خاص الاجتهاد: يتطرق الباحث عباس كاظم في كتابه “الحوزة تحت الحصار، دراسة في أرشيف حزب البعث العراقي” من منشورات جامعة الكوفة إلى وثائق في أرشيف حزب البعث العراقي، والتي تم الإستيلاء عليها بعد عام ٢٠٠٣م، وتضمن العديد من التقارير والشكاوى والمراسلات والأوامر والتوجيهات الرئاسية والإدارية التي تتعلق بزعيم الحوزة العلمية آية الله السيد أبي القاسم الخوئي والشهيد المجاهد السيد محمد الصدر “قدس سرهما”. والكتاب هو جهد وثائقي مهم يحفظ جزء من تاريخ الحوزة العلمية بمدينة النجف، وما يتعلق بها من وثائق في أرشيف حزب البعث العراقي، والذي كان ساعياً لتدمير حوزة النجف الدينية بكل الوسائل والطرق .
في هذه العجالة وبمناسبة الذكری السنوية 27 لاستشهاد الشهيد آية الله السيد محمد الصدر ونجليه (قدست أسرارهم) نقرأ الفصل الثاني من الكتاب وهو:
نشأة حركة الصدر الثاني:
في الفترة القصيرة نسبياً بين السابع عشر من نيسان 1998 والتاسع عشر من شباط 1999 شهد المجتمع الشيعي في العراق بوادر أمل تنبعث أعقاب انكسارهم المهلك في أعقاب انتفاضة العام 1991 وما تلاها من عقوبات اقتصادية فرضتها الأمم المتحدة على العراق ووقع تأثيرها بشكل خاص على أكتافهم. تحرك آية الله العظمی محمد محمد صادق الصدر (الصدر الثاني) لاستئناف صلاة الجمعة في مسجد الكوفة. هذه العبادة الأساسية من شعائر الإسلام قد وضعت في العراق جانباً إلى أجل غير مسمى بسبب عدم قدرة الشيعة على ممارسة حرية التعبير التي تشكل ركناً أساسياً من فلسفة وغاية صلاة الجمعة.
استذكر السيد الصدر في خطبته الأولى الرمزية التاريخية لهذه العبادة قائلاً إنه يشعر بكونه “في نعمة كبيرة”، في إشارة إلى أهمية المكان، مسجد الكوفة، الذي شهد إمامة الصلاة من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الرمز التاريخي الأهم للشيعة، فقد كان يؤم الصلاة في نفس المسجد أيام خلافته.
لقد أكد الصدر أهمية الجانبين التاريخي والديني لقراره هذا مشيراً إلى أنه «لم يتكلم بعده (أي الإمام (علي) من أهل الحق إطلاقاً إلى هذه اللحظة. ولم يستمع من أهل الحق بعده مثلكم إلى هذه اللحظة».
وقد عرج على مثل من التاريخ لا يخلو من مغزى، وهو مسلم بن عقيل الذي ذكر أنه في صلاته الأخيرة في ذلك المسجد لم يبق معه سوى عدد قليل، ويبدو كأنه يقول للجالسين: هل ستصمدون أم ستتفرقون عني إذا اشتد الخوف؟ ولم يكن اختيار تاريخ الشروع في هذه الحركة عشوائياً أيضاً، فقد اختار الصدر يوم الجمعة التاسع عشر من ذي الحجة 1418 (17) نيسان 1998) ليكون يوم أول صلاة جمعة يؤمها بنفسه، وهذا اليوم هو اليوم التالي لعيد الغدير، كما هو معروف، يوم اختار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام علياً (عليه السلام) لخلافته وإمامة المسلمين.
لقد ولد في يوم الجمعة ذاك فجر جديد من المقاومة الشيعية، إذ بدأ آلاف الشيعة شباباً وكهولاً ونساء في حضور صلاة الجمعة كل أسبوع في مسجد الكوفة لتنبعث موجة من الهلع في قلوب البعثيين من المستوى المحلي. بالكوفة إلى قمة هرم السلطة في بغداد.
تساؤلات واتهامات متبادلة حول علاقة الشهيد الصدر بالنظام
في هذه الأثناء تسببت الجرأة التي أبداها السيد الصدر في إثارة أسئلة كبرى داخل العراق وخارجه عن حقيقة العلاقة بينه وبين النظام، فلم يجرؤ مجتهد في مستوى الصدر على أن يفعل ما فعله طيلة حكم النظام البعثي في العراق.
أما بالنسبة إلى مؤيديه ومريديه فقد وثقوا فيه على الرغم من علمهم بمصيره ومصير من يسير على نهجه في تحدي السلطة البعثية الوحشية. وأما لدى خصومه فقد كان آية الله محمد صادق الصدر عميلاً للنظام البعثي الذي كان يستخدمه، بزعمهم، لسحب البساط من تحت أقدام المقاومة الشيعية التي كانت تقيم خارج العراق.
اقتبست صحيفة الحياة اللندنية كلاماً نسبته إلى السيد عبد المجيد الخوئي، نجل المرجع الراحل آية الله العظمى أبو القاسم الموسوي الخوئي، يقول فيه “إن مرشح السلطة هو السيد محمد الصدر»، مضيفاً أنه «متعاون مع السلطة التي تستغل اسم عائلة الصدر لفرضه مرجعاً مع أنه غير مؤهل». (1)
مما تجدر الإشارة إليه هو أنّ هذه التصريحات نشرت حين كان أتباع السيد الخوئي وأتباع السيد الصدر يتبادلون اتهامات متعددة، فقبل صدور هذه التصريحات المنسوبة إلى السيد عبد المجيد الخوئي كان السيد محمد الصدر قد تكلم بلهجة شديدة على المحيطين بآية الله العظمى أبو القاسم الخوئي أيام حياته، وأبرزهم أولاده، قائلاً إنهم تصدر منهم أعمال لايرضاها الناس… إلى حد يستشكلون بتقليدهم للسيد الخوئي(2)
هجوم آخر على السيد الصدر جاء من صحيفة المبلغ الرسالي التي تصدر في إيران والقريبة من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي كان يقوده حينها آية الله السيد محمد باقر الحكيم. ففي مقالة لاذعة صدرت قبيل اغتيال السيد الصدر نسبت الصحيفة إلى شخص عائد من مهمة داخل عدد من مدن العراق مشاهداته بأن «نظام صدام حسين قد جعل من مرجعية السيد محمد الصدر غطاء لمخططاته وأنها ستستخدم ضد الإسلام باسم الإسلام». وقد ادّعت الصحيفة أن ذلك الشخص أخبرها بـ مساعي النظام لاختراق المرجعية من خلال طرح مرجعية السيد محمد الصدر كمرجعية عربية للشيعة».(3) لقد تسبب ذلك الهجوم الإعلامي على السيد الصدر بانقسامات بين الإسلاميين العراقيين بعد وفاته، بما في ذلك الاعتداء على آية الله السيد محمد باقر الحكيم في أثناء حضوره مجلساً تأبينياً للسيد الصدر في مدينة قم الإيرانية.
