الاجتهاد: لو تأمّل المرء بروح الحكمة واقتضاء الفطرة مدعوماً بتجارب الحياة ومنبّهاتها والتشريعات المختلفة في شأن الرجل والمرأة لوجد تعاملاً حكيماً وكريماً مع المرأة كالرجل، يبتني جوهره على فكرة تكامل المختلفين وليس تكامل المتماثلين تماماً.
1. ففي شأن الجهاد نجد أن الرجل هو المكلَّف به، فهو بذلك العنصر المضحّي بنفس ودمه حماية للمجتمع عامّة والنساء خاصّةً، وهو المعرَّض عموماً للأسر والأذى ونقص العضو وسائر عوارض الحرب، بل يُناط بالرجل عموما حماية العائلة والأسرة عن الأخطار الشخصيّة التي تتعرّض لها،
كما تجري عليه الحياة العمليّة في المجتمعات المختلفة؛ لأنّ الرجل أكثر تأهّلاً عموما من حيث التكوين البدني والنفسي بما يقتضيه الحرب من عناصر الشجاعة والبسالة والحزم والثبات والتضحية بالنفس لأجل حفظ الشرف والعِرض، وذلك تقديرا لرقّة المرأة وظرافتها والمحافظة على شرفها وعفافها ونسلها.
٢. وفي شأن الآداب الاجتماعية العامة نجد إيجاب مبدأ العفاف على كلا الجنسين في النظر والمظهر والسلوك، كما قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ.. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)(1)؛ إلّا أنّ المرأة حيث طُبعت بطابع الإغراء ـ من حيث خلقها البدني وتكوينها النفسي من دون تكلف وسوء قصد منها بالضرورة – بينما طُبع الرجل على الاستجابة السريعة لهذا الإغراء، فلذلك فرض عليها من الستر ما يستر إغراءاتها في المشهد العام حتى تعتدل الحياة الاجتماعية بينهما.
ولن يتأتّى عملاً أن يعيش حالة العفاف ومقتضياته – من شرعية النسل، وحق المولود في أن المجتمع يولد في بيئة طاهرة وسليمة – متى جاز للنساء أن يلبَسن أي ملبس ترغبن فيه من دون تحديد مهما بذل من جهد وصرف من طاقات؛ ومن ثَمّ تنازلت المجتمعات الغربية عن الاهتمام بهذا الجانب منذ حين؛ لأنها في تقديرهم ليس أمراً عملياً ولا مرغوباً لكلا الجنسين في تلك البلاد.
٣. وفي أمر النكاح نجد تخصيص المرأة البكر – وفق أغلب المذاهب الإسلامية – بإناطة زواجها بموافقة ولي أمرها، وذلك لحساسية المرأة البكر وخطورة أمرها وشدّة تضررها بالعلائق غير الناجحة وسرعة تصديقها لمن يبدي الرغبة إليها من الرجال مما يوقعها في معاناة كبيرة ومستمرة طوال حياتها، ويتأذى والداها بذلك شفقة عليها،
وقد لوحظ في بعض الدراسات الاجتماعية أن معظم الفتيات يرغبن في تعلّق الرجل بهن من منطلق الرغبة في الزواج من الرجل المناسب، بينما معظم الشباب يبحثون عن العلاقة استجابة للغريزة وليس انطلاقاً من الرغبة في الزواج وتكوين الأسرة، وبذلك تكون الفتاة مغرراً بها في أية علاقة غير مدروسة جيداً.
ومن ثَمّ كان هناك حاجة إلى أن تكون التجربة الأولى للمرأة تجربة ناضجة ومدروسة، ومعلنة وواضحة؛ لأنها التجربة التي يُرجى فيها أن تكون حالة مستمرة وموجبة لسعادتها، فإذا فشلت هذه التجربة – لا سمح الله – فقد أوكل أمرها إليها.
على أن ولاية الأب إنما جعل لمكان شفقته تجاهها وغيرته عليها، وخبرته في الحياة ونصحه لكريمته نوعاً، فهو مؤتمن على مصلحتها، فلو ثبت أنه عضلها وتعسّف في منعها سقطت ولايته وكانت حرّة في قرارها.
وتجد العديد من الطالبات في الجامعات بما يلاحظنه من أحوال بعض زملائهن الحكمة الكبيرة في هذا التشريع، والصيانة النوعية التي توجبها للفتيات.
وقد أصرّ الإسلام على تمكين الزوجة – بعد تجربتها الأولى – سواء كانت مطلقة أم أرملة من أن تتزوّج بمن تشاء بمعروف، ونهى عن عضلها والممانعة من زواجها، ولم يجعل لأحد ولاية عليها حتى أبيها وجدّها لأبيها فضلاً عن الأخ والعم وغيرهما من القرابة، وكان ذلك في مجتمع عشائري لا تقبل ولا تستسيغ أعرافه مثل هذه الأحكام حتى بعد أربعة عشر قرناً.
وإذا كان الإسلام قد أجاز التعدّد للرجل فقد اشترط فيه شرطاً شديداً وهي رعاية العدل بين النساء، ولم يجعل ذلك انحيازاً للرجل ضد المرأة، بل نظر في ذلك إلى مقتضيات خلقة كل من الرجل والمرأة، وذلك بتقدير أن حجْر الرجل على العلاقة الشرعية مع امرأة واحدة مهما كانت ظروفها أمر غير عملي على العموم، بل يعد نحو إجبار وقهر له على خلاف طبعه وقواه البدنية والنفسية وبذلك ينجر إلى ارتكاب الخطيئة، ومن انجر إلى الخطيئة وانفتح بابها في نفسه انكسر الحاجز النفسي فيها.
وهذا أكثر تدميراً للحياة الزوجية بالنظر النوعي الجامع والبعيد. على أن في ذلك ما يؤدّي إلى عدم اضطراره إلى طلاق الأولى.
فضلاً عن موافقة هذا التعدّد مع مصلحة الأرامل والعوانس والمطلقات، ودوره في صيانتهن عن الخطيئة أو إجبارهن على قمع غريزة فطرية هي حاجة أساسية من حاجات الإنسان تكون المطالبة بقمعها تكليفاً تعسّفيّاً وغير عملي يؤدي إلى انتشار الخطيئة قهراً، كما أن زواج الرجل من امرأة أخرى لا يعد من منظور الزوجة الأولى في كثير من المجتمعات تعسفاً في حقها، وأما المجتمعات التي يجري عرفها على خلاف ذلك فإن هذا العرف نفسه يحول دون حصول ذلك فيها.
على أن الإسلام حظر هذا الزواج في حال عدم قدرته على الإنفاق على زوجتين، أو تعرّفه في حال زواجه من الثانية وعدم رعايته مقتضيات المعاشرة بالمعروف فضلاً عن حق الأولى في اشتراط عدم الزواج بثانية في ضمن عقد الزواج.
وعموماً فإن تأصيل عدم شرعية علاقة الرجل بأكثر من امرأة واحدة كأصل عام عابر للزمان والمكان الشامل للمجتمعات المختلفة، ومهما كانت ظروف المرأة والرجل والمجتمع أمر غير حكيم، كما يظهر لمن نظر إلى الموضوع بنظرة شاملة، وحينئذ فلا يبقى إلا تحديد ذلك برعاية العدل، وإثبات حق المرأة في اشتراط عدم التعدد في العقد، والتعويل في تقبل الرجل للزواج من واحدة على العرف الاجتماعي المانع منه حيث يوجد مثل هذا العرف خارجاً.
وإذا كان التشريع الشرعي للتعدد مبنياً على تقدير كون هذا التجويز في أصله استجابة ضرورية لطبيعة الرجل يقيه من الخطيئة ومضاعفاتها الأسرية والاجتماعية، وهو أقرب إلى صلاح الحياة الأسرية ودوامها، حيث لا يضطر الرجل في حال الرغبة في امرأة أخرى من أن يطلق الأولى، وهي بذلك أصلح للزوجة ولسائر النساء كما هو أصلح للرجل، وفي ضوء ما تقدم لا يملك المرء أن يجزم بخطأ هذا التشريع بعد الارتقاء إلى التأمل الجامع في الموضوع.
هذا ولم يكن من المتوقع طبعاً تجويز التعدّد للمرأة مع دورها في الإنجاب وخصائصها العاطفية، وما طبع عليه الرجل من عدم تقبل ذلك، فيؤدّي إلى هدم الحياة المشتركة.
فالناظر المتأمل بعمق في أحكام الزواج في الإسلام يجد بصدق أن الإسلام لم ينحز إلى الرجل ولا احتقر المرأة ولم يشرع تشريعاً في موضوع يتعلق بهما إلا وقد تحرّى فيه وفي آثاره ومضاعفاته الصلاح النوعي لكلا الجنسين، فما كان صلاحاً نوعياً للرجل كان كذلك للمرأة ويصدق العكس؛ ولكن قد تحل العاطفة محلّ الحكمة فتؤدّي إلى الجزم بأمور وتعميمات لايصحّ التسرّع بالجزم فيها.
٤. وفي تنظيم الحياة الأسرية جعل لكلّ من الطرفين حقوقاً ووظائف بالمعروف مع جعل الرجل هو القيّم على الأسرة لحكمة سبق ذكرها (2)، وفي القرآن الكريم تعبير لطيف عن هذا المعنى، فإنه ـ بعد ذكر أنّ الزوج يجوز له الرجوع إلى المرأة بعد الطلاق في العدة إن أرادا إصلاحاً – قال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكيم)(3)، ومعنى ذلك أن الإرجاع لابد أن يكون على أساس الإصلاح دون الإضرار والإيذاء، وفي حال تحقق الرجوع تعود حقوق الطرفين، وهي متماثلة عدا كون الرجل قيّماً على الأسرة في إطار المعروف دون ظلم وأذى.
5. وفي أمر الطلاق نجد أن الشرع أناطه بالرجل، ويرد السؤال هنا عن أنّ هذا الحكم يتيح كلاً من الطلاق الظالم والإمساك الظالم من الرجل للمرأة، فلو أنيط الأمر باتفاقهما كالزواج أو بمحكمة عادلة كان ذلك أقرب إلى العدالة.
أما عن تمكين هذا الحكم الرجل من الطلاق الظالم فالواقع أنه لا يبعد أن يكون المنطلق في هذا الحكم أنَّه متى ضعفت العلاقة بين الرجل والمرأة بحيث استقر الأمر على تباعدهما لا يتأتّى عملياً إجبار الرجل على أن يتعامل كزوج مع المرأة التي لا يرغب فيها، فلا يكون إمساكها إلا مزيد ضرر عليه وعليها جميعاً، ولئن يتفرّقا فقد يغني الله كلًّا من سعته بما أودعه في الحياة من إمكانات مختلفة ورغبات متفاوتة؛ ولكن مع ذلك نلاحظ أن الشريعة – حسبما يدلّ عليه القرآن الكريم (4)- حدّدت صحة الطلاق ونفوذه بجملة قيود ـ حتى لا يكون الطلاق انفعالاً وقتيّاً بل قراراً متعقلاً ومدروساً – من جملتها:
أ. إبطال الطلاق إذا كانت المرأة في حال يحظر على الزوجين المعاشرة فيه، أو في طهر تمّت المعاشرة فيه بينهما، وذلك لأجل أن يدلّ على تباعدٍ فعليٍّ بين الطرفين، ولا يكون قولاً انفعالياً من الزوج في لحظة غاضبة.
وهذا الشرط يؤدي إلى إبطال كثير من الطلاقات التي تصدر من الأزواج حتى قدتكون نسبة ما يصح إلى المجموع نسبة الواحد إلى المائة أو دون ذلك في مثل المجتمع العربي.
ب. تعليق نفوذ الطلاق إلى انقضاء العدّة (والتي تكون عادة ثلاثة أشهر على الأقل)، واستمرار استحقاق الزوجة للسكنى والنفقة. فإذا رجع الزوج عن قراره بالطلاق لم ينفذ طلاقه.
وذلك لأجل اختبار صبر كلٍّ من الطرفين عن الآخر في هذه المدة، حتى يدلّ على كون القرار بالطلاق قراراً مستقراً ومدروساً.
وهذا الشرط أيضاً يؤدي إلى تراجع الزوج عن قرار الطلاق في أكثر الموارد إما من ذات نفسه، أو من جهة تودّد الزوجة إليه، لا سيما مع سكنى الزوجة في الدار نفسه وانتهاء مفعول الدواعي المتوسطة الأمد للطلاق بهذه المدة الطويلة.
