت الغاية جيدة فليس مهماً نوع الوسيلة المستخدمة! وهكذا يحرّف هذا البعض أهداف المدرسة الحسينية عندما يقولون: ما دام الهدف مقدساً ومنـزهاً وهو البكاء على الحسين، فإن كل وسيلة تستخدم لتحقيقه هي لا شك أمر جيد وينبغي أن تُمارس، ولكن لا يكفي أن تحصل على البكاء وأن تسيل الدموع بهذه الوسائل أو التبريرات!!”.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky