مشكلة اليأس ودرس عملي من حياة الشيخ الحائري

الاجتهاد: من المشكلات التي تتكرر في مسيرة طالب العلم مشكلة اليأس، وهذه المشكلة ليست مما يعرض على طالب العلم بخصوصه، بل هي مشكلة قد تعتري الأكاديمي والموظف والتاجر وغيرهم،

وتتعدد بواعث هذه المشكلة إلا أن بواعثها بالنسبة لطالب العلم:

قد يكون باعث اليأس هو شعور الطالب بعدم ترقيه في مدارج العلم وعدم وصوله لما يطمح له

وقد يكون الباعث هو عدم قدرته على التأثير في محيطه وتأدية دوره المناط به بمقتضى آية النفر،

وقد يكون الباعث فقده للشغف والأنس بمتونه الدرسية لا أثناء تحضيره ومطالعته ولا أثناء حضوره لدرسه،

وقد يكون الباعث شعور الطالب بغلبة الباطل على أهل الحق بسبب كثرة الشبهات التي تعصف بالدين وأهله إلى غير ذلك من بواعث ومناشئ.

ولهذه البواعث أسباب كثيرة أذكر بعضاً منها بشكل مختصر والموضوع يحتاج بسطاً وتفصيلاً من أهل الفضل وما أنا إلا صغير من صغار طلبة العلم:

١ – أن يُعلق الطالب نجاحه على مستوى تأثيره في محيطه، فإن أثر في محيطه لا سيما الخاص فهذا دليل على نجاحه وإلا فلا، والحال أن وظيفة الطالب الأساسية هي الإنذار بمقتضى آية النفر، وأما اقتناع المحيط بهذا الإنذار وتأثره به فإن حصل فهو نور على نور وإن لم يحصل فليس بالضرورة أن يكون ذلك دالاً على فشل الطالب بحيث يكون موجباً ليأسه.

٢ – مرافقة الأشخاص السلبيين، فإن المرافقة تؤثر شعورياً أو لا شعورياً، فإذا كان دأب من يرافقهم الطالب التشاؤم والتركيز على الأمور السلبية وتهويل صغائر الابتلاءات فهذا لا محالة يُفضي بالنتيجة إلى حالة اليأس.

٣- أن يستعجل النضج العلمي، فيكون مصداق المثل : تزبب قبل أن يتحصرم! فإن للعلم درجات ومستوى نضج الطالب يختلف باختلاف هذه الدرجات، فمن الخطأ أن يستعجل طي المراحل أو يقارن فهمه بفهم من هم أعلى منه بحسب الرتبة العلمية فالنضج العلمي لطالب المقدمات يختلف عن طالب السطح وطالب البحث الخارج، ومثل هذه المقارنة الخاطئة توجب شعوراً باليأس.

٤ – تأخره عن أقرانه وزملائه، فقد يزامل الطالب بعضاً ممن هم في جيله في مرحلة المقدمات فيسبقونه إلى السطح، أو يرافقهم في مرحلة السطح فيسبقونه إلى مرحلة البحث الخارج مما يوجب عنده حالة من اليأس والشعور بالفشل، والحال أن التأخر ليس بالضرورة يكون اختيارياً بل قد يكون قهرياً لأسباب خارجة عن إرادة الطالب نفسه،

وقد يكون التأخير راجعاً لطبيعة المنهجية التي اتخذها الطالب واختارها في طريقة دراسته، وقد يكون هؤلاء ممن استعجلوا طي المراحل بدون اتقان وهو يحسب أنهم نجحوا بالوصول لبحث الخارج والواقع على خلاف ذلك، وليس من الصحيح أن يكون هَم الطالب كما ينبه الأساتذة دامت بركاتهم على الوصول إلى البحث الخارج كيفما اتفق بل يصل إلى تلك المرحلة بعد اتقانه لما سبقها وإن حصل التأخير لعوارض معينة،

والذي ينبغي أن يكون منظوراً له بالدرجة الأولى ليس التقدم والتأخر بل هو تأدية الطالب للوظيفة العامة المناطة به إلى غيرها من الأسباب، وإن خير علاج لمثل هذه الحالة على اختلاف أسبابها أن يتأمل الناظر في سير الأعلام وكيف أنهم على الرغم مما لاقوة من مشاق صعبة فبعضهم ذاق مرارة اليتم صغيراً وآخر احتسى شظف العيش والفقر كبيراً، وآخر تجرع غصص المرض والسجن والتعذيب، وآخر عانى ما عانى في زمانه من شبهات تفتك بالمؤمنين، ومحاولات حثيثة لطمس معالم الدين والحوزة العلمية،

إلا أنه رغم ذلك كله وصل حيث وصل وما عاقه عن رقي المراتب شيء حتى صار مصداقاً لقول أمير المؤمنين: ” والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب مشهودة”.

ومن أولئك الأعلام الذين ينبغي أن تكون حياتهم نبراساً لكل طالب علم لا يريد لليأس أن يخالج قلبه هو آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري قدس سره مشيّد الحوزة القمية – على من شرفت ترابها أفضل الصلاة والتسليم- فإن الشيخ على الرغم مما عاناه في زمانه من ظلم لأهل الدين والعلم إلا أن اليأس لم يخامر قلبه يوماً،

وإليك هذا المشهد الذي يصوره المحقق آغا بزرك الطهراني طاب ثراه واصفاً لحال زمانه وكيف أن الشيخ الحائري لم يؤثر ذلك فيه شيئاً، بل نجح ووصل لمبتغاه فخُلد اسمه في سجل خدمة شريعة سيد المرسلين وغيره قد خسر الخسران المبين:

وقد برهن الحائري له على بطولة ورجولة وشجاعة و بر وجلد وثبات وعزيمة جبارة، فقد لاق في طريق العمل من الصعاب والمتاعب ما يكفي لتراجع أكبر الرجال قلباً وأقواهم شكيمة وأوسعهم صدراً، حيث كان لانتهاء حكم القاجاريين وتولي البهلوي تأثير بارز في تقليص جهوده والحد من نشاطه، إذ رافقت ذلك أحداث ووقائع جسام وكانت سيرة البهلوي واضحة في عزمه الأكيد وتصميمه على القضاء على الدين ومحو كل أثر لرجاله وشعائره ورسومه، فقد سجن العلماء الكبار، ونفى عدداً منهم ودس السم لآخرين، وفعل الأفاعيل من هذا القبيل،

وفي هذه الظروف كان الحائري “قدس سره” يعمل على توسيع دائرة الحوزة العلمية في قم ونشر الدعوة، ودعم هيكل الدين، وإشادة مجد الاسلام بإعمال أحكامه وتطبيق نظامه … موطناً نفسه للعظائم ومضحياً في سبيل دعوته بكل ما يملك، ولم تفت في عضده أو توهن من عزيمته أو تسرب اليأس والقنوط إلى نفسه كل تلك المحاولات اللئيمة، والمساعي الخبيثة التي بذلها سماسرة السوء وزبانية الشر، وأعداء الدين والخير والفضيلة،

وهكذا بقي يقاوم كل ما يعترض طريقه من عقبات وعراقيل، حتى كلل سعيه بالنجاح وانتصر وباء خصومه بالصفقة الخاسرة، وعادوا يجرون أذيال الفشل و”لعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون”.

 

المفصل في تراجم الأعلام ج ۲ ص ۱۸۱ .

والحمد لله رب العالمين

الأقل علماً وعملاً
علي بن الحاج زكي البقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky