الاجتهاد: الهدف من هذا العنوان هو محاولة تصويبية يدعيها الكاتب وفق استقراء للحراك الفكري والمعرفي بين بعض النخب حول عاشوراء، جله تركز على موضوع الشعائر الحسينية ومصاديقها وآثار تلك المصاديق على الفرد والمجتمع وأهداف الثورة، ومدى قدرة هذا الطرح الشعائري بكل أشكاله منفردا على تحقيق الاصلاح والنهضة، بل حاجة الاصلاح والنهضة للخطابات والأدوات التي تدمج بين العقل والوجدان.
إحياء الذكريات والمناسبات التاريخية، لا يستهدف العودة إلى الماضي والتجمد عليه، أو استنساخ التاريخ لأن ذلك خلاف منطق التاريخ نفسه والسنن الحاكمة له، كما أن عجلة الحياة تمضي إلى الأمام وليس إلى الخلف، فالإحياء يحقق مجموعة أهداف:
1. التواصل مع التاريخ وتأكيد ارتباطنا به، وتأثرنا بمخرجاته، فهو جزء من هويتنا وامتدادنا، فبيننا وبينه نسبا بيولوجيا بل وروحيا وفكريا. وإذ كنا نؤكد هذا التواصل مع تاريخنا، فلأن ذلك يعزز هويتنا المستقلة وأصالتنا، ويحقق مفهوم الذات لدينا، بعيدا عن الانبهار بالآخر وحضارته الذي يصل عند البعض إلى نكران الذات والخجل بهويته وانتمائه.
2. إن في التاريخ الإسلامي محطات للحق والعدل، وصورا مشرقة مضيئة وقيما مطلقة، والقيمة ملك الزمن كله، لا تعرف حاضرا أو ماضيا أو مستقبلا. فالحسن عليه السلام ليس ملك التاريخ، بل هو بثورته ونهضته وما تحمل من قيم ومنهج وأهداف ومبادئ، هو ملك الإنسانية كلها على امتدادها.
إن حاجتنا إلى هذا التاريخ هي حاجتنا إلى المثل الأعلى المتمثل بكل الشخصيات المعصومة من الأنبياء والأوصياء من دون أن يعني ذلك أن الأمة أصيبت بالعقم، وأنه ليس بإمكانها إنتاج مثل عليا من واقعها فتلجأ إلى الماضي، بل لأن مشكلة نكران الذات التي تحدثنا عنها، جعلت البعض يتنكر لرموزه التاريخية ويلجأ إلى استيراد مثل من الخارج، كما نلمح ذلك في سلوك الكثير من شباب المسلمين. على أن المعصوم يبقى المثل الأعلى الذي يحتذى به ويؤخذ منه لا يرد.
فالإحياء الأكثر جدوائية، هو ذلك الإحياء الذي يحول الذكرى إلى حركة تغيير وإصلاح بل إلى نهضة لكل الواقع وجعله على صورة صاحب الذكرى. فالشعائر هي ممارسات دينية وثقافية تعطي ولادة جديدة للحياة، فهي جزء من ثقافة الفرد وإيمانه.
إن مكونات أو عناصر شعائر العزاء كما يذكر محمد أمين محمدي هي عبارة عن مضامين ومحتويات العزاء، والرسوم الشكلية للعزاء (قوالب وأشمال الإحياء)، والأيام، والأماكن، والقائمين على تنسيقها والمشاركين فيها.
ويضيف حول شرح هذه العناصر:
1. تشتمل مضامين ومحتويات العزاء على الوعظ والخطابة، والمصيبة والرثاء، وقراءة المقتل، ومتن الخطبة والشعر التمثيلي، والأدعية والزيارات. ويعتبر الثقل الديني لهذه الشعائر يكمن في ثنايا ومحتويات الكلمات والخطب.
2. تخضع المراسم الشكلية للعزاء للذوق الفني، ولاقدرة الرمزية، والبعد الثقافي والحضاري لمختلف الناس المقيمين لهذه المراسم، لذلك تتنوع المراسم. كاللطم على الصدور، والضرب بالسلاسل، وتمثيل الواقعة، وشج الرؤوس – التطبير، والعبور على النار وغير ذلك.
3. عنصر الزمان الذي يؤثر في إقامة هذه المراسم، فتتميز بعض الأيام بأهمية ومعنى خاصين في إقامة العزاء وتذكر الأحداث والوقائع العظيمة، لذلك تكتسب بعض الفترات الزمانية قدسية، وأهمها على الاطلاق الأيام العشرة الأولى من شهر محرم.
4. المكان الذي تقام فيه مراسم العزاء، لذلك تم تأسيس أماكن خاصة سميت ب”الحسينيات”، نظرا لأهمية العزاء ودور مراسمه المترعة بالمشاعر والعواطف.
5. يكتسب بعضهم في القيام بهذه المراسم دورا رسميا أو غير رسمي؛ وذلك جرّاء امتلاكهم لمعلومات حول الدين أو مهارات خاصة، ولكن الأهم في هذه المجموعة من الأفراد أنهم يجتمعون في إطار التشكل الديني – الاجتماعي، بحيث تكتسب مهاراتهم نوعا من القداسة، وبعد تأمين معيشتهم – والذي يعد من لوازم تقسيم العمل وكسب المهارات وتنفيذ الأدوار في النواحي الاجتماعية – عملا مقدسا يتم عن طريق الأموال الشرعية. وعنوان العزاء الأساسي الذي يتركز حول أصل واحد هو إظهار الحزن والبكاء والإبكاء على المصيبة العظمي التي ألمت بالإمام الحسين ع، وأهل بيته وأصحابه.
فالبعد الأبرز في شعائر عزاء الإمام الحسين ع هو البعد الثقافي والتاريخي، حيث لم تتحدث الروايات المعتبرة حول تعيين شكل خاص لإقامة العزاء، إلا أن تأكيدها جاء في الإشارة إلى فضيلة البكاء، والإبكاء، والتباكي، والحزن، وقراءة المراثي على مصيبة سيد الشهداء، وإلى ما يوجبه ذلك من الأجر والثواب الآخرويين”
وقد أفتى فقهاء الإمامية بناء على هذه الروايات، بفضيلة واستحباب العزاء، ولم يعينوا له شكلا خاصا. وأبرز أشكال العزاء التي وردت الإشارة إليه في الأخبار المأثورة هو قراءة الرثاء. وهذه التوصيات بهذا الشكل لا تعود لخصوصية له في الدين، بل هي ناظرة إلى عادة الناس في العزاء في ذلك الزمان، حيث كان أكثر المسلمين من العرب آنذاك، وجرت العادة عند العرب إنشاء الرثاء نثرا وشعرا عند فقد الأعزة.
وخرجت مراسم العزاء إلى الوجود بشكلها الرسمي وانتشارها بشكل واسع في القرون الأخيرة، خاصة في عصر كل من آل بويه، ومن ثم اتخذت أشكالا متنوعة وبشكل تدريجي ومن ثم انتشرت في إيران في العهدين الصفوي والقاجاري.
وقد اختلف فقهاء الإمامية في تجويز بعد مظاهر العزاء، أو تحريم مظاهر أخرى، لذلك يعتبر أن أصل العزاء- أي إظهار الحزن والبكاء والعويل على الإمام الحسين ع – بدون تحديد طريقة خاصة له، هو بحد ذاته من الأمور المطلوبة في الشريعة؛ ومن هنا فإن أشكال العزاء وطرقه المختلفة منشأه ذوق الناس وثقافتهم.
ولكن ما أهمية وفائدة إقامة العزاء على الإمام الحسين ع:
1. إقامة العزاء هي العنصر العاطفي في ارتباط الناس بالإمام الحسين ع وأهدافه.
2. ينتج عن إقامة العزاء تجمع ديني ثوري لا يوجب تثبيت إيمان الناس بالإسلام والتشيع فحسب، بل يؤدي كذلك إلى الرفع من مستواه، وبذلك سيبقى الإسلام مصوناً.
3. لإقامة مجلس العزاء أساس تنظيمي بسيط، لكنها تشتمل على نطاق ديني واسع يمكننا الاستفادة منه في سبيل إحداث ثورة دينية وشعبية ضد الظلم والطغيان.
4. من شأن إقامة العزاء أن تؤدي إلى انتقال ثقافة الشهادة من جيل إلى آخر في الوسط الإسلامي، أو سيكون بإمكانها التوفر على مثل هذه الوظيفة إذا ما كانت مصحوبة بالتعرف على الأهداف الكامنة من وراء نهضة الإمام الحسين ع وتضحيته.
هناك فرق بين الشعيرة، ووسائل إحياء الشعيرة، فالحسين ع كما الأنبياء ص شعيرة وعلم من أعلام دين الله، كما يوم استشهاده هو يوم من أيام الله، ولقد أمرنا الله تعالى في تعظيم شعائره: ” ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب” ، والتعظيم له وسائله ومنها النياحة أو مواكب العزاء أو اللطم، فهذه وأمثالها من أساليب ووسائل تعظيم الشعيرة وليست هي الشعيرة عينها.
والشعيرة هي العلامة التي تذكر الإنسان بالله، فالشعائر علامات الله وأدلته، وهي تضم عناوين لأحكامه وتعاليمه العامة. وهي أعلام دينه ومتعبداته التي أشعرها لعباده، أي جعلها أعلاما لهم، ووفق المعجم الوسيط هي ما ندب الشرع إليه وأمر بالقيام به.
وقد ذكر القرآن بعض مصاديق الشعائر مثل “الصفا” و “المروة” و “ذبح الهدي في منى”، فإذا كانت هذه المناسك مقدسة ومن علامات الباري لمجرد انتسابها إليه وتعلقها به، فمن باب إولى أن يكون أولياء الله من مصاديق تلك الشعائر الإلهية، فإن شرف المؤمن أقدس عند الله من الكعبة المشرفة ذاتها.
واختلف الفقهاء بين في كون الشعائر:
1. توقيفية: كما هي الأحكام الشرعية والعبادات، يجب أن يكون منصوص عليها بنص؛
2. غير توقيفية أي يمكن تكونها بعيدا عن عصر النص.
وذهب البعض إلى أن الاحتمال الثاني ضعيف، فلا دليل عليه، ولأن كون أمر من الأمور شعيرة وعلما من أعلام الدين، ليس موكولا إلى الناس، بل لا بد من التنصيص على شعائريته من قبل الله تعالى في كتابه المنزل أو عن طريق الروايات التي رواها الأنبياء والمعصومين ع، وفي القرآن لم تأت كلمة الشعيرة إلا وهي مضافة إلي الله تعالى، لذلك وجدنا السيد أبو القاسم الخوئي علي سبيل المثال، ذهب إلى نفي شعارية التطبير لعدم النص على الشعارية.
لذلك لا مفر كما ذهب أغلب العلماء إلا بالالتزام بتوقيفية الشعائر، حيث لا يمكن الحكم بشعائرية هذا العمل أو ذاك إلا إذا ورد النص بذلك، لكن هنا تواجهنا إشكالية الجمود على المضمون الوارد في النص، فلا يسمح تجاوزه والتصرف فيه زيادة أو نقصا.
وبالتالي يقتضي ذلك الجمود على وسائل الإحياء المنصوصة وعدم إمكانية تطويرها، فضلا عن استحداث وسائل جديدة. لذلك كيف يمكننا التوفيق بين المرونة التي يفترض أن تتسم بها المراسم ووسائل الإحياء، وهو الأمر الذي لا ينسجم مع توقيفها، وبين افتراض أنها شعائر كما هو مشهور على ألسنة الخاصة والعامة وكما نص على ذلك الفقهاء؟