الاجتهاد: امتازت المنظومة التشريعية للدين الإسلامي بالسعة والشمولية بحيث لم يترك فعلاً أو واقعة إلا وبین حكمها؛ وهذا ثابت بالعقل والنقل؛ ولذا أغنت الشريعة الإسلامية الواقع الحياتي للفرد المسلم على طول التاريخ بما يحتاجه ويسد متطلباته القانونية بما لم يحصل فراغاً تشريعياً يمكن أن يسده غيرها. / بقلم: الدکتور السيد زين العابدين المقدس الغريفي
وتمتاز هذه المنظومة بالعصمة؛ لصدورها من الخالق الحكيم عزّ وجلّ المحيط بكلّ شيء علماً والعارف بحقائق الأشياء وعللها ومزاحماتها، فلا يمكن أن يصدر منه ما يخالف العدل والحكمة، بما يضمن لكل فرد بمختلف الطبقات حقوقه ويحدد واجباته، ولذا وصفت بالثبات بحيث لا تختلف أحكامه وتشريعاته أو تتخلف من شخص لآخر و إن اختلف الزمان والمكان حتى ثبت في الحديث الشريف: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غیره ولا يجئ غره(1).
وإن متابعة هذه الأحكام والالتزام بمؤداها واجب عقلي بمقتضى حق الطاعة الثابت لله تعالى، إذ هو المالك الحقيقي لهذا الكون بما فيه ونحن عبيد مسیرون لا نملك من الأمر شيئاً، فلابد من السیر على وفق ارادته التشريعية الموافقة لتكوين البشر وطبيعتهم التي فطروا عليها.
وقد أرشدت النصوص الشريفة على لزوم الطاعة ومتابعة الأوامر الإلهية، كقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿۴۴﴾المائدة/ ، وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالُِونَ المائدة/ 45 وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقونَ. المائدة/ 47، بل إن مجرد كراهة واستقباح أو حزازة في النفس لأحكام الدين كلاً أو بعضاً يوجب احباط العمل والغاء أجره لقوله تعالى: ووَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ]المائدة/ 8- 9.
ولذا كانت التشريعات الحاكمة في العراق والبلدان الإسلامية موافقة للشريعة الإسلامية في غالبها لاسيما فيما يرتبط بالأحوال الشخصية حتى تأسيس الدولة العراقية الحديثة في القرن العشرين وكتابة دستوره وقوانينه بإشراف من الاحتلال البريطاني فجاءت قوانین مشوهة لا تمت إلى الواقع العراقي بصلة سواء دينه أم أعرافه، ثم توالت الأنظمة المتعاقبة على النسق نفسه في سنّ كثیر من التشريعات والقوانین بما يخالف الشريعة الإسلامية بما أنتج قانون هجین يرفضه أغلب أبناء الشعب العراقي مما سبب قطيعة واقعية بین الدولة والشعب ونتج عنها أزمات حقيقية بالنسبة للمشرعين والقضاة والمحامين والمترافعین.
ومن هذا المنطلق فقد تصدت الحوزة العلمية في النجف الأشرف بمراجعها وفقهائها وأساتيذها لرفض هذا القانون والتنديد به وضرورة استبداله وتغيیره ولعل أبرزها موقف السيد محسن الحكيم “ره” من تشريع هذا القانون في العهد الملكي وما تلاه في العهد الجمهوري إذ أبرق لقادة الانقلاب رفضه لكل تشريع مناف للشريعة الإسلامية، وسانده في ذلك كبار الفقهاء والعلماء والقادة آنذاك.
وهكذا استمرت المطالبات بتغييره واستبداله حتى سقوط النظام البعثي البائد، إذ ارتفعت مجدداً مطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية كما نص على ذلك الدستور العراقي في النقطة الأولى من المادة ثانياً: (الاسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصادر أساس للتشريع) ونص أيضاً: (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام).
وهذه الدعوة تنبثق من أسس شرعية وعقلية وعقلائية منها:
1 . إنّ من حق الانسان اختيار القانون الأنسب له لاسيما في معاملاته وأحواله الشخصية، وهذا محل اتفاق لدى جميع العقلاء، بل هو مقتضى الأنظمة الديمقراطية في اعطاء الشعب حق اختيار نظام الحكم والقوانین التي تحكمه.
2. مقتضى القاعدة الشرعية والعقلائية:
(الزموهم بما الزموا به أنفسهم)، إذ إن الأصل أن يتحاكم كل دين أو مذهب أو طائفة وفق ما تتبناه وتعتقد به.
ولذا فليس من المعقول أن يكتب قانون مخالف لأكثر من ( 95 %) من أبناء الشعب العراقي، وهذه من المفارقات العجيبة التي يدان بها التيارات العلمانية والليبرالية ؛ لحصول الاضطراب الواضح عندهم في المنهج والتطبيق في الوقت الذي يطالبون بحق الشعوب في تقرير مصيرهم نجدهم يستبدون في فرض آراء بسن قوانین مخالفة لتوجهات الشعب العراقي.
وتزول الغرابة فيما لو رجعنا إلى المنهجية التي تحكم عقلية المشرع القانوني، إذ نجده يقدم بنحو واضح التشريعات الوضعية من القوانین الفرنسية والإنجليزية وغيرها على الشريعة، ويعتبر الشريعة مصدراً ثانوياً في التشريع يلجأ إليها في حال وافقت رؤاه ومتبنياته شأنها في ذلك شأن الاعراف الخاصة بكل بلد، ويتضح ذلك حينما نراجع المادة الأولى من الأحكام العامة في قانون الاحوال الشخصية العراقي إذ جاء فيها: (إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه فيحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملائمة لنصوص هذا القانون) ويتضمن هذا النص مغالطة كبیرة إذ يجعل المرجعية الأساس للقانون بجعله حاكماً على مبادئ الشريعة التي هي القواعد العامة والأسس التي بنيت عليها القوانین؛ مما يلزم الدور إذ كيف يمكن أن نُحَّكم القانون الذي هو نتيجة لما ورد في الشريعة على أحكام الشريعة التي هي المصدر الأساس له إلا إذا قلنا بعدم وجود علاقة بينهما وإن هذا القانون بعيد عن واقع التشريع الإلهي كما هو واقع.
ولأجل ذلك سوف أضع بین أيديكم بعض مخالفات هذا القانون لأحكام الشريعة الإسلامية الثابتة بالمطابقة أو التضمن أو الإلتزام، والتي قد تسبب ظلماً للزوج أو الزوجة أو غيرهما:
1. عدم جواز تعدد الزوجات إلا بإذن القاضي وبشرطي الكفاية المالية ووجود المصلحة، في حین تبيح الشريعة التعدد للزوج بشرط العدل بین الزوجات.
2. معاقبة كل من يتزوج بالثانية دون إذن القاضي بالحبس أو الغرامة المالية واعتبارها جنحة في حق الزوج، وهذا ظلم واضح.
3. اشتراط اكمال سن الثامنة عشر في تحقق أهلية الزوجين، في حين إن الأهلية تتحقق بأقل من ذلك، ولذا تنعقد الكثیر من الزيجات بأقل من هذا السن في العراق والعالم وهو مشروع في الإسلام.
4. معاقبة كل من يعقد خارج المحكمة بالحبس أو بغرامة مالية، في حين لا يعاقب القانون العراقي على جريمة الزنا إذا وقعت بالراضي بین الطرفین.
5. اشراط أن يكون بيت الزوجية قريب من محل عمل الزوجة، وهذا مخالف للتشريع الإسلامي الذي يجعل الزوجة تابعة لزوجها في محل إقامته إلا إذا اشرطت ذلك ضمن العقد.
6. يلزم على الزوج توفر أثاث الزوجية بنحو يكون ملكاً له، في حین تلزم الشريعة توفره بأي نحو سواء بالملك أم الاعارة أم غیر ذلك، وليس للزوجة إلا حق الانتفاع فقط دون التمليك.
7. النشوز لا يتحقق إلا بحكم القاضي في حین يثبت النشوز من حین تحقق أسبابه شرعاً.
8. يثبت للزوجة الحق بطلب الطلاق بعد مرور سنتين من اكتساب حكم النشوز درجة البتات، مما يمكن أن يجعلها معلقة لسنين طويلة، وهذا ضرر على المرأة، في حین يحق لها شرعاً أن ترفع أمرها للحاكم الشرعي بمجرد عدم الانفاق عليها أو بعد مرور أربعة أشهر من الهجران على اختلاف الحالات.
9. تلزم المحكمة الزوجة الناشز برد مهرها كاملاً في حال عدم الدخول أو اسقاط المهر المؤجل حال الدخول، وهذا غیر صحيح، فالمرأة تستحق مهرها بالعقد، وتلزم برد نصفه عند عدم الدخول فقط إلا إذا بذلته في الطالق الخلعي، وغاية الأمر إن النشوز يسقط النفقة لا المهر.
10 . يمنع الزوج من الجمع بین زوجتين في دار واحد إلا بتحقق رضا الزوجة الأولى، في حین لا يمنع ذلك في الشريعة.
11 . إذا طلق الزوج زوجته من دون سبب مقبول حكم لها القاضي بتعويض بمقدار حالته المادية ودرجة تعسفه، وهذا لم يثبت في الشريعة الإسلامية.
12 . أسباب التفريق القضائي في غالبها غیر مشروعة من قبيل الزواج بزوجة ثانية أو العقد قبل اكمال الثامنة عشر أو غيرها.
13 . إذا فرقت زوجة المفقود عن زوجها بحكم القاضي وتزوجت بثاني ودخل بها ثم عاد زوجها الأول، تبقى على ذمة الثاني ولا تعود للأول، في حین تحكم الشريعة ببطلان الزواج الثاني ورجوعها للأول.
14 . تجب النفقة على الزوج في حال العدة ولو كانت الزوجة ناشزاً، في حین لا تستحق الناشز النفقة شرعاً.
15 . اجبار الأم على ارضاع ولدها في حين لا ترى الشريعة وجوب ذلك بل لأم الأحقية في ارضاعه.
16 . يثبت القانون أحقية المرأة بحضانة الولد إلى حین إتمامه الخامسة عشر ليتم بعدها تخيیره بین بقاءه معها أو إلحاقه بالأب سواء كانت العلقة الزوجية قائمة أم لا، كما لا تسقط الحضانة بزواجها بل للزوج أن يرفع أمره إلى القاضي ويأتي ببينة على تضرر الولد من زواجها فيحكم القاضي حينها بما يوافق مصلحة الولد، وتجب على الزوج نفقة الحضانة طيلة تحققها، وجميع ذلك مخالف لأحكام الشريعة التي تثبت الحضانة للزوجین بالتشريك حال قيام العلقة الزوجية وفي حال الانفصال تكون الأحقية للزوجة لمدة سنتين بالنسبة للذكر وقيل: سبع، وسبع سنين بالنسبة للأنثى وقيل: سنتين، وتسقط حضانتها بزواجها خلال هذه الفترة.
17 . نفقة الأبن عى أبيه وإن كان بالغاً قادراً عى الكسب إذا كان طالب علم، في حين لا تجبر الشريعة الأب عى ذلك بعد البلوغ بل يجب على الولد أن يعمل لأجل كسب رزقه.
18 . توريث أولاد الأولاد مع موت الولد في حياة أبيه على أن لا يتجاوز إرثهم الثلث باعتباره وصية واجبة، وهذا مخالف لكثیر من المذاهب الإسلامية ولاسيما المذهب الجعفري.
وهذه بعض الموارد التي ذكرتها على عجالة وإلا فإن هناك ما هو محل خلاف بین المذاهب الإسلامية أو ما هو محل نقاش بین فقهاء المذهب الواحد، ومن خلال هذه النقاط وغيرها يتبین مخالفة هذا القانون للدستور العراقي الذي ينص على عدم جواز تشريع وسن قوانین تتعارض مع أحكام الإسلام.
ولذا فمن أبسط الحقوق التي ينبغي أن يحصل عليها المواطن هو اجراء القانون المناسب لدينه ومذهبه وهويته في أحواله الشخصية والعينية، وهذا الأمر جارٍ في كثیر من البلدان العربية والاسلامية بما يضمن العدالة للأغلبية والأقليات على حد سواء.
1- الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي: 1/ 58 باب البدع والرأي والمقاييس ح 19
المصدر: مجلة الولاية / 82