خاص الاجتهاد: شهد الحفل الختامي للمؤتمر الدولي للذكرى المئوية لإعادة تأسيس الحوزة العلمية في قم، والذي أقيم عصر اليوم في قاعة مؤتمرات مدرسة الإمام الكاظم (عليه السلام)، بث رسالة من المرجع الديني آية الله نوري الهمداني. وقد جاء في نص الرسالة ما يلي:
بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحیمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ عَلَی سَیِّدِنا وَ نَبِیِّنَا أَبِی الْقَاسِمِ المصطفی مُحَمَّد وَ عَلَی أهلِ بَیتِهِ الطَّیِّبِینَ الطَّاهِرِینَ سیَّما بَقیَّهَ اللهِ فِی الأرَضینَ.
وَ مَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ (التوبة : ۱۲۲)
تحية مباركة لذلك الاجتماع المحترم المنعقد بحضور العلماء والفضلاء والشخصيات المؤثرة
إن المؤسس الأول للحوزات العلمية هو الله سبحانه وتعالى، الذي أمر بهجرة جماعة من المسلمين من مختلف البلدان إلى مركز العلم، وقرر عودتهم بعد التحصيل إلى بلدانهم لإنذار قومهم. ويُعتبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أول من أسس لحوزة إسلامية، حيث جعل المدينة المنورة مركزاً للعلم والفضيلة يقصده طلاب المعرفة من كل مكان ليتعلموا ويهذبوا أنفسهم ثم يعودوا لهداية أقوامهم. والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، الذين جعلوا من الكوفة والمدينة وبغداد مراكز لتعليم وتهذيب العلماء، هم المؤسسون الآخرون للحوزات العلمية. ولذا، ازدهرت حوزات الإمامية في عصر الغيبة في النجف وسامراء ومشهد وقم حول مراقد أهل البيت النورانية.
ومن هذه الحوزات، حوزة قم العلمية التي تأسست قبل مئة عام في أصعب الظروف التاريخية لإيران، بفضل حكمة آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (رحمه الله)، ونظرته العميقة والحذرة إلى السياسات المعادية للدين آنذاك. وتلك النظرة السياسية العميقة للشيخ المؤسس (رحمه الله)، التي كانت تهتم بمصير الإسلام والتشيع ومكانتهما في العالم الجديد، تحولت تدريجياً بجهاد علماء كبار كآية الله العظمى البروجردي وتلاميذه المجاهدين إلى «شَجَرَةً طَيِّبَةً تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا».
لقد خطط الحاج الشيخ (رحمه الله) ببصيرته المستقبلية للحوزة المباركة تخطيطاً لا يحصر العمل بفضائلها العلمية في نطاق جهاد النفس فحسب، بل يتجاوزه إلى الانخراط الواعي في معترك الجهاد الخارجي، وتحمل الصعاب الجمة، وتقديم التضحيات الجليلة، ليمنح معنى لنضالات الشعب الإيراني العادلة، ويدفع بها نحو تحقيق النصر للثورة الإسلامية وتأسيس نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث كان دور الإمام الخميني (رحمه الله) في هذا السياق دوراً لا يُضاهى وباقياً على مر الزمان.
واليوم، وقد اجتازت هذه الشجرة الطيبة مسيرتها المليئة بالتحديات والمنعطفات، وبلغت قرنها الأول، يتعين على الرواد أن يأخذوا بأيدي الجيل الشاب في هذه الحوزة، وأن يقفوا سوياً على قمة إنجازات المئة عام، وأن يتطلعوا جميعاً نحو المستقبل، ويضعوا النقاط التالية في اعتبارهم:
أولاً: استيعاب الجذور الثابتة وغير القابلة للتغيير للحوزة، وتمييزها عن العادات والتقاليد المؤقتة التي ينبغي تعديلها بتغير مقتضيات العصر، بحيث لا يُتهاون في صيانة الأصالة الحوزوية الراسخة، ولا يُندم على التخلي عن الممارسات الحوزوية المتغيرة.
وثانياً: الانفتاح على العصر مع التمسك بالأسس الحوزوية، وفهم عمق متطلبات العالم الحديث مع الحذر من التفكير السطحي، لئلا تجد الحوزة نفسها في مسار انعزالي غير مرغوب فيه، والذي لا يفضي إلا إلى الاضمحلال التدريجي.
كما تجدر الإشارة إلى ضرورة صيانة علوم ومعارف الحوزة القيّمة، التي تمثل خلاصة جهد يزيد على أربعة عشر قرناً من الحضارة الإسلامية والشيعية، وعدم التفريط فيها بأي مقابل، مع ضرورة المتابعة المستمرة للاحتياجات العالمية واحتياجات المسلمين والشيعة في شتى بقاع الأرض واحتياجات نظام الجمهورية الإسلامية، وإعادة إنتاج المعارف الإسلامية وتبيينها بما يستجيب لمتطلبات العصر.
ومن الأمور ذات الأهمية البالغة، التأكيد على أن يكون المصدر الرئيس للمعارف الحوزوية هو القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم وأهل بيت العصمة عليهم السلام، مع ضرورة الاستعانة بحجة الله العقل، بالمنهجية التي يرتضيها المجتهد، إلى جانب هذين المصدرين النيرين، وذلك لتجنب الوقوع في براثن الإفراط والتفريط في فهم المعارف الحوزوية.
ومما لا شك فيه أن البيئة الخصبة التي ستنمو فيها هذه الجهود، والتي إن تم إغفالها فلن تحقق الجهود مبتغاها، هي الروحانية والإخلاص والتوجه الدائم نحو حضرة الحق تبارك وتعالى وحضرة وليّه الأعظم صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. ونأمل أن يتعزز هذا العنصر القيّم ويزداد تأثيره في مسيرتنا نحو المستقبل المنشود.
والنقطة الأخيرة هي أن حوزة قم العلمية اليوم، بتاريخها العريق الذي يمتد لقرون وإعادة تأسيسها قبل مئة عام على يد فقيه شامخ كآية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (رحمه الله)، يجب أن تسعى لترسيخ صورة لدى الأجيال القادمة مفادها أن رجال الدين الأصيل كانوا ولا يزالون سنداً للشعب، يتفهم آلامه ويسعى جاهدا لتخفيفها، وتشهد على ذلك المشاريع الخدمية المتعددة في المجتمع. وقد تجسدت هذه الروح في زمن الحاج الشيخ نفسه في ظروف عصيبة، واستمرت هذه العطاءات القيمة حتى يومنا هذا بفضل جهود الروحانية والحوزة.
وقد أثمرت هذه المؤسسة عن تخريج قامات علمية وفكرية، وكان من أبرز ثمار فطنة وحكمة وتدبير وصبر مؤسسها الراحل، قيام ثورة إسلامية عظيمة بقيادة أحد تلاميذه، التي أسقطت عرشاً ملكياً دام ألفين وخمسمئة عام إلى مزبلة التاريخ، وأعزت الشعب الإيراني ومنحته الاستقلال والحرية، وكان لها صدى على الساحة الدولية أيضاً، ويتجلى ذلك بوضوح في تفعيل تعاليم القرآن الكريم وسنة المعصومين، خاصة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، في مقارعة الظالم ونصرة المظلوم دون الالتفات إلى الحدود الجغرافية، وتحويل قضية فلسطين إلى أولوية أولى للعالم الإسلامي، وكان لها تأثير بالغ من خلال التوعية والتواصل مع الجامعات وإفساح المجال للشباب، وكانت الحوزة في كل هذه الميادين رائدة.
وعليه، فإن الحفاظ على هذه الثمرة المباركة وإبراز آثارها وبركاتها وإنجازاتها، فضلاً عن تشخيص مواطن الضعف فيها، يقع على عاتق هذه الحوزة المباركة نفسها. وبالنظر إلى ميثاق الروحانية الذي تفضل بإرساله اليوم قائد الثورة الحكيم، فإن هذا التجمع الكريم، الذي يحيي ذكرى ميثاق روحانية الإمام الراحل (رحمة الله عليه)، يمكن أن يكون نبراساً للحوزات العلمية والطلاب والأساتذة والفضلاء الأجلاء. وأغتنم هذه الفرصة السانحة لأقدم أسمى آيات التقدير والإجلال للعلماء الأعلام الذين نذروا أنفسهم لترويج ثقافة القرآن وأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، وخاصة أعلام عصرنا حضرات آيات عظام الحائري والبروجردي والإمام الراحل.
وفي الختام، أتوجه بالشكر والثناء إلى جميع القائمين على هذا الاحتفال البهيج بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحوزة العلمية، والذين بذلوا جهوداً مضنية لفترة طويلة في جمع الآثار القيمة للمرحوم الحاج الشيخ، والتي طبع منها عشرون مجلداً، وكذلك المؤلفات المتعلقة بهذا الموضوع، ومنها جمع ثلاثين مجلداً من المقالات، وأخص بالشكر والتقدير الإدارة الكريمة والعالمة للحوزة العلمية في قم.
أتمنى من الله العلي القدير التوفيق والسداد للجميع.
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمین
۱۳ من شهر اردیبهشت ۱۴۰۴ / الخامس من شهر ذي القعدة 1446
حسین نوری الهمداني