الاجتهاد: تتزايد الحاجة في الجوامع الإسلامية المعاصرة إلى فقهين لم تكن إليها حاجة من قبل بهذه الصورة الواسعة المتزايدة، وهما (فقه المقاومة) و (فقه الدولة).
فقه المقاومة، للإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تتردد في الأوساط الإسلامية من شرعية المقاومة المسلحة ووجوبها العيني أو الكفائي، وأقسام المقاومة، واختلافها في الشرعية والوجوب، أو اتحادها في الحكم الشرعي، والدليل الشرعي على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ومسائل كثيرة أخرى من هذا النوع.
والفقه الآخر فقه الدولة وهو فقه واسع يتناول مسائل الحكم، والقضاء وولاية الفقيه، والعقوبات والجزاء، ومسائل العُمْلة، والمصارف والأمن، والدفاع، والعلاقات الخارجية، وشكل الحكم، والفقه الدستوري، والشورى، والعلاقة بين الشورى والولاية، والانتخابات، ومسائل أخرى كثيرة من هذا القبيل.
وتتزايد الحاجة إلى هذين الفقهين لأن عصرنا يشهد من جانب قيام حكومات إسلامية، أو الإعداد لها، كما يشهد حركات وانتفاضات وثورات في مواجهة الاحتلال والاستبداد السياسي للحكومات الفاسدة في المنطقة الإسلامية. وكثير من البلاد الإسلامية تشهد اليوم حالة المقاومة وتصاعدها، كما في فلسطين وجنوب لبنان والجزائر وتونس وأفغانستان، وإيران في عهد نظام بهلوي، والعراق في عهد النظام البعثي، واليوم في مواجهة الاحتلال الأمريكي، والمناطق الإسلامية في شرق آسيا، والبلدان الإسلامية في آسيا الوسطى الواقعة تحت الاحتلال الروسي، ومناطق التبت الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال الصيني، وليبيا وغيرها من أقاليم العالم الإسلامي التي تتعرض للاحتلال الأجنبي أو لسلطان الطاغوت والحكومات الظالمة الفاسدة.
وسوف تطول معاناة المسلمين وعذابهم من ناحية الاحتلال العسكري ومن ناحية الاستبداد السياسي للحكومات الظالمة.
وسوف يخوض العالم الإسلامي صراعاً مريراً قاسياً طويلًا في مواجهة الاحتلال والأطماع الأمريكية للعالم الإسلامي. فإن الاستراتيجية الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هي مد نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري، بل والثقافي إلى المنطقة الإسلامية. والآلية المفضلة لدى الأمريكان في بسط نفوذهم في المنطقة الإسلامية هي نشر عملائهم في مواقع الحكم والقرار في العالم الإسلامي، من الذين يمثلون إرادتهم في الحكم والإدارة، ويغطّون الحضور الأمريكي بغشاء وطني رقيق، لا يخفي ما تحته. وهؤلاء هم الحكام الذين تسميهم أمريكا بالحكام المعتدلين في الأنظمة المعتدلة.
وبطبيعة الحال هؤلاء الحكام لا يمثّلون إرادة شعوبهم، وسبيلهم الوحيد للمحافظة على مواقعهم هو الإرهاب والاضطهاد. وهذان تحديان صعبان تواجههما الأُمة الإسلامية في أكثر مناطق العالم الإسلامي اليوم، وهما الاحتلال من جانب، والاستبداد والاضطهاد السياسي من جانب آخر.
وكان مخاض هذه المواجهة المزدوجة للاحتلال والاستبداد السياسي تنامي حركة المقاومة الإسلامية على جبهتين: جبهة مقاومة الاحتلال الكافر الأجنبي، وجبهة مقاومة الاستبداد السياسي والاضطهاد الأمني.
ومع تنامي حالة الاحتلال والاستبداد السياسي تتنامى حالة المواجهة والمقاومة.. ومع ولادة وتنامي الاستراتيجية الأمريكية الأخيرة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت استراتيجية أُخرى تتكامل وتتقنن وتجتمع وتنتظم خيوطها في العالم الإسلامي في المقاومة على جبهتين: الجبهة الخارجية والجبهة الداخلية. وقد اتسعت هذه الحركة اتساعاً هائلًا.
وبطبيعة الحال هذه الحركة الإسلامية الواسعة المنتشرة في العالم الإسلامي تحتاج إلى تنظير وتقنين فقهي تجري عليه هذه الحركة العالمية الكبيرة. كما شهد عصرنا ولادة الدولة الإسلامية، وكان أوسعها وأوضحها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تكونت منذ الأيام الأولى لولادتها على الخط الفقهي، وقادها فقيه ثائر مقاوم من ذرية رسول الله (ص)، وهي تجري إلى اليوم على الخط الفقهي ولم تعدل عنه، ويتولّى المواقع الحساسة فيها فقهاء ملتزمون بالأحكام والحدود الشرعية.
وهذه الدولة الفتية تتطلب تنظيرات وتقنينات فقهية ربما للمرة الأولى في عصرنا الحاضر.
