الاجتهاد: استقبل المسلمون أنباء انتصار الثورة الإسلامية في إيران بالفرحة الغامرة والابتهاج، واعتبروها قوة روحية تقف إلى جانبهم في مواجهة عدوهم الصهيوني – الأميركي،
رأى المسلمون ثورة شعبية دينية تقوم على الإسلام، ثورة يقودها جماهير عزلاء تواجه جيشاً في عنفوان قوته وتنتصر عليه، وترتفع شعارات تحرير الإنسان والتصدّي للقوى الكبرى الاستعمارية (1).
ورأى المسلمون كذلك كيف قامت هذه القوى الاستعمارية بفرض حصار على الثورة وإدخالها في حرب بعد انتصارها بعام واحد، لمنع انتشار أفكارها وإشغالها بالحرب عن المهمة الأولي التي قامت من أجلها، وهي تحرير شعب إيران من الطغيان، وتحرير الأماكن المقدسة في فلسطين من الاحتلال الصهيوني(2).
“إن الشهيد هو محور التاريخ(3)”، هذه إحدى عبارات الإمام الخميني(قدس سره)، وهي مقوله صدق فالشهيد هو البطل الحقيقي، هو الذي صان الإسلام من الانحراف العقائدي في ثورة الحسين الشهيد “عليه السلام”، وهو الذي تمكن من الانتصار على الشاه وجيشه.
ومن وحي كربلاء قال الإمام الخميني (قدس سره) لقد علَّم سيّد الشهداء الجميع سبل مواجهة الظلم والجبروت والحكومات المستبدة، ورغم أنه كان يعلم أن الطريق الذي يسير فيه يتطلب التضحية بأصحابه وأهل بيته من أجل الإسلام إن أصر على المضي فيه؛ لأنه كان يدرك عاقبة الأمور، وفي اليوم الذي يدرك فيه المسلمون إمكانية تعرّض الإسلام للخطر فإن عليهم حينذاك أن يقوموا بنفس عمل الإمام الحسين، في اليوم الذي نرى أن الإسلام يتعرض للخطر فإن علينا التضحية ” وفي نفس الوحي قال القائد السيد علي الخامنئي: من وحي عاشوراء أطمئن المسلمين أن مستقبلاً مشرقاً ينتظرنا ما دمنا نتمسك بخط الحسين ونحي ذكره سنوياً، ومادمنا نعرف لماذا ثار الحسين ولأي هدف استشهد، وطبقاً لوصاياه يجب الإتحاد والتآزر ونبذ الفرقة والتشتيت”(4).
من هذا المنطق الكربلائي صاغ السيد حسن نصر الله وعي المقاومة اللبنانية فقال: وعندما نتطلع إلى كربلاء يمكن أن نستلهم منها كل أدوات المعركة للوقوف في وجه المستكبرين والظالمين والجاهلين، يمكننا أن نستلهم حب الله والعشق، الصبر والأخلاق، الإيثار والتضحية، وهكذا ينتصر الإسلام، ويحفظ الدين، وتستمر الرسالة، ولذلك كانت كربلاء ضمانة لمستقبل الإسلام(5).
ولذلك؛ وفي لبنان نظر الشيعة في الجنوب اللبناني إلى الثورة الإيرانية باعتبارها نواة دولة الإسلام المركزية في العالم والملتزمة بأوامر الولي الفقيه الجامع للشرائط خاصة، وأن فكرة الولي الفقيه لها وجود تاريخي في الجنوب اللبناني، نادى بها الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني الذي جعل من جزين مدرسة علمية دينية لنشر أفكاره، ولتعميم التعليم الديني في جبل عامل، وكانت فلسفتة تقوم على رؤيا واجتهاد فقهي لنظام الحكم ركيزته الفقهاء أو ما سماه (نائب الأمام)، بما لها من مدلول سياسي وفقهي، لكنَّ سلطة الحكم المملوكي تآمرت عليه فقتلته بعد محاكمة صورية قبل أن يقرر اللجوء إلى إيران؛ سقط الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي الجبعي، كانت سنوات الاضطهاد تدفع العلماء والطلاب الى الهجرة لإيران والعراق فنشأ ترابط بين المراكز الدينية والعلمية الثلاث في قم والنجف وجبل عامل(6).
ولذاك كان المسلمون في لبنان أكثر الناس فرحاً بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، ورأوا فيها رصيدهم الداعم لمواجهة الصهيونية، فنطرية ولاية الفقيه نظر إليها المسلمون الشيعة باعتبارها إضافة إلى رصيدهم الذي قدمه الشهيدان لنفس الفكرة منذ قرون، الذي ظلت تنتقل من جيل إلى جيل ويزيد منها العلماء حتى الإمام الخميني ليكون الولي الفقيه الجامع للشرائط، والواجب الطاعة من عامة المسلمين(7)، وقبل عام ۱۹۸۲ كانت العلاقة بين الاتجاه الإسلامي في لبنان والإمام الخميني علاقة معنوية أدت إلى جو ايجابي ظل ينمو مع مرور الوقت.
وبسبب الحرب مع صدام حسين لم تتمكن إيران من دعم المقاومة الإسلامية في لبنان ؛ ولكن وفي شهر يونيو/ حزيران العام ۱۹۸۲ استهدفت إيران مؤتمراً للحركات الإسلامية بمناسبة يوم المستضعفين في العالم، والذي كان يصادف الخامس عشر من شهر شعبان ذكرى ميلاد الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري صاحب الزمان وأثناء انعقاد المؤتمر وصلت الأنباء باجتياح إسرائيل للجنوب اللبناني، ووصول القوات الإسرائيلية إلي بيروت، وخيم هذا العدوان على فعاليات المؤتمر، وألقي رئيس مجلس الوزراء الإيراني آنذاك الشيخ هاشمي رفسنجاني كلمة أعلن فيها للحاضرين إرسال وفد عسكري سياسي إلى سورية للبحث مع المسئولين السوريين للموافقة على سماح سورية لوحدات من الحرس الثوري لعبور الأراضي السورية إلى لبنان للمساعدة في التصدّي للاحتلال الصهيوني.
وقابل الإمام الخميني (قدس سره) الموفد الجنوبي – لبنان بقيادة الشهيد عباس الموسوي الذي وصل إلى طهران في يوليو وقال: إن المهم هو العمل؟، ومرحلتكم مرحلة كربلائية، ولا تنتظروا قطف الثمار في حياتكم….وقال: يجب أن نقاوم وبرجولة جميع السفاكين (8).
وكانت بداية تأسيس حزب الله بقيادة السيد عباس الموسوي الذي أصبح فيما بعد الأمين العام لحزب الله حتى تم استشهاده على يد الصهيونية في ١٦ فبراير / شباط ۱۹۹۲ ؛ لم تكن النشأة الأولى للحزب يسيرة، نظراً لما كانت تمر به لبنان من ظرف استثنائي معقد، ولكنه استطاع أن يتخطى العقبات، وأن يقلص الفارق بين البعدين الوطني والديني، وأن ينأى بنفسه عن الخلافات الداخلية، وأن يتفرغ لمواجهة الصهيونية في الجنوب، وقال السيد حسن نصر الله(9): إن السلطة تريد أن تحوّل جنودنا في مؤسسة الجيش إلى خدمة للأمريكيين، ونحن أتينا بلا رصاص ولا سلاح، لأننا لا نريد أن نقتل أخواننا، ثم اتبع الحزب أساليب المواجهات الشعبية والعمليات الاستشهادية، وكان لاستشهاد الشيخ راغب حرب (شيخ شهداء الجنوب) نورٌ أضاء الطريق، ورمز للمقاومة، وأصبح ذکری استشهاده يوماً يحييه الحزب كل عام لإستلهام المعاني الروحية.
الخطاب السياسي لحزب الله
يتمثل الخطاب السياسي لحزب الله في الرسالة المفتوحة إلى المستضعفين في ٢/١٦/ ١٩٨٥ والتي تمثل النهج الرسالي للمقاومة وأسسها القرآنية، وقد جاء فيها: نحييكم ونخاطب من خلالكم العالم بأسره شخصيات ومؤسسات، أحزاباً ومنظمات وهيئات سياسية وإنسانية وإعلامية، ولانستثنی أحداً، لأننا حريصون على أن يسمع صوتنا الجميع، فيفهموا ويستوعبوا طروحاتنا ويتدارسوا مشروعنا، إننا أبناء أمة حزب الله، نعتبر أنفسنا جزءاً من أمة الإسلام في العالم التي تواجه أعتى هجمة استكبارية، من الغرب والشرق على السواء، بهدف تفريغها من مضمونها الرسالي الذي أنعم الله به عليها، لتكون خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله ثم تنتقل الرسالة إلى المطالبة للتصدى لقوى الاستكبار التي تهدف إلى استلاب خيراتها وثوراتها، واستثمار طاقتها وكفاءات أبنائها، والسيطرة على شئونها كافة،
ثم تقول الرسالة: نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكمية وعادلة، تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرايط، وتتجسّد حاضراً بالإمام المسدد، آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظله، مفجر ثورة المسلمين، وباعث نهضتهم المجيدة.
وعلى هذا الأساس، فنحن في لبنان لسنا حزباً تنظيمياً مغلقاً، ولسنا إطاراً سياسياً ضيقاً… بل نحن أمة ترتبط مع المسلمين، في أنحاء العالم كافة، برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام.
ومن هنا، فإن ما يصيب المسلمين في أفغانستان أو العراق أو الفلبين أو غيرها، إنما يصيب جسم أمتنا الإسلامية التي نحن جزء لا يتجزأ منها، ونتحرك لمواجهته انطلاقاً من واجب شرعي أساساً، وفى ضوء تصور سياسي عام تقرره ولاية الفقيه القائد.
أما ثقافتنا فمنابعها الأساسية القرآن الكريم، والسنة المعصومة، والأحكام والفتاوى الصادرة عن الفقيه مرجع التقليد عندنا ! وأما قدرتنا العسكرية فلا يتخيّلنَّ أحد حجمها، إذ ليس لدينا جهاز عسكري منفصل عن بقية أطراف جسمنا، بل أن كل واحد منا يتولى مهمته في المعركة.
إنَّ دول العالم المستكبر الظالم، في الغرب والشرق، قد اجتمعت على محاربتنا، وراح حُكامها يحرضون عملاءهم ضدنا، يحاولون تشويه سمعتنا وافتراء الأكاذيب علينا.. في محاولة خبيثة للفصل بيننا وبين المستضعفين الطيبين، في سعى حثيث لتقزيم ومسخ الإنجازات المهمة والكبرى، على مستوى مواجهتنا لأمريكا وحلفائها …
لقد حاولت أمريكا، عبر عملائها المحليين، أن توحي للناس بأن من قضى على غطرستها في لبنان، وأخرجها ذليلة خائبة، وسحق مؤامرتها على المستضعفين في هذه البلاد هم ليسوا إلا حفنة من المتعصبين الإرهابيين الذين لا شأن لهم إلا تفجير محلات الخمور والقمار وآلات اللهو وغير ذلك، ولكن كنا على يقين بأن مثل هذه الإيحاءات لن تخدع أمتنا، لأن العالم بأسره يعلم أن من يفكر بمواجهة أمريكا والاستكبار العالمي، لا يلجأ إلى مثل هذه الأعمال الهامشية، التي تشغله بالذيل عن الرأس.
إننا متوجهون لمحاربة المنكر من جذوره… وأول جذور المنكر أمريكا… ولن تنفع كل المحاولات لجرنا إلى ممارسات هامشية، إذا ما قيست بالمواجهة مع أمريكا.. فالإمام الخميني القائد أكد ولمرات عديدة، أنَّ أمريكا هي سبب كل مصائبنا، وهى أم الخبائث.. ونحن إذ نحاربها، فلا نمارس إلا حقنا المشروع في الدفاع عن إسلامنا وعزة أمتنا.
إننا نعلن – بصراحة ووضوح – أننا أمة لا تخاف إلا الله، ولا ترتضى الظلم والعدوان والمهانة، وأنَّ أمريكا وحلفاءها، من دول حلف شمال الأطلسي، والكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين الإسلامية المقدسة، كل هؤلاء قد مارسوا ويمارسون العدوان علينا ويعملون على إذلالنا باستمرار.. ولذا فإننا في حالة تأهب مستمر ومتصاعد من أجل ردّ العدوان والدفاع عن الدين والوجود والكرامة.
لقد هاجموا بلادنا، ودمروا قرانا، وذبحوا أطفالنا، وهتكوا حرماتنا، وسلطوا على رقابنا جلادين مجرمين، ارتكبوا مجازر رهيبة بحق أمتنا، ولا يزالون يدعمون الجزارين حلفاء إسرائيل، ويمنعوننا من تقرير مصيرنا بمحض اختيارنا، وكنا نستصرخ ضمير العالم آنذاك فلم نسمع له حسّاً ولم نجد له أثراً، هذا الضمير الذي افتقدناه أيام المحنة، هو نفسه كان مستنفراً ويقظاً، يوم حوصر الكتائبيون المجرمون، في مدينة زحلة البقاعية، ويوم حوصر المتحالفون مع إسرائيل، في دير القمر الشوفية.. فهالنا الأمر، وأيقنا أنَّ هذا الضمير العالمي، لا يهتز إلا بناء لطلب الأقوياء.. واستجابة لمصالح الاستكبار.
لقد ذبح الإسرائيليون والكتائبيون عدة آلاف، من آبائنا وأطفالنا ونسائنا وإخواننا، في صبرا وشاتيلا خلال ليلة واحدة، فلم يصدر عن أية منظمة أو هيئة دولية أي استنكار أو شجب عملي لهذه المجزرة البشعة، التي ارتكبت بتنسيق مع القوات الأطلسية التي غادرت قبل أيام بل ساعات المخيمات التي قبل المنهزمون أن يضعوها تحت حماية الذئب، استجابة لمناورة الثعلب الأمريكي فيليب حبيب (المبعوث من أصل لبناني).
توجت الجهود بانتصار المقاومة بعد هزيمة القوات الصهيونية من لبنان واستسلام الجيش الجنوبي العميل يوم ٢٥ مايو / آيار ۲۰۰۰.
أسباب النصر
المتأمل للخطاب السياسي لحزب الله يجده يقوم على دعامتين مستلهمتين من دعامة الثورة الإسلامية الإيرانية وهما: الأولى الحرص على وحدة لبنان ووحدة المسلمين، والثانية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الصهيوني ككل، وهى الدعامتان المستمدتان عن ثقافة المقاومة القرآنية، وما اعتمده الأئمة في صياغة هذا المشروع المقاوم، لذلك وجدنا الخطاب السياسي الموجه للمسلمين عموماً يتسم بالإسلامية الصافية البعيدة عن المذهبية، خطاب يتخطى عوامل العجز، ويبشر المسلمين بنصر الله.
ويكن إيجاز عوامل النصر في الأسباب التالية(10):
١ ـ ما أعتبره حزب الله بأن هناك حالات تحكم العلاقة الإسلامية – الإسلامية وهي :
أ ـ بقاء الحواجز النفسية والمذهبية، وهذا باب تنفذ منه الخلافات والصراعات وبشكل ثغرة للذين يريدون المحافظة على الضعف الإنساني.
ب – الصراع والتنازع وهذا ما تعمل له القوى المستكبرة، من خلال سعيها للهيمنة على العالم الإسلامي وسلب ،ثروته، وهذه العلاقة لن تؤدّي إلا إلى إضعاف المسلمين وبعثرة قواتهم.
ج- ضرورة الوحدة الإسلامية من خلال معركتهم الواحدة على أساس وحدة العبادة والارتباط بالخط الإسلامي ومواجهة أعدائهم المستكبرين، الحالة الأقرب التي حاول الحزب تطبيقها، والالتزام بها كقاعدة وحدوية، وقد دفع الحزب ثمناً باهظاً مرحلياً عندما انشغل هو وغيره بالتنازع الداخلي، لكن سرعان ما عاد ليتبنى القواسم المشتركة التي تفرض وهذه هي تعزيز قوى المسلمين واللبنانيين الوطنيين في مواجهة التحديات، وكان خطابه السياسي – وما يزال – يشتمل على كل معاني الوحدة، ويدعو لها ويترجمها ميدانياً، وبعد إصدار وثيقة الحزب الرسالة المفتوحة) دخل تطوّره مرحلة جديدة، هي مرحلة الصمود والمقاومة(11) والتي انتهت بالنصر على اليهود، وإجبارهم على الانسحاب غير المشروط في الجنوب.
٢ – الحالة الإيمانية التي عاشها الجنوب اللبناني ككل، ومن الجنوب كانت كوادر الحزب، تلبى نداء الجهاد ونداء العمل والسعي في الحياة، وبروز الاستشهاد الكربلائي الذي تسابق عليه قادة الحزب وكوادره، فاستشهد الأمين العام عباس الموسوي وراغب حرب شيخ شهداء الجنوب، ونجل الأمين العام حسن نصر، كانوا قادة في الفكر والعمل وتمثلوا مقوله الإمام جعفر الصادق (كونوا دعاة للناس بدون ألسنتكم(12)”، لقد التزم الحزب التعاليم الإلهية الإسلامية المتجاوزة لكل الشكليات القبلية أو المناطقية، وركّز على الصهيونية (الشر المطلق) وأمريكا (أوَّل جذور المنكر) وعملائهم (جيش الجنوب العميل).
3- اعتماد الحزب لثقافة مصدرها القرآن الكريم والسنة المعصومة والأحكام والفتاوى الصادرة عن الفقيه مرجع التقليد (تراجع الرسالة المفتوحة)، وهى ثقافة مقاومة مستلهمة من الفكر الرسالي كما جاء بالقرآن العظيم.
المصدر: كتاب الثورة الإسلامية الإيرانية من الثورة إلى الدولة.. قراءة في المشروع الإسلامي المقاوم. تأليف الدكتور علي أبو الخير