سعى النظام البعثي لاستغلال مرجعية الصدر
بناء على آراء خصوم السيد محمد الصدر، عد بعض الباحثين عمله حصان طروادة الذي سخّره النظام من أجل جس النوايا الحقيقية لشيعة العراق الذين لم تزل ذكرى انتفاضتهم في العام 1991 حية في الساحة السياسية والاجتماعية، بينما ذهب آخرون إلى أن هذا الأمر قد فكر فيه النظام وحاول استغلاله ولكنّ الصدر نفسه لم يتخذ موقفاً مؤيداً لغرض النظام هذا أو ضده.
أشار عالم الاجتماع العراقي البارز فالح عبد الجبار في العام 2003 إلى ما يلي:
بعد إعدام محمد باقر الصدر، في العام 1980، اُدّعي بأنّ ابن عم له، محمد صادق الصدر، قد عُيّن من قبل الحكومة العراقية كمرجع عراقي… كانت الحكومة البعثية الساعية إلى تعميق الانقسام العرقي داخل مجتمع رجال الدين تفضل أن يوجد خط للمرجعية العربية. ففي نظر الحكومة كان آية الله العظمى أبو القاسم الموسوي الخوئي وخلفه (آية الله العظمي السيد علي السيستاني إيرانيين. قد تكون الحكومة البعثية على الأرجح سعت إلى خلق جهود من خلال وسطاء لإيجاد مركز شيعي عربي، لكنّ الصدر لم يكن من الناحية العملية قادراً على أن يوافق أو يعارض هذه المحاولات. (4)
تبين وثائق البعث الصادرة في ثمانينيات القرن الماضي التي اطلعنا عليها في أثناء إجراء هذا البحث أنّ النظام كان فعلاً قد ناقش هذا الأمر في أعلى مستويات هرم السلطة، بما في ذلك تعليمات من صدام حسين نفسه، لكن دون ذكر شخص بعينه كمرشح لقيادة هذا الجهود الساعية إلى إيجاد مرجعية عربية، ولكننا لم نجد دليلاً على أن الصدر كان ضمن هذه الجهود على الإطلاق، بشكل مباشر أو غير مباشر، بل وجدنا أدلة على عكس ذلك.
وقد كتبت المؤرخة الرائدة في دراسات تاريخ العراق، فيبي مار، أنّ “المعارضة استمرت بالانبعاث من خلال رجال الدين أيضاً، فقوبلوا بالمزيد من الاضطهاد. ومن الوقائع المهمة كان قتل محمد صادق الصدر الذي انتقاه النظام ليكون مرجعاً لأنّ النظام كانت لديه أسباب تدعو إلى الاعتقاد بأنه لن يتسبب في مشاكل، ولكن هذا الاعتقاد ثبت خطؤه». (5)
إن فكرة «انتقاء» مرجع ما من الحكومة لا تصف بدقة كيفية ارتقاء أحد آيات الله إلى منصب المرجع. لقد استطاعت الحكومة العراقية تاريخياً قتل مرجع ما، أو محاصرته، وتحييده بين الحين والآخر، ولكنها لم تنجح أبداً في تنصيب مرجع من المراجع، لأن آليات تنصيب المراجع ووسائل انتشار مرجعياتهم تقع خارج ما لدى الدولة من قدرات. (6)
باحثون آخرون روجوا ادعاءاتٍ غير موثقة فيما يخص العلاقة بين الصدريين والنظام، وهي ادعاءات نستطيع القول بأنها غير صحيحة تماماً، في ضوء ما اطلعنا عليه من وثائق فقد كتب الصحفي باترك كوكبرن في كتابه عن الصدريين إنّ تعاون (الصدريين) مع النظام بلغ مستوى عالياً في العام 1997 حين سمح لهم بإصدار مجلة اسمها «الهدى» كان رئيس تحريرها مقتدى الابن الأصغر لـ (محمد) صادق الصدر)».(7)
لم يكن هذا الادعاء صحيحاً حسب الوثائق البعثية. ففي كتاب إلى مكتب القيادة القطرية للحزب كتبت وزارة الثقافة والإعلام ما يلي: “سبق وأن أصدر المدعو محمد الصدر (مجلة – نشرة) دون أن يحصل على موافقة هذه الوزارة، وقد كتبنا في حينها إلى مكتبكم.”
وحسب ما ورد في وثائق أخرى، اقترح آية الله الصدر أيضاً إقامة مهرجان شعري ومعرض فني، وقد شعرت السلطات بالإهانة حين لم يتقدم بطلب الحصول على التصاريح اللازمة لهذه الفعاليات تشير الوثائق إلى أنّ السلطات المحلية أمرت بإخباره بضرورة الحصول على تصاريح قبل إقامة فعاليات كهذه، ولكن يبدو أنه لم يول هذه التعليمات أهمية ومضى في طريقه غير مكترث بأوامر المنع أو طلبات التعاون مع السلطات البعثية. يذكر كوكبرن أيضاً في مكان آخر من كتابه، دون ذكر المصدر، أنّ “النظام حاول استخدام (الصدر) للسيطرة على الحوزة فسمح له بالسيطرة على جميع المدارس الدينية وكان على الطلاب الجدد الحصول على إذن منه».
مرة أخرى، ثبت لنا أنّ جميع هذا الادعاء مخالف لمحتوى الوثائق، فقد أشارت خمس وثائق صادرة عن مستويات قيادية متعددة للحزب إلى أنّ الصدر استحوذ على هذه المدارس وأكدت على الاقتراح الخاص بسحبها منه. اعتقد كوكبرن أنّ الصدر قد انقلب على النظام في العام 1996. (8)
بعد ذلك العام، ومهما يكن ما انتظره صدام حسين وأجهزته الأمنية من صادق الصدر، فقد خذلهم. ذلك كان سبب اغتياله ونجليه». (9) لا يرتدع أنصار هذه النظرية بعدم وجود أي دليل على وجود صفقة بين الصدر ونظام صدام، بل يصرون على القول بأن عدم وجود دليل على هذه الصفقة لا يعني بالضرورة عدم وجود الصفقة ذاتها، لأنّ وجودها من الواضحات». أنا أقول إن اعتقادات هؤلاء الباحثين وبعض قادة الشيعة السياسيين لم تكن صحيحة إذا نظرنا إلى هذه الوثائق بحيادية وإنصاف.
محتوى الوثائق
كما ذكرنا سابقاً، يبدأ ملف آية الله الصدر الثاني بعدد من الوثائق التي تمثل مراسلات تتعلق بدراسة أعدّها فرع النجف لحزب البعث تصف ما أطلقت عليها “ظاهرة” الصدر . وقبل أن نفحص محتوى هذه الدراسة، من المهم أن نبين شبكة دوائر الحزب ودوائر الدولة التي اهتمت بهذه الدراسة ومدى اشتراكها في الأمر. تمثل جميع الوثائق قيد الدرس، باستثناء الدراسة نفسها، مراسلات طبيعية بين سلسلة المراجع الحزبية التي تبدأ بتقرير من فرع النجف للحزب مرسل إلى مكتب تنظيم الفرات الأوسط الذي يشرف على فروع محافظات النجف وكربلاء والقادسية والمثنى، ونسخة من التقرير كانت ترسل مباشرة إلى مكتب أمانة سر القطر في بغداد.
يقوم مكتب أمانة سر القطر بإرسال التقرير إلى مدير الأمن العام بعد إطلاع صدام حسين أو نائبه عزة إبراهيم الدوري. تركز المراسلات على أبرز ما جاء في خطبة الجمعة في ذلك الأسبوع، خصوصاً تلك التي تشكل هاجساً أمنياً، وعدد الحضور وعدد الذكور والإناث من بينهم ومتوسط أعمار الحاضرين والمحافظات التي أتوا منها. وباستثناء الدراسة التي أعدها فرع النجف عن الظاهرة الصدرية، والتي تسببت في الكثير من المراسلات والمتابعة، لا يبدو أن التقارير الأخرى قد تسببت في نقاشات أو حوارات خارج سياقات العمل الحزبية التي تسير من خلالها التقارير الحزبية من الأدنى إلى الأعلى قبل أن تنتهي في مكتب مدیر الأمن العام. سنحلل محتوى هذه التقارير لاحقاً، ولكن لتتكلم أولاً عن الدراسة التي أعدها فرع النجف للحزب عن الـ «ظاهرة” الصدرية والمراسلات المتعلقة بتلك الدراسة.
أعدت الدراسة، كما يبدو من سياق المراسلات، في فرع لحزب البعث في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر أو بداية كانون الأول/ ديسمبر 1998، وكانت آخر المراسلات بشأنها في السابع من شباط 1999، أي قبل اغتيال السيد محمد صادق الصدر باثني عشر يوماً.
بالإضافة إلى سياق المراسلات النمطي للحزب، تضمنت المراسلات الخاصة بهذه الوثيقة تدخلاً من نائب أمين سر القطر (عزة إبراهيم) ووزارتين في الحكومة العراقية هما وزارة الثقافة والإعلام ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسبب علاقة بعض محتوى المراسلات بعمل هاتين الوزارتين.
تبدأ المراسلات بمذكرة أسبوعية موقعة من قبل أمين سر فرع النجف لحزب البعث كاظم خضير عباس ومرسلة وفقاً للبروتكول الحزبي إلى “الرفيق المناضل عضو قيادة قطر العراق مسؤول التنظيمات” (ويعني تنظيمات الفرات الأوسط). وتدل الوثائق الصادرة في تلك الفترة على أن مزبان خضر هادي، الذي قبض عليه بعد العام 2003 وحوكم بجرائم ضد الإنسانية، هو المقصود بهذا التوصيف ومما يستوجبه سياق المراسلات البعثية هو إرسال نسخة إلى مكتب أمانة سر القطر لحزب البعث في بغداد، وكان أمينه في تلك الفترة عدنان داود سلمان.
كان كتاب إرسال الدراسة المرقم 1/12/ 878 بتاريخ 7/ 12/ 1998 مختصراً ولم يدرج في حقل الموضوع سوى كلمة واحدة: «دراسة». أما نص الرسالة فهو: «طياً الدراسة التي قام بها فرعنا والتي تخص المناسبات الدينية وصلاة الجمعة التي تقام في مسجد الكوفة وتصرفات رجل الدين محمد الصدر. للتفضل بالاطلاع مع التقدير ودمتم للنضال». وقد أشارت النسخة المرسلة إلى مكتب تنظيم الفرات الأوسط أن نسخة ثانية أرسلت إلى مكتب أمانة سر القطر.
تتضمن الدراسة ثلاث صفحات ركيكة اللغة والأسلوب، ولكنها مسمومة المحتوى إذ تصف تصاعد فعاليات آية الله الصدر بما في ذلك الأمور المتعلقة بصلاة الجمعة نقرأ في المقدمة عبارة التحذير الآتية: “نری أن محمد الصدر أصبح ظاهرة مهمة في الوقت الحاضر وقد ساعد في حصول هذه الظاهرة كثرة دعاته في المحافظات الجنوبية وديالى وبغداد مما دفعته هذه الكثرة لأن يتصرف على الطريقة الإيرانية في الصلاة حيث بدأ وعن طريق وكلائه ومؤيديه بالحضور إلى الصلاة أو الخطبة لتنفيذ ما يعتقده من برامج أو توجيه».
تنتقل الدراسة بعد ذلك إلى التحديات العملية التي تفرضها صلاة الجمعة وتزايد أعداد المشاركين فيها كل أسبوع على الكادر الحزبي المحلي، حيث أن «هذه التجمعات يصعب السيطرة عليها أمنياً حيث إذا حدث خطأ مقصود أو غير مقصود فإنه سيؤدي إلى قتل الآلاف».
يبدو صعباً علينا ونحن نحلل مضمون هذه الفقرة أن نفهم معنى الخطأ المقصود»، وربما أراد مؤلف الدراسة التنبيه إلى احتمال حدوث عمل غير محسوب من قبل أحد المسلحين البعثيين، أو قرار متسرع من قبل أحد المسؤولين قد يؤدي إلى مواجهة دامية. وقبل أن نفسّر هذه الفقرة على أنها حرص من الحزب على أرواح المواطنين المصلين الشيعة تخبرنا الدراسة بوضوح عن سبب عدم تفضيل الحزب قتلهم المواطنين المشاركين في صلاة الجمعة:
“ونحن في الوقت الحاضر في غنى عن مثل هذه المداخلات، والملفت للنظر أن هذا التوجه يتزامن مع تخطيط العملاء بقيادة أمريكا وبريطانيا والصهيونية بالإساءة إلى العراق العظيم”. إنه التوقيت غير المناسب، إذن، الذي ولد هذا الإحساس المرهف تجاه حياة المواطنين الشيعة، وليس غيره من الأسباب، لأنه – حسب ما تستفيض الدراسة في تبيانه – “إذا ما حدث خطأ وقتل الكثير ستكون هناك حجج للأعداء بأننا نضطهد المصلين من إقامة شعائرهم الدينية وهذا ما يريد أن يصل الصدر إليه».
تجنباً للقرار الأقل شعبية، وهو المخاطرة بقتل المصلين الشيعة علناً وهم يؤدون طقوسهم الدينية، وهو أمر قد فعله النظام البعثي مرات عديدة من قبل، اقترح مؤلف الدراسة تركيبة من ثمانية إجراءات يمكن أن نعتبرها «أقل قمعاً». الإجراء الأول هو الأهم، ربما، لأنه يدعو إلى فصل الصدر عن أتباعه من خارج المدينة، فقد اقترحت الدراسة أن يفرض حزب البعث “إقامة صلاة الجمعة من قبل المصلين كل ضمن حدود محافظته وقضائه وناحيته وعدم السماح لهم بالمجيء إلى مسجد الكوفة».
كان العذر المقترح لهذا الإجراء هو “أنّ الأعداد كبيرة والمسجد لا يستوعب الأعداد الوافدة من المحافظات». أما السبب الحقيقي، كما تبينه الدراسة، فهو أنه يصعب السيطرة على هذه الأعداد من الناحية الأمنية والتنظيمية، الأمر الذي يؤدي إلى قطع الشوارع العامة وعرقلة السير إذا ما عرفنا أن هؤلاء الوافدين أعمارهم تتراوح بين (15 ـ 25) عاماً».
كان الهدف من هذا الإجراء عرقلة إمكانية بناء شبكة ثائرة يمكن للصدر أن يخلقها في المجتمع الشيعي العراقي. فقد كان الصدر يحاول جهده للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأتباع من أجل بناء قاعدة قوية قبل حدوث المواجهة المؤكدة مع النظام، وهو بلا شك قد استلهم درساً بليغاً من المواجهات العفوية ونتائجها الكارثية على الشيعة.
لقد تنبه إلى وجود فرصة في تسعينيات القرن العشرين وإن كانت ضئيلة، من أجل نتظيم المجتمع الشيعي دون تجاوز الخطوط الحمراء التي لم تكن تسمح بتجاوزها قدرة النظام القليلة على التسامح والتحمل.
وقد قال الصدر نفسه عن ذلك في إحدى المناسبات: “يمكننا أن نلخص علاقتنا بالسلطة على الوجه الآتي: السلطة تؤيد المظاهر الدينية الشيعية وترعاها، وهي تعطف علينا ما دام أننا لا نتدخل في السياسة، وهي تكف شرها عنا ما دمنا نكف شرنا عنها، بمعنى أنها تلتزم إزاءنا سياسة المعاملة بالمثل».(10) ومع ذلك، يبدو أن النظام كان يحاول تقليص ذلك الهامش الضيق من التحمل المصطنع حين أصبح من الواضح أنّ الصدر على وشك أن يصل إلى مكانة يصعب معها السيطرة عليه، فإذا فصلوه عن أتباعه لن يكون أكثر خطراً من نظرائه رجال الدين الشيعة غير الفاعلين سياسياً.
الاقتراح الثاني في دراسة فرع النجف للحزب كان يحمل البصمة البعثية التقليدية من ضمّ الدعاية الإعلامية في المحافظات الشيعية إلى الإجراءات القمعية ضد المصلين الزائرين، فقد جاء في الدراسة ما يلي: نقترح أن تأخذ الفروع الحزبية الجنوبية والفرات إضافة إلى بغداد وديالى دورها بتوعية الشباب وضبط المفارز الرسمية على الشوارع العامة وعدم السماح للسيارات التي تنقل هؤلاء الشباب من التوجه إلى مدينة الكوفة يومي الخميس والجمعة يبدو أن اقتراح رفع الوعي الوطني هنا هو مجرد عبارة إنشائية فارغة من المحتوى حتى أن مؤلف الدراسة لم يكلف نفسه بالتوسع في كيفية تطبيق هذا الإجراء والسبل اللازمة لرفع الوعي الوطني بين الشباب (والمقصود بالوعي الوطني هنا الولاء للبعث والنظام الحاكم ورئيسه صدام حسين).
ولكن المؤلف حين تحول بالحديث عن الإجراءات القسرية والقمعية بدت قدراته الذهنية واضحة للعيان فكانت الفكرة واضحة فيما يخص الإجراءات العملية لمنع الناس من الصلاة كطقس سياسي، بدءاً بالسيطرات ونقاط التفتيش الأمنية التي لا يخترقها الطير وانتهاءاً بفرض الحصار الأسبوعي على الكوفة يومي الخميس والجمعة وما يرافق ذلك من الإجراءات القمعية الساندة.
محاولات النظام للحد من نفوذ السيد الصدر “ره”: دراسة فرع حزب البعث في النجف
بعد أن وجهت انتباه قادة البعث إلى مشكلتين تتعلقان بفعاليات الصدر الثقافية والإعلامية، واللتين سأتعرّضُ إليهما لاحقاً، تعود الدراسة إلى تقديم مزيد من الاقترحات التي من شأنها الحدّ . من فعالية ونفوذ الصدر.