أقسام المقاومة
قلت: إنّ عصرنا يشهد تنامي حركتين للمقاومة: المقاومة الداخلية والمقاومة الخارجية.
المقاومة الداخلية في مواجهة الأنظمة الفاسدة والظالمة التي تمارس تسلطها على أقاليم العالم الإسلامي بالعنف والإرهاب والاضطهاد.
والمقاومة الخارجية في مواجهة الاحتلال. وقد شهدنا في القرن الميلادي المنصرم وبدايات القرن الجديد ألواناً ونماذج شتى من الاحتلال، كالاحتلال الانجليزي، والإيطالي، والصهيوني، والبرتغالي، والسوفيتي، والروسي، والأمريكي وغيرها. ولكل من هاتين المقاومتين مبانيها الفقهية الخاصة بها.
أما المباني الفقهية للمقاومة الداخلية من الكتاب والسنة فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلى مراتبهما التغيير باليد، وهو معنى المقاومة، وأدنى مراتبهما كراهية الظالم والسخط عليه، وعدم الرضا به، وعدم الركون إليه وهو معنى المعارضة السياسية. وأوسط مراتبهما المقاطعة السياسية والإدارية والاقتصادية للنظام الفاسد الظالم، والتشهير بالظالم وتسقيطه، وتشتيت الناس من حوله، وعزله اجتماعياً وسياسياً، وهي مرحلة بين المقاومة والمعارضة السياسية، وقد تحدثنا عنها في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
وأما المباني الفقهية لمقاومة الاحتلال الكافر من الكتاب والسنة، فهي آية القتال[1] من سورة النساء/ 75 وآيات أخرى من كتاب الله، والأحاديث الكثيرة عن رسول الله (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) من طرق الفريقين في وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام عندما يتعرض بلاد المسلمين للعدوان الأجنبي، وهي روايات كثيرة في وجوب الدفاع، وإغاثة المسلمين ونصرتهم ومقاومة قوات الكفر من موقع الدفاع عن بلاد المسلمين.
ومن مباني هذه المسألة إجماع المسلمين، بلا استثناء في وجوب الدفاع، وإذا كان لبعض الطوائف الإسلامية شبهة أو تشكيك في وجوب أو جواز مقاومة الحاكم المسلم الظالم، فليس هناك في المذاهب الإسلامية مذهب فقهي يُقرّ وجود الاحتلال الكافر في بلاد المسلمين وتحرّم الدفاع بالتأكيد.
ومن المباني الفقهية لهذه المسألة حكم العقل القطعي بوجوب الدفاع، وتقبيح العقل للاستسلام للظالم مع القدرة على دفعه.
وفي هذه الدراسة سوف نتوفر إن شاء الله على دراسة المباني الفقهية للمقاومة في مواجهة ومقارعة الاحتلال الكافر وقواته في بلاد المسلمين.
أما المباني الفقهية لمواجهة الاستبداد السياسي والأنظمة الظالمة الفاسدة في العالم الإسلامي، فقد تقدمت في الفصل الثاني من هذه الرسالة تحت عنوان (مقاومة الحكام الظلمة).
وقبل أن نختم هذه المقدمة، وندخل صلب البحث عن المباني الفقهية للمقاومة لابد أن نشير إلى أننا لا نقصد بالمقاومة الحركات الإرهابية التي تجري هنا وهناك في العراق وفي باكستان وأفغانستان وغيرها، التي تستبيح قتل الأبرياء، وتفجير المساجد على المصلين، والمستشفيات على المرضى، والأسواق والشوارع على المارة وأصحاب المحلات والباعة الأبرياء وتفجير المدارس على أطفال المسلمين الأبرياء …
فإنّ هذه الحركات ليست من المقاومة في شيء، وهي تضرّ أضعاف أضعاف ما تنفع، وتُقدّم للعالم صورة مشوّهة عن الإسلام في تكفير المسلمين بعضهم لبعض واستباحة دمائهم.
وقد أعلن رسول الله (ص) في حجة الوداع على المسلمين جميعاً حرمة دماء المسلمين وأموالهم في حديث اتفق فقهاء المسلمين جميعاً، من غير استثناء على روايتها عن رسول الله (ص)، حيث قال على ملأ من المسلمين في منى في حجة الوداع: (أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم، واعقلوه، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا. ثم قال:
أيّ يوم أعظم حرمة؟
قالوا: هذا اليوم.
قال: فأي شهر أعظم حرمة؟
قالوا: هذا الشهر.
قال: فأيّ بلدة أعظم حرمة؟
قالوا: هذه البلدة.
قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه، فيسألكم عن أعمالكم.
ألا هل بلّغت؟
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد)[2].
وقد أطبق فقهاء المسلمين على رواية هذا الخطاب عن رسول الله (ص)، ولم يشذ أحد من الفقهاء عن قبول هذا الخطاب النبوي والعمل به.
الهوامش
[1] وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً.
[2] من لا يحضره الفقيه: 2/ 76، ح 88.
المصدر: كتاب فقه المقاومة؛ دراسة فقهية مقارنة.. للشيخ محمد مهدي الآصفي / تحميلpdf