لقد تغيرت خريطة الاقتصاد العالمي، وانتقل ثقل الانتاج والتجارة نحو أسواق الشرق والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا. هذا الانتقال جاء باستحقاقات جديدة لاقتصادات هذه الدول، فعلى مستوى أدائها الاقتصادي يتوقف مصير ومستقبل الاقتصاد العالمي.
بقلم: عبد الله محمد العور
موقع الاجتهاد: على الرغم من كون هذا الخط التجاري العالمي المتمثل بطريق الحرير، يعود إلى 300 سنة قبل الميلاد، إلا أن ما قدمه للبشرية من حضارات ازدهرت في زمنه ولا تزال قائمة حتى الآن، مثل الصينية والمصرية والهندية والرومانية والحضارة العربية، يجعله حاضراً وبقوة في نقاشات الاقتصاديين وصناع القرار والحكومات المعنية بتنشيط الاقتصاد العالمي عبر إحياء تجارب أثبت التاريخ فعاليتها.
لم يقتصر تأثير طريق الحرير في الماضي على المدن التي انطلقت منها التجارة أو تلك التي كانت تعتبر أسواقاً نشطة لاستقبالها واستهلاكها، بل ساهم أيضاً في إحياء وازدهار المدن التي مر بها التجار وعبرت القوافل سواحلها ومرافئها. لقد كان للتجار في شبه الجزيرة العربية دوراً أساسياً في الحفاظ على نشاط طريق الحرير، إذ كانوا يحمّلون السفن ببضائعهم ثم ينطلقون عبر خطوط التجارة البحرية القديمة نحو السواحل الشمالية للهند، وهناك يلتقون بالتجار الصينين، فيبادلونهم الحرير الصيني، بالبخور والعطور والنحاس واللبان.
ومع مجيء الإسلام الذي حول شبه الجزيرة العربية والكثير من بلدان آسيا وأفريقيا لكتلة اقتصادية واحدة، ظهر تأثير المسلمين على نتائج التبادل التجاري الذي كان يعتبر طريق الحرير أحد مغذياتها الرئيسية. ففي الوقت الذي كان تجار الهند والصين يرسون بسفنهم على سواحل شبه الجزيرة العربية، كان التجار العرب ينقلونها إلى مراكبهم أو على ظهور قوافلهم ثم يستخدمون شبكة واسعة من الطرق البرية والبحرية لإعادة تصديرها لعدد كبير من الدول في العالم.
إن الحاجة لإحياء طريق الحرير اليوم، بحيث تشكل منظمة التعاون الإسلامي إحدى حلقاته المركزية، ليس مجرد حنين إلى الماضي، بقدر ما هو استجابة لتحديات انتشال الاقتصاد العالمي من حالة الركود والتباطؤ التي هيمنت عليه منذ أكثر من تسع سنوات.
إذ يعتبر الاقتصاد الصيني المحرك الأهم للاقتصاد العالمي، فإذا نشط الأول تحرك الثاني وتعافى، ولهذا السبب احتلت حالة اقتصاد الصين ومستقبله مناقشات مؤتمر دافوس الأخيرة. أصبح العالم على يقين بأن المدخل لتنشيط الاقتصاد العالمي يبدأ بتعافي الاقتصاد الصيني، فقد قال الرئيس الصيني “شي جينغ بينغ” في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في تركيا العام الماضي إنه وبرغم التباطؤ في نمو اقتصاد الصين المؤقت، لايزال الاقتصاد الصيني يساهم بنسبة 30% من النمو الاقتصادي العالمي”، وهذا وحده كافٍ للوقوف على أهمية تنشيط التجارة مع الصين ودول شرق آسيا عبر إحياء طريق الحرير مرةً أخرى على قاعدة القناعة بما يمكن أن يسهم به هذا الخط التجاري في رفع معدلات النمو في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على وجه الخصوص.
ولا بد أن نذكر أن أول زيارة للرئيس ” شي جينغ بينغ” بعد إطلاقه مبادرة طريق الحرير كانت للدول العربية والإسلامية، في إشارة لما تمثله هذه الدول من أهمية على مسار هذه المبادرة.
إن المرحلة الاقتصادية السابقة وبالرغم من مخاطرها ونتائجها السلبية على الكثير من أسواق العالم، شكلت فرصةً للجميع لإعادة النظر في هيكلة الاقتصاد العالمي، وإعادة إحياء خطوط التجارة العالمية بين مراكز اقتصادية قابلة للتفاعل مع المستجدات، وجاهزة لتشكل رافعة لمعدلات النمو في الاقتصاد العالمي.
من هنا جاءت مبادرة الرئيس الصيني ” الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن 21، والذي سيعمل على إحداث تنمية كبيرة لاقتصادات أكثر من 60 دولة في العالم تشكل 63% من سكان العالم ، وكذلك رفع مستوى النشاط التجاري العالمي الذي سيرفع بدوره الطاقة الانتاجية في الاقتصادات الكبرى، وإعادة أسعار المواد الخام المستخدمة في الصناعات، وخاصةً النفط، إلى معدلات طبيعية. خاصة وأن الصين تعد ثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم وتستورد نصف حاجتها لهذه الطاقة من دول مجلس التعاون الخليجي.
لقد قوبلت مبادرة” الطريق والحزام” بترحاب كبير في دول منظمة التعاون الإسلامي التي تربطها علاقات استراتيجية مع الصين، إذ يحتل التبادل التجاري بين المنظمة والصين المرتبة الثانية بعد الاتحاد الاوروبي منذ عام 2012، حيث وصل حجم التبادل إلى 500 مليار دولار. لكن العلاقة بين الصين ودول منظمة التعاون الإسلامي، تتخطى في جوهرها وأبعادها المسألة الاقتصادية، إنها علاقة تاريخية قائمة على التبادل الثقافي والمعرفي والعلمي، فمنذ القدم ساهم طريق الحرير في نمو حركة البحوث والدراسات والتوثيق وتبادل المطبوعات بين مختلف الحضارات الواقعة على خط طريق الحرير.
اليوم ونحن نتحدث عن إعادة إحياء طريق الحرير، لا بد من الإضاءة على عدة مستجدات ستشكل في مجملها عاملاً إيجابياً في تعزيز هذه المبادرة وتطويرها:
1. لقد تغيرت خريطة الاقتصاد العالمي، وانتقل ثقل الانتاج والتجارة نحو أسواق الشرق والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا. هذا الانتقال جاء باستحقاقات جديدة لاقتصادات هذه الدول، فعلى مستوى أدائها الاقتصادي يتوقف مصير ومستقبل الاقتصاد العالمي.
2. إطلاق مبادرة الاقتصاد الإسلامي وما أحدثته من تغيرات جوهرية في بنية الثقافية الاقتصادية للدول الإسلامية والنامية أيضاً، فهذه الدول تنتقل بشكل تدريجي على هدى ما توفره هذه المبادرة من قوة، نحو تفعيل طاقاتها الانتاجية والتركيز على المنتجات الحلال من غذاء وملابس وخدمات وسياحة عائلية. إن الاقتصاد الإسلامي بمعاييره الموحدة وتوجهاته المنسجمة مع حاجات الدول الإسلامية من تنمية مستدامة، سوف يسهم في تعزيز وحدة منظمة التعاون الإسلامي بحيث تصبح بفضل هذه المعايير كتلة اقتصادية وثقافية لها ثقلها على خريطة الاقتصاد العالمي ولها إسهامها الكبير في انجاح وتطوير مبادرة طريق الحرير.
3. إن مبادرة حزام واحد طريق واحد تتيح فرصاً وافرة للقطاعات الرئيسية في الاقتصاد الإسلامي من خلال تسهيل تجارة المنتجات الحلال بين مختلف الدول الواقعة على خط الحرير. كما أن للتمويل الإسلامي فرصة لدعم مشاريع البنية التحتية التي تحتاج هذه المبادرة.
4. إن المتغيرات التي طرأت على اقتصادات المنطقة وفي مقدمتها اقتصادات الخليج العربي بعد هبوط أسعار النفط، وما رافق هذه التغيرات من توجهات نحو اقتصاد لا يعتمد على النفط بقدر اعتماده على التجارة وصناعة وتبادل المنتجات، ستنعكس إيجاباً على مستقبل شعوب المنطقة، وعلى مستقبل الاقتصاد العالمي بشكل عام.
5. لقد أصبح العالم اليوم، وبعد أزمة 2008 على قناعة راسخة، أن الخروج من تداعيات الأزمة يتطلب تأهيل البنى التحتية والاجتماعية في البلدان النامية التي تقع على خط طريق الحرير وفي قلب مراكزه التجارية. وهنا تظهر الامكانيات التي قد يتيحها التعاون بين البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية وبين المصارف الإسلامية وفي مقدمتها البنك الإسلامي للتنمية. إن اتجاه العالم اليوم نحو التمويل الإسلامي يجعل من تحقيق التنمية المنشودة لشعوب الدول النامية أكثر إمكانيةً مما كانت عليه في السابق.
في النهاية، نحن ننظر بأهمية بالغة لمبادرة طريق الحرير الجديد، ونتطلع لمستقبل من التعاون والعمل المشترك الذي سيدفع بلا شك عجلة الاقتصاد العالمي، وسينقذ الكثير من الأسواق من أزماتها الراهنة.