الاجتهاد: الحمد لله الذي جعل الحج في الإسلام ركنا، وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمنا، والصلاة والسلام سيدنا محمد وآله وصحبه الكرام، الذي جعل الحج مدرسة للأنام، وميدانا لتنمية طاقات الإنسان.
إن فريضة الحج ليست مجرد عبادة أو أداء ركن وحسب، بل إن فترة الحج أشبه بدورة تدريبية مكثفة يمكن لمن دخل فيها أن يحقق تنمية لذاته، وتهذيبا لسلوكه، حيث يأتي الحاج لأداء هذا النسك وله سلوكيات معينة في التعامل مع الآخرين،
فمنهم المتعالي ومنهم المجادل ومنهم الانطوائي ومنهم المتمرد ومنهم الحليم الكريم طيب النفس وغير ذلك من السلوكيات، وبدون مؤثرات قوية على أصحاب السلوكيات السلبية لن تصحب إيجابية بشكل مفاجئ، كما أن أصحاب السلوكيات الإيجابية قد تتأثر بطريقة تعامل السلبيين ممن يستفزون الحليم ويغيرون طيب النفوس إذا لم يكن هناك مؤثرات قوية أيضا تعينهم على الحفاظ على إيجابيتهم.
لأجل ذلك كان الأثر الكبير لفريضة الحج في التغيير والبناء التنموي للإنسان، لا سيما حينما يقرر القرآن ذلك الأثر العظيم بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }البقرة197،
وهذه الآية واحدة من مجامع البيان في توضيح أثر الحج في سلوك الإنسان، فقد نهى القرآن عن الرفث والذي فسر بعدة معاني وكلها مجتمعة في معنى واحد هو النهي عن اللغو من الكلام([1])، ومادام نهى عن لغو الكلام فإذاً هو يطلب طيب الكلام، وهذا أمر بتحويل سلوك سلبي إلى إيجابي، مما يؤكد أثر الحج في تغيير السلوك والبناء التربوي.
وأما النهي عن الفسوق فهو نهي عن الخروج عن الطاعة ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات ([2]).
وأما نهية عن الجدل فهو بذات الوقت يدعو للتعامل بلغة الحوار الهادف، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه[3].
قال البيضاوي في ختام تفسيره للآية: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ حث على الخير عقب به النهي عن الشر ليستبدل به ويستعمل مكانه[4]
ويقول الفخر الرازي: والحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة وهي قوله: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج: أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية،
فقوله فلا رفث إشارة إلى قهر الشهوانية، وقوله: ولا فسوق إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب، وقوله: ولا جدال إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شيء، فلما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال:
فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور[5].
ونجد أن التغيير من السلب إلى الإيجاب خلال فترة الحج أمر تعبدي لازم، وسيضطر الحاج لتدريب نفسه عليه كي لا يفوت أجر فريضة تكلف على أدائها من ماله ونفسه وبدنه، وبهذا يكون الحج دورة تدريبية لتنمية الذات وتطوير السلوك.
ومن آثار فريضة الحج في البناء التنموي الإنساني:
1- قتل طغيان الجانب العنصري في نفس الإنسان، حيث أن فريضة الحج تقتضي التساوي باللباس والمكان والزمان، مما يؤدي إلى زرع قيمة المساواة بين أفراد المجتمعات.
2- الحج فريضة جماعية تستلزم وجود قائد للمجموعة وإداريين معه، لذلك يظهر مفهوم العمل القيادي بارزا في هذه الفريضة، مما يزيدنا يقينا بأثر الحج في عملية التنمية والبناء الإنساني والذي تعد القيادة جزءا هاما فيه.
3- تنمية ملكة التعايش والتعرف على الثقافات المختلفة لدى الشخص، بناءً عليه يحظى الكثير من الأفراد بالصداقات الثرية التي تبقى مدى الحياة، كما أنّ البعض يكّون علاقات عمل وآخرين يحظون بفرصة التعارف بين العائلات والزواج.
4- يكثر في الحج عملية المشي وهذا بحد ذاتيه يسهم في تقوية بنية جسد الإنسان، مما يمنحه سلامة في الفكر وحيوية في النفس، وينعكس ذلك كله على معنوياته التي تعد الركن الأساسي في عملية البناء التنموي الإنساني.
إن الحديث عن أثر فريضة الحج في البناء التنموي الإنساني لا يكفيه مقال واحد، لذلك أفردت له دراسة علمية محكمة متكاملة أسأل الله تعالى التوفيق والسداد في إتمامها لتعم الفائدة على المسلمين، فيقرؤون الحج من جانب موافق لمعطيات العصر، محافظا على ثوابت الدين، مؤكدا أن الإسلام حتى في عباداته يدعم بناء الإنسان، ويهذب سلوكه ليكون فاعلا في المجتمع، عاملا على ترسيخ معاني الإنسانية وقيم الأمن والأمان المجتمعي.
الهوامش:
[1] – انظر: الرازي، مفاتيح الغيب، 5/315.[2] – المرجع السابق 5/317، والبيضاوي، أنوار التنزيل، 1/130.
[3] – انظر: محمد بن عمر الرازي الملقب بفخر الدين الرازي (المتوفى: 606هـ)، تفسير مفاتيح الغيب، 5/318. دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ.
[4] – البيضاوي، ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي (المتوفى: 685هـ)، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 1/130، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى – 1418 هـ
[5] – الرازي، مفاتيح الغيب، 5/ 319.
الدكتور توفيق يوسف العبيد / الأستاذ المساعد بكلية الدعوة الجامعية للدراسات الإسلامية.
رئيس مجموعة التوفيق للحج السوري في الكويت.