كان أحد هذه الاقتراحات استعادة المدارس الدينية التي استحوذ عليها مؤخراً وجعل أنشطته في مدرسة واحدة. وعلى الرغم من كون هذه الخطوة عديمة الأهمية من الناحية الإجرائية، لأن التعليم الديني والنشاط السياسي الشيعي لم يكن مقتصراً على بنايات المدارس في يوم من الأيام، إلا أنه من الواضح كون فرع النجف للحزب يحاول أن يقنع قيادته والحكومة بالوقوف ضد الصدر في نزاعه مع خصوم له في المؤسسة الدينية الذي يتمحور بعضه على عائدية بعض هذه المدارس. كان من الطبيعي أن تذهب المدارس المنتزعة من يد الصدر إلى إلى رجال دين أقل منه نشاطاً في أمور السياسة.
ويبدو هذا الأمر انقلاباً على سياسة البعث السابقة بعدم التدخل حين استحوذ» الصدر على هذه المدارس، حسب ما تشير إليه الوثائق التي تؤكد بما لا يقبل الشك بأن النظام لم يسلّم هذه المدارس إلى الصدر، كما توهم عدد من الباحثين، وكذلك منتقدو الصدر من المعارضة السياسية الشيعية. إن عبارة “استحوذ عليها» تدل بوضوح على أن الصدر قد أخذ هذه المدارس دون ترخيص من الدولة بذلك، بل كل ما فعلته الدولة هو أنها نظرت إلى الجهة الأخرى وتغافلت عن الأمر، لا حباً بالصدر بل لأن البعثيين كانوا حينها يكرهون خصوم الصدر أكثر من كرههم للصدر، أو ربما لأنهم توقعوا منه أن يقابل سكوتهم بنوع من التعاون، لكن هذا الأمر تغير بعد أن بدأ الصدر يتحدى النظام بشكل علني. كانت الدولة قد أمرت بتحويل إحدى المدارس من حوزة السيد الصدر إلى حوزة آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم قبل إعداد فرع النجف هذه الدراسة بأربعة أشهر، كما تدل بعض الوثائق الصادرة عن القصر الجمهوري، إذ أمر الرئيس العراقي صدام حسين . محافظ النجف بـ «إعادة مدرسة الحكيم إلى عائلة الحكيم». (11)
وقد نقلت ملكية المدرسة يوم الثالث عشر من تموز 1998 بحضور مدير أمن النجف ومدير دائرة الأوقاف والشؤون الدينية في محافظة النجف. إن تدخل صدام حسين شخصياً في أمر النزاع على إدارة بناية صغيرة موقوفة دينياً يدلّ على الكثير، كما أن مساندته لعائلة الحكيم (وهي عائلة معروفة بمعارضتها للنظام وقمع النظام لكثير من أفرادها)، على الرغم من قوة حجة الصدر، ربما كانت إحدى الدلالات والتحذيرات المبكرة للصدر بأنه لا يستطيع الاعتماد على النظام في «كف أذاه” عنه.
لنعد إلى دراسة فرع النجف عن الفعاليات الصدرية، حيث نقرأ العبارة الغامضة التالية التي تقترح إجراءات غير قسرية للحد من خطورة الظاهرة الصدرية: «نقترح تعيين مستشارين من وزارة الأوقاف ومن العناصر الوطنية المخلصة والمحصنة من منطقة الفرات والجنوب حيث سيكون لها تأثير في هذا المجال».
ليس من الواضح في هذه الدراسة، أو في الوثائق الأخرى، ما نوع الخدمات التي سيقدمها هؤلاء المستشارون الغامضون ومن هم الذين سيقدمون لهم النصح والمشورة وما هي ا النتيجة المرجوة من عملهم، ولا توجد أي مراجعة من الجهات العليا مع فرع النجف عن هذه النقطة بالتحديد لتوضيح إمكانية تطبيقها، ويبدو أن الحزب لم ير فيها أي جدوى فأهملت تماماً. إلا أنّ كتاباً من أمين . سر تنظيمات الفرات مزبان خضر هادي يبدي اعتراضاً على هذا الإجراء الذي يعني زج موظفي مؤسسة دينية تابعة للدولة في الخلافات المذهبية، قائلاً إن «المفروض بالموظفين في مركز وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أن يتصرفوا بشكل متوازن وفق التوجيهات». فيما تشير المصادر الأخرى إلى أن النظام قد حاول قبل اغتيال الشهيد الصدر أن يفرض أئمة يعملون في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لكن المصلين تجنبوا الصلاة خلفهم.(12)
تصاعد المواجهة: الشهيد الصدر ينتقد النظام ويتحدى اعتقال وكلائه
ربما كان الاقتراح السابع في الدراسة هو أكثر الاقتراحات إشكالية وخبثاً. فقد اقترح معد الدراسة “إلزام الصدر ووكلائه في المحافظات بالدعاء للسيد الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه والتطرق إلى التآمر الأميركي الصهيوني على العراق ورفع الحصار عن الشعب العراقي». لقد أيقن المؤلف أن تطبيق هذا الاقتراح سيؤدي حتماً إلى تصفية الصدر، شخصياً أو معنوياً. إذ سيتحتم على الصدر، حسب هذا الموقف، أن يختار بين أن تُغتال سمعته إذا قبل بما يُملى عليه من الدعاء للطاغية في خطب الجمعة أو أن يتعرض للإعدام إذا رفض.
في كلا الحالين، لم يكن خطر الصدر ليبقى لفترة طويلة. على عكس موفقه من مقترح تعيين المستشارين فقد تجنب مزبان خضر هادي في تعليقه على الدراسة الخوض في أمر هذا المقترح بذكاء، فمزبان خضر هادي وإن كان على يقين بأن الصدر لن يقبل بمقترح كهذا، لكنه لم يرغب في أن يسجل عنه أنه عارض الاقتراح على الصدر أن يدعو لصدام حسين في نهاية خطبة الجمعة (والدعاء للحاكم تقليد اعتاد خطباء الجمعة عليه لقرون). لكنه أخبر فرع النجف أنّ قيادة الحزب قد رأت تأجيل الأمر حتى إشعار آخر.
ليس واضحاً من خلال الوثائق المتوفرة لنا إذا ما كان آية الله الصدر قد طلب منه في الأسابيع الأخيرة من حياته أن يدعو لصدام أو أن التأجيل ظل سارياً حتى ساعة اغتيال الصدر. ولكن الواضح أنه طلب منه أن يتطرق إلى أمور كهذه وأن يكون ودياً للنظام ولكنه لم يتراجع عن نهجه الذي اختطه، وأن هذا الرفض ربما كان السبب الرئيس في جعل صدام يقرر الإيعاز، أو السماح باغتياله. وعلى الرغم من عدم وجود دليل مباشر في الوثائق المتوفرة على أنه تعرض لطلب من هذا النوع، بالإضافة إلى الاقتراحات الأخرى التي تقدمت بها الدراسة قيد البحث، إلا أننا نستطيع أن نستخلص من تحليل محتوى خطبه في أيام الجمعة المتبقية أنه قد تعرض لضغوط كبيرة أو ربما نصائح» لمغازلة النظام وأنه استجاب بشروطه هو وبشكل جزئي، خصوصاً في مسألتي الحصار والقصف الجوي، باعتبارهما ليستا مختصتين بالنظام بل بأمور المسلمين عامة. وكما قال آية الله العظمى محمد حسين فضل الله في بيان تأبين الشهيد الصدر الثاني: «لم ينقل عنه في كل حركة مرجعيته أنه قال كلمة في السلطة بالطريقة التي توحي أنه يؤيدها من الناحية السياسية أو الفكرية). (13)
فإذا ما وضعنا في الحسبان أن قرار التأجيل الذي أبلغه مزبان خضر هادي إلى فرع النجف للحزب كان يوم 13 كانون الأول/ ديسمبر 1998 في كتاب تنظيمات الفرات الأوسط رقم 2135/2/8 فإن تقرير فرع النجف عن صلاة الجمعة الصادر بعد ذلك التاريخ بتسعة أيام قد أشار بأسلوب تحريضي إلى ما يلي:
“كل من يستمع إلى الخطبة يلاحظ أن هذا الرجل يخطب في دولة غير العراق حيث أنه جعل من نفسه بأنه لا يعلم ما يجري في هذا البلد من اعتداء غاشم عليه من قبل الشر والرذيلة أمريكا وبريطانيا متعمداً ذلك ولم يتطرق أبداً لما يجري في العراق العظيم من موت للأبرياء وهدم المؤسسات الخدمية ودور المواطنين بخلاف ما يجري في جوامع ومساجد العالم الإسلامي حيث كان أغلب خطابهم يذكر ويدين ويحرض المسلمين للرد على هذا العدوان الغاشم الذي يتعرض له العراق مما يؤكد بأن هذا الرجل سيء النية والهدف».
استمر هذا التصعيد في محاولات إثارة غضب القيادات العليا للحزب ضد آية الله الصدر طيلة الأسابيع المتبقية من حياته، ويبدو أنها أسهمت الوصول إلى قرار اغتياله في نهاية الأمر. في السابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر بعث فرع النجف للحزب تقريره الأسبوعي الجديد عن صلاة الجمعة وكان هذه المرة يتضمن إشارة إلى أن الصدر قد تحدث عن النظام العالمي الجديد منتقداً كلنتون وكارتر وبوش وأن أمريكا تحاول السيطرة على العالم لأنها تمتلك القوة والمال وأنها انفردت بالعالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. يبدو أن هذا كان أقصى ما قبل الصدر بالوصول إليه استجابة للضغوط بالحديث عن أمور يريدها النظام منه، ولكن ذلك لم يكن مرضياً لقيادات البعث بجميع مستوياتها.
اقتبس فرع النجف للحزب العبارة التالية التي أوردتها شعبة الكوفة، التي تبدأ منها التقارير عادة: «لم يشر (الصدر) إلى صمود العراق وإلى شهدائه أو يدعو (كذا) إلى توجيه معين ضدّ أمريكا والصهيونية وكأنه يحاول إسقاط فرض مطلوب منه أو أنّ هذه المسألة ثانوية في خطبته وتوجيهاته». وكما كان السياق جارياً في السابق، فقد أرسل مكتب أمانة سر القطر هذه الشكوى كما وردت إلى مديرية الأمن العام، مكتب المدير، كما ورد في كتاب أمانة سر القطر رقم 6/24 في 2 كانون الثاني/ يناير 1999.
تحولت خطبة الجمعة التالية إلى مواجهة واضحة بينما كان مسؤولو البعث يفقدون آخر ما تبقى لديهم من صبر، فقد ذكر فرع النجف للبعث في تقريره عن خطبة الجمعة ليوم 15 كانون الثاني / يناير 1999 تطرق الصدر إلى مشكلة انقطاع التيار الكهربائي في جميع ا المحافظات ومطالبته بتوفير الكهرباء دون انقطاع، كما أكّد على انتصار الحوزة العلمية وانتصار الحق والمظلومين… والمصلون يردون عليه بعبارة (اللهم صل على محمد وآل محمد)». كما بدأ المسؤولون البعثيون المحليون يشعرون بالخطورة الأمنية لتزايد أعداد المصلين إذ رصد حوالي 10 آلاف إلى 12 ألفاً فـ كل صلاة خلال شهر كانون الثاني/ يناير وبداية شهر شباط 1999، الأمر الذي يشير إلى فشل جميع ا الإجراءات القمعية التي اتخذها حزب البعث والحكومة لمنع أتباع الصدر من الوصول إلى مدينة الكوفة وحضور الصلاة وسماع خطبته في مسجد الكوفة.
ردّت الحكومة بحملة أمنية واسعة ضد الصدر من أجل تخويفه هو وأتباعه، فألقت قوات الأمن القبض على عدد من وكلائه في النجف وبقية المحافظات بينما أصبح وجود القوات الأمنية ومليشيا البعث منظوراً في المدن التي يتمتع فيها الصدر بشعبية كبيرة. من جهة أخرى، وتناغماً مع الحملة الأمنية، أطلقت الحكومة حملة دعائية ضد الصدر من أجل تسقيطه اجتماعياً ودينياً من خلال إرسال بعض عناصر الأمن الذين ادعوا كونهم صدريين وبدأوا يبثون ادعاءات بأن السيد الصدر هو ا الإمام المهدي المنتظر، بينما بدأت الحكومة ترتيبات معينة مع خصوم الصدر في المجتمع الديني وتمكينهم من توزيع الأموال على المحتاجين من أتباعه بغية إقناعهم في التخلي عنه.
بدلاً عن التراجع وترك الأزمة تمر بسلام، قرر السيد الصدر تصعيد انتقاده للنظام أكثر من ذي قبل. ففي خطبة يوم الجمعة المصادف 29 كانون الثاني/ يناير 1999 استنكر (الصدر) اعتقال وكلائه في بعض المحافظات وطالب بـ «الإفراج عنهم فـ فوراً… وعدم حصول ذلك في المستقبل إطلاقاً».
هذه المسألة أصبحت إحدى النقاط المهمة في تقرير فرع النجف للحزب المرسل يوم 31 كانون الثاني/ يناير 1999 ذكر التقرير أيضاً مسألة توزيع الأموال والدعايات التي تنشر عن كونه الإمام المهدي المنتظر، التي ذكرها الصدر في خطبة الجمعة تلك.
فقد خطب الصدر في أكثر من اثني عشر ألفاً من المصلين قائلاً: هناك زعم قديم ويؤيده زعم حديث من أنني الإمام المهدي المنتظر فإنني بريء من ذلك وكل من يدعي ذلك فإنني بريء منه».
كما ذكر التقرير اتهام الصدر للحكومة بأنها تحاول غلق مسجد الكوفة بحجة ترميمه، قائلاً إن السبب الحقيقي هو «إعاقة صلاة الجمعة». ورغم أنها لم تذكر في كتاب أمانة سر القطر المرسل إلى مدير الأمن العام، إلا أنّ فرع النجف ذكر في تقريره أن الصدر انتقد العاملين في المجال الطبي. (14) وكان الصدر قد اتخذ من هذا الموضوع الاجتماعي وسيلة لتمرير انتقادات لأداء الدولة. ففي المجال الاجتماعي تكلم الصدر عن الاختلاط بين الأطباء والطبيبات والممرضات، كما تكلم عن تجاوزات من قبل الأطباء الذين “يطلعون على المريضات بشكل غير صحيح»، وأن الطبيبات والعاملات في حقل الصحة سافرات» ثمّ قال: «وهذا غير صحيح”، أي: غير جائز من الناحية الشرعية.
كما أنه انتقد كون “الطلاب في كليات الطب يقومون بتشريح جثث الموتى” وعد هذا غير جائز». ولكن التقرير ، لسبب غريب، لم يذكر تفاصيل أكثر أجزاء الخطبة أهمية، وهو ما يتعلق بمسألة بيع الأدوية في السوق السوداء. الذي لم يذكره التقرير هو الانتقاد اللاذع للدولة حيث أشار إلى أن الذين يبيعون الأدوية المسروقة في السوق السوداء يقولون إنّ الراتب لا يكفي»، وهذا ادعاء قال عنه الصدر إنه «صحيح». بالرجوع إلى الخطبة نجد أنّ الصدر، وإن وصفها بـ «العادة السمجة والمشينة»، قال: «أنا قلت إن الأخذ بمقدار المعيشة الضرورية جائز وأما الزائد فهو ممنوع …. إنّ ما يأخذونه إنما هو من الناحية الفقهية من الأموال مجهولة المالك، وهو مما لا يحتمل جواز التصرف به إلا بإذن الحاكم الشرعي الذي هو الفقيه الذي يقلده «الفرد، وهذه إشارة مباشرة إلى أنّ الحكومة غير شرعية.
ألقى الصدر خطبة الجمعة يوم الخامس من شباط/ فبراير 1999، قبل أسبوعين من اغتياله مبتدئاً كلامه بتحذير أتباعه مما أخبره «قائل ثقة إنّ هناك من يفكر بوضع قنبلة في مسجد الكوفة» وداعياً الجميع إلى اليقظة والتبليغ . عن أي شيء يجدونه مؤكداً بالقول نحن لا نريد إراقة الدماء في المسجد الطاهر». كما أكد على مطالبته السابقة بالإفراج عن وكلائه المعتقلين و إعادة الصلاة التي منعت وتركت وخاصة في الناصرية»، كما ورد في تقرير فرع النجف للحزب. أما بقية الخطبة فتركزت على إعادة بناء أضرحة أئمة آل البيت عليهم السلام في البقيع بالمدينة المنورة التي هدمها المتطرفون الوهابيون حين استولوا على مكة المكرمة والمدينة المنورة في بدايات القرن العشرين.
من المهم أن نتوسع في مناقشة الخطبة المذكورة أعلاه ونقدم سياقاً تاريخياً عن التطورات الأمنية العراقية التي عرفت في حينها، إذ يبدو جلياً أن الحكومة بدأت تعد العدة لاغتيال الصدر، فأجرت القوات الأمنية تمارين عديدة في المدن الشيعية وأعيد ترتيب الهيكلية الحزبية في وسط وجنوب العراق فالحق فرع المثنى بمكتب تنظيم الجنوب الذي كان يرأسه علي حسن المجيد المعروف بـ«علي الكيمياوي»، وهو ابن عم الرئيس صدام حسين وأشدّ جلاوزته قسوة وإرهاباً، وقد كان فرع المثنى قبل ذلك من توابع مكتب تنظيم الفرات الأوسط. وقد عدّ هذا الإجراء محاولة لتقليل الضغط على مكتب تنظيم الفرات الأوسط وتمكينه من مواجهة المواجهات التي قد يسببها اغتيال الصدر.
كما يمكن أن نعزو فصل فرع محافظة المثنى وإلحاقه بمكتب يديره على حسن المجيد إلى طبيعة عشائر المثنى المستعدة دائماً للتمرد بشراسة، وخصوصاً عشائر الرميثة، فهي المدينة التي بدأت فيها الشرارة الأولى لثورة العشرين وثورات أخرى على مدى التاريخ الحديث وكان دورها عظيماً في انتفاضة 1991 ضدّ نظام البعث. لم يجد النظام
إذن من بين رجاله مثل علي حسن المجيد ليسند إليه هذه المهمة. لذلك لا بد من أن نتذكر أن انتقاد الصدر اللاذع لاعتقال وكلائه في الناصرية هو انتقاد مباشر لمسؤولها الحزبي الأعلى علي حسن المجيد، الذي حاول استعراض قوة الدولة واعتقل وكلاء الصدر وواجه المتظاهرين بالرصاص الحي متسبباً في سقوط عدد من القتلى والجرحى.
لقد اجتاز الصدر بانتقاده العلني للمجيد خطاً أحمر لم يجتزه أحد من قبل، فهذا الرجل من أخلص أفراد عائلة صدام للرئيس ومن أهمهم في فرض سيطرة نظامه، وهو في الوقت نفسه ممن لا يعرفون معنى المرونة والحكمة والتسامح.
التحذير الأخير والتهديد المباشر: أيام الشهيد الصدر الأخيرة
بعد اجتياز الصدر مرحلة اللاعودة في مواجهة النظام، كرر في الخطبة القادمة مطالبته بـ إطلاق سراح جميع المعتقلين من فضلاء الحوزة» الذين استمر النظام باعتقالهم في الأسابيع السابقة، قائلاً: «أنا قلت وأكرر إن اعتقال أي واحد من المؤمنين كأنما هو اعتقال لي” وفقاً لما ذكره تقرير الحزب، أصدر الصدر تهديداً من خلال إعطاء النظام مهلة أمدها أسبوع واحد مخاطباً عشرة آلاف من المصلين بقوله «إذا بقي اعتقالهم إلى الجمعة القادمة فعلى جميع خطباء الجمعة في جميع أنحاء العراق العمل على المطالبة بإطلاق سراحهم بالحكمة والموعظة الحسنة». ويبدو أن كلمة الصدر هذه قد كتبت مصيره، إذ اغتيل بعد إلقاء خطبته القادمة وانتهاء المهلة بساعات قليلة فالنظام البعثي لم يتعوّد من أحد في العراق أن يهدده علناً مهما كان ذلك التهديد مغلفاً بعبارات “الحكمة والموعظة الحسنة”.
من المثير للانتباه أنّ التقرير الأخير لأمانة سر القطر المرسل إلى مديرية الأمن العام بعد ثلاثة أيام من الاغتيال اختلف عن جميع سابقاته في عدم استخدام اسم الصدر قبل ذكر ملخص الخطبة، بل استعاض عنه بعبارة وقد تحدّث الخطيب وقال..». وكأنّ في إغفال اسم الصدر رسالة إلى مديرية الأمن بأن اغتيال الصدر قبل ثلاثة أيام لا يعني أ أن صلاة الجمعة لم تعد مثار اهتمام، فقد كان ممكناً أن: يتقدم أحد أتباعه لشغل مكانه والاستمرار بالمسيرة، فلا يكون مهماً من سيكون الخطيب. لكن هذا الأمر لم يحدث، فكان يوم التاسع عشر من شباط / فبراير 1999 آخر يوم في تلك المرحلة المهمة من تاريخ المقاومة الشيعية للنظام البعثي في العراق.
لقد كشفت هذه الوثائق، بما لا يقبل الشك أن العلاقة بـ بين آية الله العظمى السيد محمد محمد صادق الصدر والنظام البعثي لم تكن ودية كما تخيلها بعض الذين لم يطمئنوا إلى عمله داخل العراق وتنظيمه الجماهير الشيعية من خلال شعيرة دينية أساسية، هي صلاة الجمعة، وخصوصاً أولئك الشباب الذين لم ينشأوا في بيئة تشجع المراسم الدينية والشعائر التي تجذب أعداداً كبيرة من الناس.
كما كشفت تلك المرحلة أمراً في أقصى درجات الأهمية عن طبيعة الزعامات الدينية التي كانت تعارض النظام العراقي، وهو فقدانها للتنسيق والعمل المشترك وانغماسها في الحزبية والفئوية وسوء ظنّ كل منها بالآخرين. وربما كان هذا واحداً من عوامل فشلها في إحداث التغيير المنشود وإزاحة نظام البعث عن طريق توحيد العراقيين خلف قيادة بديلة يؤمن بها العراقيون ويضحون تحت رايتها.
فقد كان العراقيون في أتم حالات الاستعداد لذلك حين أطلقت شرارة انتفاضة العام 1991، لكنهم سرعان ما تعرضوا للخذلان من قبل القيادات التي رفعوا صورها وأسماءها، ورأوا أن هذه الرموز كانت أقل همةً مما يتمناه العراقيون وأقل شأناً . من أن تستحق تضحياتهم، فالقيادة التي لا تنزل مع الجماهير إلى ساحة المواجهة لا تصلح لأن تقود الجماهير في معركة مصيرية كالتي كان شيعة العراق يتطلعون إليها، ولا بد للمنصف أن يحسب للسيد محمد محمد صادق الصدر أنه نزل إلى ساحة المواجهة وكفنه على كتفيه حتى لقي ربه شهيداً، في حين انتظر الآخرون خارج الحدود حتى أزاحت الولايات المتحدة نظام البعث وسلمتهم حصصهم من غنائم لم يستحقوها بعمل يذكر في التحرير أو إنجاز بعد التحرير.
الهوامش
(1) نقلها عن صحيفة الحياة عادل رؤوف في كتاب محمد محمد صادق الصدر: مرجعية الميدان” .66-65
(2) لقاء مصور للسيد الصدر في العام 1997.
(3) المبلغ الرسالي، العدد 118، نقلها عادل رؤؤف في (محمد محمد مرجعية الميدان».
(4) Faleh A. Jabbar, The Shi’ite Movement in Iraq, London: Saqi Books, 2003, p. 183.
(5) Phebe Marr, The Modern History of Iraq, Boulder: Westview Press, 2012, p. 249.
(6) في حديث مع المؤرخة فيبي (مار) أوضحت أن قصدها كان أن النظام العراقي كان يفضل ارتقاء السيد محمد محمد صادق الصدر إلى المرجعية دون أن يكون ذلك بالضرورة من خلال التنسيق معه، وهذا التأويل لا يتعارض مع سلوك النظام في تلك الفترة وإن تعارض مع آراء الذين ادعوا أن تنسيقاً ما قد حدث.
(7) Patrick Cockburn, Muqtada al – Sadr and the Fall of Iraq, London: Faber and Faber, 2008, p. 116.
(8) يعتقد كوكبرن أن السيد الصدر قلب موقفه تجاه النظام في العام 1996. أنظر ص 120 من كتابه أعلاه.
(9) كوكبرن، المصدر السابق، ص 120
(10) نقله عادل رؤوف في كتاب محمد محمد صادق الصدر مرجعية الميدان ص 103
(11) نشر عادل رؤوف صور تلك الوثائق في كتابه أعلاه، ص 358 – 363
(12) المصدر السابق، ص 251
(13) كلمة السيد فضل الله مقتبسة بنصها الكامل في كتاب عادل رؤوف محمد محمد صادق الصدر مرجعية الميدان
(14) تضمنت مسودة التقرير المكتوبة بخط اليد هذه النقاط الخاصة بالنقد، لكن التقرير المطبوع الذي أرسل فعلاً إلى مديرية الأمن العامة لم يحوها.
تحميل الكتاب