وبهذا نلاحظ أن الشارع سعى إلى ترشيد الطلاق بتصنيف أسباب طلاق الزوج إلى ثلاثة أقسام:
أ. قسم يكون انفعالاً عاجلاً، وهذا قد أبطله تماماً باشتراط صدور الطلاق في حال تباعد مسبق لفترة ما بين الزوجين، لأن الطلاق الناشئ عن انفعال عاجل لا يكون مسبوقاً بتباعد فعلي طويل بين الزوجين.
ب. وقسم يكون على أساس دواع متوسطة لا عاجلة، كالطلاق الصادر عن تباعد فعليّ،، فإن التباعد يدل على وجود داعٍ فاعلٍ لمدة في نفس الزوج، فهنا أناط نفوذ الطلاق بمرور مدة طويلة (أقلها عادة ثلاثة أشهر) حتى يختبر بذلك مدى وجود دواع طويلة مؤكدة للزوج. وكذا للزوجة حيث يتأتى لها تدارك تقصيرها إن كانت هي المقصرة والباعثة على هذا الأمر.
ج. وقسم يكون على أساس دواعٍ مستقرة وثابتة وطويلة الأمد من الزوج والزوجة، فهنا نفذ الطلاق، وألزم به الطرفين فلا يتأتى معه التراجع إلا بعقد جديد.
وأما الإمساك الظالم من الزوج للزوجة من غير أداء حقوقها فقد عالجه القرآن الكريم بإلزام الزوج بأحد أمرين لا محيص عنهما: إما المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان، فإن امتنع منهما حق للزوجة الشكاية إلى القاضي بمطالبة أحد الأمرين، فينذره القاضي بالاستجابة لطلبها، فإن امتنع منهما طلقها الحاكم، وكانت في حلٍّ منه.
ومن وجوه الإمساك الظالم من الزوج أن لا يعاشر المرأة بمعروف حتى يضطرها إلى بذل الفدية لأجل الطلاق. وقد سدّ الشارع عليه هذا بالحكم بفساد هذا الطلاق وعدم تملك الزوج للفدية، إلّا أن تكون المرأة هي الكارهة للزوج فتدفع مهرها للزوج لكي يخلي سبيلها.
وبهذا نلاحظ أن الشارع رغم إناطة الطلاق بالزوج فإنه سعى إلى توجيهه إلى منحى أكثر عدالة بالنسبة إلى الزوجة.
ولم ير الشارع أن من المعقول إناطته بموافقتهما؛ لأنه يعود سبباً للمضادة في حال سوء العلاقة بينهما، وهو أمر واضح، كما أنّ إناطته بالمحكمة حتى تنظر في دواعي الطلاق وأسبابه ليس سبيلاً أمثل؛ لأن الشرع إنّما يحكم من منطلق فطري عام فوق الزمان والمكان، ولا توجد هناك محكمة يمكن إناطة الأمر بها بشكلٍ عامٍ، فضلاً عمّا في إناطة الأمر بالمحكمة من وجوه العناء والشقاء بنشر الأسرار الزوجية والاتهامات المتبادلة في شأنها في جوٍّ واسع، وهو لا يساعد على تقليل كبير لحالات الطلاق في حال وجود ما يدعو إليه كما يشير إلى ذلك الاطلاع على الأوضاع الاجتماعية.
وقد عالج الشارع – من ناحية الزوج – بمبدأ المعاشرة بالمعروف مع الزوجة جملة من الظواهر التي كانت شائعة في المجتمع العربي:
(منها): الظهار، وهو تحريم مؤبد من الرجل لزوجته على نفسه يجعل الزوجة معلقة طول عمرها، فقد شنّع عليه واعتبره منكراً من القول وزوراً وأوجب على الزوج إما الرجوع عنه أو طلاق الزوجة، وزاد على ذلك أنه إن أراد الرجوع إليها وجب عليه دفع كفارة كبيرة عن هذه الفعلة الذميمة.
و(منها): إيلاء الزوج من زوجته، بمعنى يمينه على أن لا يعاشرها، فأوجب على الزوج أن يكفّر عن يمينه ويؤدي حق زوجته ما بينه وبين أربعة أشهر، وإلا حقّ لزوجته المطالبة بطلاقها.
٦. وفي أمر حضانة الأطفال في حال فراق الزوجين جاء في السُنَّة إناطتها في حال كون عمر الطفل سنتين فأكثر بالأب، وهو ما قد يقدّر أضراراً بالزوجة، لأنها بعاطفتها أكثر تمسكاً بالأطفال من الزوج، ولكن ربما كان الملحوظ في هذا التشريع أن الأب هو القيّم على الأسرة والمسؤول عليها، فهو أولى بأن يُحمَّل هذه المسؤولية.
ومن المعلوم أنّ الحضانة مسؤوليّة ثقيلة لا يرغب فيها كثير من الآباء؛ إذ الطرفان المفترقان عادةً يرغبان في زواجٍ جديد، بل ربما كان التشريع ناظراً إلى دفعهما بهذا الاتجاه ستراً لهما، وإناطة مسؤوليّة الأطفال بأيّ واحدٍ يصادم هذه الرغبة، وهو أكثر صدوداً للمرأة عن الزواج مرة أخرى منه للرجل، لا سيّما أنّ الرجل أقدر على فرض رعاية الأطفال في الأسرة الجديدة من فرض المرأة رعايتهم مع الزوج الجديد.
٧. وفي أمر المواريث أوجد الإسلام انقلاباً عظيماً في توريث المرأة. فقد كان الميراث في العرف العربيّ وأعراف كثيرة أخرى – لرجال العشيرة الأقربين خاصّةً ولم يكن للنساء فيه – سواء كانت أمّاً أو بنتاً أو زوجة – أي سهم، ولم يكن هذا الحكم أمراً اعتباطيّاً بل كان في تقديرهم أنه صيانة لمصلحة العشيرة حتّى لا تخرج الأموال عنها، فإنّ رجال العشيرة هم الحماة الذين يدافعون عنها ويتحمّلون الأخطار في حمايتها ويضحّون في هذا السبيل، ومن الإنصاف والعدل في تقديرهم أن يكون الغُنم لمن عليه الغرم.
وقد كان تجذّر ذلك في المجتمع العربي بدرجة لم يجد الإسلام – بعد تكوّن المجتمع الإسلاميّ في المدينة – المصلحة في مواجهته، فمهّد لإصلاح الأمور من خلال إيجاب الوصيّة للوالدين والأقربين(5)، وكان ذلك فيما يُتَوقَّع في السنة الأولى للهجرة، فأدرج الوالدة مع الوالد -الذي لم يكن توريثه بحاجة إلى عناية إضافيّة – وذكر (الأقربين) – وهو يعني بطبيعة الحال ما يشمل الذكر والأنثى – وأمر بالصلح على تقدير حيف الموصي.
ثمّ أنزل بعد مدة توصيات عامة يصرح باستحقاق المرأة من الميراث، ويُتوقع أن يكون ذلك في حدود السنة الخامسة للهجرة، قال سبحانه (6) : للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا.)
ثم حدد الفرائض تحديداً مؤكّداً معتبراً إياها وصيّة من الله سبحانه ومَن يتعدّ حدوده فقد جازف باستحقاق العقاب، وجعل ملاك الاستحقاق وشيجة الرحم دون العصبة، فجعل للأمّ والبنت والأخت والزوجة كلّهن حصصاً غير قليلة حتّى إنّه جعل للإخوة والأخوات للأمّ حصّةً في تركة أخيهم وأختهم – وزاد على ذلك أنه سوّى بين حصّة الذكور والإناث من جهة الأم كما في آية كلالة الأم (7).
نعم ميّز العصبة كالأولاد (8) والإخوة للأبوين والأب (9) بأنّ الذكور لهم ضعف حق الإناث من جهة دورهم في الحماية وتضحيتهم في الدفاع عنهم وفق طبيعة الحياة العامة في تكاتف الأقرباء وتولّي الرجال دور التضحية للأمن الأسري والعشائري.
8. وفي باب الديات جعل دية المرأة والرجل متماثلة حتى تبلغ الثلث (10) فجعل ديته ضعف دية المرأة؛ إذ لم تكن الدية من أدوات التكريم بل رعاية لطبيعة الدور الأسري والاجتماعي المفروض للرجل من قيامه بالإنفاق على الأسرة والعائلة، ومن حمايته للأسرة والقرابة والبلد؛ مما يؤدّي فقدانه عوزاً أكبر يفترض جبرانه.
٩. وفي باب الشهادات جُعلت شهادة امرأتين بمثابة شهادة رجل واحد، وعلّل ذلك في الآية الكريمة (11) بـ ( أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكَّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)، ولعل المقصود أن تأخذ إحداهما العاطفة المانعة عن أداء الشهادة بحقها فتذكرها الأخرى.
وقد ورد في الفتاوى عدم قبول شهادة المرأة في بعض الموارد كالهلال، وكأنّ المقصود من وراء الحكم عدم تشجيع المرأة على الدخول في وادي الاستشهاد والشهادة في تلك المواضع، لكونها بعيدة عن الاهتمامات المناسبة لها أو لما يوجبها من الاختلاط المؤثر بدوره من خلال الإثارات العاطفية التي يمكن أن تكون آفةً ضارة بصدق الشهادة وموضوعيتها.
هذا، وقد ترد في النصوص تعبيرات مجازيّة عن المرأة فُهِم منها انتقاص المرأة (12). ولكن من الضروري للباحث الفرز بين صلب الفكرة التي يشير إليها النص وبين أسلوب التعبير، فصلب الفكرة يفترض أن ينشأ عن الحقائق العينية والمتطلبات الفطرية والإدراكات الراشدة؛ ولكن أسلوب التعبير عن الفكرة يرد وفق الآليات التعبيرية الموصلة لرسالة النص إلى المخاطبين المناسب للأساليب السائدة عندهم،
وقد عرفنا أن النظر الجامع في النصوص الدينية يؤدّي إلى أنّ الرؤية الدينية تجاه الرجل والمرأة أنهما متماثلان في الإنسانية ومقوماتها؛ ولكن هناك تفاوت بينهما اقتضتها سنن الخلقة والحياة، وهو الذي يرمي إليه الاختلافات الواردة تجاه الرجل والمرأة في مقام التشريع وفي مقام التوصيف في النصوص الدينية، رغم أن من المهم التدقيق في مدى الوثوق ببعضها لاحتمال تسرب مزاجيات الرواة إلى الآثار غير الموثوقة.
وإن التعابير اللغوية والبلاغية قد تختلف في إيحاءاتها والرسالة المتمثلة فيها كما هو معروف في الأدب؛ ومن ثم قيل إنّ (الحمار) مثلاً في العصر الأول لم يكن متجذراً في تمثيل البلادة بدرجة يقبح التعبير به، بل كان فيه بُعد آخر وهو صفة الصبر، فكان الإنسان الصبور يشبه به من هذا المنطلق – وربّما خرج عليه التعبير عن آخر الحُكّام الأمويين بمروان الحمار – لكن أصبح الإيحاء السلبي له متجذراً في المجتمع العربي بحيث يكون استعارته للصبر غير حسنة، فيكون كاستعارة أبي تمّام (الهذيان) في صدور المعروف عن ممدوحه بلا رويّة حيث قال:
ما زال يهذي بالمكارم والعلى حتی ظننا أنّه محموم
وعلى هذا يمكن القول بأنّ التشريعات الإسلامية في شأن المرأة والرجل ثورة في اتجاه العدالة والإنصاف والإيفاء بالاستحقاقات الفطرية، ولم تتأثر بالأعراف العشائرية رغم نزولها في مثل تلك البيئة ولكنّها كانت ترسم معالم تشريع عادل وحكيم وموافق مع الفطرة الإنسانية العامة.
وفي هذه التشريعات ذاتها علامة خارقة على أصل فوق إنساني لهذا الدين بما يتمثل فيها من الحكمة والجرأة في الأخذ بالمبادئ الفطرية.
ولكن هناك من يرى أنّ المفروض التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة، فلا يتقبّل أيّ تفريق بين الجنسين مهما كانت حجّته؛ لأنه يرى فيه انتقاصاً للمرأة، وذلك خطأ بيّن لمن نظر إلى مشاهد الحياة بوعي وروية.
كما أن هناك من يتعسّف مع المرأة بغطاء تشريعيّ ويسيء بذلك إلى صورة التشريع الديني ويؤدّي إلى الغفلة عن نقاط الحكمة والحسن فيه. وكم من تشريع صائب يشوّهه التطبيق الخاطئ والاستغلال الذميم وفقدان الثقافة المناسبة في حاضنته الاجتماعية.
كما قد يتفق أن يكون القانون غير صائب، ولكنه يكتسب ثوباً جميلاً من خلال رُشد الحاضنة التي تعمل به، فيستر ذلك معايبه ونواقصه.
إننا نرى أن من التسرع أن يجزم الباحث بوجود تعسّف في هذه التشريعات تجاه المرأة متى كانت النظرة واسعة وعميقة وناضجة.
على أنا ذكرنا من قبل ما يحتمله بعض التشريعات من النظر الاجتهادي الآخر، أو التغير باختلاف الظروف الدخيلة.
الهوامش
(1) سورة النور : 30 – 31.
(2) وممّا أُثير حوله السؤال من الأحكام الأسرية تجويز ضرب الرجل للمرأة متى نشزت عن أداء حقه الخاص. والواقع أن هذا التجويز إنّما جاء بحدود محدّدة جداً يساعد على استئصال مشكلة يمكن أن تهدد العلاقة الزوجيّة التي يُفترض تمسك الطرفين بعد بها؛ وذلك أن النشوز ليس امتناع الزوجة عن الاستجابة تعذراً بعذر كالحرج والضرر، بل ممانعة تعسفية عن هذه الاستجابة، وتفيد الآية أنه يتعين على الرجل أن يستعمل أولاً آلية الوعظ تذكيراً بحقه وفق عقد الزوجية، وثانياً آلية الهجر في المضاجع، فإن لم ينفع ذلك فإنّ من شأنه أن يؤدّي بالرجل إلى اتخاذ خطوات ضارة بالمرأة، من قبيل عدم الإنفاق، والتوجه إلى إنشاء علاقة أخرى والاستغناء عن علاقته بها، فإذا قُدّر أنّ الضرب الخفيف – بحسب ثقافة المجتمع – يوجب تراجع المرأة عن هذا التعسف ويندفع به المفاسد المذكورة وغيرها فقد أُجيز إجازة محدودة في هذه الحالة.
ولو فرض عدم تأثير الضرب لم يصح للرجل ارتكابه، فما أُجيز فيه شيء محدود كعلاج متوقع وشائع في بيئة النص لأمر يمكن أن يوجب معضلة أسرية تؤدّي إلى تهديد الحياة الأسرية، وخروج الأسرار الزوجية إلى العلن، على ما تؤكّده الدراسات الاجتماعية لحالات الخلاف الزوجي من جهة نشوز المرأة عن الاستجابة لزوجها.
(3) سورة البقرة: ٢٢٨.
(4) في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلَقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ .. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ (سورة الطلاق 1- 2 ) فإنّ الأمر بالطلاق للعدّة بشاهدين إرشاد إلى فساد الطلاق من دون ذلك كما ورد في فقه الباقر والصادق وسائر أئمة أهل البيت “عليهم السلام”.
وقد أخطأت سائر مذاهب المسلمين خطأ فاحشاً وبيّناً إذ حملوا الآية على أن هذا إيجاب للطلاق للعدة فيأثم من طلّق لغير العدّة ولكن يصحّ طلاقه. ووجه الخطأ أنه لا شك في أن الأمر بشيء محدد أو النهي في أبواب الأمور الإنشائية من العقود والإيقاعات إرشاد إلى الفساد، فلو قيل: (نهى النبي “صلى الله عليه وآله وسلام” عن بيع الغرر) أو (لا تبع ما ليس عندك) كان مفاده فساد هذا البيع باتفاق فقهاء المسلمين وليس مجرد الإثم فيه مع الحكم بصحته.
كما أخطأ المشهور من مذاهب المسلمين – عدا مذهب الأئمة من أهل البيت “عليهم السلام” – خطاً كبيراً آخر في تجويز وقوع الطلاق الثلاث في مرة واحدة، وقد قال سبحانه ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بٍإِحسانٍ (سورة البقرة :۲۲۹)، على أن الطلاق يعني الفراق، ولا معنى عقلائي لإنشاء ثلاث فراقات معاً، وكيف يسمح الشارع بوقوع طلقات ثلاث معاً دون رجوع يتخللها، وهو الذي حدد صحة الطلاق تحديداً كبيراً بإيجاب كونها للعدة.
إن تصحيح الطلاق في هذين الموردين من قبل جمهور الفقهاء – غير مذهب أهل البيت “عليهم السلام” – أدى إلى انحراف الفقه عن مسار التشريع واستتبع مفاسد كثيرة بقبول الطلاقات المتعجلة الهادمة للحياة الأسرية. كما أنه من المواضع المنبَّهة على تميّز فقه أهل البيت “عليهم السلام” فى فهم النصوص القرآنية.
(5) قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمُوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ (سورة البقرة: ۱۸۰)، علماً أن سورة البقرة هي أول سورة نزلت في المدينة.
(6) سورة النساء: ۷.
(7) سورة النساء: ۱۲.
(8) سورة النساء: ۱۱ .
(9) سورة النساء: ١٧٦ .
(10) قد تكون الحكمة في مساواة الدية فيهما قبل بلوغ الثلث وتفاوتها عند بلوغه أن ما يستوجب الثلث تعويض عن الأذى، والرجل والمرأة سيّان في الشعور بالأذى، وما زادت ديته عن الثلث – نوعاً ـ معطل للمجني عليه نوع عطلٍ، وتعطيل الرجل في الأسرة والمجتمع أضرّ به من تعطيل المرأة بحسب الحالة النوعية الغالية.
(11) سورة البقرة: ٢٨٢.
(12) ومن أمثلة لتلك التعابير ما ورد في بعض الآثار من نقصان عقل المرأة أو أن المرأة عورة.
وكلا التعبيرين المذكورين لم يردا في القرآن الكريم الذي هو النص العام والموجه لعامة المجتمع، ولكن ورد في بعض الآثار – التي ينبغي التأكد من مدى الوثوق بها – في مقامات خاصة كأسلوب لتفهم المعنى في مقام يقتضيه.
والمفهوم من النص الأوّل (نقصان عقل المرأة) لغةً، أنها مظنّة لتأثير عاطفتها على قرارها، فالعقل ليس هو القوة المدركة في حد نفسها – كما هو الاصطلاح الجاري – وإنّما هو القوة الضابطة، لأنه مأخوذ من عقال البعير، وهو الذي يضبط البعير عن الشرود، ففي قوة عاطفة المرأة مظنّة التأثير على قرارها.
كما أن النص الثاني (المرأة عورة) إنّما هي تعبير تنزيلي لم يرد بها إنكار كون المرأة مظهر اللطف والجمال والظرافة في إحساس الرجل، كيف وتلك بديهة واضحة لا جدال فيها، بل وردت بأحد منظورين وفق شأن المنزل له. فإنّ عورة الإنسان هي ذات صفتين.. صفة باعتبارها موضعاً للقذارة، وصفة باعتبارها أداة لممارسة الجنس وإثارة الناظر وإغرائه، فيقبح إظهارها.
والظاهر نظر هذا النص – إلى الصفة الثانية، فالمراد بذلك أن مصدر الإغراء في المرأة ليس هو الموضع الخاص فحسب، بل هي في كل تركيبتها ومفاتنها مظهر للإغراء والجاذبية، فأريد بإطلاق العورة عليها إيصال هذه الرسالة من خلال هذا التنزيل.
وعلى كل تقدير فلا شك في أنّ هذا النص لا يهدف إلى تحقير المرأة بل هو يستبطن الإذعان بظرافتها وجمالها؛ ولكن رسالة النص تقبيح إظهارها لمفاتنها أو نظر الرجل إلى تلك المفاتن.
وقد يستخدم الإنسان من المنظور الأدبي أداة الاستقباح توصلاً إلى غاية تربوية فيقال للطفل: (هذا كخ) وإن لم يكن كذلك للتأثير على إحساسه تجاهه.
نعم، قد يكون للنص إيحاء سلبي في هذا الزمن لاسيما في حال إلقائه كنص عام من جهة تفاوت الأدوات الثقافية والأدبية باختلاف الأزمنة.
ولعل كلمة (العورة) قد اكتسبت صفة القبح في مثل هذه الأزمنة، بينما لم تكن في السابق تعني أكثر من قبح الشيء.
ومن الصحيح منطقياً أن يكون المنهج في رصد فكرة في منظومة من التعاليم والنصوص من منظور جامع.
المصدر: الصفحة 181 من كتاب اتجاه الدين في مناحي الحياة؛ للأستاذ السيد محمد باقر السيستاني حفظه الله .
تحميل الكتاب
.pdf اتجاه الدين في مناحي الحياة
مباني الأصول .. صدور الجزء الرابع من تقرير أبحاث الأستاذ السيد محمد باقر السيستاني
مناشئ تغيّر الحكم وتحديد الثابت والمتغير .. سماحة السيد محمد باقر السيستاني