بذور الدليل العقلي

بذور الدليل العقلي / فضيلة السيّد زهير الأعرجي

الاجتهاد: لا شكّ أنّ أهل البيت عليهم‌السلام كانوا يدرّبون أصحابهم على التحليل العقلي للروايات، وكانوا يضعون لهم القواعد والأُصول الكفيلة بتحقيق ذلك. ونستطيع أن نستقرئ من حالات عامّة وردتنا عن ذلك العصر بما يؤيّد ذلك :

١ ـ جواز نقل الرواية بالمعنى. وهذه القاعدة مهمّة ؛ لأنّ مفهومها يدلّ على أنّ المحور في الحديث هو المعنى لا مجرّد التقيّد بالنصّ.

عن محمّـد بن مسلم، قال: «قلت لأبي عبـد الله عليه‌السلام: أسمعُ الحديث منك، فأزيد وأنقص. قال عليه‌السلام: إن كنتَ تريد معانيه فلا بأس» (1).

٢ ـ الترجيح بين الخبرين المتعارضين: عن زرارة، قال: «يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذّ النادر. فقلتُ: إنّهما معاً مشهوران مرويان مأثوران عنكم. قال عليه‌السلام : خذ بقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك …» (2).

٣ ـ قاعدة (لا تعاد). وهي قاعدة تفيد بطلان الصلاة إذا انتهكت أمور : الطهارة والوقت والقبلة والركوع والسجود.

عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام، قال: «لا تعادُ الصلاة إلاّ من خمس: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثمّ قال : القراءة سنّة ، والتشهّد سنّة. ولا تنقض السنّةُ الفريضةَ» (3).

٤ ـ قاعدة «البناء على الاكثر» عند الشكّ في عدد ركعات الصلاة، عندما يكون شكّه في الرباعية الواجبة بعد إكمال السجدتين من الركعة الثانية.

عن عمّار، قال: «قال أبو عبد الله عليه‌السلام: يا عمّار أجمعُ لك السهو كلّه في كلمتين: متى شككت فخذ بالأكثر، فإذا سلّمت فأتِمَّ ما ظننت أنّك نقصت» (4).

٥ ـ قاعدة التجاوز: عن اسماعيل بن جابر، قال: «قال أبو عبد الله عليه‌السلام: إن شكَّ في الركوع بعدما سجد فليمضِ. وإن شكّ في السجود بعدما قام فليمضِ. كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمضِ عليه» (5).

وعن محمّـد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضيه كما هو» (6).

6ـ قاعد «الحلّ» في المشتبه مع عدم العلم: عن عبد الله بن سنان عن أبي عبدالله عليه‌السلام، قال: «كلّ شيء فيه حلال وحرام، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، فتدعه» (7).

٧ ـ قاعدة الاستصحاب عند الشكّ : عن زرارة قال : «قلتُ له : الرجل ينام ، وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأُذن. فإذا نامت العين والأُذن والقلب وجب الوضوء. قلت: فإن حرّك على جنبه شيء، ولم يعلم به؟ قال: لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن. وإلاّ، فإنّه على يقين من وضوئه… ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر» (8).

نموذج مقارَن :

ولو جاز لنا أن نعرض نموذجاً مقارَناً بين ينبوع التشريع الإلهي المتمثّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام من جهة ، ومدرسة الرأي من جهة أُخرى لعرضنا النموذج التالي :

أ ـ نموذج أهل البيت عليهم‌السلام :

رواية عذافر الصيرفي ، قال : «كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر عليه‌السلام ، فكان يسأله وكان أبو جعفر عليه‌السلام مكرّماً. فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر عليه‌السلام: هذا خطّ علي عليه‌السلام وإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، [ثمّ] أقبل على الحكم، وقال: يا أبا محمّد اذهب أنت وسلمة وأبو المقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فو الله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينـزل عليهم جبرئيل» (9).

ب ـ نموذج مدرسة الرأي :

طرحت مسألة «العول» (10) في الإرث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانت من المسائل المستجدّة أيّام خلافة عمر بن الخطّاب. فتحيّر عمر، فأدخل النقص على الجميع استحساناً، وقال: والله ما أدري أيّكم قدّم وأيّكم أخّر. ما أجد شيئاً أوسع لي من أن اُقسم المال عليكم بالحصص وأدخل على ذي حقٍّ ما أدخل عليه من عول الفريضة (11).

وفي مناسبة ثانية سُئل عمر بن الخطّاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقة واحدة فهل تُضمّ التطليقتان إلى الثالثة أم لا؟ فقال للسائل : لا آمرك ولا أنهاك (12).

وهذا الجهل بأحكام الشريعة هو الذي أدّى إلى القول بالرأي والاستحسان والقياس. بينما بقيت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ثابتة على العلم الذي لا يوجد أوثق منه ، عند قوم كان ينـزل عليهم جبرئيل عليه‌السلام ، كما في الرواية.

وقد ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام: «خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع، فقال: يا أيّها الناس، ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه» (13).

وورد عنه عليه‌السلام أيضاً: «يا جابر، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين. ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وأصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ، نكنـزها كما يكنـز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم» (14).

 

الخلفية التاريخية للدليل العقلي .. الدكتور علي رضا فيض

 

الهوامش

(1) بحار الأنوار ٢ / ١٦٤.
(2) بحار الأنوار ٢ / ٢٤٥.
(3) بحار الأنوار ٨٥ / ١٣٦.
(4) بحار الأنوار ٨٥ / ١٧٠.
(5) بحار الأنوار ٨٥ / ١٥٩.
(6) وسائل الشيعة ٨ / ٢٣٧.
(7) بحار الأنوار ٢ / ٢٧٤.
(8) وسائل الشيعة ١ / ٢٤٥.
(9) رجال النجاشي ٢ / ٢٦٠ رقم ٩٦٧ ، محمّـد بن عذافر الصيرفي.
(10) العول : هو اصطلاح يطلقه الفقهاء على زيادة السهام على التركة بوجود الزوج أو الزوجة. كما لو ترك الميّت زوجة وأبوين وبنتين ، ففرض الزوجة الثمن ، وفرض الأبوين الثلث ، وفرض البنتين الثلثان. ولا تحتمل الفريضة ثمناً وثلثاً وثلثين. ولكن علماء الإمامية قالوا بعدم العول وبقاء الفريضة ، وإنّ النقص يدخل دائماً على البنات والأخوات دون الزوج والزوجة والأم والأب ، وعليه فإنّ للزوجة الثمن وللأبوين الثلث والباقي للبنتين.
(11) المستدرك ٤ / ٣٤٠ واحكام القرآن ـ للجصاص ـ ٢ / ١٠٩.
(12) كنز العمال ٥ / ١١٦.
(13) الكافي ٢ / ٧٣ ح ٢.
(14) بصائر الدرجات : ٣٢٠ ، الاختصاص : ٢٨٠ بتفاوت يسير.

 

 

المصدر: مجلة تراثنا العددان [ 85 و 86 ] بحث بعنوان تاريخ النظرية الفقهية في المدرسة الإمامية للمحقق السيد زهير الأعرجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky