الاجتهاد: تأتي أهمية هذا البحث في إظهار كمال الشريعة وتمامها وصلاحيتها لكل زمانٍ وَمَكانٍ، وأنها ما تركت شيئًا إلا وكان لها فيه قدم السبق وأن الفقه الإسلامي وأحكامه لتتجاوب مع الظواهر الجوية والكونية،
فنجد الحكم الفقهي إن كان قاطعا فاستجابته للعوامل الجوية بما يتناسب مع ذلك القطع، فلا يتأثر الحكم من حيث البقاء وعدمه، وإنما الأثر يكون في التقديم والتأخير والكثرة والقلة كما سنرى في أحكام العبادات من صلاة وصيام وزكاة، وتأثر الصلاة تقديمًا وتأخيرًا وجمعا،
لكن لا تتأثر الصلاة بالحذف والإلغاء لأجل مثل هذه الظواهر، وكذلك الصيام حينما يطول وقت الصيام فلا أثر للظواهر الجوية عليه، ولكن إن تتابع الليل دائما لفترة طويلة أو تتابع النهار دائما لفترة طويلة فإن الحكم يتأثر بهذه الظواهر دون تأثيرها على مبدأ الصيام بالحذف والإلغاء، بل يقدر له قدره للشواهد في ذلك، وكذلك تأثر الزكاة بمدى كثرة المطر وقلته وكونه بمياه الراحة، فتزداد نسبة المخرج للفقراء من الزكاة، أو قلة المطر واعتماد الزارع على المياه التي يحصلها بتعب ومشقة فتقل النسبة المخرجة للفقير، وإن كان تأثر الزكاة بالرياح الشَّديدة أو غمر الماء للأرض فتلف الزرع، فإن المطالب به المزارع من إخراج الزكاة مرتبط بمدى ما ينتجه : فإن قل الإنتاج عن نصاب الزكاة فلا شيء عليه،
وهنا لم تلغ الظواهر المناخية فريضة الزكاة، وإنما شروط الإخراج لم تتحقق وأهمها اكتمال النصاب، بل إن الجائحة إن تأثر بها الشخص يمكن أن يكون في هذه الحالة من المستحقين للزكاة، على الأقل في العام الذي حدث له فيه ظرف طارئ، ولم يكن له فيه دخل، فيستحق الزكاة حتى يصيب سدادًا من عيش، أو قواما من عيش.
وفي مجال المعاملات إن كان هناك استحالة دائمة في تنفيذ الشخص ما تعاقد عليه كأثر لظاهرة مناخية، أو قوة قاهرة، أو جائحة، فإننا في هذه الحالة ننظر إلى تحلل المتضرر من التزامه الذي لم يكن له فيه ذنب مع قيامه برَدُّ ما أخذه من الطرف الآخر حتى لا نصلح ضررًا على حساب تضرر الآخر ،
فلا ضرر ولا ضرار، مع الرجوع على المتسبب في هذا الظرف إن كان ثمة تدخل بشري فيه، وإن كان الالتزام مما يمكن أداؤه في وقت متأخر عن وقت الالتزام الأصلي فمن المندوب التراحم بين الخلق وتقدير مثل هذه الظروف بإرجاء المدين فترة من الوقت يمكنه فيها الأداء بما وجب عليه من حقوق تجاه الآخرين،
وإن كان الالتزام دينا نقديًا فإما أن يؤثر على المدين لانتظاره محصولا ما فجاءت الجائحة فأثرت عليه، فهنا ينظر لحين ميسرة، أو يندب للدائن التخفيض له من الدين شريطة قيامه بسداد الباقي، وإن كان المدين مماطلا فهنا تأتي: الاجتهادات الفقهية لكيفية تعويضه لمن مطله.
وإن كان الحكم متعلقا بصورةٍ من صُورِ الأحوالِ الشَّخصيَّةِ كالأمراض التي تحول دون وصول الزوج لزوجته بالمتعة، فإننا ندير عليه السنة كاملة بفصولها الأربعة ومناخها المتغير حتى نكون قد أعطيناه الفرصة كاملة للإبقاء على حياته الزوجية، دون تكدير صفوها، وكذلك مجالس الحكم والقضاء، وإننا في هذا البحث نعالج هذه الأحكام كصورة من صور إظهار جمال الشريعة التي لم تترك شيئًا نافعا للإنسان إلا ويسرته له ولا شيئًا ضارًا له إلا حذرت منه وابتعدت عنه.
مشكلة البحث:
هذا البحث جاء ليجيب عن عدة أسئلة، وهي:
١ – هل الظواهر المناخية بينها وبين الأحكام الفقهية صلة أم لا؟
۲ – هل أحكام الطهارة والعبادات تتأثر بالظواهر المناخية؟ وما مدى تأثير هذه الظواهر عليها؟
۳- هل الجوائح المترتبة على الظواهر المناخية تؤثر على التعاقدات الحالة أو الممتدة الأجل؟ وما مدى هذا التأثير؟
۴- هل تؤثر الظواهر المناخية على سداد الديون الحالة النقدية منها والعينية ؟ وإذا كان المدين يتظاهر بعدم القدرة على السداد، فهل هناك موقف للفقه الإسلامي من أمثال هؤلاء المدعين؟
5 – هل تؤثر الظواهر المناخية في التكليف بالنسبة للذكور والإناث؟ وما الآثار الناتجة عن ذلك في الأحكام الفقهية؟
٦ – هل يتأثر القاضي بالظواهر المناخية؟ وما أثر ذلك على الأحكام الصادرة منه؟
٧- هل للظواهر المناخية أثر على قبول شهادة الشهود أو عدم قبولها؟
۸- هل تؤثر الظواهر المناخية على أحوال الزوجين عند طلب المراة التفريق بينها وبين زوجها بسبب العنة؟
منهج البحث
هذا البحث اعتمدت فيه على المنهج الاستنباطي، وكذا المنهج الاستقرائي والمنهج المقارن؛ فالأحكام في هذا البحث ليست في باب واحد؛ بل متناثرة في بطون الكتب في أبواب مختلفة، مما يجعل المنهج الاستقرائي لا غنى عنه في هذا البحث، والمنهج الاستنباطي للربط بين الظواهر المناخية من جهة والأحكام الفقهية من جهة أخرى، والوقوف على الحكم الناتج عن تلاقيهما، والمنهج المقارن لوجود الخلاف بين المذاهب في المسائل الفقهية محل البحث، مع الالتزام بطريقة الباحث في عزو الآياتِ إلى سورها والأحاديث إلى مظانها من كتب الحديث، وإن احتاج الحديث إلى تخريج قمت بذلك بما يكفي للمقام الذي نحن فيه مع نسبة الآراء لأصحابها من مظانها من كتبها، والتوثيق الدقيق للمعلومة. وأسأل الله العون والمدد، فهو ولي ذلك والقادر عليه.
خطة البحث:
جاءت خطة هذا البحث مقسمة لمبحث تمهيدي، وأربعة مباحث:
المبحث التمهيدي: معنى المناخ والأحكام الفقهية.
المطلب الأول: معنى المناخ.
المطلب الثاني: المراد بالأحكام الفقهية.
المبحث الأول: أثر المناخ في أحكام العبادات.
المطلب الأول: أثر المناخ على التطهر وأداء الصلوات.
المطلب الثاني: أثر المناخ على الصيام.
المطلب الثالث: أثر المناخ على أحكام الزكاة والحج.
المبحث الثاني: أثر الجوائح على المعاملات والالتزامات العقدية والديون.
المطلب الأول: أثر الجوائح على المعاملات والالتزامات العقدية.
المطلب الثاني: أثر الجوائح على سداد الدين.
المبحث الثالث: أثر المناخ في تحديد البلوغ.
المطلب الأول: تحديد البلوغ بالعلامات أو السن وأثر المناخ فيه.
المطلب الثاني: أثر البلوغ في الأحكام الفقهية.
المبحث الرابع: أثر المناخ في إقامة الحدود ومجالس الحكم والقضاء.
المطلب الأول: أثر المناخ على القاضي وحكمه.
المطلب الثاني: أثر المناخ على قبول الشهادة أو ردها.
المطلب الثالث: أثر المناخ على التفريق بين الزوجين.
المطلب الرابع: أثر المناخ على استيفاء الحد.
وبعد ذلك الخاتمة متضمنة أهم النتائج والتوصيات.
تحميل المقالة
المصدر: مجلة دار الإفتاء المصرية، العدد الخامس والخمسون.