الاجتهاد: بدأت الحاجة إلى التوقيعات والمكاتبات عندما أُبعد الأئمّة عليهم السلام عن شيعتهم، وبلغت قمّتها في غيبتيّ صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف الصغرى والكبرى، عندما توارى الإمام عن أنظار شيعته مدّة طويلة من الزمن؛ فكان ثمّة حاجة ملحّة لأن يبقى على تواصل معهم، يكتبون إليه ويسألونه في مختلف المسائل والقضايا، فيجيبهم عنها.
* لمَ سُميّت رسائله عجل الله تعالى فرجه الشريف بالتوقيعات؟
يُراد من تعبير “التوقيع” في العرف العام إمضاء الإنسان اسمه على وثيقة، بينما في التراث المهدويّ يُراد منه: كلّ الرسائل التي ذُيّلت بتوقيع الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف وختمه الخاصّ، فصارت دلالةً على صدورها عنه عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ فكأنّ الذيل (التوقيع) هو الذي أعطى سنداً واعتباراً للكلام المذيّل.
* الحاجة إلى التوقيعات
عاش الأئمّة عليهم السلام فترةً سياسيّة صعبة، حيث أُحضر الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد، والإمامان الهادي والعسكريّ عليهما السلام إلى سامراء، فصار التواصل المباشر بينهم وبين الشيعة أمراً مشكلاً وصعباً وعزيزاً؛ فازدادت وتيرة التوقيعات لصعوبة الوصول إلى الأئمّة عليهم السلام ساعة يشاؤون.
ثمّ إنّه في الغيبة الصغرى انقطع الاتّصال بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف تماماً، وانحصر بشخص واحد وهو السفير، الذي كان ينقل للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ما يحتاجه الشيعة عبر الوكلاء الموزّعين في مختلف المناطق؛ فشيعة أهل قمّ مثلاً لديهم أحد وكلاء السفير، وكذلك شيعة الكوفة وبغداد وغيرهما.
وكانت ترجع التوقيعات من عند الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى الشيعة عبر الطريق نفسه. ولا يعني هذا أنّ السفير وحده من كان يرى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، بل ثمّة أشخاص غيره التقوا به. ولكن تبقى ميزة السفير أنّه القناة “القانونيّة” للتواصل مع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
أمّا كثرة مكاتبات الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف مقارنةً ببقيّة الأئمّة عليهم السلام، فسببها أنّ الشيعة ما عادوا يتواصلون معه إلّا من خلال هذه المكاتبات، التي صار يدير أمورهم من خلالها.
* متى صدرت التوقيعات؟
يمكن تقسيم التراث المهدويّ في التوقيعات والمكاتبات والمراسلات على كثرتها، إلى قسمين:
1. توقيعات الغيبة الصغرى: هي الصادرة عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف من حين ولادته سنة 255 للهجرة إلى 329 للهجرة في شهر شعبان المعظّم، يوم وفاة السفير الرابع عليّ بن محمّد السمريّ.
بعد استشهاد الإمام العسكريّ عليه السلام، حيث بدأت ظاهرة التوقيعات تظهر ويتمّ التعامل معها على مستوى السند؛ أي توثيق الرجال الناقلين له وصولاً إلى السفير؛ فإذا خرج توقيع عن غير السفير، سواء كان رجلاً معلوماً أم غير معلوم، فلا يُعدّ حجّة؛ لأنّ الحالة المتعارفة في صدور التوقيعات عنه عجل الله تعالى فرجه الشريف في تلك الفترة كانت عبر السفراء الأربعة. وتُشكّل هذه الفترة عمدة التوقيعات، من حيث العدد، والكيفيّة.
2. توقيعات الغيبة الكبرى: هي الصادرة في فترة الغيبة التامّة، وهي تراث قليل جدّاً لا يبلغ العشرة، وتُنسب إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ ثلاثة منها يُنسب صدورها إلى الشيخ المفيد رحمه الله، آخرها الشعر الذي وُجد مكتوباً على قبره رحمه الله، وقيل إنّه بخطّ الإمام المعروف في ذلك الوقت.
* وظيفة التوقيعات
للتوقيعات وظائف عدّة، نذكر منها:
1. حفظ الشريعة والرسالة؛ فيبلّغها عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويدفع عنها الزيف والتحريف ومغالاة الغالين والمبطلين.
2. التصدّي لصيانة المجتمع بالقدر الممكن في دوائر عدّة: منها دائرة التعليم الدينيّ وبيان معارف كتاب الله وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها: انتشال الناس من الفتن في الدين، وتبيين ما هو حقّ وما هو باطل، حيث كثُر الكذّابون والمُدّعون.
3. إدارة أمور الشيعة؛ فقد امتلك الأئمّة عليهم السلام، خاصّةً اللاّحقين منهم، أملاكاً وعقارات وموقوفات شخصيّة، كانت تُجبى لهم أموالها وأموال الحقوق الشرعيّة والخُمس أيضاً، فيقومون بصرفها في مصارفها الشرعيّة وعلى فقراء الشيعة.
* مضمون التوقيعات
كان الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يتواصل مع شيعته بشكلٍ أمنيّ دقيق للغاية، حتّى أنّ ذكر اسمه الشريف كان محرّماً في الفترة الأولى.
وإلى اليوم، ثمّة علماء يفتون بحرمة ذكره، وثمّة من يحتاط تأدّباً، وثمّة من أفتى بالجواز؛ لأنّ السبب الأمنيّ لإخفاء اسمه الشريف قد ارتفع.
لذلك، من الطبيعيّ جدّاً في ظلّ هذه الظروف أن تتمّ مواجهة كلّ تلك القضايا وإدارتها عن طريق التوقيعات، التي تنوّعت مضامينها:
1. تبيين العقيدة: وردت في التوقيعات قضايا ترتبط بالعقيدة، والشبهات العقائديّة، والمسائل المطروحة في ذلك الوقت؛ فكان الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يتصدّى للجواب، ونذكر منها توقيعاً في مسألة التفويض عن الحسين بن موسى بن بابويه، أنّ جماعةً اشتبهوا في قدر الأئمّة عليهم السلام وغالوا بهم، فذهبوا إلى أنّ الله تعالى فوّض إليهم الخلق والرزق، فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري فتسألونه عن ذلك فيوضح لكم الحقّ فيه، فإنّه الطريق إلى صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلّمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع: “إنّ الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسّم الأرزاق، لأنّه ليس بجسم ولا حالّ في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم.
وأمّا الأئمّة عليهم السلام فإنّهم يسألون الله تعالى فيخلق، ويسألونه فيرزق إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقّهم”(1).
2. المسائل الفقهيّة: إذ كانوا يسألون الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف حتّى عن تفاصيل الفقهيّات، وكانت أشبه بنظام الاستفتاءات في زماننا، كما في مسائل عبد الله بن جعفر الحميري، نذكر منها على سبيل المثال: “وهل يجوز لها وهي في عدَّتها أن تزور قبر زوجها أم لا؟ فخرج التوقيع: تزور قبر زوجها، ولا تبيت عن بيتها”(2)، حتّى إنّ بعض الفقهاء سألوه عن كيفيّة استنباط الحكم الشرعيّ.
3. تنظيم أمور الشيعة ودور العلماء: كان الناس يرجعون إلى الوكلاء في المناطق، لكن ستأتي فترة الانقطاع التامّ؛ فلا سفراء ولا وكلاء، فما هو العمل حينها؟
نصّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بشكلٍ واضح على أنّ ما كان قائماً لدى الشيعة، وهو منهج الإمام الصادق عليه السلام، لا يزال قائماً على حاله، كما في التوقيع الذي خرج لإسحاق بن يعقوب: “وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم”(3).
4. الوعظ وإدارة السلوك العامّ: وهي توقيعات توجّه الإطار العام لأتباع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، إذ الزمن زمن تقيّة، فمن الواضح أن نجد في التوقيعات إشارة واضحة إلى عدم إذاعة السرّ وعدم ذكر اسم الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف. وكان عجل الله تعالى فرجه الشريف يدير المسار العامّ للشيعة كي يعيّن الفقهاء المتصدّين في المناطق.
5. تنصيب السفراء: انتشر في البلاد علماء صالحون محلّ ثقة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، فنصّبهم سفراء بتوقيع خاصّ؛ فعند تنصيب كلّ سفير، كان يخرج توقيعاً بذلك.
كذلك صدر توقيع يخبر عن وفاة السفير الرابع، ليُنهي مرحلة السفارة كلّيّاً ويعلن الغيبة الكبرى: “بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليّ بن محمّد السمريّ، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّتٌ ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً.
وسيأتي إلى شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”(4).
6. توقيعات بحقّ شخصيّات محدّدة: صدرت توقيعات بحقّ شخصيّات محدّدة، وأخرى للبراءة من شخصيّات كانت محسوبة على خطّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف فانحرفت، كما في قضيّة الشلمغاني، وهذا نصّ التوقيع:
“بسم الله الرحمن الرحيم، قد وقفنا على هذه الرقعة وما تضمَّنته، فجميعه جوابنا (عن المسائل)، ولا مدخل للمخذول الضالّ المضلّ المعروف بالعزاقري لعنه الله في حرف منه، وقد كانت أشياء خرجت إليكم على يدي أحمد بن بلال وغيره من نظرائه، وكان من ارتدادهم عن الإسلام مثل ما كان من هذا، عليهم لعنة الله وغضبه”(5)، وكما في أحمد بن هلال الكرخي: “قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال لا رحمه الله بما قد علمت لم يزل لا غفر الله له ذنبه، ولا أقاله عثرته، دخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى، يستبدّ برأيه فيتحامى من ديوننا، لا يمضي من أمرنا إيّاه إلّا بما يهواه ويريد”(6).
7. الأدعية والزيارات: نُقلت مكتوبة عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ فقد نُسب إليه بعض الزيارات كزيارة الناحية المقدّسة، وكيفيّة السلام عليه في غيبته كزيارة آل ياسين، ودعاء الافتتاح ودعاء الندبة، وبعض الأدعية الصغيرة اليوميّة التي تُقرأ في شهر رمضان المبارك.
وهذا النوع من التوقيعات يحتاج إلى وقفة خاصّة؛ لأنّ أدعية أهل البيت عليهم السلام ليست مجرّد طلبات بسيطة، بل إنّها نصوص تحمل مضامين معرفيّة عقائديّة عالية، فتجد في دعاء الافتتاح مثلاً، قد ذُكرت معالم الدولة المهدويّة كخطوط عريضة، وفي دعاء زمن الغيبة وصف للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وتذكير بمقاماته الأساسيّة وبعض وظائفه في عصر الغيبة، فيربط الموالي به ربطاً عقلانيّاً لتثبيت العقيدة بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
إنّها لمحة سريعة عن بعض توقيعات الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ودورها المهمّ في زمن غيبتيه الصغرى والكبرى على حدّ سواء؛ فالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وإن كان يتوارى عن الأنظار، فهو بين أقوامه يحمل همّهم ويدير شؤونهم.
1- الشيخ الطوسي، الغيبة، ص 294.
2- المصدر نفسه، ص 276.
3- الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 485.
4- الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص 478.
5- الشيخ الطوسي، مصدر سابق، ص 373.
6- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 50، ص318.